العدد 458-459 -

السنة التاسعة والثلاثون، ربيع الأول – ربيع الآخر 1446هـ الموافق تشرين الأول – تشرين الثاني 2024م

مع القرآن الكريم

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِنَّ أَوۡلَى ٱلنَّاسِ بِإِبۡرَٰهِيمَ لَلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا ٱلنَّبِيُّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۗ وَٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ)

(يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَمَآ أُنزِلَتِ ٱلتَّوۡرَىٰةُ وَٱلۡإِنجِيلُ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِهِۦٓۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ ٦٥ هَٰٓأَنتُمۡ هَٰٓؤُلَآءِ حَٰجَجۡتُمۡ فِيمَا لَكُم بِهِۦ عِلۡمٞ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيۡسَ لَكُم بِهِۦ عِلۡمٞۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ٦٦ مَا كَانَ إِبۡرَٰهِيمُ يَهُودِيّٗا وَلَا نَصۡرَانِيّٗا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفٗا مُّسۡلِمٗا وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ٦٧ إِنَّ أَوۡلَى ٱلنَّاسِ بِإِبۡرَٰهِيمَ لَلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا ٱلنَّبِيُّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۗ وَٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٦٨)

[آل عمران: 65-68]

جاء في تفسير الشيخ محمد متولِّي الشعراوي (رحمه الله) لهذه الآيات:

(يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَمَآ أُنزِلَتِ ٱلتَّوۡرَىٰةُ وَٱلۡإِنجِيلُ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِهِۦٓۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ)

إن الحق يسألهم: لماذا يكون جدالكم في إبراهيم خليل الله؟ إن اليهود منكم ينسبون أنفسهم إلى موسى، والنصارى منكم ينسبون أنفسهم إلى عيسى، وإبراهيم عليه السلام لا يمكن أن يكون يهوديًّا كما يدَّعي اليهود؛ فاليهودية قد جاءت من بعد إبراهيم. والنصارى لا يمكنهم الادِّعاء بأن إبراهيم كان نصرانيًّا؛ لأن النصرانية قد جاءت من بعد إبراهيم عليه السلام. فلمَ المحاجة إذًا؟ لقد أُنزلت التوراة والإنجيل من بعد إبراهيم فكيف يكون تابعا للتوراة والإنجيل؟

وبعد ذلك يقول الحق: (هَٰٓأَنتُمۡ هَٰٓؤُلَآءِ حَٰجَجۡتُمۡ فِيمَا لَكُم بِهِۦ عِلۡمٞ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيۡسَ لَكُم بِهِۦ عِلۡمٞۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ٦٦)أي لقد جادلتم فيما بقي عندكم من التوراة، وتريدون أن تأخذوا الجدل على أنه باب مفتوح، تجادلوا في كل شيء، وأنتم لا تعلمون ما يعلمه الخالق الرحمن علام الغيوب.

ويوضح الحق هذا الأمر فيقول:(مَا كَانَ إِبۡرَٰهِيمُ يَهُودِيّٗا وَلَا نَصۡرَانِيّٗا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفٗا مُّسۡلِمٗا وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ٦٧). وبذلك يتأكد أن إبراهيم عليه السلام لم يكن يهوديًّا؛ لأن اليهودية جاءت من بعده. ولم يكن إبراهيم نصرانيًّا؛ لأن النصرانية جاءت من بعده؛ لكنه وهو خليل الرحمن (كَانَ حَنِيفٗا مُّسۡلِمٗا وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ) ونحن نفهم أن كلمة (حَنِيفٗا)تعني الدين الصافي القادم من الله، والكلمة مأخوذة من المحسات، فالحنف هو ميل في الساقين من أسفل، أي اعوجاج في الرجلين، ثم نقل الحنف إلى كل أمر غير مستوٍ. وهنا يتساءل الإنسان، هل كان إبراهيم عليه السلام في العوج أو في الاستقامة؟ وكيف يكون حنيفًا، والحنف عوج؟ وهنا نقول: إن إبراهيم عليه السلام كان على الاستقامة؛ ولكنه جاء على وثنية واعوجاج طاغٍ، فالعالم كان معوجًا. وجاء إبراهيم ليخرج عن هذا العوج، وما دام منحرفًا عن العوج فهو مستقيم، لماذا؟ لأن الرسل لا يأتون إلا على فساد عقدي وتشريعي طاغٍ. والحق سبحانه وتعالى ساعة يُنزل منهجه يجعل في كل نفس خلية إيمانية. والخلية الإيمانية تستيقظ مرة فتلتزم، وتغفل مرة فتنحرف، ثم يأتي الاستيقاظ بعد الانحراف، فيكون الانتباه، وهكذا توجد النفس اللوامة، تلك النفس التي تهمس للإنسان عند الفعل الخاطئ: أن الله لم يأمر بذلك.

ويعود الإنسان إلى منهج الله تائبًا ومستغفرًا، فإن لم توجد النفس اللوَّامة صارت النفس أمَّارة بالسوء، وهي التي تتجه دائمًا إلى الانحراف، وحول النفس الواحدة توجد نفوس متعددة تحاول أن تقاوم وتقوِّم المعوج، وهي نفوس من البيئة والمجتمع. فمرة يكون الاعتدال والاتجاه إلى الصواب بعد الخطأ قادمًا من ذات الإنسان أي من النفس اللوامة، ومرة لا توجد النفس اللوامة، بل توجد النفس الأمارة بالسوء؛ لكن المجتمع الذي حول هذا الإنسان لا يخلو من أن يكون فيه خلية من الخير تهديه إلى الصواب، أما إذا كانت كل الخلايا في المجتمع قد أصبحت أمَّارة بالسوء، فمن الذي يعدلهاويصوبها؟
هنا لابد أن يأتي الله برسول جديد؛ لأن الإنسان يفتقد الردع من ذاتية النفس بخلاياها الإيمانية، ويفتقد الردع من المجتمع الموجود لخلوِّه كذلك من تلك الخلايا الطيبة، وهكذا يطم الظلام ويعم، فيرسل الله رسولًا ليعيد شعلة الإيمان في النفوس. والله سبحانه وتعالى قد ضمن لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ألا يأتي لها نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا فمن الضروري أن يوجد فيها الخير ويبقى، فالخير يبقى في الذات المسلمة، فإذا كانت الغفلة فالنفس اللوَّامة تصوِّب، وإن كانت هناك نفس أمَّارة بالسوء فهناك قوم كثيرون مطمئنون يهدون النفس الأمارة إلى الصواب.

وهكذا لن تخلو أمة محمد في أي عصر من العصور من الخير، أما الأمم الأخرى السابقة فأمرها مختلف؛ فإن الله يرسل لهم الرسل عندما تنطفئ كل شموع الخير في النفوس، ويعمُّ ظلام الفساد فتتدخل السماء، وحين تتدخل السماء يقال: إن السماء قد تدخلت على عوج لتعدِّله وتقوِّمه.

إذًا، فإبراهيم عليه السلام جاء حنيفًا، أي مائلًا عن المائل، وما دام مائلًا عن المائل فهو مستقيم، فالحنيفية السمحة هي الاستقامة. وهكذا نفهم قول الحق: (مَا كَانَ إِبۡرَٰهِيمُ يَهُودِيّٗا وَلَا نَصۡرَانِيّٗا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفٗا مُّسۡلِمٗا وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ٦٧).
إن إبراهيم هو أبو الأنبياء، ولم تكن اليهودية قد حٌرِّفت وبدِّلت، وكذلك النصرانية لكان من المقبول أن يكون اليهود والنصارى على ملة إبراهيم؛ لأن الأديان لا تختلف في أصولها، ولكن قد تختلف في بعض التشريعات المناسبة للعصور؛ ولذلك فسيدنا إبراهيم عليه السلام لا يمكن أن يكون يهوديًّا باعتبار التحريف الذي حدث منهم، أي لا يكون موافقًا لهم في عقيدتهم، وكذلك لا يمكن أن يكون نصرانيًّا للأسباب نفسها، لكنه (كَانَ حَنِيفٗا مُّسۡلِمٗا وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ) أي أنه مائل عن طريق الاعوجاج.

قد يقول قائل: ولماذا لم يقل الله: (إن إبراهيم كان مستقيمًا) ولماذا جاء بكلمة (حنيفًا) التي تدل على العوج؟ ونقول: لو قال: (مستقيمًا) لظنَّ بعض الناس أنه كان على طريقة أهل زمانه، وقد كانوا في عوج وضلال؛ ولهذا يصف الحق إبراهيم بأنه (كَانَ حَنِيفٗا مُّسۡلِمٗا) وكلمة (مُّسۡلِمٗا) تقتضي (مسلَمًا إليه) وهو الله، أي أنه أسلم زمامه إلى الله، ومُسْلَماً فيه وهو الإيمان بالمنهج.

وعندما أسلم إبراهيم زمامه إلى الله فقد أسلم في كل ما ورد بـ(افعل ولا تفعل). وإذا ما طبقنا هذا الاشتقاق على موكب الأنبياء والرسل فسنجد أن آدم عليه السلام كان مسلمًا، ونوحًا عليه السلام كان مسلمًا، وكل الأنبياء الذين سبقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا مسلمين.

كان كل نبي ورسول من موكب الرسل يُلقي زمامه في كل شيء إلى مٌسْلَم إليه؛ وهو الله، ويطبق المنهج الذي نزل إليه، وبذلك كان الإسلام وصفًا لكل الأنبياء والمؤمنين بكتب سابقة، إلى أن نزل المنهج الكامل الذي اختتمت به رسالة السماء على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ(افعل ولا تفعل)، ولم يعد هناك أمر جديد يأتي، ولن يشرع أحد إسلامًا لله غير ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لقد اكتملت الغاية من الإسلام، ونزل المنهج بتمامه من الله. واستقرَّ الإسلام كعقيدة مصفاة، وصار الإسلام علمًا على الأمة المسلمة، أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهي التي لا يُستدرك عليها لأنها أمة أسلمت لله في كل ما ورد ونزل على محمد صلى الله عليه وسلم؛ لذلك قال الحق: (إِنَّ أَوۡلَى ٱلنَّاسِ بِإِبۡرَٰهِيمَ لَلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا ٱلنَّبِيُّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۗ وَٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ٦٨).

ولنا أن نلحظ أن كل رسول من الرسل السابقين على سيدنا رسول الله إنما نزل لأمة محددة، فموسى عليه السلام أرسله الله إلى بني إسرائيل، وكذلك عيسى عليه السلام، قال تعالى: (وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ) أي رسولًا مسلمًا في حدود تطبيق المنهج الذي جاء به ونزل إلى هؤلاء الرسل، فلما تغيَّر بعض من التشريع وتمت تصفية المنهج الإيماني بالرسالة الخاتمة، وهي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وهي عامة لكل البشر فقد آمن بعض من أهل تلك الأمم برسالته عليه الصلاة والسلام، كما آمن بها من أرسل فيهم سيدنا رسول الله، واستمر موكب الإيمان بالدين الخاتم إلى أن وصل إلينا. وهكذا صارت أمة محمد صلى الله عليه وسلم هي خاتمة الأمم الإسلامية؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والمرسلين.

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: »مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلَّا وضعت هذه اللبنة، فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين.«

وحين يقولون: إن إبراهيم عليه السلام كان يهوديًّا أو نصرانيًّا. إنما أوردوا ذلك لأن إبراهيم عليه السلام فيه أبوة الأنبياء. وهم قد أرادوا أن يستحضروا أصل الخلية الإيمانية في محاولة لأن ينسبوها إلى أنفسهم وكأنهم تناسلوا. إن المسألة الإيمانية ليست بالجنس أو الوطن أو الدم، أو أي انتماء آخر غير الانتماء لمنهج الله الواحد؛ ولذلك فأولى الناس بإبراهيم ليسوا من جاؤوا من ذريته، بل إن أولى الناس بإبراهيم هم الذين اتَّبعوه، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم قد اتَّبع إبراهيم عليه السلام؛ لذلك فلا علاقة لإبراهيم بمن جاء من نسله، ممن حرَّفوا المنهج ولم يواصلوا الإيمان. لقد حسم الله هذه القضية مع إبراهيم عندما قال سبحانه: (۞وَإِذِ ٱبۡتَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ رَبُّهُۥ بِكَلِمَٰتٖ فَأَتَمَّهُنَّۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامٗاۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِيۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهۡدِي ٱلظَّٰلِمِينَ١٢٤) [البقرة: 124].

لقد امتحن الحق إبراهيم بكلمات هي الأوامر والنواهي، فأتمَّها إبراهيم عليه السلام تمامًا على أقصى ما يكون من الالتزام، ولم يكن مجرد إتمام يتظاهر بالشكلية، إنما كان إتمامًا بالشكل والمضمون معًا. والمثال على تمام الأوامر والنواهي بالشكل فقط هو رؤيتنا لمن يتلقى الأمر من الله بأن يصلي خمسة فروض، فيصلي هذه الفروض الخمسة كإجراء شكلي؛ لكن هناك إنسانًا آخر يصلي هذه الفروض الخمسة بحقها في الكمال مضمونًا وشكلًا، إنه يتم الأوامر الإلهية إتمامًا يرضى عنه الله.

ولقد أدى إبراهيم عليه السلام الابتلاءات التي جاءت بالكلمات التكليفية من الله على أكمل وجه. ألم يأمر الله إبراهيم عليه السلام على أن يرفع القواعد من البيت؟ أما كان يكفي إبراهيم عليه السلام لينفذ الأمر برفع بناء الكعبة إلى أقصى ما تطوله يداه؟ إنه لو فعل ذلك لكان قد أدى الأمر؛ لكن إبراهيم عليه السلام أراد أن يوفي الأمر بإقامة القواعد من البيت تمام الوفاء، فبنى الكعبة بما تطوله يداه، وبما تطوله الحيلة أيضًا، فجاء إبراهيم عليه السلام بحجر ليقف من فوقه، ويزيد من طول جدار الكعبة مقدار الحجر، لقد أراد أن يوفي البناء بطاقته في اليدين وبحيلته الابتكارية أيضًا، فلم يكن معروفًا في ذلك الزمان (السقالات) وغير ذلك من الأدوات التي تساعد الإنسان على الارتفاع عن الأرض إلى أقصى ما يستطيع.

ولو أن إبراهيم عليه السلام قد رفع القواعد من البناء على مقدار ما تطوله يداه لكان قد أدى تكليف الله؛ لكنه أراد الأداء بإمكاناته الذاتية الواقعية، وأضاف إلى ذلك حيلة من ابتكاره؛ لذلك جاء بالحجر الذي يقف عليه ليزيد من جدار الكعبة، وهذا ما نعرفه عندما نزور البيت الحرام بـ(مقام إبراهيم) فلما أتم إبراهيم الكلمات هذا الإتمام قال الحق سبحانه لإبراهيم: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامٗاۖ) [البقرة: 124]. أي إنك يا إبراهيم مأمون على أن تكون إمامًا للناس في دينهم؛ لأنك أديت (افعل ولا تفعل) بتمام وإتقان. ولنرَ غيرة إبراهيم عليه السلام على منهج ربه، إنه لم يرد أن يستمر المنهج في حياته فقط؛ ولكنه طلب من الله أن يظل المنهج والإمامة في ذريته، فقال الحق سبحانه على لسان إبراهيم طالبًا استمرار الأمانة في ذريته: (وَمِن ذُرِّيَّتِيۖ) [البقرة: 124]. إن سيدنا إبراهيم قد امتلأ بالغيرة على المنهج وخاف عليه حتى من بعد موته؛ لكن الحق سبحانه وتعالى يُعلم الخلق جميعهم من خلال إبراهيم فيقول سبحانه: (لَا يَنَالُ عَهۡدِي ٱلظَّٰلِمِينَ ) [البقرة: 124]، أي أن المسألة ليست وراثة؛ لأنه سيأتي من ذريتك من يكون ظالـمًا لنفسه ويعدل في المنهج بما يناسب هواه، وهو بذلك لا تتوافر فيه صفات الإمامة. إن الحق يعلمنا قواعد إرث النبوة، إن تلك القواعد تقضي أن يرث الأنبياء من هو قادر على تطبيق المنهج بتمامه دون تحريف، والمثال على ذلك ما علمه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لسلمان الفارسي: «سلمان منا آل البيت».

إن سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم لم يقل لسلمان الفارسي (أنت من العرب) لا، بل نسبه لآل البيت، أي نسبه إلى إرث النبوة بما يتطلبه هذا الإرث من تطبيق المنهج بتمامه، لقد علم الرسول صلى الله عليه وسلم ما علّمه الحق سبحانه لسيدنا إبراهيم عليه السلام عن إرث النبوة، فليس هذا الإرث بالدم، إنما بتطبيق المنهج نصًّا وروحًا، كما تعلم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مما علّمه له الحق عن نوح عليه السلام، لقد وعد الحق نوحًا بأن ينجيه وأهله من الطوفان.

ويرى نوح عليه السلام ابنه مشرفًا على الغرق، فيتساءل (ألم يعدني الله أن ينجي أهلي؟) فينادي نوح عليه السلام ربَّه، بما أورده القرآن الكريم حين قال: (وَنَادَىٰ نُوحٞ رَّبَّهُۥ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ٱبۡنِي مِنۡ أَهۡلِي وَإِنَّ وَعۡدَكَ ٱلۡحَقُّ وَأَنتَ أَحۡكَمُ ٱلۡحَٰكِمِينَ٤٥) [هود: 45]، فيقول الحق ردًّا على طلب نوح نجاة ابنه: (قَالَ يَٰنُوحُ إِنَّهُۥ لَيۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَيۡرُ صَٰلِحٖۖ فَلَا تَسۡ‍َٔلۡنِ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۖ إِنِّيٓ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلۡجَٰهِلِينَ ٤٦) [هود: 46].

ولننظر إلى التعليل القرآني لانتفاء الأهلية عن ابن نوح عليه السلام ( إِنَّهُۥ لَيۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ)، لماذا؟ (إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَيۡرُ صَٰلِحٖ) إن الحق لم يقل (إنه عامل غير صالح) – الذاتية ممنوعة – لأن الفعل هو الذي يحاسب به الله؛ فالإيمان ليس نسبًا، ولا انتماءً لبلد ما، أو انتماءً لقوم ما، إنه العمل، فمن يعمل بشرع أيِّ رسول يكون من أهل هذا الرسول، إنَّ النسبة للأنبياء لا تأتي للذات التي تنحدر من نسب النبي، بل يكون الانتساب للأنبياء بالعمل الذي تصنعه الذات.
وفي موقع آخر يعلمنا الحق عن سيدنا إبراهيم موقفًا يصور رحمة الخالق بكل خلقه من آمن منهم ومن كفر. لقد طلب إبراهيم عليه السلام سعة الرزق لأهل بيته الذين جعل إقامتهم بمكة، كما جاء في الكتاب الكريم: (وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِ‍ۧمُ رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَٰذَا بَلَدًا ءَامِنٗا وَٱرۡزُقۡ أَهۡلَهُۥ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ مَنۡ ءَامَنَ مِنۡهُم) [البقرة: 126]. فهل استجاب الحق لدعوة إبراهيم برزق الذين آمنوا فقط من أهل مكة؟ لا، بل رَزَقَ المؤمن والكافر. وعلّم إبراهيم ذلك حينما قال له: (قَالَ وَمَن كَفَرَ
فَأُمَتِّعُهُۥ قَلِيلٗا ثُمَّ أَضۡطَرُّهُۥٓ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ) [البقرة: 126].

إن الرزق المادي مكفول من الحق لكل الخلق، مؤمنهم وكافرهم، والاقتيات المادي مكفول من قبل الله لأنه هو الذي استدعى المؤمن والكافر إلى هذه الدنيا. أما رزق المنهج فأمر مختلف، إن اتباع المنهج يقتضي التسليم بما جاء به دون تحريف. وهذا المنهج لم يتبعه أحد ممن جاؤوا بعد إبراهيم عليه السلام إلا القليل، فمن آمن برسالة موسى عليه السلام دون تحريف هم قلة.

ثم جاء عيسى عليه السلام برسالة تبعد بني إسرائيل عن المادية الصرفة إلى الإيمان بالغيب؛ لكن رسالة عيسى عليه السلام تم تحريفها أيضًا، وعلى ذلك فأولى الناس بإبراهيم عليه السلام هم الذين اتبعوا المنهج الخاتم الصحيح والمصفى لكل ما سبق من رسالات، وهؤلاء هم الذين آمنوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم. والله ولي المؤمنين جميعًا، من آمن منهم برسالة إبراهيم خليل الرحمن، إيمانًا صحيحًا كاملًا، ومن آمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم. َ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *