بسم الله الرحمن الرحيم
حكيم بن حزام رضي الله عنه
«إن بمكة لأربعة نفر أريأ بهم عن الشرك،
وأرغب لهم في الإسلام… أحدهم حكيم بن حزام»
[محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم]
هل أتاك نبأ هذا الصَّحابيِّ؟! لقد سجلَ التاريخ أنه المَولودُ الوحيدُ الذي ولدَ داخل الكعبةِ المـُعظمة. أما قِصة ولادتِه هذه، فخلاصتها أن أمَّه دخلتْ مع طائفةٍ من أترابها إلى جوفِ الكعبة للتفرُّج عليها…
وكانت يومئذٍ مفتوحة لمناسبةٍ من المـُناسباتِ. وكانت والدته آنذاك حاملاً به، ففاجأها المخاضُ، وهي داخلِ الكعبة؛ فلم تستطع مغادرتها، فجيءَ لها بنطعٍ (جلد) فوضعتْ مَولودها عليه. وكان ذلك المولودُ حكيمُ بن حزامِ بن خويلد، وهو ابنُ أخي أمِّ المؤمنين السيدة خديجة بنت خويلدٍ رضي الله عنها وأرضاها.
نشأ حكيمُ بنُ حزامٍ في أسرةٍ عريقة النسبِ، عريضةِ الجاهِ واسعةِ الثراءِ. وكان إلى ذلك عاقلاً سرياً (شريفاً) فاضلاً؛ فسَوده قومُه (جعلوا له السيادة عليهم)، وأناطوا به (أسندوا إليه) مَنصب الرِّفادة (أحد مناصب قريش في الجاهلية، ويقوم صاحبه بمعونة المحتاجين والمنقطعين من الحجاج). فكان يُخرجُ من ماله الخاصِّ ما يُرفدُ به المـُنقطعين من حُجاجِ بيتِ الله الحرام في الجاهِلية.
وقد كان حكيمٌ صديقاً حميماً لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه قبل أن يُبعث. فهو وإن كان أكبرَ من النبيِّ الكريم بخمسِ سنواتٍ؛ إلا أنه كان يَألفهُ، ويأنسُ به، ويرتاحُ إلى صُحبته ومجالستِه، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يُبادله وداً بودٍّ وصداقة بصداقةٍ. ثم جاءت آصرة القربى فَوثَّقتْ ما بينهُما من علاقةٍ، وذلك حين تزوجَ النبي صلى الله عليه وسلم من عمتهِ خديجة بنتِ خويلدٍ رضي الله عنها.
وقد تَعجبُ بعد كلِّ الذي بسطناه لك من علاقةِ حكيمٍ بالرسول عليه الصلاة والسلام إذا علمت أن حكيماً لم يُسلم إلا يومَ فتح مكة؛ حيث كان قد مضى على بَعثةِ الرسول صلوات الله وسلامه عليه ما يزيد على عشرين عاماً!! فقد كان المظنونُ برجلٍ مثل حكيمِ بن حزامٍ حباه الله ذلك العقلَ الراجح، ويسَّر له تلك القربى القريبة من النبيِّ صلوات الله عليه أن يكون أولَ المؤمنين به، المـُصدقين لدعوتهِ، المـُهتدين بهديه.
ولكنها مشيئة الله، وما شاء الله كان.
وكما نعجبُ نحن من تأخرِ إسلام حكيم بن حزامٍ، فقد كان يعجبُ هو نفسُه من ذلك. فهو ما كاد يدخلُ الإسلامَ ويتذوقُ حلاوة الإيمانِ، حتى جعل يعضُّ بنانَ الندمِ على كل لحظةٍ قضاها من عُمره وهو مُشركٌ بالله مُكذبٌ لنبيه. فلقد رآه ابنه بعد إسلامه يبكي، فقال: ما يبكيكَ يا أبتاه؟! قال: أمورٌ كثيرة كلها أبكاني يا بُنيَّ: أولها بُطءُ إسلامي مما جعلني أُسْبقُ إلى مواطن كثيرةٍ (مواقف كثيرة) صالحةٍ، حتى لو أنني أنفقتُ ملء الأرضِ ذهباً لما بلغت شيئاً منها. ثم إن الله أنجاني يومَ بدرٍ وأحُدٍ، فقلت يومئذٍ في نفسي: لا أنصُرُ بعد ذلك قريشاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أخرُجُ من مكة، فما لبثتُ أن جُررت إلى نصرة قريشٍ جراً.
ثم إنني كنت كلما هَممتُ بالإسلام، نظرتُ إلى بقايا من رجالاتِ قريشٍ لهم أسنانٌ (متقدمون في السن) وأقدارٌ متمسكون بما هم عليه من أمرِ الجاهلية، فأقتدي بهم وأجاريهم… ويا ليت أني لم أفعلْ، فما أهلكنا إلا الاقتداءُ بآبائنا وكبرائنا، فلم لا أبكي يا بُنيّ؟!
وكما عجبنا نحنُ من تأخر إسلام حكيمِ بن حزامٍ، وكما كان يعجب هو نفسهُ أيضاً، فإن النبي صلوات الله وسلامه عليه كان يعجبُ من رجلٍ له مثلُ حلمِ (عقل) حكيم بن حزام وفهمه، كيف يخفى عليه الإسلام، وكان يتمنى له وللنفرِ الذين هم على شاكلته أن يبادروا إلى الدُخول في دين الله. ففي الليلة التي سَبقتْ فتحَ مكة قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: «إن بمكة لأربعة نفرٍ أربأ بهم عن الشركِ (لا أرضاه لهم ولا أجدهم أهلاً له)، وأرغبُ لهم في الإسلام». قيل: ومن هم يا رسول الله؟! قال: «عتابُ بنُ أسيدٍ، وجُبير بن مطعمٍ، وحكيمُ بن حزامٍ، وسُهيلُ بن عمرٍو )ومن فضل الله عليهم أنهم أسلموا جميعاً).
وحين دخلَ الرسول صلوات الله وسلامه عليه مكة فاتحاً، أبى إلا أن يكرِّم حكيمَ بن حزامٍ، فأمر مناديه أن ينادي: من شهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله فهو آمنٌ… ومن جلسَ عند الكعبةِ فوضعَ سلاحَه فهو آمن… ومن أغلق عليه بابه فهو آمن… ومن دخل دارَ أبي سفيان فهو آمن… ومن دخلَ دار حكيم بن حزامٍ فهو آمن… وكانت دارُ حكيم بن حزام في أسفلِ مكة ودارُ أبي سُفيان في أعلاها.
أسلم حكيمُ بن حزامٍ إسلاماً ملك عليه لبهُ، وآمن إيماناً خالط دمهُ ومازج قلبه، وآلى على نفسه (قطع عهداً على نفسه) أن يكفرَ عن كلِّ موقفٍ وقفه في الجاهليةِ، أو نفقةٍ أنفقها في عداوة الرسولِ بأمثال أمثالها.
وقد برَّ بقسمه، ومن ذلك أنه آلت إليه دارُ الندوةِ، وهي دارٌ عريقة ذاتُ تاريخٍ؛ ففيها كانت تعقدُ قريشٌ مؤتمراتها في الجاهلية، وفيها اجتمع سادتهم وكبرائهم ليأتمروا برسول الله صلى الله عليه وسلم. فأراد حكيمُ بن حزامٍ أن يتخلصَ منها (وكأنه كان يُريدُ أن يُسدل ستاراً من النسيانِ على ذلك الماضي البغيض) فباعها بمائِة ألف درهمٍ، فقال له قائلٌ من فتيان قريش: لقد بِعتَ مكرُمة قريشٍ (يريد الدار التي بقيت من آثار قريش) يا عمّ. فقال له حكيم: هيهاتَ (لقد بَعُدتَ عن الصواب) يا بني، ذهبتِ المكارمُ كلها ولم يبقَ إلا التقوى، وإني ما بعتها إلا لأشتري بثمنها بيتاً في الجنة. وإني أشهدُكم أنني جعلتُ ثمنها في سبيلِ الله عز وجل.
وحجَّ حكيمُ بن حزامٍ بعد إسلامِه، فساق أمامه مائة ناقةٍ مُجللةٍ بالأثوابِ الزاهية، ثم نَحَرها جميعا تقرباً إلى الله. وفي حجَّةٍ أخرى وقفَ في عرفات، ومعه مائة من عبيده وقد جعلَ في عُنق كلِّ واحدٍ منهم طوقاً من الفضة، نقشَ عليه: عُتقاءُ لله عزّ وجلّ عن حكيم بن حزام. ثم أعتقهُم جميعاً. وفي حجةٍ ثالثةٍ ساق أمامه ألف شاةٍ وأراق دمها كلها في مِنى، وأطعم بلحومِها فقراءَ المسلمين تقرباً لله عز وجل.
– وبعد غزوةِ حُنين سأل حكيمُ بن حزام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغنائم فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، حتى بلغَ ما أخذه مائة بعير (وكان يومئذٍ حديث إسلامه). فقال له الرسول صلوات الله وسلامه عليه: «يا حكيم: إن هذا المال حُلوة خضِرة (حلو محبب للنفس) فمن أخذه بسخاوة نفسٍ(بقناعة) بُورك له فيه. ومن أخذه بإشرافِ نفسٍ (بطمع) لم يُبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع. واليدُ العُليا خيرٌ من اليد السفلى». فلما سمعَ حكيمُ بن حزامٍ ذلك من الرسول عليه الصلاة والسلام قال: يا رسول الله، والذي بَعثكَ بالحق لا أسألُ أحداً بعدك شيئاً، ولا آخذ من أحدٍ شيئاً حتى أفارق الدنيا. وبرَّ حكيمٌ بقسمه أصدق البرِّ. ففي عهد أبي بكرٍ دعاه الصدِّيق أكثرَ من مرةٍ لأخذ عَطائه من بيتِ مالِ المسلمين فأبى أن يأخذه، ولما آلت الخلافة إلى الفاروق دعاه إلى أخذ عطائه فأبى منه شيئاً أيضاً. فقام عمرُ في الناس وقال: أشهدُكم يا مَعشرَ المسلمين، أني أدعو حكيماً إلى أخذِ عطائه فيأبى.
وظل حكيمٌ كذلك لم يأخذ من أحدٍ شيئاً حتى فارق الحياة. .