العدد 457 -

السنة التاسعة والثلاثون، صفر 1446هـ الموافق أيلول 2024م

الحرب على غزة تكشف حقيقة الفكر الغربي وسياسات دوله!!

حمد طبيب

 بيت المقدس

لقد قيل قديمًا إن المواقف والأحداث هي التي تكشف معادن الرجال كما تكشف النار خبث الحديد، وقيل كذلك إن الأزمات والشدائد والمحن هي التي تكشف سياسات الدول، وحقيقة الأفكار التي تتبناها، ومدى صلاحيتها لرعاية البشر!

وهذا بالفعل ما جرى قديمًا في العالم الغربي ويجري اليوم في أحداث الحرب على غزة، تلك الحرب المسعورة الإجرامية الدائرة عليها، فهذه الحرب كانت الكاشفة لما تبقى من كذب وزيف وتضليل تمارسه الدول الكبرى التي تدَّعي الرقي الحضاري، وتطبيق الديمقراطيات والحريات وحقوق الإنسان، لدرجة أن الشعوب في بلاد الغرب، ممن يدين بالفكر الغربي، قد ضاقت ذرعًا بهذا الكذب والتضليل والخداع، فانتفضت أمام حكامها، وصارت تصرخ بأعلى صوتها: إنكم كاذبون، إنكم مضلِّلون، إنكم قتلة، إنكم تكيلون بمكيالين ولا تطبقون ديمقراطية، ولا حرية، ولا حقوق إنسان، بل إنكم قد فقدتم كل معاني الإنسانية والرحمة، وكل القيم والمبادئ!!

فكيف جرت أحداث هذه الحرب؟ وما هي حقيقة الدعم الغربي، وعلى رأسه أمريكا، لهذه الحرب التي يقودها كيان يهود؟ وكيف أثرت هذه الحرب في الشارع الغربي، فانقلب السحر على الساحر؟ وهل يمكن أن تؤدي مستقبلًا إلى تقويض هذا الفكر بشكل عام؟ وما هي حدود هذا الشرخ بين الشعوب، وعلى رأسهم الطلاب، وبين الساسة والقادة، خاصة وأن الغرب بشكل عام يشهد أزمة فكر قوية، وأزمات متعددة بسبب هذا الفكر، وعلى رأسها الأزمات الاقتصادية المتتابعة؟

وحتى نجيب على هذه الأسئلة يجب أن نضع الخط المستقيم بجانب الخط الأعوج لينكشف اعوجاجه وزيفه، ويظهر استقامة الخط الصحيح ونقاؤه، فقد «خَطَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا خَطًّا ثُمَّ قَالَ: هَذَا سَبِيلُ اللهِ، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ» ثُمَّ تَلَا: (وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ١٥٣).

ونريد أن نقف على هذه الحقيقة؛ انكشاف الفكر الغربي، وحقيقة تطبيقه أمام الشعوب في بلاد الغرب، وانكشاف سياسات الحكام وتضليلهم للشعوب تجاه الفكر الـمُتَّبع؛ وذلك من زوايا عدة لنرى زيف هذا الفكر وفساده، وعدم صلاحيته لرعاية الشعوب، وكيف أنه يتسبب بالمآسي والكوارث على وجه البسيطة، ومنها هذه الحرب المستعرة اليوم على رؤوس الناس في غزة هاشم تقتل البشر وتهدم الحجر، وتحرق الشجر، ولا تبقي ولا تذر من معاني الحياة والإنسانية، لا لشيء إلا لخدمة الأموال والمصالح الوضيعة، والمتع الفانية عند أصحاب الشركات من الرأسماليين في بلاد الغرب. وهذه الزوايا هي:

1- النظرة الحقيقية عند أصحاب الفكر الغربي في تعاملاتهم مع الشعوب على وجه الأرض.

2- كيفية تطبيق الغرب عمليًّا لهذه النظرة؛ في الحرب والسلم هذه الأيام، وعلى مدار العقود الماضية منذ تأسيسه.

3- الأساليب الوضيعة التي يتبعها السياسيون في الدول الغربية لتضليل الرأي العام في بلادهم؛ من أجل تمرير السياسات المصلحية عن طريق الحروب والاستعمار بأنواعه.

4- الأسباب الحقيقية والسياسات التي دعت حكومات الغرب لدعم كيان يهود في حربه على غزة، وأهداف هذه السياسات.

5- ما الذي دفع الشعوب في بلاد الغرب لتثور على السياسيين وأعمالهم، وتقف في وجههم بسبب الحرب على غزة؟

6- محاولات الرأسماليين الغربيين الفاشلة اليوم لمعالجة هذه الأزمة الواسعة في الجامعات وفي الشارع العام.

7- هل يمكن أن تكون هذه الأحداث في بلاد الغرب فاتحة خير لأمور منها: دخول الناس في دين الله أفواجًا، وسقوط آخر قلاع الفكر الغربي التي تغنّوا بها سنوات طويلة، وسقوط بعض الساسة أمام شدة المواجهة مع الحركة الطلابية، وتعزيز تمسك الناس في بلاد المسلمين بدينهم؛ ليكون ذلك دافعًا جديدًا يدفع في اتجاه عمل الشعوب لتحكيم الفكر الإسلامي الصحيح في حياتهم؟

أما الزاوية الأولى: وهي حقيقة الفكر الغربي، تجاه الشعوب في العالم كله وحقيقة نشوئه؛ فإنه جاء كردة فعل على الظلم الذي مارسه رجال الدين والكنيسة، أي أنه ضد الظلم، وضد التسلط وضد الفساد (حسب نظرتهم)، هذا ما نظر إليه دعاة الفكر الغربي، ووضعوا الأفكار الرئيسية من أجل تحقيق هذه الغاية، عندما تحرّروا من أفكار الكنيسة والناحية الدينية التي سبَّبت التسلُّط والظلم، وهذه الأفكار هي: الحرية ضد القيد والعبودية، الديمقراطية الإطار السياسي لتحقيق حرية الاختيار للحكام والرؤساء، حقوق الإنسان ضد سلب الحقوق الفردية من قبل الكنيسة، ولتحقيق الديمقراطية والحرية في المجتمع، ولتنمية وتعزيز الجانب الخيِّر في الإنسان ضد الجانب الشرِّير، حسب زعمهم…

لكن المفاجأة كانت أن الظلم القديم (ظلم الكنيسة) قد استبدل به ظلم جديد هو ظلم الرأسماليين الكبار الذين سخّروا الأفكار لخدمة الشركات والمصالح الخاصة، فصارت البلاد الغربية كلها تتحكم بها طبقة لا تتجاوز 2%، بمعنى أن الظلم القديم استبدل به ظلم جديد أكبر منه وأشدّ وأوسع. إضافة لذلك فإن الحريات والديمقراطيات وحقوق الإنسان التي سطّرها الفكر الغربي صارت رهينة لهؤلاء الرأسماليين الكبار لتحقيق مصالحهم الفردية. وليس أدلّ على ذلك من هذا الظلم والاعوجاج الذي يمارسه الحكام الرأسماليون من طبقة الواحد بالمئة في الحرب على غزة؛ لتحقيق أهداف سياسية في منطقة الشرق الأوسط، لدرجة أن الشعوب ضاقت ذرعًا، وشاهدت الأمور على حقيقتها، فثارت ولم تهدأ، وصارت تطالب بالالتزام بالفكر الديمقراطي والحريات وحقوق الإنسان، كما وُضعت له في البداية. وصارت تطالب الرؤساء بعدم الكيل بمكيالين، كما تفعل أمريكا ودول الغرب الآن في موضوع التعامل مع الحرب على أوكرانيا والحرب على غزة!!

إن النظرة الحقيقية عند الشعوب الغربية للشعوب الأخرى هي نظرة مبنية على الفكر الذي تحمله (الديمقراطية، والحريات، وحقوق الإنسان)، لكن الحاصل أن السياسيين، وأصحاب المراكز في بلاد الغرب لا يطبقون هذا الفكر حتى داخل موطنه. وهنا نحن لسنا بصدد الدفاع عن هذا الفكر، أو تصويبه أو إبراز أخطائه، ولكننا بصدد الكذب الذي يمارسه السياسيُّون من أصحاب طبقة الواحد بالمئة، حتى داخل حدود تلك الدول. يقول الباحث عبد الوهاب المسيري في كتاب (العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة): «لقد بذل الغرب جهده في تطوير آليات لتفكيك الدول القومية في العالم الثالث؛ حتى يسهل له سلب سيادتها القومية، مثل هيئة الأمم المتحدة، والبنك الدولي، والجمعيات المدنية غير الحكومية». ويقول الباحث الفرنسي جان كلود غيبو، صاحب الكتاب الشهير (ولادة عالم جديد): «إن الأصولية السائدة في الغرب حاليًا تكمن في هيمنة الفكر العَلْمَوي الوضعي التكنولوجي البارد الذي ينكر حتى إنسانية الإنسان، بل ويختزل هذا الفكر الوضعي المتطرف في علمويَّته الإنسان إلى مجرد عناصره الأولية، وقوانينه الفيزيائية وتفاعلاته البيولوجية-الفيزيولوجية. فهو لا يعترف بأي تعالٍ مثالي أو روحاني رباني يتجاوز الماديات. وهذا تيار خطر فعلًا، بل ولا يقل خطورة عن تيار الأصولية الدينية، وإنْ كان بشكّل مختلف أو معاكس».

فهناك انفصام كامل وبائن بين ما سطره الغرب من أفكار الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان، في مؤسساته، وعلى رأسها الأمم المتحدة، وبين ما هو مشاهد محسوس في أرض الواقع، وليس أدل على ذلك من الحروب الطاحنة التي شنها الغربيون على بلاد الإسلام؛ من أجل الثروات والبترول والهيمنة السياسية، وكيف أن الغرب هدد الجزائر بالاحتلال سنة 1989 عندما وصل الإسلام، بالديمقراطية التي يدعيها، إلى الحكم، وكيف أنه بدأ أولى خطواته الديمقراطية بعد ثورات التحرر باستعمار الشعوب عسكريًّا، وكيف أنه يضطهد الطلاب في الجامعات بسبب تعبيرهم عن رأيهم تجاه ما يجري في غزة!

أما الزاوية الثانية، وهي كيفية تطبيق هذا الفكر عمليًّا في الواقع، فإن الغرب، كما ذكرنا، أساس النظرة عنده مادية، ولا يبالي بالأفكار إلا بقدر ما تخدم هذه الناحية. فالدول في بلاد الغرب قد اتخذت الاستعمار طريقة لتحقيق المكاسب والمنافع المادية، وليس لخدمة الديمقراطية وحقوق الإنسان. والشركات ومن يمثلها من السياسيين قد سخروا المنظمات الراعية للفكر الغربي كهيئة الأمم المتحدة طوال السنوات السابقة، في الحرب والسلم، من أجل هذه الغاية. فدول أوروبا ومن ثم معها أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية، لم تقم أبدًا بخدمة الديمقراطية أو حقوق الإنسان، أو حتى الحريات خارج أرضها أو في أرضها، بل إنها كانت تخدم طموح الشركات الكبرى والرأسماليين. فالاستعمار العسكري في أواسط القرن الماضي لم يكن أبدًا طريقة لحفظ الديمقراطيات ودعمها في العالم الثالث، بل كان من أجل السيطرة على الثروات والأسواق، والحروب التي خاضتها أمريكا، ومعها دول أوروبا أيضًا، سواء أكانت في العراق وأفغانستان أم في غيرها، كانت كذلك لخدمة الرأسماليين، وربما كشفت اعترافات بعض السياسيين عن الذريعة الخاطئة في هذه الحرب قول الكاتب بشير الأنصاري في مقال بعنوان (من ديمقراطية الاحتلال، إلى احتلال الديمقراطية)، نشر على موقع الجزيرة نت بتاريخ 20/4/2010م: «النخب السياسية الأمريكية في الحزبين الجمهوري والديمقراطي، رغم اختلافهم على بعض الأمور، فإنهم متفقون على اتخاذ «ترويج الديمقراطية» وسيلة لتمرير المشاريع، وإضفاء الشرعية على سياسات الهيمنة في دول العالم الثالث، وفي مقدمتها دول الشرق الأوسط والعالم الإسلامي؛ لأن شعار ترويج الديمقراطية يمكن أن يخدع الجماهير الغربية في الداخل ويبرر الاحتلال في نظر الشعوب، كما أنه يمكن أن يساعد قوات الاحتلال في الوصول إلى القلوب والعقول».

والدعم الذي يلقاه كيان يهود من قادة الدول الغربية في أمريكا وأوروبا ينسف كل الفكر الديمقراطي، وينسف حتى قرارات الأمم المتحدة التي تنادي بحقوق الإنسان ومحاربة احتلال الدول للشعوب. فالأمم المتحدة تنادي بحق تقرير المصير وزوال الاحتلال، وعودة من نزحوا وهُجِّروا من أرضهم، ولكن الدول الكبرى تدعم هذا الاحتلال في قهر الشعوب وتقف في وجه أي قرار يدين كيان يهود.

ولم يقف الأمر عند ذلك، بل صار الغرب يختلق الذرائع من أجل تضليل الشعوب في أوروبا وأمريكا لتسخير البلاد والعباد في حروب وصراعات خارجية، فقط لخدمة الرأسماليين؛ كما حصل في قيادة الغرب نحو أفغانستان والعراق في حرب مدمرة لكل معاني الديمقراطية وحقوق الإنسان!!

أما في داخل أمريكا، فإن الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات لا تطبق إلا بقدر ما تخدم الرأسماليين وسياساتهم وإذا اصطدمت معها فإنهم يتجاهلونها أو يعادونها، والدليل على ذلك ما حصل أخيرًا في الجامعات. يقول الكاتب كوين سلوبديان في كتابه الشهير (رأسمالية متصدعة): «إن طموح راديكاليي السوق، الذي يفوق كل شيء آخر، في استغلال حقوق العمال والمواطنين، وعدم الاستقرار السياسي، والقيود على تدفق رأس المال، ووضع موارد الدولة، سواء أكانت البشرية أم الأراضي أم النظام القضائي، تحت تصرفهم…» ويقول في موضع آخر عندما تحدَّث عن الديمقراطية، ومدى تطبيقها عند هؤلاء المتنفذين: «يطبق راديكاليو السوق في المجتمعات الغربية ملامح الجَبْرية العميقة بشأن الديمقراطية، وأحيانًا الازدراء الصريح لها المترسخة في قرارة الكثير من هؤلاء الراديكاليين…).

الزاوية الثالثة، وهي الأساليب الوضيعة التي يتبعها السياسيون في الدول الغربية لتضليل الرأي العام في بلادهم؛ فالرأسماليون يتبعون سياسات الكذب والتضليل من أجل تمرير سياساتهم. ومثال ذلك مسألة الإرهاب التي ضلّلت أمريكا ودول أوروبا بها شعوبهم من أجل تبرير الحرب على أفغانستان والعراق سنة 2003م.

يقول الدكتور غانم علوان الجميلي، سفير العراق الأسبق لدى اليابان في صحيفة آراء حول الخليج 4/3/2020م: «لقد قامت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية بتسويق الموقف الأمريكي من الحرب على العراق، وتضليل الرأي العام بامتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، وعلاقة العراق بالإرهاب الذي ضرب الولايات المتحدة سنة 2001».

وفي عام 1975م، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة، قرارًا يقضى بأن الصهيونية شكل من أشكال التمييز العنصري، وهو ما يتطلب مقاومة الأيديولوجية الصهيونية، لما تمثِّله من خطر على السلم والأمن الدوليين. وفي كانون الأول/ديسمبر عام 1991م، تمكن كيان يهود بدعم من حلفائه بإلغاء هذا القرار.

ومن الأمثلة أيضًا فكرة معاداة السامية في أحداث الجامعات في أمريكا؛ حيث قالت جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 22 نيسان/أبريل 2024م، تحت عنوان (بايدن يدين معاداة السامية في الجامعات): «أدان الرئيس الأمريكي جو بايدن معاداة السامية في حرم الجامعات ببيان أصدره مساء الأحد، بمناسبة الاحتفال بعيد الفصح اليهودي كتقليد يتبعه البيت الأبيض». ففكرة معاداة السامية اختلقها الغرب مرة للدفاع عن اليهود ومرة لاتهامهم! ففي الأحداث التي حصلت لليهود في ألمانيا قالوا إن ألمانيا تعادي السامية؛ ولكن عندما أصدر بعض قادة اليهود في أوروبا، بالتآمر مع الغرب، ما يسمى كذبًا (بروتوكولات حكماء صهيون)، صاروا يتهمون اليهود بمعاداة السامية كمقدمة لترحيلهم خارج أوروبا!!

وكذلك من الأمثلة على التضليل للرأي العام في أمريكا وأوروبا تصوير روسيا بأنها وحش يريد افتراس أوروبا، وأن هزيمة أوكرانيا تعني هزيمة أوروبا وامتداد الخطر إليها. يقول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في مقابلة تلفزيونية موجهة بتاريخ 15/3/2024م: «إن على أوروبا الاستعداد للرد إذا صعَّدت روسيا حربها»، ورأى أن انتصار روسيا في أوكرانيا «سيقضي على مصداقية أوروبا». وتابع يقول: «إن أوكرانيا في وضع «صعب» على الأرض، وإن الدعم الأقوى من الحلفاء ضروري». وأضاف أن «السلام لا يعني استسلام أوكرانيا… الرغبة في السلام لا تعني الهزيمة. والرغبة في السلام لا تعني التخلي عن أوكرانيا»!.

الزاوية الرابعة: الأسباب الحقيقية، والسياسات التي دعت حكومات الغرب لدعم كيان يهود في حربه على غزة، فهناك ذرائع معلنة لشعوب الغرب، وللسياسيين والمفكرين، لأسباب دعم الغرب لكيان يهود، منها ما اختلقه الغرب، ومنها ما يروِّج له قادة يهود وينشرونه عبر العالم. من هذه الذرائع أن حركة حماس حركة إرهابية مدعومة من الإرهاب العالمي خاصة من إيران وحزبها اللبناني، وهي تهدف إلى القضاء على كيان يهود، فقد صرح الرئيس الأمريكي بايدن بعد أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023م، في خطاب موجَّه للشعب الأمريكي بتاريخ 11/10/2023م بالقول: «تحدثت هذا الصباح مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عن الهجمات المروِّعة والمستمرة في (إسرائيل). تدين الولايات المتحدة بشكل صارم هذا الهجوم المروِّع ضد (إسرائيل) الذي شنّه إرهابيو حماس من غزة، وقد أوضحت لرئيس الوزراء نتنياهو أننا على استعداد لتقديم جميع وسائل الدعم المناسبة لحكومة (إسرائيل) وشعبها. فالإرهاب غير مبرَّر على الإطلاق».

أما الأسباب الخفية أو الحقيقية من دعم الغرب لهذه الحرب، فإنها تدور حول حقيقة ضرورة وجود كيان يهود واستمراريته؛ من أجل المحافظة على مصالح الغرب، ومنها العمل على الحيلولة دون نشوء أية دولة ترتبط بالإسلام مستقبلًا، والتحرك السريع لقتالها في حال نشوئها. وهناك أسباب أخرى مرتبطة بالاستعمار السياسي والسيطرة على الشرق الأوسط، وضمان توريد الطاقة إلى الغرب وحراسة الممرات والطرق البحرية والبرية بين الشرق والغرب، وضمان الأسواق لصناعات الغرب. يقول الكاتب التركي إرمين سينانوفيتش في مقال نشر بتاريخ 28/12/2023م، على موقع الجزيرة نت: «ليست (إسرائيل) هي التي «تسيطر» على الغرب بطريقة أو بأخرى، بل الدول الغربية هي التي تستخدم (إسرائيل) لتحقيق مكاسب سياسية واستراتيجية خاصة بها. وتجدر الإشارة إلى أن القانون الدولي لم يكن ينطبق على القوى الاستعمارية آنذاك، ولن ينطبق على (إسرائيل) في الوقت الراهن».

الزاوية الخامسة: ما الذي دفع الشعوب في بلاد الغرب لتثور على السياسيين وأعمالهم، وتقف في وجههم؟

في الحقيقة هناك أسباب عدة دعت الشعوب، خاصة النخب المثقفة، للثورة في وجه حكامهم، سواء في أوروبا أم أمريكا أم غيرها، منها:

أولًا: فساد الفكر الرأسمالي، وانعكاس هذا الفساد على أمور حياتية عدة في أرض الواقع، منها على سبيل المثال لا الحصر الأزمات الاقتصادية المتتابعة، خاصة الأزمة التي حصلت سنة 2008م وما زالت آثارها حتى اليوم.

الأمر الثاني: هو الكذب والتضليل الذي يمارسه السياسيون، وذلك في أمور لم تعد تنطلي على الفئات المثقفة؛ وذلك مثل مسألة معاداة السامية والإرهاب التي يلصقونها بحركة حماس مثلًا، أو فكرة معاداة السامية ضد الحراك الطلابي في جامعات أمريكا.

الأمر الثالث: الكيل بمكيالين، وسياسة البراغماتية الهابطة التي تبرر الأعمال والغايات، حتى لو تخطَّت المبادئ والأفكار، ومثاله اتهام روسيا بالاعتداء على أوكرانيا، وعدم اتهام كيان يهود مع أن الأمر في اعتداء يهود أوضح وأكثر دلالة!

الأمر الرابع: الانتهاك الصارخ لحقوق الإنسان، في طريقة تعامل يهود مع أهل غزة، وغض الطرف من العالم عن هذه الانتهاكات في أكثر من صورة منها التجويع والقتل والتضييق. وزاد الطين بلة تأييد الساسة الغربيين، وعلى رأسهم رؤساء أمريكا، وقد ظهر ذلك في اصطفاف هؤلاء الساسة يدافعون عن كيان يهود، ويُفشلون أكثر من قرار في مجلس الأمن لإدانته، مع أن هؤلاء الساسة هم من دعاة حقوق الإنسان داخل هذه المؤسسات الدولية!

الأمر الخامس: هو تسخير جزء من طاقات أمريكا الاقتصادية، وطاقة الجامعات في خدمة كيان يهود. وقد برز هذا الأمر في دعوة هؤلاء الطلاب إلى فك الشراكات بين الجامعات، وبين بعض المؤسسات التي تدعم النواحي العسكرية عند كيان يهود.

الزاوية السادسة: محاولات الرأسماليين الغربيين اليوم لمعالجة هذه الأزمة الواسعة في الجامعات.

هناك محاولات عدة لمعالجة الأزمة الحاصلة اليوم في الجامعات. وبالرغم من ذلك فإنها تزداد وتتسع، وتخرج إلى دول أخرى خارج الولايات المتحدة ومن هذه المحاولات الفاشلة:

1- استخدام القوة المادية: فقد أعرب مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات الأمريكي، في بيان صدر عنه في يوم 7/5/2024م، عن قلقه البالغ إزاء الإجراءات غير القانونية التي اتخذتها السلطات الأمريكية بحق طلاب الجامعات المحتجين على السياسات الأمريكية الداعمة لكيان يهود، والجرائم التي ترتكب بحق الفلسطينيين في قطاع غزة. وأكد البيان أن «حرية الرأي والتعبير من الحقوق والحريات الأساسية التي تُحتمها طبيعة النظام الديمقراطي، وهي ركيزة مهمة من ركائز الحكم الديمقراطي السليم، كونها حجر الزاوية الذي لا غنى عنه في تعريف المواطنين خاصة، والرأي العام عامة، بكل ما يشهده المجتمع من أحداث سياسية واقتصادية واجتماعية من جهة، ولإتاحة الفرص لجميع المواطنين للمساهمة بالرأي في تسيير شؤون البلاد من جهة ثانية».

2- التضليل الإعلامي والسياسي والفكري في تصوير هذه الاحتجاجات بأنها خارجة عن القانون وتهدد الديمقراطيات، وتدعم الإرهاب. يقول الكاتب البريطاني وأستاذ الشؤون الدولية في جامعة جورجيا، كاس مود، في مقال نشر في صحيفة الغارديان البريطانية في 1/5/2024م بعنوان (لماذا تواجه الجامعات الأمريكية موجة قمع في أرض الحريّة؟): «إن اليمين المتطرف صوّر الجامعات على أنها «بؤر للمتعاطفين مع الإرهاب ومعاداة السامية» و»تهديد للقيم الأمريكية» الأساسية مثل حرية التعبير» ودعا رئيس مجلس النواب الأمريكي مايك جونسون جامعة كولومبيا، ورئيسة الجامعة إلى الاستقالة إذا لم تستطع السيطرة على الاحتجاجات التي نشرت «فيروس معاداة السامية» للجامعات الأخرى على حد تعبيره!.

ومن التضليل كذلك التفسيرات الخاطئة للديمقراطية والحرية؛ حيث قام سياسيون عدة بنعت الأفعال الحاصلة في الجامعات بأنها اعتداء على حقوق الآخرين؛ بتعطيل الدراسة والسيطرة على حرم الجامعات.

ومن التضليل الإعلامي استخدام مصطلح معاداة السامية، وهو نوع من التضليل حيث عمد بايدن إلى استخدام هذه السياسة كما ذكرنا في الزاوية الثالثة.

الزاوية السابعة: هذه الأحداث التي حصلت في جامعات الغرب قد بدأت تؤتي ثمارها في أكثر من أمر لخدمة الأمة الإسلامية وفكرها وعملها للنهوض والتغيير داخل الغرب وفي بلاد المسلمين. ومن هذه الأمور التي خدمت العمل في طريق نهضة الأمة الإسلامية:

1- دخول الكثير من الغربيين في دين الإسلام بسبب ما يجري للرأسمالية وفكرها من تجاوزات وتبريرات، وبسبب سياسة الدول المبنية على هذا الفكر الهابط، وبسبب متابعتهم لما يجري من حرب على الإسلام والمسلمين، خاصة الحرب المستعرة اليوم في غزة هاشم. فقد ذكر أحمد منصور الإعلامي في قناة الجزيرة، في مقال على صفحته بعنوان: (الجانب الآخر لحرب غزة) بتاريخ 2/12/2023م: «لم نشهد في فرنسا طيلة 40 عامًا إقبالًا على الدخول في الإسلام؛ لا سيّما من فئة الشباب والفتيان الفرنسيين؛ كما نراه الآن منذ حرب غزة، فقد ارتفعت الأعداد الرسمية للمسلمين الجدد من 80 في اليوم إلى 400 الآن في بعض الأحيان، ولا يقل العدد عن ثلاثمائة مسلم فرنسي جديد كل يوم». وهذا يعني وفقًا لكلامه أن عدد من دخلوا الإسلام في فرنسا وحدها، على أقل تقدير، منذ اندلاع طوفان الأقصى، وخلال ما يقرب من شهرين حوالى 20 ألف شخص أغلبهم من الشباب. وقس على ذلك بنسب متقاربة العشرات من الدول الغربية.

2- سقوط القناع عن آخر حصون الرأسمالية وقواعدها الفكرية، منها الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان. فقد أوردت صحيفة القدس العربي مقالًا بعنوان: (قراءة في الحراك الطلابي الأمريكي) بتاريخ 24/5/2024م، جاء فيه: انكشاف شعارات احترام الحقوق والحريات العامة؛ فكما كشفت حرب غزة عن مدى نفاق المجتمع الغربي الرسمي، وتوظيفه لقضايا ومآسي الشعوب في ما يخدم مصالحه؛ بمعزل عن أي أطار قانوني أو حقوقي أو إنساني، فإن الحراك الطلابي في أمريكا أبان الهوة الساحقة بين شعارات احترام الحقوق والحريات العامة؛ وعلى رأسها حرية التعبير، وبين واقع القمع والعنف والطرد والحرمان من الحقوق الجامعية، وعسكرة الجامعات، وفصل ومحاكمة أساتذة الجامعات والاعتقالات، الذي قوبل به هذا الحراك، وبشكل لا يختلف عما تفعله أعتى الدول الديكتاتورية الذي طالما انتقدته الولايات المتحدة الأمريكية».

3- الانفصام وعدم الثقة بسياسة هؤلاء الساسة بسبب أكاذيبهم. يقول الكاتب رضا شنوف في مقال بعنوان: (الحراك الطلابي: ثورة غير مسبوقة في الولايات المتحدة) بتاريخ 27/4/2024م: «من بين المؤشرات التي تبيّن أن الإدارة الأمريكية اليوم في ورطة، هو أن هذا التحول الديمقراطي في الوسط الطلابي يبدو أنه لا يتوافق تمامًا ومخرجات السياسة الخارجية الأمريكية التي هي بدورها لا تمثّل فلسفة تأسيس الأمة الأمريكية، ومنه كون الحدث ينبع من كبريات الجامعات الأمريكية، والتي لها صدى دولي كبير من شأنه أن يؤثر مباشرة على مخرجات الكونغرس والإدارة الأمريكية». وفي مقال نشر على الجزيرة نت بتاريخ 11/5/2024م، بعنوان: (الحراك الطلابي بأمريكا.. محاولات لردع جنون السياسة) للكاتب سامي العريان، الأستاذ السابق في جامعة فلوريدا، جاء فيه: «فرضت الإدارات الأمريكية المتعاقبة عقوبات على العديد من الدول، بينها روسيا وإيران وفنزويلا وكوريا الشمالية والصين، بذريعة انتهاكات مزعومة لحقوق الإنسان في هذه البلدان. لكننا نرى اليوم أن الولايات المتحدة تتجاهل عمدًا الانتهاكات (الإسرائيلية) الجسيمة ضد الفلسطينيين، الذين يعانون على مدى عقود تحت وطأة الاحتلال (الإسرائيلي) الوحشي».

4- ازدياد تمسك المسلمين بدينهم بسبب انكشاف الفكر الغربي الهابط؛ حيث إن هذه الأحداث التي جرت وما زالت تجري في الجامعات الغربية قد عززت تمسك المسلمين بدينهم، خاصة أن المسلمين قد انبهروا بشكل كبير خلال السنوات الفائتة بالفكر الغربي من ديمقراطية وحرية وحقوق إنسان؛ لكن هذه الأحداث قد أسقطت كل هذا الانبهار وجعلت الناس يقفون ويتفكرون في حقيقة هذا الفكر، وحقيقة التباين ما بين الساسة وعامة الناس. جاء في مقال نشر في مجلة فورين أفيرز بعنوان: (ماذا لو سقطت الديمقراطية في الولايات المتحدة؟): «إن الولايات المتحدة تواجه اليوم حركة متنامية مناهضة للديمقراطية، ليس فقط من صفوف المتطرفين المهمشين، ولكن أيضًا من مجموعة كبيرة من أصحاب المناصب العليا التنفيذية في الإدارة الأمريكية، وهي حركة تتحدى أسس الديمقراطية الانتخابية ذاتها. وفي حالة نجاح هذا الجهد، يمكن أن تصبح الولايات المتحدة أول ديمقراطية صناعية متقدمة تفشل في الثبات على مبادئ الديمقراطية أي أنها لن تلبي الحد الأدنى من الشروط لإجراء انتخابات حرة ونزيهة كما يحددها علماء السياسة وغيرهم من علماء الديمقراطية». ويحذر كاتب المقال فيقول: «إن فشل الديمقراطية الأمريكية سيكون كارثيًا؛ ليس فقط على الولايات المتحدة، وإنما سيكون له أيضًا عواقب عالمية عميقة، في وقت أصبحت فيه الحرية والديمقراطية تحت الحصار بالفعل، كما أشار هنتنغتون).

وفي الختام نقول: إن هذه الأحداث الجارية اليوم في بلاد الغرب، خاصة الحركة الطلابية، إنما هي سوسة تنخر العظم في هيكل هذا النظام المتهالك، وهذه السوسة تقوى وتتسع وتكبر، وتوشك أن توقع هذا الهيكل الخاوي أرضًا، بعد أن تساقطت الكثير من أوراقه عن شجرته الخاوية، وتعرَّت عنه كل الغطاءات والستائر والحجب. فها هي آخر قلاعه تتهاوى (الحريات وما انبثق عنها)، ويظهر الانفصام الكامل بين الساسة وأهدافهم وغاياتهم، وبين الشعوب المقهورة والمسخَّرة في خدمة هؤلاء الساسة، وذلك بعد أن سقط الكثير من مفاصل الفكر الاقتصادي، مثل حرية السوق أو سياسة السوق، في الأزمة التي حصلت سنة 2008م. وإن هذا كله ليذكرنا بما حصل مع سلفه، الفكر الاشتراكي، عندما بدأت السوسة تنخر في أوصاله، ثم سقط أرضًا وتحطَّم على صخرة صماء.

وهذا الواقع وهذه الأحداث المتسارعة لتبشر بأمرين:

الأول: قرب انهيار هذا النظام نهائيًّا والكفر به من قبل أتباعه، وقد ظهرت إشارات تدلل على ذلك في أحداث الجامعات، منها تنامي إقبال الناس على الإسلام، ومنها اتهام الفكر الرأسمالي بعدم حماية الحريات وحقوق الإنسان، وعدم وجود منهج أو آلية لتحقيق هذا الفكر في الواقع وحمايته، وحماية سلامة تطبيقه. وهذا يدل على نقص في هذا الفكر.

الثاني: صعود الفكر الرباني السامي ليأخذ مكانه بدل هذه الأفكار الهابطة. وقد ظهر ذلك كما ذكرنا في تعزيز ثقة الناس في بلاد الإسلام بدينهم بعد سنوات من الانبهار بالفكر الغربي وسياساته وسياسييه.

وأخيرا نختم بقول المولى عز وجل؛ حيث يقول في محكم تنزيله: (أَفَمَنۡ أَسَّسَ بُنۡيَٰنَهُۥ عَلَىٰ تَقۡوَىٰ مِنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٍ خَيۡرٌ أَم مَّنۡ أَسَّسَ بُنۡيَٰنَهُۥ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٖ فَٱنۡهَارَ بِهِۦ فِي نَارِ جَهَنَّمَۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ ١٠٩ لَا يَزَالُ بُنۡيَٰنُهُمُ ٱلَّذِي بَنَوۡاْ رِيبَةٗ فِي قُلُوبِهِمۡ إِلَّآ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ١١٠).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *