العدد 460 - 461 -

السنة التاسعة والثلاثون، جمادى الأولى – جمادى الآخرة 1446هـ الموافق كانون الأول – كانون الثاني 2025م

الثبات وتحمل الشدائد

 (بعض ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم من قومه من العذاب والأذى)

أبي الحارث التميمي

بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحيم (يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُزَّمِّلُ ١ قُمِ ٱلَّيۡلَ إِلَّا قَلِيلٗا ٢ نِّصۡفَهُۥٓ أَوِ ٱنقُصۡ مِنۡهُ قَلِيلًا ٣ أَوۡ زِدۡ عَلَيۡهِ وَرَتِّلِ ٱلۡقُرۡءَانَ تَرۡتِيلًا ٤ إِنَّا سَنُلۡقِي عَلَيۡكَ قَوۡلٗا ثَقِيلًا ٥ إِنَّ نَاشِئَةَ ٱلَّيۡلِ هِيَ أَشَدُّ وَطۡ‍ٔٗا وَأَقۡوَمُ قِيلًا ٦ إِنَّ لَكَ فِي ٱلنَّهَارِ سَبۡحٗا طَوِيلٗا ٧ وَٱذۡكُرِ ٱسۡمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلۡ إِلَيۡهِ تَبۡتِيلٗا ٨ رَّبُّ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَٱتَّخِذۡهُ وَكِيلٗا ٩ وَٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱهۡجُرۡهُمۡ هَجۡرٗا جَمِيلٗا ١٠ وَذَرۡنِي وَٱلۡمُكَذِّبِينَ أُوْلِي ٱلنَّعۡمَةِ وَمَهِّلۡهُمۡ قَلِيلًا ١١ إِنَّ لَدَيۡنَآ أَنكَالٗا وَجَحِيمٗا ١٢ وَطَعَامٗا ذَا غُصَّةٖ وَعَذَابًا أَلِيمٗا ١٣ يَوۡمَ تَرۡجُفُ ٱلۡأَرۡضُ وَٱلۡجِبَالُ وَكَانَتِ ٱلۡجِبَالُ كَثِيبٗا مَّهِيلًا ١٤) [المزمل: 1-14].

عندما رأفتْ أمُّ المؤمنيَنَ خديجةُ بنتُ خوْيلدَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا لحالِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم وهيَ تراهُ يحملُ الرسالةَ الجديدةَ لقومهِ ويتعبُ ويكدُّ ويلقى ما يلقى في حملِها، قالتْ لهُ: اِرتحْ يابنَ عمِّ. فأجابها صلى الله عليه وسلم: «لا راحةَ بعدَ اليومَ يا خديجة». فالأمرُ في نظرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أعظمُ مِن أن يحسبَ فيه للراحةِ حسابًا.وثقلُ همِّ الدعوةِ كثقلِ حملِها، نقيضانِ للراحةِ، إذا أدركَ حاملُ الدعوةُ مسؤولياتِه في الدعوةِ، واستشعرَ عظمَ العملِ الذي هوَ بصددِه.والثبات على حمل الدعوة أيها الإخوة، أن يستمر حامل الدعوة في حملها دونما كلل أو ملل، وأن يصبر على شدائدها مهما اختلفت هذه الشدائد وتنوَّعت، فقد تكون نفورًا من النّاس، وقد تكون ملاحقة من السلطة، وقد تكون في قطع رزق وضنك في العيش، وقد تتعدى ذلك كله فتكون القتل في سبيل هذه الدعوة.

ولم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القدوة فينا، به نتأسى وبهداه نسترشد، ولم يزل صحابته هم المثال الصادق لحملة الإسلام، نسلي أنفسنا بسيرتهم ونستصغر ما نقدمه تجاه ما قدموه، وما هذه الكلمة إلا وقفة يسيرة مع السيرة الطيبة للرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام رضي الله عنهم في مكة المكرمة، مهد الرسالة، وموضع التفاعل، وموطن اختبار الثبات على الدعوة وتحمل شدائدها؛ لنرى ونستهدي بسيرتهم وهم يعملون لإقامة دولة الإسلام التي كرمنا الله بالعمل لها، ونذرنا أنفسنا لتحقيقها.

عن جبير بن نفير عن أبيه قالَ: جلسنا إلى المقداد بن الأسود رضي الله عنه يومًا فمرَّ به رجل. فقالَ: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ والله! لودِدنا أنا رأينا ما رأيت، وشهدنا ما شهدت؛ فاستمعت – أي نفير – فجعلت أعجب! ما قالَ إلاّ خيرًا. ثمّ أقبل عليه المقداد فقالَ: ما يحمل أحدَكم على أن يتمنى محضَرًا غيّبه الله عزّ وجلّ عنه، لا يدري لو شهده كيف كان يكون فيه. والله! لقد حضر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أقوامٌ – كبَّهم الله عزّ وجل على مناخرهم في جهنم – لم يجيبوه ولم يصدِّقوه، أو لا تحمدون الله إذ أخرجكم الله عزّ وجلّ لا تعرفون إلا ربكم مصدقين بما جاء به نبيكم صلى الله عليه وسلم وقد كُفيتم البلاءَ بغيركم؟. والله! لقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم على أشدّ حال بعث عليه نبي من الأنبياءِ في فترة وجاهلية ما يرون دينًا أفضل من عبادة الأوثان. فجاء بفرقان فرَّق به بين الحق والباطل، وفرَّق بين الوالد وولده، حتى إن الرجل ليرى والده أو ولده أو أخاه كافرًا وقد فتح الله تعالى قفل قلبه للإيمان؛ ليعلم أنه قد هلك من دخل النار فلا تقرُّ عينه وهو يعلم أن حميمه في النار: وإنها للتي قالَ الله عزّ وجلّ: (رَبَّنَا هَبۡ لَنَا مِنۡ أَزۡوَٰجِنَا وَذُرِّيَّٰتِنَا قُرَّةَ أَعۡيُنٖ)[الفرقان: 74]. [أخرجه أبو نعيم في الحلية، والطبراني بأسانيد في أحدها يحيى بن صالح وثقه الذهبي وبقية رجاله رجال الصحيح]. 

وعن أنس رضي الله عنه قالَ: قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد أُوذيت في الله وما يؤذى أحد، وأُخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أتت عليّ ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولبلال ما يأكله ذو كبد، إلاّ ما يواري إبْط بلال». [أخرجه أحمد وابن حبان في صحيحه، والترمذي وقالَ: هذا حديث حسن صحيح].

وعن عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه قالَ: جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب! إن ابن أخيك يأتينا في أفنيتنا وفي نادينا فيسمعَنا ما يؤذينا به، فإن رأيت أن تكفَّه عنا فافعل. فقالَ لي: يا عقيل! التمس لي ابن عمك فأخرجته من كِبس [بيت صغير] من أكباس أبي طالب. فأقبل يمشي معي يطلب الفيء يمشي فيه فلا يقدر عليه حتى انتهى إلى أبي طالب. فقالَ له أبو طالب: يا ابن أخي: واللهِ! ما علمت أن كنت لي لمطاعًا، وقد جاء قومك يزعمون أنك تأتيهم في كعبتهم وفي ناديهم تُسمعهم ما يؤذيهم، فإن رأيت أن تكفَّ عنهم. فحلَّق صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماءِ فقالَ: «والله! ما أنا بأقدر أن أدع ما بُعثت به من أن يشعل أحدكم من هذه الشمس شعلة من نار». فقالَ أبو طالب: والله ما كذب ابن أخي قط ارجعوا راشدين. [الطبراني وأبو يعلى ورجال أبي يعلى رجال الصحيح].

وعند البيهقي أن أبا طالب قالَ له صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي! إن قومك قد جاؤوني وقالوا كذا وكذا فأبقِ عليَّ وعلى نفسك، ولا تحمِّلني من الأمر ما لا أُطيق أنا ولا أنت، فاكفف عن قومك ما يكرهون من قولك. فظنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قد بدا لعمه فيه، وأنه خاذله ومسلِّمه وأنه ضعف عن القيام معه. فقالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم«يا عم: لو وُضعت الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك في طلبه»؛ ثمّ استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى. فلما ولَّى قالَ له – حين رأى ما بلغ الأمر برسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي! فأقبل عليه صلى الله عليه وسلم فقالَ: امضِ على أمرك وافعل ما أحببت، فواللهِ لا أسلمك لشيء أبدًا.

وأما ما لقيه صلى الله عليه وسلم بعد وفاة عمه أبي طالب، فقد روى عبد الله بن جعفر رضي الله عنهم قالَ: لما مات أبو طالب عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم سفيه من سفهاء قريش فألقى عليه ترابًا فرجع إلى بيته فأتت امرأة من بناته تمسح عن وجهه التراب وتبكي فجعل يقول: أي بنية! لا تبكي، فإن الله مانعٌ أباك. ويقول صلى الله عليه وسلم ما بين ذلك: «ما نالت قريش شيئًا أكرهه حتى مات أبو طالب ثمّ شرعوا» [أخرجه البيهقي]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قالَ: قالَ لما مات أبو طالب تجهَّموا بالنبي صلى الله عليه وسلم فقالَ: «يا عم! ما أسرع ما وجدتُ فقدك» [أخرجه أبو نعيم في الحلية].

ثمّ توالى الصدُّ والنفور في وجهه الكريم صلى الله عليه وسلم. فللطبراني عن مَنبِت الأزدي قالَ: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية وهو يقول: «يا أيها النّاس! قولوا لا إله إلاّ الله تفلحوا». فمنهم من تفل في وجهه، ومنهم من حثا عليه التراب، ومنهم من سبَّه حتى انتصف النهار. فأقبلت جارية بِعُس [أي قدح كبير] من ماء فغسل وجهه ويديه وقالَ: «يا بنية! لا تخشَي على أبيك غيِلة ولا ذلة». فقلت: من هذه؟ قالوا: زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم».

وعن عروة رضي الله عنه قالَ: سألت ابن العاص رضي الله عنه فقلت: أخبرني بأشدِّ شيء صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم. قالَ: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حِجْر الكعبة؛ إذ أقبل عليه عقبة بن أبي مُعَيط فوضع ثوبه على عنقه فخنقه خنقًا شديدًا، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقالَ: (أَتَقۡتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ وَقَدۡ جَآءَكُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ مِن رَّبِّكُمۡۖ) [سورة المؤمن: 28 والحديث للبخاري].

وأخرج أبو يعلى عن أنس بن مالك رضي الله عنه قالَ: لقد ضربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة حتى غُشي عليه، فقام أبو بكر رضي الله عنه فجعل ينادي: ويلكم! أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله، فقالوا: من هذا ؟ فقالوا: أبو بكر المجنون، فتركوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأقبلوا على أبي بكر. [رجاله رجال الصحيح، وأخرجه الحاكم أيضًا وقالَ: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه].

وعن موقف أبي بكر هذا يحدثنا الإمام عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فيما رواه محمّد بن عقيل عن علي رضي الله عنه أنه خطبهم فقالَ: يا أيها النّاس: من أشجع النّاس؟ فقالوا: أنت يا أمير المؤمنين! فقالَ أما إني ما بارزني أحد إلاّ انتصفت منه، ولكن هو أبو بكر رضي الله عنه ؛ إنا جعلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشًا – يعني في غزوة بدر الكبرى – فقلنا: من يكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لئلا يهوي إليه أحد من المشركين؟ فوا لله! ما دنا منا أحد إلاّ أبو بكر رضي الله عنه شاهرًا بالسيف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يهوي إليه أحد إلاّ أهوى إليه؛ فهذا أشجع النّاس. قالَ: ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذته قريش، فهذا يحادُّه وهذا يتلتله ويقولون: أنت جعلت الآلهة إلهًا واحدًا، فوالله! ما دنا منا أحد إلاّ أبو بكر يضرب هذا ويجاهد هذا ويتلتل هذا وهو يقول: ويلكم! أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله؟ ثمّ رفع عليّ رضي الله عنه بردة كانت عليه فبكى حتى اخضلَّت لِحيته ثمّ قالَ: أنشدكم الله! أمؤمن آل فرعون خيرٌ أم هو؟ فسكت القوم. فقالَ علي رضي الله عنه: فوالله! لساعة من أبي بكر خير من ملء الأرض من مؤمن آل فرعون، ذاك رجل يكتم إيمانه وهذا رجل أعلن إيمانه. [أخرجه البزار وقالَ: لا نعرفه يروى إلاّ من هذا الوجه].

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قالَ: (بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وأبو جهل بن هشام وشيبة وعتبة ابنا ربيعة وعُقبة بن أبي معيط وأمية بن خلف ورجلان آخران كانوا سبعة وهم في الحِجر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، فلما سجد أطال السجود. فقالَ أبو جهل: أيكم يأتي جزور بني فلان فيأتينا بفَرْثها فنكفؤه على محمّد، فانطلق أشقاهم عقبة بن أبي معيط فأتى به فألقاه على كتفيه ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد، قالَ ابن مسعود: وأنا قائم لا أستطيع أن أتكلم ليس عندي منعة تمنعني. فأنا أذهب؛ إذ سمِعتْ فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبلت حتى ألقت ذلك عن عاتقه ثمّ استقبلت قريشًا تسبهم فلم يرجعوا إليها شيئًا) [أخرجه البزار والطبراني قالَ الهيثمي: وفيه: الأجْلَح بن عبد الله الكِندي وهو ثقة عند ابن معين وغيره، وأخرجه أيضًا أبو نعيم في دلائل النبوة) ص90 نحو رواية البزار والطبراني. وأخرجه أيضًا الشيخان والترمذي وغيرهم باختصار قصةِ أبي البختري] وفي ألفاظ الصحيح: أنهم لما فعلوا ذلك ضحكوا حتى جعل يميل بعضهم إلى بعض، أي من شدة الضحك.

وعن ربيعة بن عُبيد الدِيلي قالَ: ما أسمعكم تقولون إن قريشًا كانت تنال من رسول الله ﷺ ، فإني أكثر ما رأيت أن منزله كان بين منزل أبي لهب وعُقبة بن أبي مُعَيط؛ وكان يتقلب إلى بيته فيجد الأرحام والدماء والأنحات [الرديء من كل شيء] قد نصبت على بابه فيُنحِّي ذلك بسِيَة قوسه ويقول: «بئس الجوار هذا يا معشر قريش». [أخرجه الطبراني في الأوسط].

وعن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قالَ: ومات أبو طالب وازداد البلاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة فعمِد إلى ثقيف يرجو أن يؤووه وينصروه، فوجد ثلاثة نفر منهم سادة ثقيف وهم إخوة: عبد يا ليل بن عمرو وخُبيب بن عمرو ومسعود بن عمرو ؛ فعرض عليهم نفسه وشكا إليهم البلاء وما انتهك قومه منه. فقالَ أحدهم أنا أسرق ثياب الكعبة إن كان الله بعثك بشيء قط، وقالَ الآخر: والله! لا أكلمك بعد مجلسك هذا كلمة واحدة أبدًا، لئن كنت رسولًا لأنت أعظم شرفًا وحقًّا من أن أكلمك. وقالَ الآخر: أعَجَزَ الله أن يرسل غيرك؟ وأفشَوا ذلك في ثقيف الذي قالَ لهم، واجتمعوا يستهزئون برسول الله صلى الله عليه وسلم وقعدوا له صفين على طريقه، فأخذوا بأيديهم الحجارة فجعل لا يرفع رجله ولا يضعها إلاّ رضخوها بالحجارة وهم في ذلك يستهزئون ويسخرون. فلما خلص من صفَّيْهم وقدماه تسيلان الدماء عمد إلى حائط من كرومهم، فأتى ظل حُبْلة من الكرم فجلس في أصلها مكروبًا موجعًا تسيل قدماه الدماء فإذا في الكرم عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، فلما أبصرهما كره أن يأتيهما لما يعلم من عداوتهما لله ولرسوله وبه الذي به، فأرسلا إليه غلامًا عدَّاسًا بعنب وهو نصراني من أهل نِينوى. فلما أتاه وضع العنب بين يديه فقالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بسم الله»، فعجب عداس، فقالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أي أرض أنت يا عدّاس؟» قالَ أنا من أهل نينوى. فقالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «من أهل مدينة الرجل الصالح يونس بن متَّى؟» فقالَ له عداس: وما يدريك مَنْ يونس بن متَّى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم من شأن يونس ما عرف، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحقر أحدًا، يبلِّغه رسالات الله تعالى. فقالَ عداس: يا رسول الله! أخبرني خبر يونس بن متَّى. فلما أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم من شأن يونس بن متَّى ما أُوحي إليه من شأنه خرّ ساجدًا للرسول صلى الله عليه وسلم، ثمّ جعل يقبل قدميه وهما تسيلان الدماء. فلما أبصر عتبة وأخوه شيبة ما فعل غلامهما سكتا. فلما أتاهما قالا له: ما شأنك سجدت لمحمّد وقبلت قدميه ولم نرك فعلت هذا بأحد منا. قالَ: هذا رجل صالح حدثني عن أشياء عرفتها من شأن رسول بعثه الله تعالى إلينا يُدعى يونس بن متَّى، فأخبرني أنه رسول الله، فضحكا وقالا: لا يفتنْك عن نصرانيتك، إنه رجل يَخدع، ثمّ رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة). [أخرجه أبو نعيم في الدلائل].

وعن موسى بن عقبة قالَ: وقعد له أهل الطائف صفَّيْن على طريقه، فلما مرّ جعلوا لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة حتى أدمَوه فخلَص منهم وهما يسيلان الدماء. وفيما ذكر ابن إسحاق: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خير ثقيف، وقد قالَ لهم – فيما ذُكر لي – إن فعلتم ما فعلتم فاكتموا عليَّ وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه عنه فيُذْئِرهم [يجرؤهم ويغريهم] ذلك عليه. فلم يفعلوا وأغروا به سفاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه النّاس وألجؤوه إلى حائط لعتبة بن ربيعة وشيبة ابن ربيعة وهما فيه، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه. فَعمِد إلى ظل حُبْلة من عنب فجلس فيه وابنا ربيعة ينظران إليه ويريان ما يلقى من سفهاء أهل الطائف، وقد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم – فيما ذكر لي – المرأة التي من بني جمح، فقالَ لها: ماذا لقينا من أحمائك!.

‎وعن عروة أن عائشة رضي الله عنها زوجَ النبي صلى الله عليه وسلم حدثته أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليكَ يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ قالَ صلى الله عليه وسلم: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كُلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلاّ وأنا بقَرْن الثعالب [موضع قريب من مكة] فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلَّتني، فنظرت فإذا فيها جبرائيل عليه السلام فناداني فقالَ: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردُّوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين. فقالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «بل أرجو أن يُخرج الله عزّ وجلّ من أصلابهم من يعبد الله عزّ وجلّ وحده لا يشرك به شيئًا». [أخرجه البخاري ومسلم والنسائي]

فلما اطمأن صلى الله عليه وسلم قالَ دعاءه المشهور: «اللهم! إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على النّاس، يا أرحم الراحمين! أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكتَه أمري؟ إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي، ولكنَّ عافيتك هيِ أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبُك، أو يَحِلَّ عليَّ سَخطُك، لك العُتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلاّ بك».

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قالَ أبو بكر: لو رأيتِني ورسول الله صلى الله عليه وسلم إذ صعدنا الغار. فأما قدما رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقطّرتا دمًا. وأما قدماي فعادت كأنها صَفْوان [الحجر الصلد الذي لا ينبت] قالت عائشة رضي الله عنها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتعوَّد الحِفية) [أخرجه ابن مردويه، كذا في كنز العمال].

هذا بعض ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم من قومه، أما صحبه الكرام فإنهم قد لقوا ما لقوا من العذاب والأذى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *