ارتباط العبادات بالزمن في الإسلام (2) تحديد الحج بأشهرٍ معلومات
2016/03/03م
المقالات
4,413 زيارة
بسم الله الرحمن الرحيم
ارتباط العبادات بالزمن في الإسلام (2)
تحديد الحج بأشهرٍ معلومات
عبادة الحج معيارٌ على مدى الالتزام ببذل الجهد والمال في سبيل الله، كما أنها الأساس العملي والنظري للمنهاج السياسي الإسلامي الذي يتجسَّد في وحدة المسلمين وتضامنهم.
وقد بين القرآن الكريم، أنَّ أداء الحج مرتبط بفترةٍ زمنية معينة، ينبغي التقيد بها، وذلك في موضعين:
1- قـوله تعالى: } يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ{.
جاء في سبب نزول هذه الآية: أن معاذ بن جبل -رضي الله عنه – قال: يا رسول الله؛ إنَّ اليهود تغشانا، ويكثرون من مسألتنا عن الأهلّة، فأُنزلت. [انظر: علي بن أحمد الواحدي، أسباب النـزول]
وقيل: نزلت في رجلين من الصحابة؛ قالا: يا رسول الله؛ ما بال الهلال يبدو دقيقًا، ثم يزيد ويمتلئ، حتى يستدير ويستوي، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان، فنـزلت. [انظر: المصدر السابق. وزاد المسير في علم التفسير. والجامع لأحكام القرآن]
وكوْنُ الأهلَّة مواقيت ليس مما يخفى عنهم حتى يسألوا عنه؛ لأنَّ ذلك معروف بينهم، فيتعين بذلك أنهم يسألون عن الحكمة والسبب، وعليه يكون الجواب بقوله: «قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ « غير مطابق للسؤال، وإنما جاء على خلاف مقتضى الظاهر، وذلك بصرف السائل إلى غير ما سأل، تنبيهاً على أنَّ ما صُرف إليه هو المهم له، لأنهم في مبدأ تشريعٍ جديد، وكان المهم أن يسألوا الرسول ، عما ينفعهم في صلاح دنياهم وأخراهم، وهو معرفة كون الأهلَّة ترتبت عليها آجال المعاملات والعبادات، كالحج والصيام والعدّة، ولذلك صرفهم عن بيان مسؤولهم إلى بيان فائدةٍ أخرى، والرسول لم يأتِ مبينًا لعلل اختلاف أحوال الأجرام السماوية، والسائلون ليسوا على دراية بعلم الهيئة [انظر: ابن عاشور، التحرير والتنوير. وسيد قطب في ظلال القرآن]
أما إفراد الحج بالذكر في قوله: } مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ { فذلك اعتناءً به، لأن الوقت أشدّ لزومًا له من بقية العبادات، وذلك لأنه لا يصح فعله أداءً ولا قضاءً إلا في وقته المعلوم، وأما غيره من العبادات، فلا يتقيد قضاؤه بوقت أدائه. انظر: سليمان بن عمر الجمل: الفتوحات الإلهية. وأحمد بن يوسف السمين الحلبي: الدر المصون في علوم الكتاب المكنون. ومحمد العمادي أبو السعود: إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم]
2- قـوله تعالى: }الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الألْبَابِ{.
ويدل هذا النص على أنَّ للحج وقـتًا معلومًا، وأن وقته أشهر معلومات، وهذه الأشهر هي: شوال، ذو القعدة، وعشر من ذي الحجة.
ولم يسمّ الله هذه الأشهر في كتابه؛ وذلك كما يقول القرطبي: «لأنها كانت معلومة عندهم» [انظر القرطبي، الجامع لأحكام القرآن].
ودلَّت السنة النبوية على وجوب الحج مرّة واحدة في العام، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: خَطَبَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: «يا أيها الناس قد فُرض عليكم الحج فحُجُّوا» فقال رجل: أكلّ عامٍ يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله : «لو قلتُ نعم لوجبت ولما استطعتم» ثم قال: «ذَروني ما تَركتُكم، فإنما هَلك مَنْ كان قبلَكم بكثرة السؤال، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتُكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» رواه مسلم.
أما الأسرار والحِكم في توقيت الحج على هذا النحو، فهي كالآتي:
1- في التحديد الزمني لوقت الحج من الله سبحانه وتعالى، إنهاءٌ للجدال في مواقيته الزمانية، فقد فسَّر مجاهد وطائفة معه الجدال في الآية بأنه المماراة في الشهور، حسب ما كانت عليه العرب من النسيء، فكانوا يقدّمون الحج سنة، ويؤخرونها أخرى، وربما جعلوه في غير ذي الحجة، ويقف بعضهم بعرفة، وبعضهم بمزدلفة، ويتمارون في الصواب من ذلك. فأخبر سبحانه وتعالى أنه قد ارتفع الخلاف في الحج، وردّ الجميع إلى وقتٍ واحد، لا يجوز الخروج عنه، وليس لهم فيه شيء من التقديم أو التأخير، وهو أمر ثابت من الله عز وجل، فالحج شأنه شأن العبادات الأخرى، مرتبط بوقته، وهو هذه الأشهر، فلا يخرج عنها Aئ عنها انظر: الزمخشري: الكشاف. والقرطبي: الجامع أحكام القرآن].
وعلى هذا فقد ذهب الإمام الشافعي- رحمه الله- إلى أنَّه لا يصح الإحرام بالحج إلا في هذه الأشهر المعلومات [انظر: تقي الدين الحُصني، كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار]. وإن كان غيره يعتبر الإحرام به صحيحًا على مدار السنة، ويخصص هذه الأشهر المعلومات لأداء شعائر الحج في مواعيدها المعروفة. إلا أنَّ ما ذهب إليه الشافعي هنا هو رأي جمهور العلماء، وهو الأصح كما يقول القرطبي [انظر: القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ج2، ص406].
2- ومن الحكم والأسرار في ذلك، أنَّ احتياج الحج للتوقيت أمر ضروري، ذلك أنَّ من مقاصد الحج، أن يكون مؤتمرًا سنويًا، يجتمع فيه المسلمون على اختلاف بلادهم، وأجناسهم، وألوانهم، ولغاتهم، لما في ذلك من الأثر البالغ في تربية النفوس، وفي تقوية أواصر المحبة والوحدة بين المسلمين، ولو لم يكن مثل هذا التوقيت والتحديد لزمن الحج، لجاء الناس إليه متخالفين، فلم يحصل المقصود من اجتماعهم.
يقول المودودي متحدثًا عن منافع الحج: «إن مكة المكرمة قد جُعلت مركزًا للمسلمين، تهوي إليه نفوسهم من جميع نواحي الأرض، على اختلاف سلالاتهم وأوطانهم، فيشعرون أنهم إخوة فيما بينهم، وأنهم لا يؤلِّفون بمجموعهم إلا أمة واحدة؛ فكأن الحج هو عبادة لله تعالى في جانب، ومؤتمر عالمي سنوي يَفِدُ إليه المسلمون من جميع نواحي الأرض وأقطارها في الجانب الآخر، فهو أكبر وسيلة وأنجح طريقة لتربية الأخوَّة الإسلامية العالمية على الاتحاد والمحبة والتعاون» [انظر المودودي: مبادئ الإسلام، ص112].
وعليه فقد أصبح المسجد الحرام مركزًا للهداية والإشعاع الروحي، ويجتمع فيه العالم الإسلامي كل عام يؤدي خراجه من الطاعة وضريبته من الحب والانقياد، ويثبت تمسّكه بهذا الحبل المتين ولجوءه إلى هذا الركن الركين، ويطوف حـوله الزعماء والفقراء فيجتمعون على تفرُّق، ويلتقون على نقطة واحدة.
يقول الشيخ ولي الله الدهلوي عن هذا المؤتمر السنوي الذي يجتمع فيه المسلمون كل عام: «فإن لكل دولة أو ملة اجتماعًا يتوارده الأقاصي والأداني ليعرف فيه بعضهم بعضًا، ويستفيدوا أحكام الملّة ويعظموا شعائرها، والحج عَرْضَة المسلمين وظهور شوكتهم واجتماع جنودهم وتنويه ملَّتهم». “. [انظر الدهلوي: حجة الله البالغة، ج1، ص59].
3- وثَمَّة سرٌّ في تحديد زمن أشهر الحج من العام، ذلك أن هذه الأشهر تبدأ بعد شهر رمضان، مما لـه الأثر العظيم في استدامة التقويم الخُلُقي، والصفاء الروحي، الذي حصل عليه المسلم بالصيام والقيام في رمضان، فيتصل الحج بالصيام ليجعل المسلم دائماً مع الله.
«فإذا كان المؤمن في رمضان، قد تعلّقت نفسُه بربه، وامتنع عما أبيح لـه من مقوّمات الحياة، فإنه بدخول شوال؛ يملأ قلبه بالشعور باستئناف رحلةٍ أخرى، تشترك فيها الروح مع البدن، ويترك وراءه الأهل والوطن، ويتحمل في سبيل تحقيقها عناء الطريق ومصاعب السفر، إنه يقطع أكثر وقته؛ ذليلاً خاشعًا معترفًا بالتقصير، ملتمسًا العفو والغفران، والمعونة والرضوان، حتى إذا ما فرغ من مناسكه، واطمأنّ إلى حُسن عمله، عاد إلى وطنه آمنًا مطمئنًا، قويًا في نفسه، سليمًا في عقيدته». [انظر بدران أبو العينين: العبادات الإسلامية مقارنة على المذاهب الأربعة، ص (183-184).
2016-03-03