الدين منهج حياة يضبط العلاقة بين الخالق والمخلوق
3 أيام مضت
المقالات
151 زيارة
«إذا نظرنا في اشتقاق هذه الكلمة (الدين) ووجوه تصريفها، نجد[1] أنها تعود إلى ثلاثة معان، تكاد تكون متلازمة، وهناك تفاوتٌ يسيرٌ بين هذه المعاني الثلاثة، مَرَدُّهُ في الحقيقة إلى أن الكلمة التي يراد شرحها ليست كلمة واحدة، بل ثلاث كلمات، أو بعبارة أدق: أنها تتضمن ثلاثة أفعال بالتناوب:
بيانه: أن كلمة «الدِّين» تؤخذ تارة من فعل متعدٍّ بنفسه: «دانه يدينه» وتارة من فعل متعدٍّ باللام، «دان له» وتارة من فعل متعد بالباء: «دان به»، وباختلاف الاشتقاق تختلف الصورة المعنوية:
1-فقولنا «دانه دينًا» يعني: أنه ملكه وحكمه وساسه ودبره وحاسبه، فالدِّين في هذا الاستعمال يدور على معنى الملك والتصرف، بما هو من شأن الملوك من السياسة والتدبير والحكم والقهر والمحاسبة، ومن ذلك: (مَٰلِكِ يَوۡمِ ٱلدِّينِ٤) أي يوم المحاسبة والجزاء، وفي الحديث: «الكيس من دان نفسه»، أي حكمها وضبطها.
2-وإذا قلنا: «دان له» أردنا أنه أطاعه، وخضع له، فالدين هنا: هو الخضوع والطاعة والعبادة، وكلمة «الدين لله» يصح أن يراد منها كلا المعنيين: الحكم لله، أو الخضوع لله.
3-وإذا قلنا «دان بالشيء» كان معناه اتخذه دينًا ومذهبًا، أي اعتقده أو اعتاده أو تخلق به. فالدين على هذا هو المذهب أو الطريقة التي يسير عليها المرء نظريًّا أو عمليًّا.
وجملة القول في هذه المعاني اللغوية: إن كلمة الدين عند العرب تشير إلى علاقة بين طرفين، يعظم أحدهما الآخر ويخضع له، فإذا وصف بها الطرف الأول: كانت خضوعًا وانقيادًا، وإذا وصف بها الطرف الثاني: كانت أمرًا ونهيًا وسلطانًا وحكمًا وإلزامًا. وإذا نظر بها إلى الربط الجامع بين الطرفين، كانت هي الدستور المنظم لتلك العلاقة، أو المظهر الذي يعبر عنها. فالمادة تدور على معنى «لزوم الانقياد». فالدين في الاستعمال الأول: هو إلزام الانقياد، وفي الاستعمال الثاني: هو التزام الانقياد، وفي الاستعمال الثالث: هو المبدأ الذي يلتزم الإنسان الانقياد له:»[2] وخلاصة ما سبق أننا أمام طرفين: أحدهما في غاية الرفعة والسمو والسلطان. والثاني: في غاية التواضع والخضوع والذل للأول، والعلاقة والمنهج الذي يضبط علاقة الثاني بالأول هي ما نسميه: الدِّين»[3]
جاء في تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي: (إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُۗ) وحكى أهلُ اللغةِ: الدَّين المصدر، والدِّين بالكسر الإسم، والدِّينُ السياسةُ، والدَّيَّانُ السايس. وجاء في لسان العرب من معاني الدين: والدين تعني الشريعة والسلطان؛ ومنه قوله تعالى: (وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ كُلُّهُۥ لِلَّهِۚ)، إ.هـ.. وقال ابن علان الصديقي في دليل الفالحين: وفي «الكشاف» في قوله تعالى: (أَءِنَّا لَمَدِينُونَ) [الصافات: 53] أو معناه لـمسوسون أي مربوبون، من الدين بمعنى السياسة، ومنه حديث «الكيِّس من دان نفسه[4]» إ.هـ.، فكما ترى، فإن العرب تفهم دين محمد صلى الله عليه وسلم على أنه نظام حياة وخضوع لله تعالى ولشرائعه، وسلطان لتلك الشرائع ومحاسبة على التزامها، ومسؤوليات، وواجبات، وحقوق، وأنها تحلُّ محل شرائعهم وعليهم أن ينقادوا لها، فمن الطبيعي إذًا أن نقول بأن طبيعة الدين أنه جاء نظام حياة ليضبط وينظم سلوك الأفراد بالتكليف، وليحكم المجتمع بمنهج خاص من عند الله تعالى!واقع التكليف، الأعمدة التي يقوم عليها النظام التشريعي الإسلامي، والتي تضمن شمول واكتمال الدين وسعة الشريعة، وحصر النذارة بالوحي، وحفظ السنة النبوية وتؤكد القطع بإجماع الصحابة:
يُبتنى التشريع الإسلامي على مفهوم: الحكم الشرعي، متكئًا على مفهوم التكليف، فالإنسان مكلف، وسيحاسب على التزامه بالتكليف في كل شأن من شؤونه، «والتكليف مأخوذ من الكلفة على وجه التفعيل، ومعناه الحمل على ما في فعله مشقة، ويندرج تحته الإيجاب والحظر، لا وفق ما يتشوَّف إليه الطبع، وما ينبو عنه»[5].
وقبل أن نتساءل: أين يبدأ التكليف وأين يقف؟ سنقدم بمقدمة مهمة تبين واقع التكليف، وموقع التكليف في تنظيم حياة الإنسان والمجتمع والدولة. وسنركز الطرح حول فكرة:
أولًا: واقع التشريع (التكليف)،
ثانيًا: حفظ التشريع،
ثالثًا: سعة التشريع، وثباته، وقدرته على حل مشاكل الإنسان إلى يوم القيامة،
رابعًا: منهجية التعامل مع مصادره بشكل يضمن تحصيل الصلة بين الواقع وبين الحكم الشرعي الذي يضبط السلوك أو يتنزل على الواقع ليحكم فيه.
وإليك التفصيل:
أقام الله تعالى نظام الوجود على العدل ومنع الظلم، كما في الحديث القدسي عن أبي ذرٍ جندب بن جنادة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَىﷻ، رَبِّ العِزَّةِ، تَقَدَّسَتْ أسْمَاؤُهُ أنه قال: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرَّمًا فلا تظالموا»، فقد حرَّم الله الظلم على نفسه، وحرَّمه على العباد وأنزل الشرع، والمنهج الذي يضمن أن لا يدخل الجَوْرُ في ملكوت السموات والأرض، فجعلَ الإنسانَ خليفةً ليقيم النظام الذي يقيم العدل، ويمنع الجور، (لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ) [25: الحديد]، واستخلفَ الإنسانَ، وارتضى له أن يُصلحَ في الأرضِ ولا يُفسدَ فيها، ولم يترك تنظيمَ الحقوقِ وإقامةَ العدلِ ومنعَ الظلمِ وضبطَ السلوكِ الذي يفضي للإصلاح لا الإفساد، وفض الخصومات والنزاعات، دون تشريعٍ وتنظيمٍ يضبطهُ وينظمهُ، ويقيم الحجة على الخلائق، ويحاسبهم على أساسه، لم يتركه للبشر وأهوائهم وتسلط قويهم على ضعيفهم، وتخبُّطهم في معرفة التنظيم الصحيح الذي يصلح أحوالهم ويقيم نظامهم ويمنع فسادهم!.
وقد تساءلتِ الملائكةُ عن استخلاف اللهِ تعالى للإنسان في الأرض: (إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ)،(قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ) خليفةً؟ فقال الحق تعالى مجيبًا: (قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ)، وليس من معنى لأن يكون الخليفةُ كنايةً عن الانسان يفعل ما يشاء، فلو كان ذلك كذلك لتحقق معنى استنكارهم: (قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ)، أما وقد أجابهم رب العزة قائلًا: (إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ) ففيه معنى أنه لم يجعله خليفة لسفك الدماء، والإفساد، ومن هذا نستثني من الاستخلاف من يتبع أي منهج يفضي للإفساد وسفك الدماء. وهذا حال كل منهج قام على تشريع الناس، وأهوائهم، مصداقًا لقوله تعالى: (وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلۡحَقُّ أَهۡوَآءَهُمۡ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ) [المؤمنون: 71]، (ثُمَّ جَعَلۡنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ فَٱتَّبِعۡهَا وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ ١٨) [الجاثية: 18]، فغير شريعة الله اتباع لأهواء المشرعين، ويفضي للإفساد في الأرض، وللظلم وللجور؛ لذلك فالخليفة المشار إليه هو الذي يقيم منهج الله الذي يضمن إحقاق الحق والعدل وفقًا لشرع الله، بتطبيق شريعته، هذا هو الذي استخلفه الله تعالى: المؤمنين يقيمون شريعته في كل شأن من شؤون حياتهم، ويبايعون خليفة يطبقها فيهم في علاقاتهم المجتمعية. قال الإمام القرطبي رحمه الله: «هذه الآية أصلٌ في نَصْب إمامٍ وخليفة يُسْمَع له ويطاع؛ لتجتمع به الكلمة، وتنفذ به أحكام الخليفة. ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة ولا بين الأئمة إلا ما رُوي عن الأصَمّ؛ حيث كان عن الشريعة أصَمَّ»، انتهى. وهذا من دقة علم الإمام القرطبي رضي الله عنه!، فقد جعلَ الإسلامُ السلطانَ للأمة تنيب عنها حاكمًا يحكمها بشرعة ربها، كما استقرَّ من الاستنباط من أصول نظام الحكم في الإسلام، فالخليفة المذكور: هم المؤمنون المتبعون لشرعة الله تعالى في ما أمرهم القيام به من أوامر في حياتهم، المقيمون لمنهجه فيهم، فإن قيام المنهج في الأفراد لا يقيمه في المجتمع، وإذا لم يقُم في المجتمع لم يتحقق احتكامهم إليه[6]، ولم يتحقق العدل؛ لذلك اقتضى الأمر قيام المنهج في الأفراد والمجتمع والدولة، وحيث إن جل هذه الأحكام تطبق من خلال الدولة، فالناس يبايعون عليها خليفة يقيمها فيهم، فكان جَعْلُ الخليفة الحاكم هو أيضًا معنى قوله تعالى: (وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ)، أي الذي به يتحقق معنى الاستخلاف تحقُّقًا يفضي للمقصد من ذلك الاستخلاف، وتحقيقًا لمعنى التشريف في الاستخلاف؛ مما تدل عليه الآية كما استنبطها القرطبي مصداقًا لقوله تعالى: (ثُمَّ جَعَلۡنَٰكُمۡ خَلَٰٓئِفَ فِي ٱلۡأَرۡضِ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ لِنَنظُرَ كَيۡفَ تَعۡمَلُونَ١٤) [يونس: 14]،[7] أي أن تطبقوا أحكام الله، ومنهج الله فيما بينكم وعلى أنفسكم في كل شأن، والخلافة على الخصوص في الحكم، من قبل الحاكم يحكم بما أنزل الله؛ إذ إن هذا المنهج هو الذي يميز بين أن يكون المستخلَف في الأرض مفسدًا فيها، سافكًا للدماء، أو أن يكون خليفةً يعصمه ذلك المنهج عن ذلك الزلل. ولكي يسود المنهج لا بد من أن يسود من خلال دولة، لا مجرد أن يلتزم به أفراد في ظل مجتمع يطغى فيه غير ذلك المنهج! ولكي يتحقق أن يكون معنى الاستخلاف تشريف المُسْتَخْلَفِ، فلا تشريف لمن لم يُقِم منهج الله! لا تشريف لمن أفسد وسفك الدماء!
إذن؛ وبالضرورة يلزم أنه لا بد من وحي ومعجزة ورسالة وتشريع، وأن تكون الرسالة هي المرجع النهائي لتقرير ما يجب اعتقاده من غيبيات لا يقع الحس عليها أو على آثارها، وما يجب أن تنظَّمَ الحياةُ وفقَهُ من منهج عيش ليتحقق الاستخلافُ الصحيحُ للإنسان، ولتبين له فلسفةَ الوجودِ التي سيعيش وفقًا لها مطمئنًا، يسير على هدى، ولتكون هذه الشريعة امتدادًا للنظام الكوني القائم على العدل ومنع الظلم، القائمة على التوازن والتنظيم الدقيق، القائمة على النور والحق والهدى، النائية بنفسها عن الضلال والباطل والظلمات.وقد حصر الله تعالى حق التشريع به وحده[8]، واختص بِهِ ذاتَهُ العَلِيَّةَ، فأنزله كتابًا وسنةً أوحى بهما إلى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم، ومنع غيره منه (وهو ما اصطُلح عليه بمسمى الحاكمية[9])، قال تعالى: (إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِۖ) [الأنعام: 57- يوسف: 40- يوسف: 67]. وقال تعالى: (وَمَا ٱخۡتَلَفۡتُمۡ فِيهِ مِن شَيۡءٖ فَحُكۡمُهُۥٓ) [الشورى: 10]. والحكم في اللغة هو المنع ومنه قيل للقضاء حكمٌ لأنه يمنع من غير المقضيّ؛ وعليه فلله وحده الحق في منع المحكومين من أن يتصرفوا إلا وفق شريعته[10]، فالتشريع يقيم معنى العبودية لله!.
وقد أَذِنَ اللهُ تعالى للرسولِ صلى الله عليه وسلم بالتعبيرِ عن الوحيِ الذي نزلَ عليهِ بلسانِهِ صلى الله عليه وسلم، لبيان المعاني التشريعية، كما قال تعالى: (وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلذِّكۡرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيۡهِمۡ وَلَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ)[النحل: 44]، أي أوتي صلى الله عليه وسلم حق صياغة المعاني التي تُوحى إليه تشريعًا، فما يُشرع في السنة التي أوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بها شرعٌ كما التشريع الذي في القرآن سواء بسواء، ومصدرها الوحي، وما يصوغه معصوم بالوحي، وعليه من الوحي رَصَدٌ ليبلغ الدقة المتناهية في تبليغ مراد الله، وكان معصومًا لا ينطق إلا بالحق. فهذه ضمانات أن ألفاظ السنة صيغت تحت عناية الوحي لتؤدي المعاني التي أوحي له بها.
والعقل ليس بمشرع، قال تعالى: (أَمۡ لَهُمۡ شُرَكَٰٓؤُاْ شَرَعُواْ لَهُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا لَمۡ يَأۡذَنۢ بِهِ)[الشورى: 21]، وقال تعالى: (وَمَا ٱخۡتَلَفۡتُمۡ فِيهِ مِن شَيۡءٖ فَحُكۡمُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِۚ)
وتشريع الله هو الضامن لتحقيق العدلِ وإقامةِ ميزان القسط في الأرض، فإن خلت مسألة من تشريعٍ متصل بالوحي فإن هذا مُدخلٌ لوجود الظلم أو الخطأ في الحكم والمعالجة المستمدة من التشريع البشري في تلك المسألة؛ فلا بد أن تُحفَظَ الشريعةُ بقرآنها وسنتها لإتمام النعمة بإقامة ميزان العدل والقسط على الخلائق إلى يوم الدين، وقد علمنا أن في السُّنَّةِ بيانٌ لمجمل القرآن، فالسُّنَّةُ مُبَيِّنَةٌ وَمُوَضِّحَةٌ وَشَارِحَةٌ للقرآن وملحقةٌ الفروعَ بأصولِها ومشرعةٌ أحكامًا جديدة ليس لها في القرآن أصول[11]، فلو فُقد بعضُ السُّنَّةِ لفُقِدَ شيء من التشريع![12]
إن رب العالمين سبحانه أمرنا باتباع الشرع وحده، فقال عز من قائل: (ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡ وَلَا تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَۗ قَلِيلٗا مَّا تَذَكَّرُونَ ٣)[الأعراف: 3]، (قُلۡ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِٱلۡوَحۡيِۚ وَلَا يَسۡمَعُ ٱلصُّمُّ ٱلدُّعَآءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ ٤٥) [الأنبياء: 45]، (وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ( [الحشر: 7]، (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلًا٥٩) [النساء: 59]، (فَلَا
صَدَّقَ وَلَا صَلَّىٰ٣١ وَلَٰكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ٣٢ ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ يَتَمَطَّىٰٓ٣٣ أَوۡلَىٰ لَكَ فَأَوۡلَىٰ٣٤ ثُمَّ أَوۡلَىٰ لَكَ فَأَوۡلَىٰٓ٣٥ أَيَحۡسَبُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَن يُتۡرَكَ سُدًى ٣٦) [سورة القيامة] (إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِۖ) [[الأنعام: 57- يوسف: 40- يوسف: 67]]، (وَمَا ٱخۡتَلَفۡتُمۡ فِيهِ مِن شَيۡءٖ فَحُكۡمُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبِّي عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُ وَإِلَيۡهِ أُنِيبُ١٠)[الشورى: 10].
، وقال: (فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ)، وقال: (وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ)، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «كل أمرٍ ليس عليه أمرُنا فهو رَدّ»، فهذا يدل على أن الأصل هو اتباع الشرع والتقيّد به. إن الإنسان مُكّلَّفٌ، ومعنى التَّكْليف إلزام الـمُكّلَّفِ بما اقتضى الشرع فعله أو تركه أو استواء فعله وتركه، وفق شروط التَّكْليفِ، (فَٱسۡتَقِمۡ كَمَآ أُمِرۡتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطۡغَوۡاْۚ إِنَّهُۥ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ١١٢)[هود: 112] ولا حكم قبل ورود الشرع. يقول الشوكاني في إرشاد الفحول (ص6): «ولا خلاف في كون الحاكم هو الشرع؛ وذلك بعد البعثة وبلوغ الدعوة». ويقول الغزالي في المستصفى (ص40): «والمحكوم فيه هو فعل المكلّف، ولا حكم قبل ورود الشرع. والعقل معرِّف للحكم وليس بحاكم». وقال النووي رحمه الله في المجموع شرح المهذب، في كتاب الطهارة: «وَكُتُبِ الْمَذْهَبِ أَنَّ أَصْلَ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ عَلَى الْإِبَاحَةِ أَمْ التَّحْرِيمِ أَمْ لَا حُكْمَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ؟ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ مَشْهُورَةٍ الصَّحِيحُ مِنْهَا عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ لَا حُكْمَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، وَلَا يُحْكَمُ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي شَيْءٍ يَفْعَلُهُ بِتَحْرِيمٍ وَلَا حَرَجٍ، وَلَا نُسَمِّيهِ مُبَاحًا لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالتَّحْرِيمِ وَالْإِبَاحَةِ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، فَكَيْفَ يَدَّعِي ذَلِكَ قَبْلَ الشَّرْعِ. وَمَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ سَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْأَحْكَامَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالشَّرْعِ، وَأَنَّ الْعَقْلَ لَا يُثْبِتُ شَيْئًا». وقال الشاطبي رحمه الله في الموافقات 4/200: «والأصل في الأعمال قبل ورود الشرائع سقوط التكليف؛ إذ لا حكم عليه قبل العلم بالحكم؛ إذ شرط التكليف عند الأصوليين العلم بالمكلف به»[13]. انتهى
ورب العالمين سبحانه يبين في غير موضع من القرآن أن وجودنا في الدنيا، وخلق الموت والحياة إنما هو ليبلونا أيُّنا أحسن عملًا؛ وحتى يكون العمل حسنًا لا بد فيه من إخلاص القصد لله، وأن يكون موافقًا للشرع، مستمَدًّا من الشرع؛ ولهذا كان أئمة السلف رحمهم الله يجمعون هذين الأصلين كقول الفضيل بن عياض في قوله تعالى: (لِيَبۡلُوَكُمۡ أَيُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗاۚ) [الملك: 2] «قال: أخلصه وأصوبه، فقيل: يا أبا علي: ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: إن العمل إذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، وإذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة». ويتعذَّر البلاء والاختبار إذا لم يتوفر دليل يستدل به العامل على عمله ليجعله حسنًا، مما يقتضي ضرورة حفظ الشرع الذي فيه دليل كل عمل تكليفي.
ومن مقتضيات التكليف أن الله تعالى وعد بالحساب على مثقال الذر من العمل، فقال تعالى: (فَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَيۡرٗا يَرَهُۥ٧ وَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖ شَرّٗا يَرَهُۥ٨) [الزلزلة: 7-8]، وهذه الآية تقتضي أن يكون على مقدار الذر من العمل نذارة مرجعها الوحي، ليحاسب بناء عليها، وتقتضي أن يكون وصف مثقال الذر من العمل بالخير أو بالشر إلى الله تعالى، ويحاسب عليه! فحكم العقل المحض لا يسمى بالحكم الشرعي، ولا يعاقب الله تعالى على مخالفة رأي أو حكم فلان من الناس العقلي في مسألة تكليفية! وهذه الآيات واضحة قاطعة في شمول التكليف لتفصيل يبلغ مثقال الذر من العمل فما فوقه، (أي إنَّ التشريعَ شاملٌ واسعٌ يحوي أوامر ونواه تتعلق بكل مشاكل الإنسان إلى يوم الدين مما فيه تكليف)، وتقتضي أيضًا ضرورة حفظ أدلة الشرع وأماراته اللازمة لاستنباط أحكامه والعمل بناء عليها، فيرى العامل خير ما عمل أو شره.
والله تعالى لم يترك الناس سدى، أي من غير أمر ولا نهي ولا في مسألة واحدة مما سيحاسبهم عليه، قال تعالى: (أَيَحۡسَبُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَن يُتۡرَكَ سُدًى ٣٦) [القيامة: 36]، فلو خلت أية مسألة من أمر أو نهي لثبت أن الإنسان تُرك سدى فيها، ولما أمكن محاسبته على فعلها بأي صورة من الصور؛ إذ لم يثبت لها وصف الخير أو الشر حين خلوِّها عن أمر الوحي، فلا يصلح الحساب عليها، وهذا كله نقيض الآيات القطعية التي تثبت وجود الأمر والنهي في كل مسألة، ووجود الحساب على مثقال الذر من العمل، ووصف ذلك المثقال من الذر بالخير والشر بناء على مرجعيته للوحي، وقد أذن الوحي بقيام بعض الأوامر والنواهي على الظن في الثبوت أو الدلالة، وجعلها من الدين، فلا يخرجها عن وصف الدين تسرب الظن لثبوتها، فمثلًا لو اختلف مجتهدان، فاستنبط أحدهما من الأدلة الشرعية أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء، فإن حكمه شرعي، وهو من الدين، ولو استنبط الآخر من الأدلة الشرعية نفسها نقيض ذلك الحكم، أي أن اللمس ينقض الوضوء لكان حكمه شرعيًّا أيضًا، والأول يدين الله بما غلب على ظنه أنه حكم الشرع في المسألة كما يفعل الثاني، فكلاهما وجد أمرًا ونهيًا متعلقًا بالمسألة، ونصوصًا شرعية تحتمل الفهم بهذه الصورة أو بتلك، – هكذا أراد الشارع أن تكون نصوصه في بعض الأحكام الشرعية العملية حمالة أوجه، وقابلة للفهم بأكثر من صورة – فأعمل المجتهد عقله في فهم النصوص ودلالاتها، وتوصل إلى فهم يدين الله تعالى به، وسيحاسب على اتباعه ما وصل إليه اجتهاده[14] وقد سبق ونوَّهنا إلى اهتمام الشارع الحكيم باتِّباع الإجراءات العملياتية في دراسة النصوص وفهمها، منعًا لتحكُّم الأهواء، وإقحام الرغبات في فهم النصوص، فإذا ما تجرَّد المجتهد من ذلك كله، وأعمل عقله في فهم النصوص بما تحتمله النصوص من معانٍ ودلالات، وفقًا لقواعد الأصول واللغة المنضبطة، فإنه يفتي بحكم شرعي، وهذه القدرة التي حوتها النصوص من الاشتمال على معاني كثيرة متعددة في ألفاظ قليلة، أفضت إلى سعة الفقه، وجعلت النصوص قادرة على استيعاب مشاكل الإنسان إلى يوم الدين.
روي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد». رواه مسلم وقال النووي رحمه الله في شرحه: وفي الرواية الثانية: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد» قال أهل العربية: (الرد) هنا بمعنى المردود، ومعناه: فهو باطل غير معتدٍّ به، وهذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، فإنه صريح في رد كل البدع والمخترعات، وفي الرواية الثانية زيادة وهي أنه قد يعاند بعض الفاعلين في بدعة سبق إليها، فإذا احتج عليه بالرواية الأولى يقول: أنا ما أحدثت شيئًا فيحتج عليه بالثانية التي فيها التصريح برد كل المحدثات، سواء أحدثها الفاعل، أو سبق بإحداثها… وهذا الحديث مما ينبغي حفظه واستعماله في إبطال المنكرات، وإشاعة الاستدلال به. انتهى.
وبالتالي فالحكمُ المستندُ إلى العقلِ، المرسلُ عن الأدلةِ والأمارات الشرعية، المنْقطعُ عن الوحيِ، المنْبَتُّ عن الأصولِ، ردٌ لأنه إحداثٌ في أمرنا ما ليس منه، أي ليس مستنبطًا منه، والعمل بناء على هذه الفتيا، عملٌ ليس عليه أمرنا وبالتالي فهو ردٌ أي باطل.
ومن الثوابت القطعية أن الله لا يعذب حتى يبعث رسولًا، فيحاسب الناس على ما أنذرهم وَبَيَّنَ لهم ما عليهم أن يتَّقوه، (وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِلَّ قَوۡمَۢا بَعۡدَ إِذۡ هَدَىٰهُمۡ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ ١١٥) [التوبة: 115]، (مَّنِ ٱهۡتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهۡتَدِي لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيۡهَاۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولٗا١٥)[الإسراء: 15]، (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانُ لِأُنذِرَكُم بِهِۦ وَمَنۢ بَلَغَۚ) [الأنعام: 19]، (قُلۡ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِٱلۡوَحۡيِۚ وَلَا يَسۡمَعُ ٱلصُّمُّ ٱلدُّعَآءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ٤٥) [الأنبياء: 45]، (رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمٗا ١٦٥) [النساء: 165]، فهذه الآيات تبين أن الوحي نزل نذيرًا، وأحكامه حجة على المنذَرين، فمن بلغته النذارةُ البينةُ قامت عليه الحجة، واستحق العقوبة على المخالفة، فمن ألغى أحكام الإسلام واستبدل غيرها بها، أو من جعلها لزمان غير زمانه، فإنما يناقض أصلًا عظيمًا من الأصول التي قامت عليها الرسالةُ، ومن عدَّ الإسلامَ ناقصًا فقد ناقض قيام الحجة على الخلائق، ومن أدخل في التشريع شيئًا أساسه العقل ناقض هذه الآيات التي حصرت النذارة بالوحي، وبينت شمول الوحي لبيان ما على المكلَّفين اتِّقاءه، وعلى أساسها أقيمت الحجة وترتب الحساب والثواب والعقاب.
النذارة لا تكون إلا بالوحي، حصرًا، وتوكيدًا، والنهي قطعي عن اتِّباع ما شُرع من دونه، فاقتضى حفظ الوحي لتقوم النذارة التي تقوم بها الحجة على الخلائق، وليقطع الطريق على شرائع الغير، وليمكِّن عباده من أن لا يتَّبعوا من دون الوحي أولياء: ﴿ٱتَّبِعۡ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۖ)، [الأنعام: 106]، (ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡ وَلَا تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَۗ قَلِيلٗا مَّا تَذَكَّرُونَ٣) [الأعراف: 3]، (قُلۡ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِٱلۡوَحۡيِۚ وَلَا يَسۡمَعُ ٱلصُّمُّ ٱلدُّعَآءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ٤٥) [الأنبياء: 45]، والوحي هو الكتاب والسنة. والوحيُ حجةٌ تامةٌ، ونذارةٌ شاملةٌ، أَمَا وقدِ انقطعَ الوحيُ، فلا نبيَّ ولا رسولَ بعد محمدٍ صلى الله عليه وسلم يُوحى إليهِ بشأنِ أيّ تشريعٍ يستجدُّ أو «يُفْقَدُ -زعموا-»، قال تعالى: (مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٖ مِّن رِّجَالِكُمۡ وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّۧنَۗ ) [الأحزاب: 40]، فدلَّ ذلكَ على ضرورةِ بقاءِ الحجةِ التامةِ الكاملةِ على المخاطبينَ بدين ِالإسلامِ -عقيدةً وشريعةً- إلى أن تقومَ الساعةُ، ووصولها إليهم -بالضرورةِ- بيِّنَةً واضِحَةً، محفوظَةً، غير منقوصةٍ لا كتابًا ولا سنةً! فكان نظام الإسلام بعقيدته وشريعته تامًا، ولم تخلُ أي مسألة من تشريعٍ متصل بالوحي حتى لا يبقى أي مدخل لتشريع بشري يكون مصدرًا لوجود الظلم في تلك المسألة، الأمر الذي يستوجب أن تُحفظ الشريعة بقرآنها وسنَّتها لإتمام النعمة بإقامة ميزان العدل والقسط على الخلق إلى يوم الدين.
قال الإمام ابن حزم الأندلسي: «(ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚ)، [المائدة: 3]، قال: فنقول لمن جوَّز أن يكون ما أمر الله به نبيه من بيان شريعة الإسلام لنا غير محفوظ، وأنه يجوز فيه التبديل، وأن يختلط بالكذب الموضوع اختلاطًا لا يتميز أبدًا: أخبرونا عن إكمال الله -عز وجل- لنا ديننا، ورضاه الإسلام لنا دينًا، ومنعه تعالى من قبول كل دين حاشى الإسلام. أكل ذلك باق علينا ولنا إلى يوم القيامة؟ أم إنما كان للصحابة – رضي الله عنهم – فقط؟ أم لا للصحابة ولا لنا؟ ولا بد من أحد هذه الوجوه … فإذا كانت الإجابة بالضرورة: كل ذلك باق لنا وعلينا إلى يوم القيامة، صحَّ أن شرائع الإسلام كلها كاملة، والنعمة بذلك علينا تامة، وهذا برهان ضروري وقاطع على أن كل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين، وفي بيان ما يلزمنا محفوظٌ لا يختلط به أبدًا ما لم يكن منه»[15] انتهى.
ولـمّا كان الله تعالى قد نصَّ في سورة الأعراف الآية الثالثة على حصر الاتِّباع بما أنزل الله، وقال الله تعالى في القرآن الكريم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: (إِنۡ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّ وَمَآ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٞ مُّبِينٞ) [الأحقاف: 9]، وقال تعالى: (وَٱتَّبِعۡ مَا يُوحَىٰٓ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۚ) [الأحزاب: 2]، وحصر الله تعالى النذارة بالوحي وأكد على ذلك بقوله: (قُلۡ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِٱلۡوَحۡيِۚ) [الأنبياء: 45]، أي إن النذارة والاتِّباع في القول والعمل لا يكون إلا عن وحي، حصرًا وتوكيدًا.
وأَمَرَ باتباعِ النبيِّصلى الله عليه وسلم، فإن هذا دليلٌ على أنَّ أمرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم ونهيَهُ مما أنزلَ اللهُ، أي إنه من الوحي، قال تعالى: (ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡ وَلَا تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَۗ قَلِيلٗا مَّا تَذَكَّرُونَ٣)[الأعراف: 3]، فموقع قوله ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُم) موقع الفَصل الجامع من الحد، وموقع (وَلَا تَتَّبِعُواْ) موقع الفصل المانع في الحَدّ، والأمر باتباع النبي الأمي صلى الله عليه وسلمدليل على دخوله في الحد، أي دليل على أن قوله وفعله وأمره ونهيه من التنزيل، أي من الوحي.
والدين نفسه كامل، فيه تبيان كل شيء، فقد أكمَلَ اللهُ الدينَ، وأتمَّ به النعمةَ على المسلمين، وأيأسَ منه الكافرينَ، (ٱلۡيَوۡمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمۡ فَلَا تَخۡشَوۡهُمۡ وَٱخۡشَوۡنِۚ ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚ)، [المائدة: 3]، وحين رضي الله لنا الإسلام دينًا، فإنه وعدَ -ووعدهُ حقٌّ- بأنه لن يقبل من أحد دينًا غير الإسلام، وأنه في الآخرة من الخاسرين، قال تعالى: (وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٨٥) [آل عمران: 85]، مما يدل على أن الله تعالى لن يقبلَ من بشرٍ دينًا (عقيدة وشريعة أي نظام حياة) إلا الإسلام.
وأكملَ التشريعَ فلم يترك ما يعادلُ مثقالَ ذرةٍ من عملِ الإنسانِ إلا وجعلَ فيها حُكمًا يبيّنُ الخيرَ من الشرِّ تكليفًا ملزمًا للاتِّباع، قال تعالى: (أَيَحۡسَبُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَن يُتۡرَكَ سُدًى ٣٦) أي بلا أمر ولا نهي في أيّ شأنٍ من شؤونهِ، وقال تعالى: (فَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَيۡرٗا يَرَهُۥ٧ وَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖ شَرّٗا يَرَهُۥ٨) [الزلزلة: 7-8]، فلا بُدَّ إذًا من بيانٍ من الوحيِ يبينُ الخيرَ من الشَّرِّ في أيِّ عملٍ حتى يتمَ الحسابُ بناءً عليهِ،
(وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ) [النحل: 89]، (وَمَا ٱخۡتَلَفۡتُمۡ فِيهِ مِن شَيۡءٖ فَحُكۡمُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِۚ) [الشورى: 10]، وقال: (فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ) [النساء: 59]، والدين نفسه ثابت النسبة للوحي من خلال الأدلة، فكون الله تعالى يأمرنا برد أي نزاع إلى الله ورسوله، أي إلى الكتاب والسنة، فلا بد من حكم له في الكتاب والسنة، وكون الله تعالى يحصر حق التشريع به وحده، فما كان من اختلاف في شيء فحكمه إلى الله تعالى، فلا بد من أن يكون قد بين لنا حكمه في الكتاب والسنة!
وقد جاءت هذه الألفاظ بصيغ العموم، (وَمَا)، (مِن شَيۡءٖ)، (لِّكُلِّ شَيۡءٖ)، (فِي شَيۡءٖ)، وكلها تفيد العموم، أي تعم كل نازلة بحكم يحدد الموقف منها.
ولا يمكن شرعًا أن يوجد فعل للعبد ليس له دليل، أو أمارة تدل على حكمه؛ لعموم قوله: ( تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ) وللنص الصريح بأن الله قد أكمل هذا الدين. فإذا زُعم أن بعض الوقائع خالية من الحكم الشرعي، على معنى أن هناك بعض الأفعال من أفعال العباد قد أهملته الشريعة إهمالًا مطلقًا، بحيث لم تنصب دليلًا، أو تضع أمارة تنبه بها المكلف على مقصدها فيه، فإذا زعم ذلك، فإنه يعني أن هناك شيئًا لم يُبَيِّنْهُ الكتاب، وأن هذا الدين لم يكمله الله تعالى، بدليل وجود فعل لم يذكر حكمه[16]، فهو دين ناقص، وهذا معارض لنص القرآن؛ ولذلك يكون زعمًا باطلًا[17]، ومن مقتضيات صدق هذه الآيات حفظ القرآن والسنة بما فيهما من أدلة على التشريع بصورة تجعل المجتهد قادرًا على الوصول لحكم شرعي فيها مستنبط من الوحي بما يغلب على ظنه أنه حكم الشارع، وعدم الحفظ يقتضي فقدان البيان أو التبيين!
إنه مما لا شك فيه أن الله تعالى أنزل الكتاب والسنة ليتحاكم إليهما الناس في كل شأن من شؤونهم، ويردُّوا اختلافهم إليه، ويقضي بينهم في كل نازلة وخصومة، وبناء عليه يتم حسابهم في الدنيا والآخرة، وعلى أساسه يتميز التزامهم بأحكام الإسلام وتفاضلهم في درجاته، فيؤجرون أو يأثمون، فلئن اختفت تلك الأحكام قبل أن تصل إليك في العصر الحالي، فهل لها من معنى؟ وهل يمكن محاسبتك على عدم التزامها؟ ألا يعني فقدانها إدخال الجور من حيث أريد إقامة العدل؟ ألا يعني إقامة الحجة على أناس وصلتهم دون أناس فقدوها ولم تصلهم؟ ألا يعني أن شؤون من لم تصلهم لن تكون مرعية بالشرع وأحكامه! ألا يعني ذلك أن من لم تصلهم لن يفهموا مراد الشارع، ولا تتحقق الغاية التي أرسلت بها الشرائع بذلك الفقد والضياع؟ ألا يترتب على ذلك أن أحكامًا مجملة مما نزل به الشرع فقدت ما يفصلها ويبينها من السنة فأضحت طلاسم غير قابلة للفهم، منفصلة عن الواقع غير قابلة للتطبيق؟ فيفقد القرآن بذلك وصفه بيانًا وتبيانًا لكل شيء! لذلك فلا بد أن تكون السنة محفوظة كما هو القرآن محفوظ، لتتم بهما معًا نعمة الله على الخلق بالإسلام الذي يرتضيه الله تعالى، وبهما معًا يتمكن الدين حين الاستخلاف على الوجه الذي يرضاه الله تعالى للأمة المستخلفة!
قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: «قلت: والفرض علينا وعلى من هو من قبلنا ومن بعدنا واحد؟ قال: نعم، قلت: فإن كان ذلك علينا فرضًا في اتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنحيط به إذا فَرَضَ علينا شيئًا: فقد دلنا على الأمر الذي يؤخذ به فرضه؟ قال: نعم، قلت: فهل تجد السبيل إلى تأدية فرض الله عز وجل في اتباع أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحد قبلك أو بعدك ممن لم يشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وإن في أن لا آخذ ذلك إلا بالخبر، لما دلني على أن الله أوجب عليّ أن أقبل عن رسول اللهصلى الله عليه وسلم»[18]
ولقد أنزل الله تعالى دين الإسلام للناس كافة[19]، ولم يقصر الرسالة على من عاش في عصر النبوة، فما نزل به الوحي من اعتقادٍ وتشريعٍ وقصصٍ وخطابٍ فإنه يَعُمُّ بخطابهِ الناسَ كافّةً، وهو مُوجَّهٌ إلى البشريةِ كلّها منذ بعثة الرسولِ صلى الله عليه وسلم إلى يومِ الدِّينِ، قال الله تعالى: (وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةٗ لِّلنَّاسِ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ٢٨)[سبأ: 28]، وقال عز من قائل: (قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا ٱلَّذِي لَهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحۡيِۦ وَيُمِيتُۖ فََٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ٱلنَّبِيِّ ٱلۡأُمِّيِّ ٱلَّذِي يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَكَلِمَٰتِهِۦ وَٱتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ١٥٨) [الأعراف: 158][20]، وهذا خطابٌ موجهٌ لكلِّ الناس بقوله تعالى (قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ)، فكلُّ من يُطلق عليهم مسمى ناسٌ مذ نزل هذا الخطاب الشامل إلى يوم القيامة فالنبيُّ الرسولُ صلى الله عليه وسلم مرسلٌ إليهم، وأكد هذا العموم بقوله (إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُم)، واستعمل لفظ (إِنِّ)لتأكيد الخبر، باعتبارِ أنَّ في جملة المخاطبين منكِرينَ ومتردِّدينَ، وتأكيد ضمير المخاطبين بوصف (جَمِيعًا) الدال نصًّا على العموم، لرفع احتمال تخصيص رسالته ببشرٍ دون بشرٍ، أو بعصرٍ دون عصرٍ، واستقصاءً في إبلاغِ الدعوةِ إليهم.
قيام الحجة على الناس، فلا عذر للناس على الله بعد الرسل، وهذا يقتضي أن الحجة قائمة إلى يوم الدين، (رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمٗا١٦٥) [النساء: 165]، فإن ضاع شيء من الدين خلا من حجة في تلك الجزئيات، وهو ما يتنافى مع قيام الحجة، وإمكانية المحاسبة عليه.
ط- ضياع شيء من السنة يقتضي ضياع كونه بيانًا على شيء من الدين الذي نزل في القرآن، وهذا يعني أن القرآن لم يعد مُبِيْنًا (فقد جعل القرآن السنة بيانًا)، (قُلۡ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَۖ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّمَا عَلَيۡهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيۡكُم مَّا حُمِّلۡتُمۡۖ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهۡتَدُواْۚ وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُ ٱلۡمُبِينُ ٥٤)، [النور: 54]، وكلمة المبين وصف مفهِمٌ؛ ولذلك تكون قيدًا للتبليغ، فالبلاغ لا يكون مبينًا، ولا تكتمل أسباب الهداية بفقدان البيان والاقتصار على المبيَّن أو المجمل الذي في القرآن، في جزئيات فقدت، فلا تقوم في تلك الجزئيات الحجة بالاقتصار على المجمل الذي في القرآن!
وهذا يعني أن الدين محفوظ من الضياع ومنه الدليل على أن السنة محفوظة من الضياع، نقلت لنا كلها، لأن بها بيان القرآن، وتَفصيلُ مُجْمَلِهِ، وتقييد مطلقه، وشرح ألفاظه، وتوضيح أحكامه ومعانيه، وبها اكتمل الدين، ومهمتنا أن ننقي صحيحها من ضعيفها؛ حيث إن معظم الأحكام الشرعية أخذت من السنة، باعتبار أن السُّنَّة مبينة وموضحة وشارحة للقران وملحقة الفروع بأصولها ومشرعة أحكامًا جديدة ليس لها في القران أصول، وبها تم الدين واكتملت النعمة، وارتضى الله لنا الإسلام دينًا بما فيها وما في القرآن من أحكام، قال الحق سبحانه وتعالى: (وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلذِّكۡرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيۡهِمۡ وَلَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ)، وقال: (وَمَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِي ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ٦٤)مع وجود أصول دقيقة لبلوغ الحكم الشرعي أذنت بوجود طريق تحصيل غلبة الظن في بلوغ الأحكام الشرعية، وبالتالي أذنت بوجود الظن في آحاد الأدلة التي أتت من السنة في ثبوتها أو دلالتها، تمامًا كما أذنت بظنية بعض الآيات القرآنية في دلالتها، وبالتالي فالدين بمجمله، وفق أصول الفقه، يحقق وعد الله تعالى بوجود أوامر ونواه متعلقة بكل فعل من الأفعال، وكل مسألة من المسائل، وكل نازلة، ويحقق إمكانية الحساب على مثقال الذر، وإطلاق الخير أو الشر عليه، فمن نقل لنا هذا الدين يجب أن يكون إجماعه مقطوعًا به، وإلا تحصل الشك في ثبوت الدين، وثبوت اكتمال الدين، وثبوت شمول الدين لكل صغيرة وكبيرة، ولما وصل إلينا الأمر والنهي ولما تحقق إمكانية الحساب، فمن بهم ثبت الدين ونقلوه لنا كاملًا يحصل القطع بأن إجماعهم مقطوع بصدقه.
وقد فصلنا في بيان حفظ السنة من خلال دقة مناهج علوم الحديث وتفاصيلها في كتابنا: (البرهان المبين على أن السنة وحي، وأنها محفوظة، وأنها حجة، وأصل من أصول الدين).إذًا، يقتضي التكليف أن نفهم العملية التي يتم بها إنزال الأحكام الشرعية على الوقائع؛ لكي تعطي لكل واقعة حكمًا شرعيًّا يضبط سلوك الإنسان في الحياة، معالجًا لأفعال المكلفين، ولأحكام علاقات البشر بعضهم مع بعض، ومبينًا أحكام أنظمة الدولة والحياة والمجتمع.
[1] تعريف الدِّين في كتاب: «رضيت بالإسلام دينًا» للشيخ صالح الشامي، ناقلًا مختصرًا عن العلامة الدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه: «الدين».
[2] رضيت بالإسلام دينًا، ص 15 – 17 الشيخ صالح أحمد الشامي، عن «الدين» للدكتور محمد عبد الله دراز ص 30- 52 باختصار كبير
[3] رضيت بالإسلام دينًا، ص 15 – 17 الشيخ صالح أحمد الشامي
[4] قال بعض المفسرين أن معناها حاسب نفسه، إلا أن المعنى الأدق يتعدَّى إلى سياسة نفسه كي لا يقع فيما يحاسب عليه، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم فسره بما بعده بقوله: «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والفاجر من يُتبع نفسه هواها ويتمنى على الله عز وجل»، فالفاجر يُتبع نفسه هواها، والكيس يسوس نفسه وفق أحكام الله ويمنعها هواها. قال الأزهري في تهذيب اللغة: قال أبو عبيد: قوله: دَانَ نَفْسَه أي أَذَلَّها واستعبدها… والدِّين لِلَّهِ من هذا إنما هو طاعتُه والتَّعَبُّدُ له. وقد قيل في قوله: الكَيِّسُ من دَان نَفْسَه أي حاسَبها. إ.هـ.
[5] المنخول من تعليقات الأصول، للإمام أبي حامد الغزالي، ص 21.
[6] حجر الزاوية في هوية المجتمع هو الكيفية التي تُسيّر بموجبها العلاقات، والنظم التي تضبط هذه العلاقات، فالعلاقات الربوية نتاج تطبيق نظام رأسمالي مثلًا، لا يمكن أن تتغير في المجتمع طالما بقي المجتمع رأسماليًا، ولا أثر لامتناع ملايين الناس من المسلمين في المجتمعات الغربية أو حتى البلاد الإسلامية التي يتفشَّى فيها نظام الربا عن الربا في تغيير النظام الاقتصادي الرأسمالي فيه، بل إنهم ولا شك ستدخل أموالهم البنوك، وتستثمرها البنوك بشكل قانونيفيما يراه البنك، وتختلط أموال المسلمين بالربا وبتجارة الخمور، والاستثمارات التي تستثمرها البنوك في النوادي الليلية، شاء المسلمون في الغرب أم أبوا، بل وفوق ذلك، فإنهم سيخضعون لقوانين الدولة من تأمين إلزامي، وضرائب، ونظم محرمة في الإسلام وغير ذلك، فالعبرة إذن في العلاقات والأنظمة لا في معتقدات الأفراد.
[7] وقوله تعالى: ]وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمۡ خَلَٰٓئِفَ ٱلۡأَرۡضِ وَرَفَعَ بَعۡضَكُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَبۡلُوَكُمۡ فِي مَآ ءَاتَىٰكُمۡۗ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ ٱلۡعِقَابِ وَإِنَّهُۥ لَغَفُورٞ رَّحِيمُۢ١٦٥[ [الأنعام: 165 ]،وقولهتعالى: ]هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمۡ خَلَٰٓئِفَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ[ [فاطر:39].
[8] حق التشريع لله وحده قطعًا وحصرًا؛ ]إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِۖ[[الأنعام: 57- يوسف: 40- يوسف: 67] راجع دقة الطرح في فصل: المفصل الثاني: الله تعالى هو الدَّيَّان: حق التشريع لله وحده قطعًا وحصرًا.
[9] الحاكمية من خصائص الربوبية باختصاص الله بالتشريع، ومن خصائص الألوهية بإفراده تعالى بالعبودية والتقديس بالتزام ما شَرَعَ وعدم اتخاذ غيره أربابًا يَشرَعونَ من الدينِ ما لم يأذنْ به اللهُ، أو يغيروا أحكامه، ]إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ
ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ[ [يوسف: 40]،جمعفيهذهالآيةبينحقالطاعةوحقالعبادة،فحقعلىالعبادأنيطيعوااللهفيماأمر،وأنيعبدوه،فالربوبيةمنخصائصهاومنمقتضاهاالحاكميةالتشريعية. ومن يحكم بغير ما أنزل الله فإنه يرفض ربوبية الله وخصائصها في جانب، ويدّعي لنفسه هو حق الربوبية وخصائصها في جانب آخر.
[10]10 من هنا فإن تشريع العبيد بعضهم لبعض فيه اتخاذ بعضهم أربابًا من دون الله
[11] ]وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ[ [النحل: 89] وفيالقرآنتبيانبهدى (ذكر) يأتيبهالرسولصلى الله عليه وسلمتجبطاعتهوالعملبه،فهذامنهذا،فالتبيانيحصلبالسنةأيضًا وأصلها مقرر في القرآن: ]وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلذِّكۡرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيۡهِمۡ وَلَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ[.
[12] استفضنا في التدليل على حجية السنة، وأنها وحيٌ محفوظ، في كتابنا: (البرهان المبين على أن السنة وحي، وأنها محفوظة، وأنها حجة، وأصل من أصول الدين).
[13] يقول الإمام النبهاني رحمه الله في الشخصية الإسلامية، الجزء الثالث: (أصول الفقه): وكذلك لا يقال إن الأصل في الأفعال والأشياء الإباحة بحجة أنها انتفاع خالٍ من أمارة المفسدة ومضرّة المالك فتُباح، لا يقال ذلك لأن مفهوم الآية أن الإنسان مقيَّد بما جاء به الرسول لأنه يعذب على مخالفته، فصار الأصل اتباع الرسول والتقيّد بأحكام رسالته، وليس الأصل الإباحة أي عدم التقيّد، ولأن عموم آيات الأحكام تدل على وجوب الرجوع إلى الشرع ووجوب التقيّد به، قال تعالى: ]وَمَا ٱخۡتَلَفۡتُمۡ فِيهِ مِن شَيۡءٖ فَحُكۡمُهُۥٓإِلَى ٱللَّهِۚ[، وقال: ]فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ[، وقال: ]وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ[، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «كل أمرٍ ليس عليه أمرُنا فهو رَدّ»، فهذا يدل على أن الأصل هو اتباع الشرع والتقيّد به… وأيضًا فإنه بعد ورود الشرع صار للأشياء وللأفعال أحكام، فالأصل أن يُبحث في الشريعة عن الأشياء والأفعال هل يوجد لها أحكام أم لا، لا أن يكون الأصل اعتبارها مباحة ووضع حكم الإباحة لها من العقل مباشرةمع وجود الشرع. وكذلك لا يقال إن الأصل في الأشياء التوقف وعدم الحكم. لأن التوقف يعني تعطيل العمل أو تعطيل الحكم الشرعي، وهو لا يجوز، ولأن الثابت في القرآن والحديث عند عدم العلم، السؤال عن الحكم، وليس التوقف وعدم الحكم، قال تعالى: ]فَسَۡٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ[، ولقوله صلى الله عليه وسلم في حديث التيمّم: «ألاسألوا إذا لم يعلموا، فإنّما شفاء العيّ السؤال»،
فدل على أنه ليس الأصل التوقف وعدم الحكم. وعليه فإنه بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم صار الحكم للشرع وأضحى لا حكم قبل ورود الشرع، فيُتوقف الحكم على ورود الشرع، أي على وجود دليل شرعي للمسألة الواحدة، ولذلك لا يعطى حكم إلاّ عن دليل، كما لا يعطى حكم إلاّ بعد ورود الشرع. والأصل أن يُبحث عن الحكم في الشرع، أي الأصل أن يُبحث عن الدليل الشرعي للحكم، من الشرع …. هذا بالنسبة للأفعال، أمّا بالنسبة للأشياء وهي متعلقات الأفعال، فإن الأصل فيها الإباحة ما لم يَرِد دليل التحريم،
فالأصل في الشيء أن يكون مباحًا ولا يحرم إلاّ إذا ورد دليل شرعي على تحريمه؛ وذلك لأن النصوص الشرعية قد أباحت جميع الأشياء، وجاءت هذه النصوص عامة تشمل كل شيء، قال تعالى: ]أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ[، ومعنى تسخير الله للإنسان جميع ما في الأرض هو إباحته لكل ما في الأرض، وقال تعالى: ]يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ حَلَٰلٗا طَيِّبٗا[، وقال: ]۞يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدٖ وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ[، وقال: ]هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ ذَلُولٗا فَٱمۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزۡقِهِۦۖ[. وهكذا جميع الآيات التي جاءت في إباحة الأشياء جاءت عامة، فعمومها دل على إباحة جميع الأشياء، فتكون إباحة جميع الأشياء جاءت بخطاب الشارع العام، فدليل إباحتها النصوص الشرعية التي جاءت بإباحة كل شيء. فإذا حرم شيء فلا بد من نص مخصص لهذا العموم يدل على استثناء هذا الشيء من عموم الإباحة. ومن هنا كان الأصل في الأشياء الإباحة؛ ولذلك نجد الشرع حين حرّم الأشياء قد نصّ على هذه الأشياء بعينها استثناء من عموم النص، فقال تعالى: ]حُرِّمت عليكم المَيْتَة والدم ولحم الخنزير[، وقال صلى الله عليه وسلم: «حُرِّمت الخمرة لعينها»، فيكون ما نص عليه الشرع من تحريم أشياء، هو مستثنى من عموم النص، فهو على خلاف الأصل. والأصل إباحة جميع الأشياء. انتهى؛ وعليه فلا حكم قبل ورود الشرع، وأي حكم صادر عن العقل في مسائل الشرع خال من الدليل رد.
[14] أنظر فصل: إثبات أن الأحكام الشرعية العملية يجوز أن تبنى على الظن، في كتابنا: (البرهان المبين على أن السنة وحي، وأنها محفوظة، وأنها حجة، وأصل من أصول الدين).
[15] الإحكام في أصول الأحكام، ابن حزم الأندلسي 1/122-123)، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ/ 1985م
[16] أنظر فصل: لا يوجد فراغ تشريعي، ]الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ[.
[17] أنظر الشخصية الإسلامية، الجزء الثالث: (أصول الفقه) لتقي الدين النبهاني.
[18] الأم ج 7 ص 251، أو جماع العلم للشافعي ص 21-22، حجية السنة، د. عبد الغني عبد الخالق، الدار العالمية للكتاب الإسلامي/ المعهد العالمي للفكر الإسلامي. طبعة 1995، ص 262-263.
[19] قال الإمام ابن حزم في كتاب الإحكام ج 1 ص 97: عن المراد بالرد في قوله تعالى: ]يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلًا ٥٩[[النساء: 59]: “والبرهانعلىأنالمرادبهذاالرد: إنماهوإلىالقرآنوالخبرعنرسولاللهصلى الله عليه وسلم،أنالأمةمجمعةعلىأنهذاالخطابمتوجهإلينا،وإلىكلمنيُخلَقُوتُركَّبروحهفيجسدهإلىيومالقيامة،منالجنةوالناسكتوجههإلىمنكانعلىعهدرسولاللهصلى الله عليه وسلم،وكلمنأتىبعدهعليهالسلاموقبلنا،ولافرق” حجيةالسنة،د. عبدالغنيعبدالخالق،الدارالعالميةللكتابالإسلامي/ المعهدالعالميللفكرالإسلامي. طبعة 1995،ص 263.
[20] تفسير الآلوسي، الرازي، ابن عاشور، خواطر الشعراوي. وقال الدكتور فاضل السامرائي: «إنما جيء بهذه الصفات لتذكير اليهود ووعظهم حيث جحدوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وزعموا أن لا رسول بعد موسى، واستعظموا دعوة محمد، وكانوا يعتقدون أن موسى لا يشبهه رسول، فذكرهم الله بأنه هو وحده مالك السماوات والأرض، وهو واهب الفضائل، فلا يستعظم أن يرسل رسولًا ثم يرسل آخر، فالمُلك بيده. وفي ذكر الإحياء والإماتة تذكيرٌ لهم بأن الله يحيي شريعة ويحيي أخرى، فلا تعجب إذًا من ذكر هذه الصفات في هذا الموضع لأن القصة أعظم»
2025-01-01