العدد 458-459 -

السنة التاسعة والثلاثون، ربيع الأول – ربيع الآخر 1446هـ الموافق تشرين الأول – تشرين الثاني 2024م

بيت المقدس بين معركة الحسم ومستقبل الخلافة الموعودة

رمزي راجح

 ولاية اليمن

إن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق، وفضَّل ما يشاء على من يشاء، فخلق الأرض وجعل من بيت المقدس وما حولها أرضًا مباركة يورثها جائزة لأنبيائه والصالحين من عباده؛ فقد كانت بيت المقدس وما حولها على مدار التاريخ في حياة الأنبياء صلوات الله عليهم محطة إيمانية عظيمة وجائزة للصبر والثبات على الحق، وكانت كذلك لرسولنا عليه الصلاة والسلام وللمؤمنين الصادقين معه، ولمن بعده.

فقد أكرم الحق تعالى بني إسرائيل بإنزالهم في بيت المقدس لما صبروا وأيقنوا بآيات الله التي جاءهم بها موسى عليه السلام. قال تعالى: (وَأَوۡرَثۡنَا ٱلۡقَوۡمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسۡتَضۡعَفُونَ مَشَٰرِقَ ٱلۡأَرۡضِ وَمَغَٰرِبَهَا ٱلَّتِي بَٰرَكۡنَا فِيهَاۖ وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ ٱلۡحُسۡنَىٰ عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ بِمَا صَبَرُواْۖ وَدَمَّرۡنَا مَا كَانَ يَصۡنَعُ فِرۡعَوۡنُ وَقَوۡمُهُۥ وَمَا كَانُواْ يَعۡرِشُونَ١٣٧).

وأكرم لوطًا وإبراهيم عليهما السلام بإنزالهما بيت المقدس بعد ثباتهما على الحق والإيمان، قال تعالى: (قُلۡنَا يَٰنَارُ كُونِي بَرۡدٗا وَسَلَٰمًا عَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ ٦٩ وَأَرَادُواْ بِهِۦ كَيۡدٗا فَجَعَلۡنَٰهُمُ ٱلۡأَخۡسَرِينَ ٧٠ وَنَجَّيۡنَٰهُ وَلُوطًا إِلَى ٱلۡأَرۡضِ ٱلَّتِي بَٰرَكۡنَا فِيهَا لِلۡعَٰلَمِينَ ٧١).

ولما كانت بعثة الإسلام، أكرم الحق تعالى سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم برحلة الإسراء إلى بيت المقدس والمعراج إلى السماوات العلا من المسجد الأقصى المبارك في بيت المقدس، فكانت بيت المقدس محطة إيمانية له ليرى من آيات ربه الكبرى وجائزة لصبره وثباته أمام تحديات الجاهلية الأولى. قال تعالى: (سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ١).

ثم أكرم الله تعالى المسلمين في عهد الخلافة الراشدة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكرمهم بفتح بيت المقدس وما حولها من أرض بيت المقدس؛ ذلك لأنهم ثبتوا على الحق وأخلصوا لدين ربهم وقاتلوا في سبيله لا يخافون في الله لومة لائم؛ فكانوا أهلًا لاستلام جائزة الثبات في أرض الله المقدسة.

وفي آخر الزمان أخبر الحق تبارك وتعالى أن بيت المقدس ستكون جائزة للمؤمنين المخلصين بإقامة دولة الخلافة الموعودة نزولها في بيت المقدس؛ حيث جاء في حديث حذيفة بن اليمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم«ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ»، وفي حديث آخر حدَّد مكان نزولها، فقال عليه الصلاة والسلام: «يَا ابْنَ حَوَالَةَ، إِذَا رَأَيْتَ الْخِلَافَةَ قَدْ نَزَلَتْ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ فَقَدْ دَنَتْ الزَّلَازِلُ وَالْبَلَايَا وَالْأُمُورُ الْعِظَامُ، وَالسَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ إِلَى النَّاسِ مِنْ يَدَيَّ هَذِهِ مِنْ رَأْسِكَ» رواه أحمد في مسنده.

وذكر ابن عساكر في تاريخه حديثًا مرفوعًا عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «هَذَا الْأَمْرُ كَائِنٌ بِالْمَدِينَةِ، ثُمَّ بِالشَّامِ، ثُمَّ بِالْجَزِيرَةِ، ثُمَّ بِالْعِرَاقِ، ثُمَّ بِالْمَدِينَةِ، ثُمَّ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَإِذَا كَانَتْ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فَثَمَّ عُقْرُ دَارِهَا، وَلَا يَخْرُجُ مِنْ قَوْمٍ فَيَعُودُ إِلَيْهِمْ» والمدينة هي القسطنطينية نسبة إلى حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلًا؛ قُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم«مَدِينَةُ هِرَقْلَ تُفْتَحُ أَوَّلًا، يَعْنِي قُسْطَنْطِينِيَّةَ» رواه أحمد.

وفي سطور سورة الإسراء جاءت البشرى التي نراها بـ»عين اليقين» في غزة هاشم؛ نراها شاهدة على زوال اليهود من بيت المقدس، ودخول المؤمنين المسجد الأقصى كما دخلوه أول مرة في عهد الخلافة الراشدة الأولى من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: (إِنۡ أَحۡسَنتُمۡ أَحۡسَنتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡۖ وَإِنۡ أَسَأۡتُمۡ فَلَهَاۚ فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ ٱلۡأٓخِرَةِ لِيَسُ‍ُٔواْ وُجُوهَكُمۡ وَلِيَدۡخُلُواْ ٱلۡمَسۡجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوۡاْ تَتۡبِيرًا٧).

لقد جاءت هذه الآية بالبشرى بأن جائزة المؤمنين في هذا الزمان ببيت المقدس بنزول الخلافة الراشدة الثانية قد باتت قاب قوسين أو أدنى، ولم يعد بين معركة الحسم وقيام دولة الخلافة الموعودة إلا موقف واحد لصنَّاع القرار من أصحاب القوة (بيعة الحكم)، وإن يومًا واحدًا تحت ظلال الخلافة على منهاج النبوة لتذوب معه كل المعاناة في لحظة واحدة.

والجدير التذكير به أن الخلافة الراشدة الموعودة ليست وعدًا فحسب مجردًا عن التكليف، كلا! بل هي فرض عظيم وتاج الفروض وقضية المسلمين المصيرية في صدارة معالي الأمور!

إن أعداءنا قد خبروا من تجربة الماضي أهمية دولة الخلافة عند المسلمين؛ لذلك وجهوا قدراتهم وأساليبهم الماكرة لهدم دولة الخلافة، وقد فعلوها حين هدموها في 3 من آذار عام 1924م، وما كانوا ليفعلوا لولا خونةُ العرب والترك والجمودُ الفكري الذي كان قد أصاب الأمة منذ منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، الأمر الذي هيأ للعملاء العبث بمشاعر الأمة باتجاه الخديعة والمكر حتى طال الأمد في غيابها من جراء الجمود الفكري الذي أوهن تفكير الكثيرين من أبناء الأمة على مستوى الأفراد والتكتلات، ناهيك عن الأنظمة العميلة والحكام المأجورين الذين كان لهم الأثر الأبرز في تضليل الأمة؛ طاعة لأسيادهم من قادة الكفر!!

قال تعالى: (يُرِيدُونَ لِيُطۡفِ‍ُٔواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَٰفِرُونَ٨). ولقد حق القول بأن مشروعًا بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل عصيًّا على الاندثار! فهل أتاك نبأ حزب التحرير الذي تسنَّم طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في إقامة دولة الخلافة الموعود قيامها في هذا الزمان وأعدَّ مشروعها؟ هل أتاك نبأ هذا الحزب المجدِّد الذي كانت نشأته الأولى في بيت المقدس من أرض فلسطين المباركة عام 1953م؟ هذا الحزب الذي لطالما كان واضحًا في دعوته، واعيًا على فكرته، مبصرًا لطريقته، وهاضمًا لقضيته، وهو منذ نشأته يمضي بثبات لا ينحني للعاصفة. حزب مبدئي؛ الإسلام مبدؤه والسياسة عمله، جعل غايته استئناف الحياة الإسلامية بإقامة دولة الخلافة الإسلامية، يستقي كل أفكاره وآرائه وأحكامه ومواقفه من الإسلام. ومن أجل تحقيق الغاية قام حزب التحرير ببناء تصور كامل ودقيق عن جوانب الحياة الإسلامية وعن دولة الخلافة الإسلامية… وهذا موجود في ثقافة الحزب وإصداراته؛ حيث نجد النظام الاقتصادي في الإسلام، والنظام الاجتماعي في الإسلام، وكذا نظام الحكم وسياسة التعليم وشكل الدولة وأجهزتها السياسة الداخلية والخارجية، والكثير غيرها مما يلزم لبناء حياة إسلامية كاملة الإسلام.

وبهذا التصور الواضح جدًّا، وللواقع الذي يريد الحزب إيجاده، يكون الحزب قد قدَّم تصورًا لأعظم مشروع إسلامي، وهذا ما افتقرت إليه الجماعات والحركات الإسلامية العاملة على الساحة؛ حيث إنها لم تطرح سوى شعارات غامضة الفكرة وارتجالية الطريقة، وتصورات متأثرة بالواقع المعاصر، ظهر التناقض في أبعاضها ظهورًا منكرًا… بخلاف حزب التحرير الذي وضع تصورًا متكاملًا للحياة الإسلامية والدولة الإسلامية، وكله مستمد من الكتاب والسنة وما أرشدا إليه من إجماع الصحابة والقياس الشرعي.

لقد حقَّ القول إن مسيرة الأمة اليوم هي مسيرة حزب التحرير الذي يقودها بمشروع ربه على ركائز الدعوة نفسها التي أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم البنيان عليها، وهي العقيدة باعتبارها القاعدة الفكرية لكل فكر، والدولة الإسلامية باعتبارها الطريقة الوحيدة لتطبيق مبدأ الإسلام، والجهاد باعتباره الطريق الشرعي الوحيد لحمل الإسلام إلى العالم.

إن هذه الركائز الثلاث: العقيدة، والخلافة، والجهاد هي ثمرة العملية الصهرية التي هي مشروع الحزب في الأمة.

لقد قطع حزب التحرير شوطًا طويلًا عادت الأمة من خلاله عودًا حميدًا، ومن جرَّاء الهزات التي أصابت الأمة، والأحداث التي حرَّكت فيها الإحساس الفكري بحقيقة الحكام العملاء، كحادثة طوفان الأقصى الذي أدرك المسلمون من خلاله أهمية كسر الحدود الوطنية وإسقاط عروش الأنظمة الحاكمة التي أعاقت جيوش الأمة عن القيام بدورها المنشود لنصرة أهلنا في غزة هاشم خاصة وأهل فلسطين عامة. هنالك بدأت الأمة تلتقي مع الحزب في طلب النصرة من المخلصين في جيوش الأمة لتمكين الإسلام بإقامة دولة الخلافة الراشدة الموعود نزولها في بيت المقدس، وإن حالة الجهوزية بين المسلمين وعزتهم والتفافهم حول العاملين للخلافة الإسلامية باتت أكثر مما مضى؛ إذ لم تعد تنطلي عليهم خطابات الحكام الماكرة المحبوكة بالخداع والكذب!.

ولم تعد تنطلي عليهم آراء الأحزاب التي كانت عبئًا على الأمة الإسلامية في مسيرة التغيير والنهوض؛ إذ إن آراء هذه الأحزاب قد باتت في مهبِّ الريح لا تنطبق على واقع الأمة الراهن. وقد كان طبيعيًّا أن تفقد هذه الأحزاب تأثيرها على الأمة بسبب إفلاسها الفكري ومشرعها الهجين؛ إذ في الحقيقة لم تكن تملك مشروعًا إسلاميًّا أصلًا!

وإنَّا لنرى أن حزب التحرير هو خير قائد وخير رائد نسير خلفه لاقتناعنا بصحة ما يعرض واستقامته وأصالته، وإنا لندعو أبناء الأمة جمعاء لاحتضان الحزب والعمل معه في اتجاه تحريك الجيوش لإتمام معركة الحسم التي يقودها أبطال غزة هاشم في أرض فلسطين المباركة وإقامة دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة الموعود نزولها في بيت المقدس، «فَثَمَّ عُقْرُ دَارِهَا، وَلَا يَخْرُجُ مِنْ قَوْمٍ فَيَعُودُ إِلَيْهِمْ» هذه جائزة الرحمن في آخر الزمان، فكونوا أهلًا لهذا الفضل والشرف، يا شرفاء الأمة الإسلامية!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *