بسم الله الرحمن الرحيم
الصيرفة الإسلامية رؤية نقدية: ماليزيا نموذجًا (1)
لطفي بن محمـد
المقدمة:
إن مناسبة هذا المقال هي محاضرة ألقيت في الجامعة الإسلامية بماليزيا حول الصيرفة الإسلامية، وقد ألقاها أحد الباحثين في هذا المجال، وقد امتلأت القاعة بالحضور الذين كانوا يرون فيها فرصة سانحة للتعرف والاستفسار عن المالية الإسلامية، وكل ما يتعلق بها من تحديات ومعالجات. إن الأمر الذي شد انتباهي في المحاضرة كلها هي فقرة الأسئلة والأجوبة التي امتدت حوإلى الساعتين؛ والسبب في ذلك قد يرجع إلى التعقيدات الشرعية التي تعاني منها الصيرفة الإسلامية، والتي سيتم تناولها لاحقًا. إن انتشار هذا النوع من الندوات والمؤتمرات ومراكز البحث والدراسات في ماليزيا هو تلك الرغبة أو قل الإرادة السياسية في جعل ماليزيا قطبًا للصيرفة أو المالية الإسلامية تتكون من خلال استقطاب أموال دول الخليج أو البترودولار، كما يطلق عليها، وضخها في الاقتصاد الماليزي الذي نشأ حديثًا، و مازال في حاجة إلى قوة دفع مالية من أجل السير نحو رؤية 2020م التي تسعى الحكومة الماليزية تحقيقها والنهوض بالبلد وجعله في مصاف الدول الصناعية، وإن كان واقع الحال سواء السياسي والاقتصادي يوحي بصعوبة إن لم نقل باستحالة تحقيقه على المدى القصير إن لم يكن على المدى البعيد. على العموم إن الهدف من هذا المقال هو تشريحي في الأصل من أجل فهم واقع الصيرفة الإسلامية بشكلها العام، وإلقاء نظرة عميقة على ما يسمى البنوك الإسلامية في العالم وفي ماليزيا بخاصة. ويجدر الإشارة هنا إلى أن المقال يستخدم مصطلح البنوك الإسلامية كما هو ولا يعني ذلك الإقرار بإسلاميتها. إن السبب في اختيار ماليزيا هو أولًا كونها تعتبر من أوائل الدول التي تبنت الفكرة سواء تنظيريًا أم عمليًا، وسعت لانتشارها. وثانيًا كون كثير من الناس لديهم صورة مثالية عن ماليزيا وأنها دولة «إسلامية» مزجت بين الإسلام والمدنية، وحققت ما لم تحققه كثير من الدول في العالم الإسلامي. إن الحديث عن الاقتصاد مرتبط بشكل لازم مع السياسة، وعليه فإن المقال سيتناول بعض التفسيرات السياسية لأحداث متعلقة بنشوء هذا البنوك الإسلامية. وللتذكير فقط، فإن هناك تخصصًا بحد ذاته يدرس في الجامعات اسمه «الاقتصاد السياسي» يبحث عن ماهية القرارات السياسية والتوجهات الأيديولوجية وارتباطها بالأهداف والمشاريع الاقتصادية.
إنه من الأهمية بمكان إلقاء نظرة تاريخية على واقع البنوك بشكل عام والبنوك الإسلامية وماهيتها بشكل خاص. ومن الملاحظ هنا أن أغلب الكتب التي تناولت الناحية التاريخية للبنوك وبداية تغلغلها في العالم الإسلامي هو استخدام مصطلح « تأخر ظهور البنوك التقليدية في البلدان الإسلامية إلى أواخر القرن التاسع عشر». و استخدام هذا المصطلح يجعل من القارئ يفهم أن الأمة الإسلامية قد ضيعت فرصة تبني فكرة البنك التي وجدت في أوروبا بداية من القرن السابع عشر، وإن هذا التأخر جعلها تتخلف وتتأخر عن اللحاق بالمنظومة المالية العالمية. ولكن الصحيح هو أن الأمة الإسلامية كانت تتميز عن باقي الأمم بمنظومتها التشريعية في الاقتصاد والسياسة والفكر والتشريع مما جعلها مكتفية ذاتيًا غير محتاجة إلى الغرب وما لديه من تشريعات وقوانين. ولكن الأمور تغيرت بسقوط دولة الخلافة؛ إذ أصبحت الأمة مستباحة في كل المجالات مما سهل دخول النظام الاقتصادي الرأسمالي ومؤسسته الرئيسية «البنك» وما يلحق بها من تشريعات إلى بلاد المسلمين.
إن نشوء الدولة الحديثة بالمفهوم الغربي، والتي هي الدولة التي أسست على أساس فصل الدين عن الدولة، واتخذت لنفسها طريقًا يتمثل في فصل السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، قد عجل بظهور مؤسسات مالية تكون بمثابة الوسيط بين أصحاب رؤوس الأموال وبين الأفراد أو المؤسسات التي هي في حالة عجز مادي مقابل أن يأخذ هذا الوسيط عمولة على تقديم هذه الخدمة؛ ولهذا فإن البنوك هي مؤسسات مالية خدمية، وكونها مالية فهي قطعًا ربحية، أي إن الهدف من وجودها هو تحقيق الأرباح ومضاعفتها من خلال آلية الفوائد. فالفوائد هي الركيزة الأساسية التي تعتمد عليها البنوك من أجل تحصيل العوائد المالية في مقابل توفير السيولة اللازمة للأفراد والمؤسسات والدول. إن ظهور البنوك بالشكل الذي عليه الآن يرجع إلى القرن السابع عشر عند ظهور الأوراق النقدية ذات الرصيد الذهبي أو الفضي. أي إن البنك يصدر أوراقًا رسمية يقر فيها امتلاكه كمية من الذهب أو الفضة تعود إلى فلان… وهكذا تطورت الأمور إلى أن أصبحت الأوراق النقدية هي الوسيلة المتبعة في المبادلات التجارية إلى غاية 15 اغسطس/آب 1971م؛ حيث تم الغاء العمل باتفاقية برتون وودز من خلال إعلان نيكسون التوقف عن التعامل بنظام الرصيد الذهبي والفضي، واعتماد الدولار العملة الأولى عالميًا في الأسواق المالية. هذا القرار سمي فيما بعد بـ «صدمة نيكسون» وبناءً على هذا القرار نصبت أميركا نفسها واقتصادها المحور الأساسي للاقتصاد العالمي وأصبحت تتحكم في مقدرات الأمم وثرواتها عن طريق المؤسسات التي أسستها كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وربطت جميع البنوك المركزية في العالم بالبنك الفيدرالي الأميركي. إن الحديث عن الهيمنة الأميركية على الاقتصاد العالمي قد يطول ويتشعب نتيجة لتشابك الأحداث السياسية والاقتصادية مما يجعل المرء في حيرة من أمره. ولكن الأمر أصبح واضحًا جليًا من خلال ما يكتب من كتب ومقالات تبين مدى التغول الأميركي ورغبته الجامحة في السيطرة على الثروات بمختلف أنواعها. ومن أهم الكتب التي كتبت في هذا المجال هو كتاب «اعترفات قرصان اقتصادي» للكاتب جون بركينز الذي رفض طبع كتابه في البداية لاحتوائه على معلومات خطيرة، ولكنه طبع في الأخر، وحقق الكتاب أعلى المبيعات في أميركا والعالم، وترجم إلى عدة لغات منها العربية.
إن استعراضنا الناحية التاريخية للبنوك أمر لا بد منه، ولكن ما يهمنا في هذا المقال هو البنك الإسلامي ومدى التزامه بالأحكام الشرعية، وهل هو البديل الحقيقي كما يصوره منظروه؟ أم إن التجربة المالية الإسلامية في طريقها إلى النضوب والفشل؟ هي مجموعة من الأسئلة التي سيتم الجواب عليها من خلال النموذج الماليزي الذي يعتبر من أنجح التجارب في الوقت الحالي على حسب الكثيرين؛ خاصة كونه يحمل في طياته خبرة مكتسبة على مدى 30 سنة، وبالتالي فان النظرة النقدية لهذا النموذج قد ترينا الكثير عن مدى صوابية هذا الادعاء من عدمه.
تعريف البنوك الإسلامية :
أشارت الاتفاقية الخاصة بإنشاء الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية في فقرتها الأولى من المادة (5) إلى أن البنوك الإسلامية «تلك البنوك أو المؤسسات التي ينص قانون إنشائها ونظامها الأساسي صراحة على الالتزام بمبادئ الشريعة، وعلى عدم التعامل بالفائدة أخذًا وعطاء». و يضيف كاتب آخر «البنوك الإسلامية هي مؤسسات مالية تقوم بدور الوساطة المالية بين فئتي المدخرين والمستثمرين؛ وذلك في إطار صيغة المضاربة الشرعية القائمة على مبدأ المشاركة في الربح والخسارة. والقاعدة الشرعية: «الغنم بالغرم»، إضافة إلى ممارستها للخدمات المصرفية المنضبطة فى إطار العقود الشرعية». تسوق البنوك الإسلامية على لسان منظريها أن أهدافها في غالبيتها اجتماعية إصلاحية تسعى من خلالها إلى ايجاد بديل شرعي يتيح للمسلمين التعامل ضمن أطر مالية غير محفوفة بالمخاطر تحقق النماء والرفاه الاقتصادي، وتسعى لأن تكون لبنة حسنة في عملية أسلمة الدولة. وفي مايلي بعض تلك الأهداف :
أهداف البنوك الإسلامية:
تطهير المعاملات المصرفية من الربا وسائر أنواع المعاملات الأخرى التي تتعارض مع الشريعة الإسلامية.
المساعدة على إيجاد حركة تنمية اقتصادية واجتماعية بإيجاد قاعدة إنتاجية في المجتمعات الإسلامية المحلية.
مساعدة الحكومات على إيجاد أسس للسياستين النقدية والمالية، تخفف من عبء الضرائب والديون على الاقتصاد العام للدولة.
تنمية حركة التجارة والتبادل بين الدول الإسلامية.
إيجاد نموذج نظري وعملي لعلم الاقتصاد الإسلامي يمكن أن تستفيد منه المجتمعات الأخرى، ويكون إحدى وسائل الدعوة إلى الإسلام.
كانت سنة 1971م السنة التي شهدت تأسيس أول بنك إسلامي « بنك ناصر الاجتماعي» في مصر وقد نص قانون الإنشاء على هوية البنك الاجتماعية، وعلى ان معاملاته لا تخضع للقوانين المصرفية الجاري العمل بها. ثم تلاه بعد ذلك تاسيس البنك الإسلامي للتنمية في جدة 1975م ثم دار المال الإسلامي التي تعتبر أول مجموعة مالية تحت مسمى إسلامي تم إنشاؤها من طرف الملك فيصل، وكان الهدف الخفي من ورائها هو تمويل المشروعات التي تخدم مصالح السعودية وبريطانيا في المنطقة؛ خاصة وأن لمجموعة دار المال العديد من الفروع في مصر والسودان والبحرين وتركيا والنيجر وغينيا والسنغال وسويسرا وغيرها. وكانت تلك المشروعات في أساسها تسعى إلى ابعاد خطر الأحزاب القومية المدعومة من طرف أميركا عن طريق جمال عبد الناصر من قبل، والسادات من بعده. فبريطانيا كانت ترى في فيصل الرجل ذا النزعة الغربية، وقد وصفه السفير البريطاني على أنه «معتدل جدًا» و قد وجدت بريطانيا ضالتها في الرجل الذي نذر نفسه لخدمة أسياده، وقد لا يسعني المقام هنا لأورد عمالة هذا الرجل لبريطانيا، ولكن لمن أراد ان يستزيد عن هذا الموضوع فما عليه الا بقراءة كتاب «الشؤون السرية: تواطؤ بريطانيا مع الإسلام الراديكالي». كذلك فإن ارتفاع مداخيل السعودية نتيجة ارتفاع سعر النفط عجل بظهور هذا البنك من أجل تسهيل تحويل الأموال بين البنوك في الدول الغربية والسعودية. قد يقول قائل إن فيصل كان له أن ينشئ بنوكًا غير إسلامية، ويقوم بما يقوم به البنك الإسلامي، فلماذا أنشأ بنكًا إسلاميًا؟!. والإجابة على هذا السؤال هو أن فيصل كان يسوِّق لنفسه على أنه رجل المرحلة الإسلامية، وقد كتب فيصل قائلًا: «إنه يستخدم الإسلام كالمغناطيس من أجل مكافحة القوميين أوالناصريين… وإنه لا يسعى لإيجاد أجواء إسلامية، وإنما هدفه هو الوقوف ضد التيار القومي الناصري».
انتقلت فكرة البنوك الإسلامية إلى ماليزيا في بداية الثمانينات، خلال فترة حكم محمد مهاتير، ذلك الرجل العلماني الذي سئل مرة عن تطبيق الحدود فأجاب بلغة تهكمية قائلًا: «نعم نقطع يد السارق ونصنع بها حساءً» فالرجل برغماتي علماني بريطاني النشأة والتربية. وقد أدرك مهاتير أن الطفرة المالية الناتجة عن ارتفاع أسعار البترول في دول الخليج لابد له أن يستفيد منها، فما كان منه إلا أن بدأ يؤسس لتبني الصيرفة الإسلامية من خلال إيجاد مؤسسات تعليمية بحثية، وجلب الخبراء من الدول العربية، وشجع المنح الدراسية حتى يهيئ الأرضية لاستقبال البترودولار وضخها في الاقتصاد الماليزي حديث النشأة. لم يستغرق الأمر كثير وقت؛ خاصة وأن الفكرة نظريًا قد تم التنظير لها وبلورتها، ولم يبقَ إلا الناحية العملية. وبالفعل في سنة 1983م، تمت المصادقة على قانون البنوك الإسلامية، وتم بموجبه إنشاء أول بنك اسلاميBank Islam Malaysia Berhad (BIMB)، والذي حاليًا يعاني مشاكل في السيولة جعلت منه يقترب من إعلان إفلاسه لولا تدخل الدولة.
منتجات البنوك الإسلامية:
لقد بلغ عدد البنوك الإسلامية حول العالم إلى ما يقارب 300 بنكًا ومؤسسة مالية تتعامل بأصول تقدر بأكثر من 200- 300 مليار دولار، وهذا ما جعل كثيرًا من المؤسسات البنكية التقليدية في العالم تفتح نوافذ إسلامية، والتي بحسب الخبراء الماليين، إنها تستحوذ على نسبة كبيرة من مجمل المعاملات الإسلامية مقارنة بالبنوك ذات الأصول الإسلامية. وتعتبر بريطانيا الخبيثة أولى الدول الغربية التي تبنت الصيرفة الإسلامية من خلال بنكها «أش إس بي سي» الذي فتح أول فرع له سمي « أش إس بي سي أمانة»، وأصدرت الحكومة البريطانية صكوكًا إسلامية بما قيمتها 200 مليون جنيه إسترليني سنة 2014م، وتعتبر بورصة لندن أهم بورصة تتداول الصكوك في العالم بما يعادل 2.3 مليار جنيه إسترليني. وسأتناول هنا مجموعة من المنتجات المالية التي تستخدمها غالبية البنوك والمؤسسات الإسلامية.
الصكوك الإسلامية:
إن الصكوك تعتبر من أهم أدوات الصيرفة الإسلامية، وتعتبر ماليزيا من أكثر الدول تداولًا لها بقيمة تقدر 45 مليار دولار سنة 2014م، وانخفضت إلى النصف في 2015م، نتيجة انحسار الطلب عليها من المستثمرين. والصكوك هي أوراق مالية تعتمد على الأصول وتمنح للمستثمرين، وهي شبيهة بالسندات من حيث الشكل والتداول. وقد عرفتها مجلة البحوث الإسلامية في السعودية على أنها «أرواق مالية تثبت لصاحبها حقًّا شائعًا في ملكية المال المراد تقليبه في مشروع تجاري من أجل الحصول على الأرباح» و على حسب المجلة فإن الصكوك «مهيأة لتداولها بيعًا وشراءً في أسواق البورصات العالمية». ولكن بالرغم من الانتشار الواسع للصكوك في بعض الدول، إلا أن هناك بعض الآراء التي ترى أن هذه الصكوك هي في حقيقتها شكل صوري للسندات الربوية. فمثلًا الشيح محمد تقي عثماني، وهو رئيس هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية يرى أن «%85 من الصكوك الإسلامية المتداولة هي صكوك غير إسلامية».
المرابحة:
وهو أكثر العقود التي تمارسها كثير من البنوك الإسلامية إثارة للجدل، وذلك للشبه الكبير بينه وبين عقد الفائدة الربوية. و تعرف المرابحة على أنها «أحد بيوع الأمانة في الشريعة الإسلامية، حيث يحدد ثمن البيع بناءً على تكلفة السلعة زائدًا ربح متفق عليه بين البائع والمشتري» ويسمى هذا النوع من المرابحة بـ «المرابحة للآمر بالشراء» وهي نفس الصورة الموجودة في البنوك الربوية، والاختلاف الوحيد هو أن الربح المتفق عليه غير قابل للزيادة أو النقصان كما هو متعامل به في البنوك الربوية باستخدام الفائدة العادية والمركبة. هذا بالإضافة إلى أن المشتري لا يمكنه التنازل عن الشراء؛ لأن البنك في هذه الحالة لن يستفيد من البضاعة؛ لأن الأمر بالشراء جاء من المشتري، وإذا لم تتم عملية الشراء، فللبنك الحق في عدم إرجاع العربون الذي هو قضية خلافية أخرى.
المضاربة:
هو عقد شراكة يتم بين طرفين: صاحب رأس المال ويُسمَّى (رب المال)، والذي يقوم بالعمل ويُسمَّى (المضارِب)، والذي هو في هذه الحالة البنك الإسلامي. يشترط العقد على الجانبيبن أنهما يشتركان في الربح. وعند الخسارة، يتحمل صاحب المال الخسارة المالية، والمضارب يتحمل خسارة الجهد. إن أغلب البنوك الإسلامية تتجنب التعامل بهذا النوع من المعاملات؛ لاحتوائه على مخاطر عدة تجعل من البنك تلك المؤسسة الربحية تخاطر في مشاريع، نسبة الأرباح فيها تكون غير مضمونة.
بيع العينة: