الصِّدِّيق أبو بكر رضي الله عنه رجل الدولة، وأوَّل خليفة في الإسلام
2016/04/25م
المقالات
3,343 زيارة
بسم الله الرحمن الرحيم
الصِّدِّيق أبو بكر رضي الله عنه رجل الدولة، وأوَّل خليفة في الإسلام
جمعه ونسقه أ.المعتز بالله الأشقر
أولًا: نسبه:
هو أبو بكر الصديق عبدالله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر، فهو يلتقي مع النبي في مرة بن كعب بن لؤي، وأمه أم الخير سلمى بنت صخر التيمية
أسماء زوجاته رضي الله عنه:
– قتيلة بنت عبد العزى من بني عامر أنجبت له عبد الله وأسماء. – أم رومان بنت عامر أنجبت له عبد الرحمن وعائشة. – أسماء بنت عميس أنجبت له محمد. – حبيبة بنت خارجة أنجبت له أم كلثوم.
ثانيًا: وصفه بالصدِّيق:
ثبت اسم الصدِّيق له بالدلائل الكثيرة. والصِّدِّيق بوزن السِّكِّيت الدائم التصديق، وهو أيضًا الذي يصدق قوله بالعمل…وصفه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في الصحيحين عن أنس بن مالك قال صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أُحُدًا ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فقال عليه الصلاة والسلام: «اثْبُتْ أُحُدُ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَان». وعَنْ أُمِّ المـُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ﴾. قَالَتْ عَائِشَةُ: أَهُمْ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: «لا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ»
ثالثًا: تبشير النبي للصدِّيق بالجنة:
أخرج الترمذي من حديث سعيد بن زيد قال: «النبي في الجنة، وأبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة». وروى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِمًا؟» قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَا. قَالَ: «فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟» قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَا. قَالَ: «فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟» قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَا. قَالَ: «فَمَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟» قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ»
وفي البخاري ان رسول الله قال: «مَن أَنفَقَ زوجَينِ في سبيلِ اللهِ، نودِيَ من أبوابِ الجنةِ: يا عبدَ اللهِ هذا خيرٌ، فمَن كان من أهلِ الصلاةِ دُعِيَ من بابِ الصلاةِ. ومَن كان من أهلِ الجهادِ دُعِيَ من بابِ الجهادِ. ومَن كان من أهلِ الصيامِ دُعِيَ من بابِ الرَّيَّانِ. ومَن كان من أهلِ الصدقةِ دُعِيَ من بابِ الصدقةِ. فقال أبو بكرٍ رضي الله عنه: بأبي وأمي يا رسولَ اللهِ، ما على مَن دُعِيَ من تلك الأبوابِ من ضرورةٍ، فهل يُدْعَى أحد من تلك الأبوابِ كلِّها؟. قال: نعم، وأرجو أن تكونَ منهم»
وقال عليه الصلاة والسلام: «مَا دَعَوْتُ أَحَدًا إِلَى الإِسْلامِ إِلا كَانَتْ عَنْهُ كَبْوَةٌ وَتَرَدُّدٌ وَنَظَرٌ إِلا أَبَا بَكْرٍ مَا عَتَّمَ مِنْهُ حِينَ ذَكَرْتُهُ وَمَا تَرَدَّدَ فِيهِ». «وقال رسول الله: «سُدُّوا كُلَّ خَوْخَةٍ فِي الْمَسْجِدِ إِلا خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ». وَقَالَ غَيْرُهُ: «سُدُّوا الأَبْوَابَ، وَاتْرُكُوا بَابَ أَبِي بَكْرٍ» يعني بيته.
لقد صحب أبو بكر رضي الله عنه النبي من حين أسلم إلى حين توفي عليه السلام، لم يفارقه سفرًا ولا حضرًا إلا فيما أذن له عليه الصلاة والسلام في الخروج فيه من حج أو غزو، وشهد معه المشاهد كلها، وهاجر معه تاركًا أمواله وعياله، رغبة في الله ورسوله. وهو كان رفيقه في الغار مصداقًا لقوله تعالى: ﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ وثبت مع الرسول B الله عليه وسلم يوم حنين ويوم أحد وقد فر الناس، يقول الليث بن سعد: ما صحب الأنبياء مثل أبي بكر. وقال سفيان بن عيينة: خرج أبو بكر بهذه الآية من المعاتبة. وحين تغامر عمر مع ابي بكر قال صلى الله عليه وسلم: هل أنتم تاركو لي صاحبي، هل أنتم تاركو لي صاحبي؟ إنّي قلت يا أيّها الناس إنّي رسول الله إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدقت
رابعًا:صفاته الخُلقية والخَلقية :
وصفت عائشة أباها فقالت: … عرف في الجاهلية بحميد الأخلاق وطيب المعاشرة وامتناعه عن شرب الخمر، وكان أنسبَ قريش لقريش، وكان تاجرًا ناجحًا، وعندما جاءت دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام كان السبَّاق في دخول الإسلام وفداء الدعوة وصاحبها بماله ونفسه، وكان شديد الحياء وافر الورع حازمًا في رحمة، شهد له عليه الصلاة والسلام بإيمان يعدل إيمان الأمة. يقول عليه الصلاة والسلام:” مَا لأَحَدٍ عِنْدَنَا يَدٌ إِلا وَقَدْ كَافَأْنَاهُ مَا خَلا أَبَا بَكْر،ٍ فَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا يَدًا يُكَافِئُهُ اللَّهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَا نَفَعَنِي مَالُ أَحَدٍ قَطُّ مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ، لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، أَلا إِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ”. وثبت عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أنه قَال:” أَبُو بَكْرٍ سَيِّدُنَا وَخَيْرُنَا وَأَحَبُّنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ». وروى الإمام أحمد عن مسروق: «حب أبي بكر وعمر وفضلهما من السنة». وقد كان السلف يعلمون أولادهم حب أبي بكر وعمر كما يعلمونهم السورة من القرآن (ذكر ذلك ابن الجوزي). هذا ولم يسجد رضي الله عنه لصنم قط، فقد قال في جمع من أصحاب النبي: «ما سجدت لصنم قط، وذلك أني لما ناهزت الحلم أخذني أبو قحافة بيدي، فانطلق بي إلى مخدع فيه الأصنام، فقال لي: هذه آلهتك وذهب، فدنوت من الصنم وقلت إني جائع فأطعمني فلم يجبني، فقلت إني عار فاكسني فلم يجبني؛ فالقيت عليه صخرة فخرَّ لوجهه».
ورع الصديق رضي الله عنه
حدثت عائشة في مرض أبيها الذي توفي فيه: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: « أَمَا إِنَّا مُنْذُ وَلِينَا أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ نَأْكُلْ لَهُمْ دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا، وَلَكِنَّا قَدْ أَكَلْنَا مِنْ جَرِيشِ طَعَامُهُمْ فِي بُطُونِنَا، وَلَبِسْنَا مِنْ خَشِنِ ثِيَابِهِمْ عَلَى ظُهُورِنَا، وَلَيْسَ عِنْدَنَا مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ قَلِيلٌ وَلا كَثِيرٌ إِلا هَذَا الْعَبْدُ الْحَبَشِيُّ، وَهَذَا الْبَعِيرُ النَّاضِحُ، وَجَرْدُ هَذِهِ الْقَطِيفَةِ. فَإِذَا مُتُّ فَابْعَثِي بِهِنَّ إِلَى عُمَرَ وَابْرَئِي مِنْهُنَّ»، فَفَعَلْتُ.، فَلَمَّا جَاءَ الرَّسُولُ عُمَرَ بَكَى حَتَّى جَعَلَتْ دُمُوعُهُ تَسِيلُ فِي الأَرْضِ وَيَقُولُ: «رَحِمَ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ، لَقَدْ أَتْعَبَ مَنْ بَعْدَهُ، رَحِمَ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ، لَقَدْ أَتَعْبَ مَنْ بَعْدَهُ. يَا غُلامُ ارْفَعْهُنَّ»، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: «سُبْحَانَ اللَّهِ، تَسْلُبُ عِيَالَ أَبِي بَكْرٍ عَبْدًا حَبَشِيًّا ، وَبَعِيرًا نَاضِحًا ، وَجَرْدَ قَطِيفَةٍ ثَمَنَ خَمْسَةِ الدَّرَاهِمِ؟»، قَالَ: «فَمَا تَأْمُرُ؟». قَالَ: تَرُدُّهُنَّ عَلَى عِيَالِهِ، فَقَالَ: «لا وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ، أَوْ كَمَا حَلَفَ، لا يَكُونُ هَذَا فِي وِلايَتِي أَبَدًا، وَلا خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مِنْهُنَّ عِنْدَ الْمَوْتِ وَأَرُدُّهُنَّ أَنَا عَلَى عِيَالِهِ، الْمَوْتُ أَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ».
خامسًا: تصديه لقتال أهل الردة ومانعي الزكاة:
ما إن علمت الجزيرة العربية بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ارتدت، ولم يبقَ على الإسلام إلا المدينة المنورة ومكة والطائف وقرية جُواثَى بالبحرين، ولكنَّ الله مَنَّ على هذه الأمة بالصِّدِّيق أبي بكر، الذي استطاع أن يقمع فتنة المشركين والمرتدين. فقد كان ارتداد الجزيرة العربية على درجات؛ فمن العرب من منع الزكاة، ومن العرب من ترك الإسلام وعاد إلى عبادة الأصنام، ومن العرب من سارع بادِّعاء النبوة، ومن أشهر هؤلاء مسيلمة الحنفي الكذَّاب، والأسود العنسي، وطليحة بن خويلد، وسَجَاح. وأسباب حدوث الرِّدَّة تتمثل في جهل العرب بحقيقة الرسول وحقيقة الرسالة؛ إذ دخل أعداد كبيرة من العرب في العامين الأخيرين من حياة الرسول انبهارًا بسيطرة المسلمين على الجزيرة العربية، فمنهم من جاء رغبًا في المال والغنائم، ومنهم من جاء رهبًا من قوة المسلمين، ومنهم من جاء لا رغبًا ولا رهبًا، ولكن اتباعًا لزعمائهم وقادتهم. ومن ثَمَّ كانت القبليَّة هي القناع الذي وقف وراءه أعداء الإسلام في ذلك الوقت لحرب الإسلام، واعتقد الجميع أن الدولة الإسلامية انهارت بموت من أسَّسَها.
ومع هذه الأحوال العاصفة أصرَّ الصِّدِّيق على إنفاذ جيش أسامة بن زيد لقتال الروم؛ وذلك لوصية الرسول قبل وفاته. وبالفعل خرج جيش أسامة إلى أطراف الشام، وقد فرَّت منه الجيوش الرومانية في هذه المنطقة، فوجد بعض القبائل في هذه المنطقة ارتدت فقاتلهم، وشتَّت شملهم وهزمهم، وعاد بسرعة إلى أبي بكر الصِّدِّيق في المدينة، ومعه الغنائم من هذه الموقعة. وخروج الجيش إلى شمال الجزيرة أحدث بكل القبائل العربية الموجودة في هذه المنطقة رهبةً من المسلمين؛ مما جعلهم يظنُّون أن للمسلمين قوةً في المدينة.
وقد رفض أبو بكر عرض القبائل بأن يقبل منهم الصلاة ويرفع عنهم الزكاة، وأصر على قتال من فرّق بين الصلاة والزكاة، وقتال المرتدين أيضًا. بعد ذلك قام الصديق أولاً بحراسة المدينة المنورة حراسة مستمرة، ثم قام بمراسلة كل القبائل التي بقيت على الإسلام لتوافيه في المدينة المنورة، وأرسل رسائل شديدة اللهجة إلى كل قبائل المرتدين يدعوهم للعودة إلى ما خرجوا منه، وهدَّدهم وتوعَّدهم؛ وذلك ليُلقِي الرهبة في قلوبهم.
جهز الصديق أحد عشر جيشًا كاملاً لحرب المرتدين في وقت متزامن، ومع أن أعداد جيوش المسلمين لم تكن كبيرة، فإنها كانت جيوشًا منظَّمة، راغبةً في الجهاد في سبيل الله، وحدَّد لهم اتجاه كل جيش من هذه الجيوش الأحد عشر، فوُزِّعت هذه الجيوش على الجزيرة توزيعًا دقيقًا، بحيث تستطيع تمشيط كل رقعة منها تمشيطًا كاملًا، فلا تبقى قبيلة أو منطقة إلا وفيها من جيوش المسلمين. وبفضل الله كتب الله النصر للمسلمين في كل المواقع، ولم يبقَ في الجزيرة العربية مرتدٌّ واحد.
كان من الممكن أن تكون لهذه الفتنة العظيمة آثارٌ وخيمة، لولا أن الله مَنّ على الأمَّة في ذلك الوقت بنعمة عظيمة هائلة، تلك هي نعمة الصِّدِّيق. فالله أيَّد به هذه الأمة، وحفظ به الدين والقرآن، وقمع به المشركين والمرتدين. يقول أبو هريرة يصف هذا الموقف المتأزم: «والله الذي لا إله إلا هو، لولا أن أبا بكر استُخْلِفَ ما عُبِد اللهُ». ولا ننسى أن مصيبة الردة هذه جاءت بعد أيام قلائل من مصيبة أخرى كبيرة، هي مصيبة وفاة الرسول. ولا شك أن مصاب الصِّدِّيق كان كبيرًا، فهو أقرب الناس إلى رسول الله، وأشدهم حزنًا على فراقه، ولكن الله رزقه نعمة الثبات، والثبات نعمة جليلة لا توهب إلا لمن كان مؤمنًا حقًّا.
وقد كان ارتداد الجزيرة العربية على درجات؛ فمن العرب من منع الزكاة، ومن العرب من ترك الإسلام كله، وعاد إلى ما كان يعبد من أصنام، ومن العرب من لم يكتفِ بالردة ويترك المسلمين في شأنهم، بل انقلبوا على المسلمين الذين لم يرتدوا، فقتلوهم، وذبحوهم، وفعلوا بهم أشنع المنكرات، ومن العرب من سارع بادِّعاء النُّبُوَّة، ومن أشهر هؤلاء مسيلمة الحنفيّ الكذاب، والأسود العنسيّ، وطليحة بن خويلد، وسَجَاح.
سادسًا: الفتوحات التي كانت في زمنه رضي الله عنه ( دمشق نموذجًا):
سيطر المسلمون على منطقة الأردن وفلسطين، بعد هروب جيش الروم إِثْرَ هزيمتهم النكراء في «بيسان»، ومن لم يقاتل منهم استسلم، ورضي بدفع الجزية للمسلمين، عدا ثلاث مدن: هي (القدس) و(عكَّا) و(حيفا) فلم تستسلم في هذا الوقت، وكان للقدس أسوار عظيمة، حالت دون دخول المسلمين إليها آنذاك، ثبَّت المسلمون أقدامهم في الأردن لمدة 3 شهور، منذ انتصارهم في ذي القعدة، حتى منتصف ربيع الأول عام 14هـ.
بعد أن تم استسلام هذه المنطقة، فكَّر المسلمون في المرحلة التالية، ولم يكن أمامهم من عقبة سوى مدينة دمشق، التي لا تزال تتمتع بوجود أكبر حامية رومية فيها، فبدأ الجيش الإسلامي يتجه لحرب الروم في دمشق، وتجدر الإشارة هنا إلى أن المسلمين تركوا القدس (مدينة إيلياء آنذاك)، واتجهوا إلى دمشق، على الرغم من وجود المسجد الأقصى في القدس، وأنه مسرى الرسول ، وكان من المفترض أن يهتموا بفتحه، إلا أن المسلمين، مع عظم قدر المسجد الأقصى في قلوبهم، إلا أن همهم الأكبر كان إيصال دعوة الله إلى الأرض، ومنطقة القدس لم يكن فيها الكثير من السكان، في حين كانت دمشق عامرة بالسكان، ومحصنة، وبها أكبر حامية للروم آنذاك، فآثر المسلمون أن يتركوا القدس، وينتقلوا إلى دمشق حتى يكسروا شوكة الروم في هذا المكان، وينشروا الإسلام في هذه المنطقة.
سابعًا: مرضه رضي الله عنه:
مرض الصديق رضي الله عنه، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أول ما بدئ مرض أبي بكر أنه اغتسل، وكان يومًا باردًا، فحمَّ خمسة عشر يومًا لا يخرج إلى صلاة، وكان يأمر عمر بالصلاة، وكانوا يعودونه، وكان عثمان ألزمهم له في مرضه، ولما اشتد به المرض قيل له: ألا تدعو لك الطبيب؟ فقال: «قد رآني فقال: إني فعال لما أريد».
وقالت عائشة رضي الله عنها: قال أبو بكر: «انظروا ماذا زاد في مالي منذ دخلت في الإمارة فابعثوا به إلى الخليفة بعدي، فنظرنا فإذا عبد نوبي كان يحمل صبيانه، وإذا ناضح كان يسقي بستانًا له، فبعثنا بهما إلى عمر، فبكى عمر، وقال: رحمة الله على أبي بكر لقد أتعب من بعده تعبًا شديدًا». وقالت عائشة رضي الله عنها: لما مرض أبو بكر مرضه الذي مات فيه، دخلت عليه وهو يعالج ما يعالج الميت ونفسه في صدره، فتمثلت هذا البيت:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يومًا وضاق بها الصدر
فنظر إليَّ كالغضبان ثم قال: ليس كذلك يا أم المؤمنين، ولكن قول الله أصدق: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾، ثم قال: يا عائشة، إنه ليس أحد من أهلي أحب إليَّ منك، وقد كنت نحلتك حائطًا، وإن في نفسي منه شيئًا فرديه إلى الميراث، قالت: نعم، فرددته.
ثامنًا: وفاة أبي بكر الصديق:
وقد استمر مرض أبي بكر مدة خمسة عشر يومًا، حتى كان يوم الاثنين (ليلة الثلاثاء) في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة للهجرة، قالت عائشة رضي الله عنها: إن أبا بكر قال لها: في أي يوم مات رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قالت: في يوم الاثنين قال: إني لأرجو فيما بيني وبين الليل، ففيم كفنتموه؟ قالت: في ثلاثة أثواب بيض سحولية يمانية ليس فيها قميص ولا عمامة، فقال أبو بكر: انظري ثوبي هذا فيه ردع زعفران أو مشق فاغسليه واجعلي معه ثوبين آخرين. فقيل له: قد رزق الله وأحسن، نكفنك في جديد. قال: إن الحي هو أحوج إلى الجديد ليصون به نفسه عن الميت، إنما يصير الميت إلى الصديد وإلى البلى. وقد أوصى أن تغسله زوجه أسماء بنت عميس، وأن يدفن بجانب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان آخر ما تكلم به الصديق في هذه الدنيا قول الله تعالى: ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾. وارتجت المدينة لوفاة أبي بكر الصديق، ولم تر المدينة منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم يومًا أكثر باكيًا وباكية من ذلك المساء الحزين، وأقبل علي بن أبي طالب مسرعًا باكيًا مسترجعًا، ووقف على البيت الذي فيه أبو بكر، فقال: «رحمك الله يا أبا بكر، كنت إلف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنيسه ومستراحه وثقته وموضع سره ومشاورته، وكنت أول القوم إسلامًا وأخلصهم يقينًا، وأشدهم لله يقينًا، وأخوفهم له، وأعظمهم غناء في دين الله عز وجل، وأحوطهم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأحدبهم على الإسلام، وأحسنهم صحبة، وأكثرهم مناقب، وأفضلهم سوابق، وأرفعهم عنده، وأكرمهم عليه، فجزاك الله عن رسول الله وعن الإسلام أفضل الجزاء. صدَّقت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين كذبه الناس، وكنت عنده بمنزلة السمع والبصر، سماك الله في تنزيله صِدِّيقًا فقال: ﴿ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾. واسيته حين بخلوا، وقمت معه على المكاره حين قعدوا، وصحبته في الشدة أكرم الصحبة، ثاني اثنين صاحبه في الغار، والمنزل عليه السكينة، ورفيقه في الهجرة، وخليفته في دين الله وأمته، أحسن الخلافة حين ارتدوا، فقمت بالأمر ما لم يقم به خليفة نبي، ونهضت حين وهن أصحابه، وبرزت حين استكانوا، وقويت حين ضعفوا، ولزمت منهاج رسول الله إذ وهنوا، وكنت كما قال رسول الله: ضعيفًا في بدنك، قويًّا في أمر الله تعالى، متواضعًا في نفسك، عظيمًا عند الله تعالى، جليلًا في أعين الناس، كبيرًا في أنفسهم، لم يكن لأحدهم فيك مغمز ولا لقائل فيك مهمز، ولا لمخلوق عندك هوادة. الضعيف الذليل عندك قوي عزيز حتى تأخذ بحقه، القريب والبعيد عنك في ذاك سواء، وأقرب الناس عندك أطوعهم لله عز وجل وأتقاهم، … شأنك الحق والصدق والرفق، قولك حكم وحتم، وأمرك حلم وحزم، ورأيك علم وعزم. اعتدل بك الدين، وقوي بك الإيمان، وظهر أمر الله، فسبقت -والله- سبقًا بعيدًا وأتعبت من بعدك إتعابًا شديدًا، وفزت بالخير فوزًا مبينًا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، رضينا عن الله عز وجل قضاءه، وسلمنا له أمره. والله لن يصاب المسلمين بعد رسول الله بمثلك أبدًا، كنت للدين عزًا وحرزًا وكهفًا، فألحقك الله عز وجل بنبيك محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا حرمنا أجرك ولا أضلنا بعدك».
فسكت الناس حتى قضى كلامه، ثم بكوا حتى علت أصواتهم، وقالوا: صدقت. وجاء في رواية: إن عليًّا قال عندما دخل على أبي بكر بعدما سجي أنه قال: «ما أحد ألقى الله بصحيفته أحب إليَّ من هذا المسَجَّى»
هذا وقد توفي الصديق رحمه الله وهو ابن ثلاث وستين سنة، مجمع على ذلك في الروايات كلها، استوفى سن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وغسلته زوجه أسماء بنت عميس، وكان قد أوصى بذلك، ودفن جانب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد جعل رأسه عند كتفي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصلى عليه خليفته عمر بن الخطاب، ونزل قبره عمر وعثمان وطلحة وابنه عبد الرحمن، وألصق اللحد بقبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.q
2016-04-25