أحكام الطريقة ضوابط للسير، أما الوسائل والأساليب فهي قوام خطط السير
11 ساعة مضت
كلمات الأعداد
59 زيارة
أ. أحمد القصص – لبنان
شرع الإسلام أحكام الطريقة، لا لذاتها، وإنّما لتحقيق أحكام الفكرة. فأمر بمراعاة تحقيق أهدافها عند تنفيذها، فلا قيمة لها دون النظر إلى أهدافها ومراعاة تحقيقها. ولنأخذ مثالًا عليها أحكامَ الجهاد والقتال التي هي من أبرز أحكام الطريقة.
فأحكام الجهاد والقتال، وأنواع القتال، والجهاد بالقتال، والجهاد بالكلمة، والجهاد بالمال، وجهاد الطلب، وجهاد الدفع، ومتى يكون القتال واجبًا عينيًا، ومتى يكون واجبًا كفائيًا، ومتى يكون مستحبًّا، وأحكام الهدن والصلح والأسرى،وأحكام المعاهدات والمعاهدين والمستأمنين والمبعوثين،وحرمة قتل الأطفال والنساء والشيوخ، وحرمة هدم المعابد والصوامع، وأحكام الغنائم والأنفال، ومحظورات القتال ومباحاته، وأنواع الأسلحة المباحة والأسلحة المحرّمة،وأحكام الألوية والرايات، كلّ هذه وغيرها من أحكام الجهاد والقتال لا بدّ أن يتثقّف بها الحكّام والمجاهدون، من أمير الجهاد إلى أصغر مقاتل، وأن يتقنوها ويلتزموها ويعملوا بها. ولكن: أهي كفيلة وحدها بتحقيق الأهداف العسكرية؟ أهي الكفيلة بالنصر على العدوّ؟ وهل تغني عن فنون الحرب والقتال وإعداد العدّة بأعلى مستوى مستطاع؟ وهل تغني عن الحيلة والدهاء والإبداع في الأساليب؟ وهل تغني عن مواكبة آخر المدارس الحربية والنظريات القتالية؟ وهل تغني عن تحديث معامل الأسلحة بشتّى أشكالها؟ وهل تغني عن الاستفادة من خبرات الخبراء، بل وشراء خبراتهم ولو كانوا من ملل وأقوام آخرين؟
الجواب بلا مراء: لا، بكلّ تأكيد لا تغني.
وأيضًا، هل يراعَى في اختيار القادة العسكريين أن يكونوا الأكثر تقوى وحماسة؟ أم يراعى أن يكونوا الأكفى والأبرع في علوم الحرب وفنون القتال، مع مراعاة أن يكونوا من الأتقياء المخلصين؟
الجواب، من سيرة النبيّ ﷺ وسيرة الراشدين والحكّام البارعين الناجحين، أنّ أوّل ما يراعى في اختيار القادة العسكريين هو قدراتهم وكفاياتهم وخبراتهم القتالية، شريطة أن يكونوا من الأتقياء المخلصين، لا أتقى الأتقياء بالضرورة.
ومن اغترّ بأنّ التثقّف بأحكام الطريقة والتقوى والحماسة وحدها دون أسباب القوّة والكفاية والبراعة وفنون القتال كفيلة بتحقيق النصر فإنّه يكون قد أورد أمّته موارد التهلكة.
ليس هذا كلام تنظيرا ولا عبقرية، إنّه ما دلّ عليه كلام الله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، وقال سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ}.
وكما هو شأن القتال وأحكام الطريقة المتعلّقة به وأساليبه، فكذا شأن حمل الدعوة وطريقتها وأساليبها.
فإذا تثقّفتَ بأحكام الطريقة وأدلّتها وحفظتَها عن ظهر قلب، والتزمتَها ولم تخالفها، فقد اتّقيت الله تعالى في سيرك. ولكنّ كمال التقوى يكون بالأخذ بما يزيد على التزام الطريقة، ألا وهو إتقان العمل وإحسانه والإبداع في تحقيق أهدافه، قال ﷺ:(إنّ الله يحبّ إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه).
إنّها عبقرية الأساليب.
فأحكام الطريقة، مهما أدركتَها ووعيتَها وأتقنتَ الاستدلال عليها، لن ترسم لك وحدها خريطة السير، ولن تقول لك حين تستيقظ في الصباح كيف ستباشر يومك الدعوي وتخوض غمار المجتمع لتحقيق أهداف دعوتك. ولن تخبرك كيف تخترق العوائق والحواجز، وكيف تتسلّل إلى العقول والنفوس، وكيف تحبِط المؤامرات ضدّ دعوتك وأمّتك، وكيف تتقن إلقاء محاضرة، وكيف تُحسن كتابة نشرة أو مقالة، وكيف تنظّم مؤتمرًا ناجحًا، وكيف تتقن استخدام وسائل التواصل الإلكترونية، وكيف تكسر طوق التعتيم الإعلامي، وكيف تتفوّق في مناظرة فكرية أو سياسية، ومتى تقبل على الإعلام ومتى تُعرض عنه، وكيف تفوّت على الصحفي أو الإعلامي فرصة تحريف كلامك عن مواضعه، ولن تخبرك الطريقة متى يكون الإعلام فرصةً ومتى يكون فخًّا. ولن تخبرك أحكام الطريقة كيف تُحسن اختيار الشخص المناسب للمَهمّة المناسبة، ولا كيف تقود مظاهرة. ولن تخبرك عن الفرق بين أساليب استقطاب شرائح المجتمع، من متعلّمين وطلّاب وشعبيين وسياسيين وعلماء وتجّار، ولا عن مراتب هذا الاستقطاب وأنواعه وأشكاله.
إنّ أحكام الطريقة لم تُشرع لذاتها، وإنّما شُرعت لغيرها، لتحقيق أهداف محدّدة. فإن نُفِّذت أحكام الطريقة لذاتها، ودون مراعاة تحقيق أهدافها، بل وأسوأ من هذا، إن نُفّذت مع إدراك أنّها لن تحقّق شيئًا، فإنّه يكون تنفيذا خاليا من القيمة تماماً، بل هو تصرّف خطير وضارّ جدًّا. إنّ مَثلَ هذا التنفيذ لأحكام الطريقة كمَثَل القائد العسكري الذي يُقحم مقاتليه في معركة من أجل أن يقاتل وحسب، دون أن يضع أيّ هدف لهذا القتال، فيزهق الأرواح ويهلك الحرث والنسل دون تحقيق أيّ هدف على أرض الواقع.
إنّ حمل الدعوة لاستئناف الحياة الإسلامية عن طريق إقامة الدولة الإسلامية هو من أصعب المعارك التي يمكن أن تخوضها جماعة من الناس، بل هو أصعبها وأشقّها وأخطرها على الإطلاق، ولا سيّما في هذا الزمان، حيث تواجه هذه المهمّة أعتى إمبراطوريات العالم، وأكثرَها دهاءً ومكرًا من قديم التاريخ وحتّى يومنا هذا. هذه الإمبراطوريات لا تواجهك بالقمع والبطش وحسب، ليكون الردّ مجرّد صمود وإصرار وثبات. وإنّما هي فوق البطش والقمع تمارس دهاءً في مواجهة الإسلام، وأساليبَ شيطانيةً ماكرة لم يعرف لها التاريخ مثيلًا. لقد سخّرت مراكز أبحاث ووسائل إعلام، واستخدمت ما يسمّى بعلم النفس المجتمعي، وعلوم الإدارة، وفنون الإعلام، وإنتاج الأفلام الوثائقية، بل والسينمائية الترفيهية. وأتقنت التلاعب بالعقول، وتجديد الأساليب، وتنويع المصطلحات، والتسلّل من خلال طبائع الشعوب والمجتمعات لخداعها والتمثيل عليها واستدراجها إلى ما تخطّط له من مؤامرات ومكائد…
من المؤكّد أنّ حمَلَة الدعوة لن يمتلكوا قبل وصولهم إلى الحكم قدرات خصومهم المادّية، وأنّه لن تكون لهم ما لهم من آلة إعلامية ضخمة. ولكنّ المؤكّد أيضًا أنّ بإمكانهم دون أيّ شكّ استخدام الإعلام البديل بذكاء، واكتساب علوم إدارة الأحزاب والجمعيات وفنونها، ودراسة فنون الخطابة الإذاعية الجديدة، وتمرّس إنتاج الأفلام الوثائقية والمقاطع القصيرة، ولو أن يتعلّموها من أعدائهم، وفي جامعاتهم ومعاهدهم، كما تعلّم الصحابة الكتابة والقراءة من بعض مشركي قريش، وكمّا تعلّموا صناعة الأسلحة من آخرين، وكما اقتبسوا أسلوب الخندق من الفرس، وكما اقتبس عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أساليب الإدارة (الدواوين)من الروم والفرس.
إنّ أساليب مخاطبة الرأي العامّ لتشكيله والتأثير فيه هي في هذا الزمان عِلميدرّس في الجامعات والمعاهد، لا يجوز أن ينفكّ عن الطريقة الشرعية، مثلما أنّ النظام الاقتصادي (التشريع الاقتصادي) لا يغني عن “علم الاقتصاد”، ومثلما أنّ نظام الحكم الذي هو من أحكام الشرع لا يغني عن علم الإدارة وفنون السياسة. وهذا العلم إن خضتَه سيخبرك بأنّ لمخاطبة المجتمع بعمومه أساليبها، وأنّ لمخاطبة سياسييه أساليبها، وأنّ لمخاطبة جيل الشباب أساليبها، وأنّ لمخاطبة العسكر أساليبها، ّوأن لمخاطبة الأقليات أساليبها، وأنّ هذه الأساليب قد تتطلّب أن تتعدّد -ولو شكلًا- الكياناتُ أو الأطر التي تخاطِب كُلّاً منهم، فتُخَصَّص للطلّاب كتلة تراعي قدراتهم وخياراتهم ليندمجوا فيها ريثما يتجاوزون مرحلة الدراسة والوصاية الأبوية، وللمثقفين لجان تنظّم إسهاماتهم وتسخّر طاقاتهم، وللتجّار هيئة تستقطب تنبّههم، وللطاقات الشعبية قيادات تحشدها… فتتوزّع قوى التغيير بين حزبيّين ملتزمين، وأنصار منظَّمين “مؤطَّرين”، وشعبيّين مستجيبين…
خلاصة الكلام أنّه ما بعد إدراك الطريقة والتزامها، لن يمضي بك قدمًا سوى الإبداع في الأساليب والذكاء فيها ومواكبة فنونها و”علومها” ومستجدّاتها.
فالطريقة هي أقرب ما تكون إلى ضوابط للدعوة وعواصم لها من الانحراف والزلل، إنّها الخطّ العريض للطريق. ومن الميسور التزامها وعدم الحيد عنها، ما توافر الإخلاص لله تعالى والعزم على الاستقامة وعدم الانحراف. أمّا الأساليب الذكيّة وفنونها و”علومها”فهي خريطة السير المتجدّدة، وهي التحدّي الأكبر، وعند أعتابها السقوط أو النجاح. وإذا كان الحيد عن الطريقة هو الانحراف القاتل، فإنّ التنكّب عن اتّخاذ الأساليب والوسائل الفعّالة وعن مواكبة فنونها وعلومها هو الفشل بعينه، وقد تكون نتيجته التوقّف في أوّل الطريق أو في منتصفه.
ولا ننسَ أوّلًا وآخرًا، أنّ فوق ذلك كلِّه، وقبلَه وخلالَه وبعدَه، تقوى الله تعالى وإخلاص النيّة له، والتزوّد لهذه المهمّة الجليلة بالطاقة الروحية، إذ لا ثبات ولا إصرار ولا مضيّ في خضمّ هذا العالم المتوحّش المجرم دون عون الله تعالى وتوفيقه.
1446-10-28