مقتطفات من كتاب التيسير في أصول التفسير للعالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشته
2016/04/25م
المقالات
3,086 زيارة
مقتطفات من كتاب التيسير في أصول التفسير للعالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشته
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185))
جاء في كتاب التيسير في أصول التفسير لمؤلفه
عطاء بن خليل أبو الرشته
أمير حزب التحرير حفظه الله في تفسيره لهذه الآيات ما يلي:
يبين الله في هذه الآيات ما يلي:
-
أن الله سبحانه فرض الصيام على الذين آمنوا – الأمة الإسلامية – كما فرضه على الأمم السابقة، والمماثلة هنا في فرض الصيام وليس في عدد أيامه وتحديد شهره، فليس النص على هذا، بل على فرض الصيام كما في الآية ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ).
-
أما لماذا الصيام (فرضٌ) في هذه الآيات فلما يلي:
أ. ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ) هذا خبر في صيغة الطلب أي (صوموا).
ب. ترتيب قضاء للصيام عند عدم صيام المريض والمسافر قرينة على الجزم في الطلب؛ فهو لو لم يكن طلباً جازماً لما ترتب عليه قضاء ( فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) ولذلك فطلبُ الصيام طلبٌ جازم فيكون فرضاً.
ج. كذلك فإن ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) طلب بالصيام لمن شهد الشهر أي الحاضر المقيم، وقوله تعالى بعدها ( وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) قرينة على الجزم لأنها ترتب قضاء على المريض والمسافر إن لم يصوموا وهذا يدلّ أن الطلب جازم أي أن الصوم فرض.
د. هذا من حيث الكتاب، وأما السنة فأحاديث كثيرة منها حديث عمر الذي يروي فيه جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام عندما سأله عن الإسلام فقال صلى الله عليه وسلم: “شهادة أن لا اله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة المكتوبة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلًا“[1] فموضوع السؤال هو الإسلام، وهو فرض على الناس كافة ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ) آل عمران/آية19 ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) آل عمران/آية85 وذكـر الصـوم في جـواب الرسـول صلى الله عليه وسلم عـن الإسـلام يـدل على أن الصـوم فـرض وفرض عظيم.
وكذلك هناك رواية “بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلًا“[2]، وما يقوم عليه البناء هو وصفٌ مفهم يفيد الجزم في الطلب. فهذه الخمسة وردت في النص بأن الإسلام يبنى عليها، أي هي من أركان الإسلام، وبالتالي فالصوم فرض.
-
جعل الله سبحانه حكمة للصيام وهي (التقوى) فقال سبحانه: ( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) والتقوى خشية الله وطاعته والاستعداد للقائه سبحانه كما عرفها بعض الصحابة: “الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والاستعداد ليوم الرحيل”.
ولذلك فعلى الصائم أن يحرص على تحقيق هذه الحكمة من صيامه لأن الله سبحانه قد جعل التقوى حكمة الصيام عندما فرضه سبحانه.
فلينظر المرء في صيامه هل زاده خشيةً لله سبحانه، وطاعةً لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، واستعدادًا للقائه بالإكثار من فعل الخيرات؟ فيكون صيامًا صادقًا يحقق به أجرًا عظيمًا خالصًا من ربِّ العالمين، وبشرى زكيةً طيبةً من رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كلّ عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به“[3] “للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وأخرى عند لقائه ربه“[4]. أما إن لم يحقق حكمة الصيام؛ فليعالج هذا الأمر قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
-
( أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ) أي قليلات، فالعرب تطلق على القليل (معدودًا) فكأن الكثير غير معدود على نحو قوله سبحانه ( وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً ) البقرة/آية80 بحسب زعم يهود إنها قليلة، وقوله سبحانه ( وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ ) يوسف/آية20 أي بثمن قليل.
ولهذا فإن ( أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ) أي قليلة، وهي شهر رمضان تسعة وعشرون أو ثلاثون يومًا “الشهر تسعة وعشرون أو ثلاثون يومًا“[5] كما قال صلى الله عليه وسلم.
-
بعـد أن بيّن سبحانه فرض الصيام رخّص للمرضى والمسافرين الفطر أو الصوم، فإن أفطروا قضوه في أيام أخر، وهذا للمريض الذي يُرجى شفاؤه، وهو الذي يستطيع أن يصوم ويستطيع أن يفطر، وللمسافر الذي يستطيع أن يصوم ويستطيع أن يفطر، فقد رخص لهما الله سبحانه بالفطر إن شاءوا، ثم القضاء فيما بعد عند انتهاء السفر أو المرض.
أما المرض فمعروف، وأما السفر فهو السفر الشرعي الذي تقصر فيه الصلاة، وهو الذي نقل عن الصحابة تقديره كما سُئل ابن عباس عن السفر الذي تقصر فيه الصلاة “فقال من عسفان للطائف أو جدة للطائف”[6] والذي ورد بنصوص أخرى “ثلاثة فراسخ والفرسخ أربعة برد”[7] وتقديرها بالمسافات هذه الأيام نحو تسعين كيلو مترًا.
-
( وعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) بعد أن بين الله سبحانه فرض الصيام على المسلمين وأنه ( أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ) – شهر رمضان – ذكر الله غير القادرين على الصيام بصفة مؤقتة أو بصفة دائمة:
أ. ( فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ ) لغير القادرين بصفة مؤقتة.
ب. ( وعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ) لغير القادرين بصفة دائمة.
ويطيقونه لها معنيان: يصومونه مع الوسع، ويصومونه مع إفراغ الجهد والطاقة.
فإن كانت بالمعنى الأول كان معنى الآية: خطاب للمسلمين أن يصوموا شهر رمضان، فإن كانوا مرضى أو مسافرين فلهم أن يصوموا أو يفطروا ويقضوا في أيام أخر، وإن كانوا يستطيعون صيامه فليفطروا ويخرجوا فدية عن كلّ يوم يفطرونه، وبهذا المعنى لا يستقيم الخطاب. فهو في البداية أمر بالصيام وفي هذه الآية أمر بالإفطار وإخراج الفدية وكل ذلك لمستطيع الصيام. وواضح هنا أن الخطاب لا يستقيم، هذا إذا اعتبرنا معنى ( يُطِيقُونَهُ ) يصومونه مع الوسع، أي يستطيعونه؛ لأن الوسع والاستطاعة ذات دلالة واحدة (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ) سورة البقرة/آية286 والحديث “ما أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم“[8].
وأما على المعنى الثاني – يطيقونه – يصومونه مع إفراغ الجهد والطاقة أي مع الهلاك، فإن الخطاب يستقيم لأن المعنى عندها يكون: أيها المؤمنون صوموا شهر رمضان إن استطعتم، فإن كنتم مرضى أو على سفر فعدة من أيام أخر، وإن كنتم لا تستطيعون صيامه إلا مع الهلاك – كالشيخ الكبير الهرم، والعجوز الكبيرة الهرمة، أو المريض الذي لا يُرجى شفاؤه – فليفطروا وليخرجوا فدية.
وهكذا يستقيم الخطاب: فيكون الأمر بالصيام للمستطيع، ورخصة للمسافر والمريض بالإفطار والقضاء، وللكبير الهرم والمريض الذي لا يُرجى شفاؤه الفطر والفدية.
ولذلك فإن الذين يقولون بأنه في أول الإسلام كان الصوم للمستطيع على الخيار، إن شاء صام وإن شاء أفطر، ويخرج فدية، ثم نسخت بالآية التالية ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) قول أولئك والروايات التي استندوا إليها كلها مرجوحة، لأنه لا يعمد للقول بأن نصًا ينسخ آخر إلا إذا تحققت شروط النسخ، ومنها تعذر الجمع بين النصين، وهنا لا يتعذر؛ فيكون الراجح ما ذكرناه من أن فرض الصوم لم ينسخ، وإنه منذ البداية نصّ محكم، فرض على المقيمين المستطيعين الصيام، ورخصة للمرضى والمسافرين بالفطر مع القضاء، وللشيخ الكبير والمرضى الذين لا يرجى شفاؤهم بالفطر والفدية، هذا ما تدلّ عليه الآية الكريمة.
ويؤكد ذلك ما رُوي عن ابن عباس بهذا المعنى، وعدم النسخ كما رواه البخاري وأبو داود وغيرهما “قال ابن عباس ليست منسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كلّ يوم مسكينًا”.
-
( فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ) بعد قوله سبحانه: ( وعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) فيها دلالة على أن من أخرج أكثر من الفدية المطلوبة عن كلّ يوم من فطره فهو خير له وقربى إلى الله سبحانه.
أما مقدار الفدية عن كلّ يوم من فطره فهي ما يكفي لإطعام مسكين لأن ( طَعَامُ مِسْكِينٍ ) بدل من ( فِدْيَةٌ ) فهي طعام مسكين يومًا عن كلّ يوم فطر، ويقدّر الطعام بقدره في وقته ما يكفيه بالمعتاد في اليوم.
-
( وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) فهي تعني أن من رخص له الفطر كالمسافر والمريض والذي له أن يصوم أو يفطر، خير له أن يصوم إن كان مرضه أو سفره لا مشقة فيه ويستطيع القيام بدون مشقة، فإن كان صومه مُرهِقًا له في مرضه أو سفره ففطره أفضل كما في الحديث: “أن رسول الله صلى الله عليه وسلمرأى رجلًا قد ظلل عليه فقال: ما هذا؟ قالوا: صائم. قال: ليس من البر الصيام في السفر“[9]. وفي رواية «ليس من البر الصيام في السفر، عليكم برخصة الله عز وجل فاقبلوها» أخرجه النسائي. والتذكير بقبول الرخصة في هذا المقام يعني أنها هنا أفضل.
-
إن الله سبحانه قد اختص شهر رمضان ببدء نزول القرآن فيه ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) القدر/آية1 ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ) الدخان/آية3. وكلّ ذلك يدل على أن القرآن بدأ نزوله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلمفي ليلة من ليالي رمضان، ليلة مباركة، ليلة القدر، ثم أكمل الله سبحانه تنزيله على فترات لحكمة بيَّنها الله سبحانه ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ) الفرقان/آية32.
ثم بيَّن الله سبحانه أن القرآن العظيم:
أ. ( هُدًى لِلنَّاسِ ) «حال منصوب»: يهديهم إلى الحق وإلى صراط مستقيم.
ب. (وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى ) «حال معطوف»: دلائل قاطعة معجزة على أنه من الهدى الذي أنزله الله.
ج. ( وَالْفُرْقَانِ ) أي الذي يفرق بين الحق والباطل وبين الخير والشر وبين الأعمال الصالحة والأعمال السيئة.
-
في الآيتين الأولى والثانية ذكر الله سبحانه ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ) فكانت الآية مؤكدة فرض الصوم علينا كما فرض على الأمم السابقة مع اختلاف عدة أيام الصيام فنكرت ( أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ) لأن المقصود في تلك الآية تأكيد فرضية الصيام علينا كفرضه على السابقين، وليس المقصود منها بيان مدة الصيام.
وأما الآية التي بعدها ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) فإن فيها تعيين لشهر الصيام على الأمة الإسلامية، فهو شهر رمضان المخصوص بنزول القرآن ومن ثم فريضة الصيام.
وعندما ذكر الله سبحانه الصوم في شهر رمضان عاد فأكّد أحكامه لمناسبة إعادة ذكر شهر الصوم ( h شَهْرُ رَمَضَانَ ) فقال الله سبحانه ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) فأكّد حكم الصـيام لمن شهد الشهر وحضره أي المقيم، وكذلك الرخصة للمسافر والمريض في تتابع محكم من لدن حكيم خبير.
-
( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ).
يبيِّن الله سبحانه الحكمة من ذلك بأنه سبحانه يريد لنا اليسر في تنفيذ فريضة الصيام وليس العسر – المشقة والهلاك – وبذلك نتمكن من إكمال عدة الصيام بسهولة: فإن كنا غير قادرين بصفة مؤقتة أديناها قضاءً في أيام أخر، وإن كنا غير قادرين بصفة دائمة أخرجنا فديةً، وإن كنا قادرين أديناها في مدتها – شهر رمضان – فنكمل العدة ونكبر الله بعد إكمال الصيام أي يوم العيد، ونكون من الشاكرين على نعمة الله أن مكننا من إكمال هذه الفريضة العظيمة.
وورود حروف التعليل ( وَلِتُكْمِلُوا )، ( وَلِتُكَبِّرُوا )، ( وَلَعَلَّكُمْ )، لبيان الحكمة من هذا اليسر في الصيام، أن تكملوا عدة الصيام، وتكبروا الله على ما هداكم لتنفيذ فريضة الصيام، وتكونوا من الشاكرين لله سبحانه.
أما لماذا قلنا إن ما ذكرناه في آيات الصيام السابقة (حكمة) وليس علة فلأن ما ذكـره الله سـبحـانه مـرتـبـًا على الصيام: ( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، ( وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ)، ( وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ )، ( وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، كلّ ذلك يتحقق جملةً، أي عند عدد من المسلمين ولكنه يتخلف في أفراد منهم، وهذا ما اصطلح عليه بالحكمة، فهي التي تتحقق جملةً من مقصود الشارع مثل ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) الذاريات/آية56 فنقول الحكمة من الخلق عبادة الله سبحانه وليس العلة، لأن العبادة من المخلوقات تتحقق في جملتهم أي من أعداد منهم ولكنها تتخلف في أفراد منهم.
أما العلة فهي التي تدور مع المعلول وجودًا وعدمًا، فلا تتخلف لا في الجملة ولا في الأفراد ما دامت العلة والمعلول موجودتين؛ لأن العلة هي التي من أجلها شرِّع الحكم أي الباعث على تشريع الحكم، فمثلًا: ( لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) النساء/آية165 فإن الباعث على إرسال الرسل هو أن لا يحتج الناس أمام الله على عدم طاعتهم له سبحانه بقولهم: إننا لم نكن نعلم ما تريده منا لعدم إرسالك إلينا رسلًا.
فهنا تكون الآية ( لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ ) النساء/آية165 علة لإرسال الرسل، فإذا أرسلت الرسل لا تكون للناس حجة في جميع الأحوال.
وقوله صلى الله عليه وسلم: “القاتل لا يرث“[10] يدل أن العلة لعدم الإرث هو القتل العمد، فلو قتل أحد الورثة مورّثه عمدًا فإن هذا القاتل لا يرث فحيث كان القتل العمد من الوارث فإن توريث القاتل لا يصح بحال، فالعلة تدور مع المعلول وجودًا وعدمًا.
أما ( إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ) العنكبوت/آية45 فإن الحكمة من الصلاة النهي عن الفحشاء والمنكر لأن المنكر قد يقع من بعض المصلين مع وجود الصلاة فتسمى اصطلاحًا حكمة لتخلفها في بعض الأفراد.
أي: أن الحكمة من الحكم تتحقق جملة وقد تتخلف عند بعض الأفراد.
والعلة لا تتخلف عن الحكم فهي تدور معه وجودًا وعدمًا.
ولذلك قلنا إن ( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )، ( وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ )، ( وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ )، ( وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، هي حكـمـة من الصـيام، وليسـت علة كما هـو في اصطلاح الأصوليين.q
[1] مسلم: 9، الترمذي: 2535
[2] البخاري: 7، مسلم: 20
[3] البخاري: 5472، مسلم: 1945
[4] البخاري: 1771، 6938، مسلم: 1944
[5] البخاري: 1780، مسلم: 1805
[6] عن مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عباس كان يقصر الصلاة في مثل ما بين مكة والطائف. وفي مثل ما بين مكة وعسفان، وفي مثل ما بين مكة وجدة. قال مالك: وذلك أربعة برد، الموطأ: صفحة110
[7] مسلم: 1116، أبو داوود: 1015
[8] البخاري: 6744، مسلم: 2380، 4348
[9] البخاري: 1810، مسلم: 1879، الترمذي: 644، النسائي: 2223
[10] الترمذي: 2035، ابن ماجه: 2635، 2725، الدارمي: 2954
2016-04-25