هيمنة العقيدة وانكسار القوة: حين تنتصر الفكرة على السلاح
11 ساعة مضت
المقالات
72 زيارة
أم أكرم – فلسطين
يُعدّ الجهاد من القضايا المصيرية في الإسلام، فقد أرسل الله سبحانه وتعالى نبيه ﷺ برسالة عالمية تحقق القيم الروحية والخلقية والإنسانية والمادية، وتهدف إلى تنظيم حياة الناس وحل مشكلاتهم، وترسم المنهج القويم الذي ينبغي أن يسيروا عليه لبناء مجتمع يسوده العدل والرحمة. وعند تطبيق هذه الرسالة كما أراد الله، تتحقق الطمأنينة والسعادة والازدهار في حياة الشعوب.
ولكي تصل هذه الرسالة إلى جميع الأمم، شرع الله الدعوة والجهاد طريقتين أساسيتين لنشر الحق. لذا كان الجهاد ذروة سنام الإسلام، كما أخبر النبي ﷺ، وفرضًا على الأمة الإسلامية لحماية الدين وإقامة العدل. يقول الله تعالى: {قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}التوبة: 29
ونظرًا لعظمة الجهاد ومكانته، فقد وعد الله المجاهدين الصادقين بأعلى المنازل وأعظم الثواب، فقال سبحانه:
{إن اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}التوبة: 111
شُرع الجهاد في الإسلام لنشر عقيدة التوحيد في الأرض، لا بدافع الحقد أو الاستخفاف بحياة الآخرين، ولا سعياً لبسط النفوذ والسلطة، وإنما لتحقيق العدل ورفع الظلم والاضطهاد، وتحرير الناس من العبودية لغير الله. وهذا يظهر بوضوح في الأحكام الشرعية المتعلقة بالجهاد، إذ فُرض القتال ضد المشركين والكفار الذين رفضوا الإيمان بعقيدة التوحيد، ورفضوا العيش بسلام تحت ظل الدولة الإسلامية مع دفع الجزية. قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ}البقرة: 193.
ولا يمكن بأي حال من الأحوال مقارنة الجهاد في سبيل الله، الذي يهدف إلى إقامة العدل ونشر الرحمة، بـالاستعمار الظالم الذي تمارسه الدول الغربية الرأسمالية، والذي يسعى إلى فرض الهيمنة بأشكالها السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية على الشعوب المستضعفة بهدف نهب ثرواتها واستغلال مواردها، حتى لو أدى ذلك إلى إبادتها بالكامل. فقد جلب هذا الاستعمار معه الدمار والفساد وإشعال الحروب والصراعات، ولا يزال يغذي النزاعات الإقليمية والدولية، ويمدّ الأطراف المتنازعة بالسلاح، ليحصد الأرباح الطائلة من تجارة الأسلحة والحروب.
العقيدة الإسلامية: مصدر القوة والانتصار
لم تكن العقيدة مجرد مصدر للصبر والتحمل، بل كانت القوة الدافعة وراء تحقيق الانتصارات وامتداد حضارتها على مر العصور قال تعالى)إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ(محمد: 7، إذ شكّلت العقيدة صمام أمان يضمن تماسك الجيوش الإسلامية، وانضباطها، وحمايتها من الخيانات، ما عزّز قدرتها على الصمود والتفوق في ميادين القتال والحياة. وقد روت لنا كتب التاريخ مشهدًا معبّرًا عن هذه الحقيقة. ففي أعقاب معركة اليرموك الشهيرة، وقف ملك الروم يواجه جيشه المهزوم، والمرارة تعتصر قلبه، والكآبة بادية على وجهه، ثم صاح بهم قائلا: “ويلكم! أخبروني عن هؤلاء الذين يقاتلونكم، أليسوا بشراً مثلكم؟”! فأجابوه: “بلى أيها الملك”،فسألهم بغضب: “فأنتم أكثر أم هم؟!”قالوا: “نحن أكثر منهم في كل موطن”، فقال متعجبًا: “فما بالكم إذاً تنهزمون؟!”، عندها تقدّم شيخ من عظماء الروم وقال بحسرة”: إنهم يهزموننا لأنهم يقومون الليل، ويصومون النهار، ويوفون بالعهد، ويتناصفون بينهم.”
أثر العقيدة في الثبات النفسي وعدم الخوف من الموت:
المسلم يدرك أن أجله مقدّر، فالأعمار بيد الله وحده، كما قال تعالى :( وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (المنافقون: 11. لذلك فإنه لا يخشى الموت، بل يواجه التحديات بثبات وإقدام، مؤمنًا بأن الشهادة في سبيل الله هي أسمى درجات العطاء والتضحية.
أثر العقيدة في الاطمئنان على الرزق:
الإيمان يجعل المسلم على يقين بأن رزقه مكتوب ومحفوظ، فلا يخشى الفقر أو الحرمان. قال الله تعالى:(وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا (هود: 6، (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (الذاريات: 22. هذا الإيمان يعزز ثقته بالله، ويدفعه إلى الجهاد دون خوف من انقطاع رزقه أو ضياع مستقبله.
أثر العقيدة في الولاء والبراء:
إن المؤمن يجعل ولاءه وحبه خالصًا لله، فلا تحكمه الروابط الدنيوية من نسب أو صداقة، بل تكون رابطة الإيمان هي الأقوى. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ استَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} التوبة: 23. لذلك، فإن المؤمن يحب أولياء الله، ويعادي أعداءه، ولو كانوا من أقرب الناس إليه، لأن رابطة العقيدة هي الأساس الذي تقوم عليه العلاقات في الإسلام.
هكذا كانت العقيدة والإيمان هما العامل الحاسم في معارك المسلمين الكبرى، حيث لم تكن الحروب مجرد صراعات عسكرية، بل كانت اختبارات للإيمان واليقين. فالمقاتل المسلم لا يقاتل كغيره، بل يقاتل مستميتًا، مضحيًا بنفسه، مقدامًا غير متراجع، صابرًا على الشدائد وهو ما يفسر انتصارات المسلمين المتتالية، حتى عندما كانوا في حالة ضعف وعدوهم في حالة قوة. قال تعالى:)وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ) الأنفال: 26. وهذا يدل على أن النصر لا يتحقق بمجرد القوة العسكرية، بل هو مرتبط بإرادة الله وتوفيقه. قال تعالى: (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)الأنفال: 44. وقد سجل القرآن الكريم مثالين بارزين يبرهنان على فساد الرؤية التي تعتمد على الحسابات العددية وحدها دون مراعاة عوامل النصر الحقيقية:
أولًا: يوم بدر؛ إذ كان المسلمون قلة في العدد والعدة، محاصرين سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا، ومع ذلك حققوا نصرًا ساحقًا بفضل إيمانهم وثباتهم.قال الله تعالى:(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ) آل عمران: 123
ثانيًا: يوم حنين؛ عندما اعتمد المسلمون على تفوقهم العددي، إذ بلغ عددهم اثني عشر ألف مقاتل، واغتروا بكثرتهم بعد فتح مكة، ولكنهم أصيبوا بالهزيمة في بادئ الأمر قال الله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُّدْبِرِينَ}التوبة: 2
ولا يعني ذلك بحال من الأحوال إغفال أهمية القوة العسكرية، بل إن الإسلام في رؤيته للجهاد يحقق التوازن الدقيق بين التخطيط الإستراتيجي الواقعي والبعد الإيماني. فهو يأمر بإعداد العدة واتخاذ كافة أسباب القوة الممكنة، كما قال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) (الأنفال: 60)، إشارة إلى أهمية الإعداد المادي والاستعداد العسكري. فالإسلام لا يدعو إلى التواكل أو الاعتماد على الله وحده دون الأخذ بالأسباب، والمسلم مطالب بأن يكون قويًا في جميع المجالات؛ التدريب، والتقنيات العسكرية، وتحقيق القوة الاقتصادية والسياسية. لكنه لا يعتمد على هذه القوة فقط، ولا يغتر بها، بل يجعل ثقته الكبرى في الله تعالى.
والاستعداد المادي أمر لا يمكن القيام به على وجهه إلا على أساس فكري عقدي، تتبناه قيادة سياسية واعية قادرة على توجيه وتوظيف الطاقات، معتمدة على النفس مهما كانت الصعاب. ولا يقصد بالاستعداد المادي مجرد إظهار القوة أو استخدامها عشوائيًا، بل يُقصد به استخدامها في المكان والزمان المناسبين، حيث تكون لها القدرة على رد العدوان وكبح جماح الأعداء وإلقاء الرهبة في قلوب من يفكرون في الاعتداء على الدولة الإسلامية أو على المسلمين. ويكون لديها الاستعداد لإزالة العقبات والموانع التي تحول بين الناس المضللين والمستضعفين وبين إدراكهم لحقيقتهم، وللتوجه إلى ربهم وخالقهم، تلك العقبات التي تضعها الفئات المسيطرة على مقدرات الأمم، بهدف إخفاء الواقع الفاسد الذي يعيش فيه الناس، حتى لا يدركوا الحقيقة التي خلقهم الله من أجلها.
إن القوة في الإسلام ليست مجرد وسيلة للهيمنة أو فرض السيطرة، بل هي أداة لتحقيق العدالة وحماية المستضعفين، تتسم بالرحمة والرأفة، وتُوظَّف ضمن إطار إيماني خلقي يحكم استخدامها. وعلى العكس من ذلك، فإن القوى التي لا تنطلق من طاعة الله تعالى تُسخِّر أدواتها العسكرية والتكنولوجية لنشر الرعب وفرض إرادتها على الأمم الضعيفة، دون التزام أي ضوابط إنسانية أو خلقية.
ولقد شهد القرنان التاسع عشر والعشرون أمثلة صارخة على ذلك، حيث استغلت القوى العظمى مقدرات الشعوب، وأقامت أنظمة تخدم مصالحها فقط، ما جعل القوة العسكرية والتكنولوجيا تبدو وكأنها السبيل الوحيد لحسم المعارك وفرض الهيمنة.
ولطمس قوة الفكرة والعقيدة، ظهر المفكر الأمريكي جوزيف ناي الذي أطلق مصطلح “القوة الناعمة”، معتبراً أن الأفكار والمعتقدات يمكن أن تكون قوة موازية للقوة المادية، التي سماها “القوة الخشنة “غير أن القوة الفكرية الحقيقية لا تنبع من مجرد نظريات سياسية أو دعايات إعلامية، بل من عقيدة راسخة تُكوِّن الأساس المتين لأي أمة، وتجعلها قادرة على الثبات في وجه التحديات.
لقد أثبت التاريخ أن قوة الفكرة الإسلامية تتجاوز جميع القوى المادية، إذ لطالما تفوقت على الجيوش الجرارة والإمبراطوريات العظمى. فالمغول، رغم جبروتهم العسكري، لم يصمدوا أمام الإسلام، فانهارت دولتهم أمام قوة العقيدة الإسلامية، حتى اعتنقوا الإسلام وأقاموا دولاً إسلامية امتدت لقرون. ذلك لأن دولتهم قامت على فكرة ضعيفة، فانتهت سريعاً عند أول صدام حضاري مع فكرة الإسلام المتجذرة في الفطرة الإنسانية، والتي تملأ العقل قناعة والقلب طمأنينة.
إن العقيدة الإسلامية ليست مجرد عقيدة فردية، بل هي أساس لبناء الأمم وتحديد مساراتها ورؤيتها العالمية. والأمة ذات المبدأ تحمل مسؤولية نشره، وتصوغ مصالحها على مستوى عالمي. ولهذا السبب، واجه الإسلام عبر التاريخ محاولات دؤوبة لطمس معالمه، سواء عبر الغزو العسكري أو الفكري، لكن رغم ذلك بقي الإسلام متماسكاً بينما تهاوت الأيديولوجيات الزائفة التي حاولت مجابهته، كالقومية، والاشتراكية، والبعثية، التي اندثرت سريعاً أمام قوة الفكرة الإسلامية المتجددة.
أما القوة الناعمة التي روجت لها الولايات المتحدة، مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان، فقد بدت فارغة من المضمون الحضاري، على الرغم من الحملات الدعائية الضخمة التي دعمتها. في المقابل، انتشرت القوة الفكرية الإسلامية بهدوء في عقر دار الغرب، دون أن تتلقى دعماً من أي دولة، ما أثبت أنها أكثر تأثيراً من أي قوة مزعومة.
واليوم، لم يبقَ في العالم أيديولوجية تمتلك القدرة على التأثير والتحدي سوى الإسلام، رغم محاولات تغييبه عن السياسة بفعل الجهود الهائلة التي يبذلها الغرب وأعوانه. إنه المبدأ ذاته الذي شكل قوة المسلمين في معاركهم التاريخية، حينما كانت موازين القوى المادية ترجح لصالح العدو، ومع ذلك كانت العقيدة الإسلامية العامل الحاسم في الانتصار.
ما تحتاجه الأمة الإسلامية اليوم في صراعها مع قوى الكفر هو استعادة سلطانها وإقامة الخلافة على منهاج النبوة، ليعود الإسلام نظاماً حياً يُطبق في الواقع، فتتوحد طاقات الأمة ومقدراتها تحت راية واحدة، وتتحقق الجاهزية الكاملة لمواجهة الأعداء وإرهابهم، امتثالًا لقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ}الأنفال: 60. أما أي ضعف حالي في جانب من جوانب الإعداد، فلا ينبغي أن يكون عائقاً، فالتكنولوجيا العسكرية ليست حكراً على أحد، بل يمكن استنساخها وتطويرها، كما يمكن للدولة استقطاب العقول والكفايات التي تعمل في الغرب، تماماً كما فعلت أمريكا حين استقدمت أينشتاين من ألمانيا لصناعة القنبلة الذرية، وكما استقدم السلطان محمد الفاتح المهندس أوربان من القسطنطينية لصناعة المدفع العملاق الذي أسقط حصونها.
وبذلك، فإن قيام دولة الخلافة سيحدث تحولاً جذرياً في موازين القوى، وستكون نهضتها سريعة ومدوية بإذن الله، مستندةً إلى قيادة سياسية ملهمة، تجمع بين الحكمة والاجتهاد، وتتأهب بتوفيق الله لتسلّم أعظم قيادة في التاريخ: (وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ“ (إبراهيم: 20.
1446-10-28