بسم الله الرحمن الرحيم
ثورة الشام على ضوء السيرة النبوية
معاوية الحيجي – سوريا
قال الله تعالى (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ) . فالرسول عليه الصلاة والسلام، بوصفه أسوة وقدوة لأمته، يُتأسَّى به في جميع الحالات التي ستمر على أمته من بعده، ويُقتدى به في جميع الظروف التي قد تعيشها أمته لاحقاً… ويتساءل الكثيرون: هل مرَّ على رسول الله عليه الصلاة والسلام وصحابته كما يمر على المسلمين اليوم عامة وعلى أهل الشام خاصة؟
والجواب نعم؛ وهذا أمر يدركه كل من درس سيرته عليه الصلاة والسلام، ويعرفه كل من قرأ الواقع الحالي قراءة سياسية من وجهة نظر إسلامية. وسنأخذ نقطتين اثنتين نتكلم فيهما، ألا وهما: المال السياسي القذر، وسياسة التجويع.
أولاً: المال السياسي القذر
ليس أمراً مخفياً عن الناس أن الأنظمة العربية قامت بدعم بعض الفصائل في ثورة الشام من أجل أن تصبح هذه الفصائل مرهونة القرار بيد من يدعمها؛ فلا يتم فتح جبهة عند بعض الفصائل المرهونة إلا بقرار خارجي، ولا يتم إغلاقها إلا بقرار خارجي.
والذي ينظر في السيرة النبوية يجد أن كفار قريش حاولوا مع رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يعطوه بعض الأموال ليكفَّ ويتوقف عن دعوته، أو على الأقل ليتوقف عن بعض الأمور التي تزعجهم مع إمكانية بقاء الرسول عليه الصلاة والسلام على بقية الأمور التي لاتزعج قريشاً فقال له عتبة بن الوليد أحد صناديد قريش: «يابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالًا، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا» (الرحيق المختوم) فكان جوابه عليه الصلاة والسلام جواباً ليس فيه لف ولا دوران ولا تلاعب بالألفاظ؛ فقد رفض أن يبيع نفسه لهم، ورفض أن يبيع مبدأه بثمن بخس، ورفض أن يبيع جنة الخلود التي عرضها السماوات والأرض بمتاع دنيا زائلة… نعم رفض أن يكون القرآن سلعة يتاجر بها، ورفض أن تكون رايته يحدد شكلها كفار قريش. ورفض أن يكون نظام الحكم كما يريده مجلس الأمن في قريش أو هيئة الأمم المتحدة في دار الندوة… نعم رفض عليه الصلاة والسلام أن يقبل منهم أي مال يجعله عبدًا للدرهم والدينار؛ كيف لا، وهو القائل: «تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار». قال الله تعالى:( وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا )
ونقول اليوم: تعس عبد اليورو، وتعس عبد الريال، وتعس عبد الدولار… وإنه لمن المؤسف اليوم أن نرى رجلًا شجاعًا مخلصًا يبذل نفسه وروحه في سبيل الله؛ هذا الرجل يتحوَّل بسبب الدعم الخارجي والمال السياسي القذر يتحول إلى أداة بيد الأنظمة العربية التي تحارب الإسلام ومن ورائها الغرب الكافر، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ)
ومادام الكلام عن المال، فأحب أن أتطرق لموضوع يتعلق بالمال؛ ذلك أن حملة الدعوة وأثناء عملهم بين أصحاب القوة من أجل طلب النصرة لمشروع إقامة الخلافة على منهاج النبوة؛ كان بعض أصحاب القوة يقولون لحملة الدعوة: لن نعطيكم النصرة لهذا المشروع حتى يكون لديكم دعم مالي. فما أشبه هذه المقولة بمقولة كفار قريش لرسول الله عليه الصلاة والسلام «تجعل لنا الصفا ذهبًا»ويشبه مقولتها له: «يا محمد، إنا في واد ضيق قليل الماء؛ فسيِّر عنا بقرآنك هذه الجبال، وأخرج لنا من الأرض ينبوعاً حتى نشرب منه الماء) السيرة النبوية لابن إسحاق وهذا ما ذكره الله سبحانه في محكم تنزيله: (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا )
ثانيًا: سياسة التجويع
ففي ثورة الشام لايخفى على أحد ما يحدث فيها من تجويع لأهاليها من الغوطة إلى مضايا فدير الزور وغيرها… وهذا يتم برعاية من الدول الغربية نفسها، وبدعم مباشر وغير مباشر للنظام البعثي الكافر في سياسة تجويع المسلمين. وقد صدق الشاعر يوسف إبراهيم عبيد حيث يقول:
هذا الذي يرسُمُ الإعلامُ صورتَهُ في كلِّ يومٍ، فلا يهتزُّ وِجدانُ
فأين في الغرب أحرارٌ كما زعموا أمْ كلهمْ لصليب الكفر عُبْدانُ
ومجلسُ الأَمْن ماخورُ الفجورِ لمنْ داسوا المواثيق بالأقدام أو خانوا
وكــلُّ ما فـيــهِ أوراقٌ مُـزَيَّـــفــةٌ زورٌ وإفــــكٌ وتضـليلٌ وبُهتــان
وما هذه السياسة التي يتبعها النظام الأسدي الكافر بدعم من دول الغرب الكافر إلا من أجل تركيعهم وقبولهم بالحلول الغربية لثورة الشام؛ ومن أجل تحويل بوصلة الثوار في الشام من إسقاط النظام إلى فك الحصار عن المناطق المحاصرة. ولعل قائلًا يقول: وهل مرَّ على الرسول عليه الصلاة والسلام وصحابته مثل ما يمر على أهل مضايا والغوطة ودير الزور وغيرها من المناطق المحاصرة في الشام؟
والجواب: نعم، لقد مرَّ على رسول الله عليه الصلاة والسلام وصحابته في شعب أبي طالب أيامًا من الجوع؛ حتى أكلوا ورق الشجر، وحتى التصقت بطونهم بظهورهم من شدة الجوع، وحتى كادوا يموتون جوعًا؛ وذلك حينما أعلنت قريش مقاطعة بني هاشم لأنهم يمنعون رسول الله عليه الصلاة والسلام من قريش، واشتد الحصار حتى بلغهم الجهد، والتجؤوا إلى أكل الأوراق والجلود، وحتى كان يسمع من وراء الشعب أصوات نسائهم وصبيانهم يتضورون من الجوع. وتركت خديجة رضي الله عنها دارها، وانتقلت مع محمد إلى شعب أبي طالب، تقاسي ما يقاسي زوجها وما يقاسي أتباعه معه. ولم تتوانَ، رغم تجاوزها الستين، في أن تقوم لمحمد صلى الله عليه وسلم بما كانت تقوم له من قبل.
وعلى رغم سياسة التجويع هذه بقي رسول الله عليه الصلاة والسلام ثابتًا على مبدئه، لم يتنازل ولم يتفاوض مع قريش، ولم يقبل بحلول قريش، واستمر في محاربتها ومحاربة أفكار الكفر والوثنية رافضًا التحاكم إلى مجلس الأمن في قريش، ورافضًا هيئة الأمم المتحدة في دار الندوة.
وهناك سؤالان لابد من الوقوف عندهما أمام ما يحدث لأهالي الشام من تجويع، أما السؤال الأول: لماذا سياسة التجويع أصلًا؟ وأما السؤال الآخر فهو: لماذا فجأة وبعد سنوات من الحصار والجوع يتم تركيز الإعلام كله على الحالات المرعبة والمأساوية التي يعيشها سكان المناطق المحاصرة؟ وبمعنى آخر، هل استيقظ الضمير العالمي فجأة من سباته فتفاجأ بما يحدث في المناطق المحاصرة في الشام؟! ولماذا هذه الصحوة المفاجئة؟! وأين كان الإعلام والقنوات الفضائية قبل أشهر قليلة؟!
أما الجواب على السؤال الأول فلا يحتاج إلى تفكير كبير؛ فالنظام في سوريا نظام بعثي مجرم، ولا يتوقع عاقل من المجرم أن يكون إنسانًا ؛ وإنما يتوقع منه كل سوء، ويتوقع منه أبشع صنوف الإجرام.
ولكن الجواب على السؤال الثاني بحاجة إلى تفكير سياسي من وجهة نظر معينة؛ ذلك أن العالم كله يدرك ويعلم بما يجري في سوريا، بل الأنظمة العربية تدعم النظام سرًا، وتشجعه على سياساته القذرة تجاه شعبه. ودول أوروبا الصليبية تنظر إلى سياساته القذرة تجاه المسلمين بعين الرضى. وأميركا يقوم خبراؤها برسم هذه السياسة القذرة له. والدب الروسي يريد أن ينتقم من المسلمين في الشام بسبب إذلال المسلمين له في أفغانستان سابقًا.
فمن كان يظن بعد كل هذا أن الضمير العالمي قد صحا من غفوته فهو واهم! ذلك أن الضمير العالمي لاينام لأنه خائف مرتعب ويشعر بالقلق مما يجري في أرض الشام… إنه يشعر بالقلق من عودة خلافة على منهاج النبوة كما صرح زعماؤه مرارًا وتكرارًا. أما سبب هذا التركيز الإعلامي المفاجئ على المجاعات في سوريا فما هو إلا أحد أساليب أميركا الخبيثة من أجل تحقيق غايتين متلازمتين هما: أن يقبل الناس بالحلول السياسية الأميركية تحت ضغط منظر الجوع المأساوي في المناطق المحاصرة، وأن تتحول أنظار المسلمين وخاصة الثوار من إسقاط النظام إلى فك الحصار عن هذه المناطق المحاصرة. وفك الحصار سيتم طبعاً كما تريده أميركا : كرتونات من المساعدات، مع بقاء سيطرة النظام على هذه المناطق
كلمة أخيرة: كان المشركون في الجاهلية من بني هاشم أشرف من حكام العرب؛ حيث قبل المشركون من بني هاشم أن يجوعوا مع المسلمين حمية وعصبية لقبيلتهم، بينما حكامنا يصرفون الأموال الضخمة والهائلة في نوادي القمار والحانات ودور البغي، ويقومون بتخفيض سعر النفط إرضاء لأميركا بدل أن يرفعوه أو يقطعوه ويمنعوه عن الدول الغربية، ويقومون بالاستدانة انصياعًا لرغبة الغرب في رهن اقتصاد البلاد لمصحته، ويقومون بسرقة هذه الديون بالمليارات وتحويل معظمها لحساباتهم الشخصية. وصدق الله سبحانه وتعالى في وصفهم حين قال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )q