العدد 456 -

السنة التاسعة و الثلاثون،  محرم 1446هـ الموافق آب 2024م

حرب غزة تضع أزمة القيادة في الأمة الإسلامية فوق الطاولة

عصام الشيخ غانم

قبل اندلاع حرب يهود على غزة في تشرين الأول/أكتوبر 2023م، لم يكن العامة من أبناء الأمة الإسلامية يشاهدون درجة انحطاط القيادة في الأمة الإسلامية، وكان كثير من الناس لا يتصوَّرون قيادة للأمة الإسلامية إلا في نطاق النظام الدولي القائم، فكان البعض يرى في بعض الحكام أملًا لهم بالدفاع عن الشعب أو الأمة، وبعضهم الآخر يرى الأمل في بعض قيادات التنظيمات الإسلامية «المعتدلة» التي تبرز عبر وسائل الإعلام، إلا أن حرب يهود على غزة وشدة إجرامهم قد كشفت عن أزمة عميقة للقيادة في المنطقة الإسلامية، وقد تمثَّل ذلك في مظهرين انقشعا بشكل ساطع بعد الحرب على غزة:

المظهر الأول تمثَّل في حكام لا حول لهم ولا قوة، فرغم أعداد السكان الكبيرة لدول مثل تركيا ومصر وباكستان وغيرهم إلا أن كلمتهم على الساحة الدولية في التأثير على الحرب في غزة كانت صفرًا مكعبًا، فتحدث الرئيس التركي أردوغان عن تركيا كدولة ضامنة لغزة، أي عن جاهزيتها لمنع أهل غزة من إطلاق النار على كيان يهود، وتحدث قائد الجيش الباكستاني عاصم منير عن «حل الدولتين»، أي أنه يرى الحل في صيغة «أمريكية» لتثبيت كيان يهود، وأما رئيس مصر السيسي فقد فاقهم جميعهم إذ عجز عن إدخال أي شاحنة مساعدات لغزة التي فرض يهود عليها الجوع إلا بإذن يهود، فكانت مواقف هؤلاء الحكام تحلُّ كوقع الصاعقة في أذهان المسلمين، فهؤلاء عجزوا عجزًا تامًا أن تكون لهم كلمة مسموعة عند يهود أو عند أمريكا لإيقاف الحرب، فضلًا عن أن الأمة رأت عمالتهم لأمريكا رأي العين، وأنهم يتصرَّفون ويُعربون عن مواقفهم بعد استشارة أمريكا، ولا يخرجون عن نطاقها، فأمريكا تعتبر أن أهم مسألة في الحرب على غزة هي «المحتجزين اليهود» في غزة؛ لذلك كانت جهود مصر وقطر جنبًا إلى جنب مع جهود أمريكا لإطلاق سراح هؤلاء المحتجزين والضغط على حماس في هذا الجانب على أمل أن يوافق يهود على وقف الحرب ولو مؤقَّتًا، وأمريكا تريد البحث في اليوم التالي للحرب؛ لذلك أخذ هؤلاء الحكام يضغطون على حماس للدخول في منظمة التحرير وترك الحكم في غزة وإقناع حماس بأن أي مستقبل سياسي لها هو في إطار منظمة التحرير التي تعلن استسلامها ليهود ووضع أجهزة أمن السلطة في خدمة يهود والتفاوض معه على شيء من فلسطين عسى أن يقبل يهود ولو بعد عقود.

وهكذا اكتشف الناس للمرة الأولى بهذه الدرجة من الوضوح بأن هؤلاء الحكام قد قادوا الأمة لهذه الدرجة شديدة الانخفاض من القيمة السياسية والدولية، فكأن هذه الدول غير موجودة، هذا ناهيك عن كونهم عملاء وأتباعًا للغرب وخونة ويعملون بشكل مباشر ضد مصالح شعوبهم. ويمكن القول بأن حرب غزة قد نتج عنها سقوط الحكام عند آخر شريحة من الناس كانت تأمل بهم خيرًا من داخل الأحزاب الحاكمة والمؤيدين وأصحاب المصالح وضباط الجيش، وأن هذه الشريحة قد عمَّقت حرب غزة قناعتها بأنه لا طائل من الوقوف مع هؤلاء الحكام وتأييدهم لأنهم صفر المنزلة ولا يملكون رغم تبعيتهم وعمالتهم أي تأثير على يهود وعلى أمريكا، فهم على درجة من الضعف السياسي لم يكن يتخيلها هؤلاء الناس.

وبهذا الواقع الجديد الناتج عن حرب غزة فإن هالة الزعامة وفكرة القبول بقيادة هؤلاء الحكام قد سقطت لدى الشريحة التي كانت تؤيدهم من الضباط والجنود والمدراء والموظفين في الوزارات ومن أتباع الأحزاب الحاكمة، وصار هؤلاء ينتظرون الخلاص من هذه الزعامة المنحطة والقيادة الضعيفة والبائسة. وقد يقول قائل بأن الكثير من هؤلاء منتفعون لذلك سيحافظون على ولائهم لهؤلاء الحكام؛ لكن القول الأصح بأن حرب غزة قد مثَّلت نموذجًا حين شاهد كل هؤلاء بأن المؤيدين لسلطة عباس في غزة يُقتلون وتُهدم بيوتهم فوق رؤوسهم مثلهم مثل باقي أهالي القطاع؛ فغرس ذلك في أذهان أتباع الحكام العرب والمسلمين بأن الدائرة يمكن أن تنقلب عليهم بسهولة، وأن هؤلاء الحكام عاجزون بشكل أكيد عن إنقاذهم، وهذا شعور خطير يجعل المنفعة في أدنى مراتب الاعتبار.

فالأمة ومنها تلك الشريحة من أتباع الحكام تكرَّس لديها شعور عام بعد حرب غزة بأن كرامتها تداس كل يوم، وأن هؤلاء الحكام فاقدون للإحساس السياسي، وأنهم لا شيء فضلًا عن خضوعهم التام للنظام العالمي الذي تسيطر عليه أمريكا. فهي ومعها يهود يريدون من الحكام أن يكونوا خدمًا أذلاء لهم، فالضباط اليوم في ثكناتهم والمدراء في وزاراتهم يتحدثون عن حالة الضعف غير المعقولة تحت ظل هذه الزعامات التي أثبتت حرب غزة أنها لا تملك من أمر الزعامة شيئًا، فالموقف الدولي كان مع كيان يهود بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023م بالكامل، وتسابقت الدول الفاعلة لدعمه وتزويده بالسلاح، وشنَّعت ما فعله مجاهدو غزة يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر. وأما تهديم يهود لغزة وقتلهم عشرات الآلاف من الأبرياء المدنيين فلم يستطع حكام الملياري مسلم بمجموعهم أن يجعلوه قضيةً دولية، بل إن الجامعات الأمريكية والأوروبية انتفضت شعبيًا ضد هذه الجرائم وحكامنا صامتون ينتظرون ضغطًا أمريكيًا على يهود دون أن يصنعوا هم بأنفسهم أي شيء ذي قيمة، رغم ما يملكونه من جيوش جرارة ونفط وغاز ومضائق تتحكم بالتجارة الدولية وغير ذلك كثير من أدوات التأثير الدولي.

وأما المظهر الثاني فقد تمثل في التنظيمات الإسلامية التي يجب أن يكون لها موقف قوي مما يحدث في غزة. وإذا كانت شريحة الناس التي ترى بأن الإسلام هو الحل هي الأكبر على الإطلاق في المنطقة الإسلامية فإنها كانت تنتظر مواقف قوية من زعامات هذه التنظيمات؛ ولكنها قد ذهلت هي الأخرى بأن هذه الزعامات وكأنها غير موجودة، بل إنها كانت تسوِّق الأوهام، فكانت تدعو جماهيرها لانتخابها في الانتخابات باعتبار أن الإسلام هو الحل، ثم إذا ما انتخبوها لا يرون إسلامًا، واليوم وتحت ظلال الحرب في غزة رأى الناس بأن مشاركة هؤلاء للحكام في البرلمان وبعض الوزارات كما في الأردن وتونس والجزائر وباكستان وغيرها كثير قد جعل هذه الزعامات تحت أجنحة الحكام، والحكام تحت أجنحة أمريكا والغرب، بمعنى أنه لا وجود لأي إسلام نتج عن تلك المشاركة في الحكم، فاليهود يقصفون قطاع غزة والإخوان المسلمون في الأردن لا يملكون إلا التظاهر والاحتجاج مثلهم مثل أي شريحة من الشعب لم تدخل البرلمان ولا الوزارات ولم تشارك الحكام. والأحزاب الإسلامية داخل البرلمان الباكستاني لم تُجرِ أي دعم فعلي من باكستان لأهل غزة، بل إن قائد الجيش بقي عميلًا لأمريكا يردِّد مقالتها بـ«حل الدولتين»، أي يعمل لتثبيت كيان يهود. وكذا الأحزاب والحركات الإسلامية في البرلمان الجزائري. بل إن أكبر ما ينظر إليه على أنه حزب إسلامي وصل للحكم هو حزب أردوغان «العدالة والتنمية» الذي اختبأ رئيسه أردوغان بعد أن ملأ الدنيا صراخًا فيما سبق بدعم أهل غزة والفلسطينيين، وأخذ يطالب بأن تكون تركيا «دولة ضامنة» في غزة على غرار نجاح الدور التركي هذا في سوريا في منع الفصائل المسلحة من إسقاط نظام بشار، فهو يريد أن يمنع الفصائل الفلسطينية المسلحة في غزة من تهديد كيان يهود، فسقط أردوغان وسقطت زعامته، ومثله تساقط كثيرون ممن أوهموا الناس بأن مشاركة الحكام في البرلمان والوزارات والانتخابات تجعل «الإسلام هو الحل»، وها هي حرب غزة تطحن الغزيين دون أن نرى إسلامًا تمثِّله هذه الحركات «المعتدلة» يحل لأهل غزة هذه المشكلة، بمعنى أن تلك الشعارات كانت كلامًا فارغًا لا قيمة له. وبالتأكيد فإن هذا لا يعني بأن الإسلام ليس هو الحل، بل يعني بأن تلك الزعامات إنما كانت تسوِّق للناس أوهامًا بأن مشاركة الحكام تجعل الإسلام موجودًا في الحياة السياسية للبلاد.

وقد شاهد الناس خلال هذه الحرب عجبًا عجابًا، فقد اختفت فيه كل زعامات التنظيمات الإسلامية «المعتدلة» وكأنها غير موجودة، أو أنها رأت ورأى معها الناس فشل نظرية مشاركة الحكام، فالأمر في بلادهم كله للحاكم، فإذا كانت الأحزاب الصغيرة في البلدان الديمقراطية كدولة يهود مثل أحزاب بن غفير وسموتريتش تؤثر بقوة شديدة على الدولة وتدفعها كما يريد زعماؤها وفق قواهم البرلمانية فإن التنظيمات الإسلامية «المعتدلة» المشاركة للحكام قد تبين أنها صفر آخر من أصفار المنطقة الإسلامية تحت ظل هؤلاء الحكام، وهذا قد أسقط تلك الزعامات لأنها كانت تكذب على أتباعها وتسوِّق لهم الأوهام بأن الانتخابات في ظل هؤلاء الحكام تجعل «الإسلام هو الحل»، فإذا بهذه التنظيمات «المعتدلة» تحت جناح الحكام تتكلم في الإطار المسموح به، ولا تهدد حاكمًا رغم شدة المصاب في غزة.

وأما تفصيل ذلك فهو أن الأمة هي التي تريد الإسلام، وهذا ما يجب قوله وبكل صراحة، وأن هذه التنظيمات الإسلامية «المعتدلة» والزعامات فيها إنما سلطت عليها أموال كالمطر وفتحت لها أبواق الإعلام كقناة الجزيرة ليشاهدها الناس وينظرون إليها نظرة الزعامة والقيادة، وهذا ملاحظ في كل تلك التنظيمات الإسلامية المرتبطة بقطر وغير قطر، فهي إنما يقيمها أموال قطر، ويبرزها كقوة وكزعامات إعلام قطر كقناة الجزيرة، ولولا هذا الصنبُور المالي وذلك المنبر الإعلامي والحماية السياسية من الحكام لما كانت تلك التنظيمات بهذا الحجم الكبير الذي نشاهده، لذلك فإن هذه الزعامات كلها تحت جناح قطر، وقطر تحت جناح بريطانيا وأمريكا، وهي التي ترشد قطر الطريق، بل إن شدة انتقادات كيان يهود لقطر على أنها داعمة لحماس والإرهاب قد دفعت قطر لقول الحقيقة بأن مكتب حماس في الدوحة إنما تم افتتاحه بأمر من المخابرات الأمريكية لفتح باب للحديث مع الحركة. ولكل ذلك فإنك تجد مع شدة صمود المجاهدين في غزة وإبلائهم بلاءً حسنًا يغيظ اليهود، فإن بعض القيادات في الخارج مثل خليل الحية يقول بأن الهدف هو «حل الدولتين» وأن الجناح العسكري لحماس يمكن أن يختفي في حال حل القضية الفلسطينية، أي وفق الحل الأمريكي، وتجد ما يقرب من ذلك من أسامة حمدان، بل إن قيادة حماس قد عدلت ميثاقها سنة 2019م ليتوافق مع ما يريده حاكم قطر وغيره من الحكام، وكأن الجهاد في غزة يهدف للحصول على قطعة صغيرة من فلسطين وتثبيت يهود على القطعة الأكبر (حدود 1948) كما تريده أمريكا؛ لذلك وجب الصراخ في وجه القيادات التي تجعل نفسها تحت ظل الحكام بأن الجهاد في غزة وما يخسره الناس من شهداء وبيوت مهدَّمة وبنية تحتية محطَّمة إنما هو من أجل تحرير فلسطين، فالجهاد هو جهاد أمة الإسلام، فهي التي تقاتل وهي التي تخسر وتبذل الغالي والنفيس، والنتيجة يجب أن تكون وفق أحكام الإسلام وليس وفق خطط أمريكا «حل الدولتين».

ويجب تحذير المسلمين بشدة من أن صنبُور المال الذي تفتحه قطر إنما هو مشروط بالعمل ليس وفق منطق «الإسلام هو الحل» بل وفق النظام الدولي الأمريكي، فقد شاهد المسلمون جهاد طالبان في أفغانستان وكيف أنها أبلت بلاءً حسنًا خلال عشرين عامًا، ولما عجزت أمريكا عن هزيمتها عسكريًا سلطت عليها قطر وأمثالها من الحكومات، ففتحت لها قطر مكتبًا في الدوحة وأغدقت عليها الأموال حتى أقنعتها بمفاوضة أمريكا سنة 2018م، ثم انسحبت أمريكا سنة 2021م وفق اتفاق مع طالبان أنجزته لها قطر، واليوم يتصارع المخلصون وأتباع قطر داخل الحركة على الحكم في أفغانستان، ويزج بالدعاة المخلصين في سجون حركة طالبان لأنهم يدعون لتحكيم الإسلام؛ لكل ذلك وجب على الناس أن يدركوا بأن أموال الحكام إنما هي سم زعاف لا يجب تجرعه تحت ذريعة «دعم المسلمين»، فهؤلاء الحكام يدعمون وفق السياسة الأمريكية والأوروبية، وها هم صفر اليدين في حرب غزة لا تأثير لهم، وينتظرون قدوم مسؤول أمريكي عسى أن يقنع يهود بوقف جرائمهم في غزة، مع أن الجيوش رابضة في ثكناتها وقادرة على وقف المجزرة في غزة وقادرة على تحرير فلسطين كلها، إلا أن الحكام يمنعونها من ذلك.

ولكل ذلك يمكن القول بأن زعامات التنظيمات الإسلامية «المعتدلة» قد سقطت هي الأخرى، فبقدر تبعيتها للحكام ومشاريعهم كحل الدولتين في فلسطين كان سقوطهم، وأدركت الأمة على وقع الصدمة في غزة بأن هذه التنظيمات إنما سوَّقت أوهام «الإسلام هو الحل» لينتخبها الناس وتشارك الحكام، ثم لم يكن هناك أي إسلام: لا في البرلمان، ولا في الوزارات، ولا في الحياة السياسية، إنما كان هناك «شيخٌ ملتحٍ» يشارك الحكام حكمهم بالكفر ويغطي عليهم باسم المعارضة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، واليوم تنتظر الأمة قيادتها الحقيقية.

ففي سوريا ينتفض الناس ضد هيئة تحرير الشام وزعيمهم الجولاني الذي وضع نفسه تحت الجناح التركي بعد جهاد وجهاد، ويريد الناس قيادة تقودهم لإسقاط بشار كما كان هدف الثورة منذ البداية، وتريد أن تكون هذه القيادة إسلامية واعية لا تسقط في الفخاخ التي تنصب لها. وفي ليبيا وبعد قتال عظيم أسقط بموجبه الطاغية القذافي فإن الناس لا يفرقون بين زعامة حفتر المقيتة وبين زعامات التنظيمات الإسلامية «المعتدلة» في غرب البلاد التي سارت بها أموال قطر شمالًا ويمينًا بعد أن أبرزت قناة الجزيرة رجالًا على أنهم زعامات لينقاد الناس خلفهم، ثم وجدوا أنفسهم في إطار الفخاخ القطرية على الجانب الأوروبي في صراع نفوذ مقيت بين أمريكا التي تدعم حفتر وأوروبا التي تدعم طرابلس الغرب وما فيها من تنظيمات إسلامية خاضعةٍ للدعم القطري.

وما يلاحظه الناس أن هذه الزعامات والقيادات التي تضع نفسها تحت جناح الحكام باسم «الإسلام المعتدل» ليس عندها حرام في السياسة، فكل فعل حلال، فهي تصالح جزار سوريا مع أنه قتل مئات الآلاف من المسلمين، فهذا حلال، مع أنه أيضًا قتل من الإخوان المسلمين الآلاف في الثمانينات، ولا يقولون بحرمة العلاقة معه، فأحكام الإسلام التي تحرم دم المسلمين حرمةً شديدة لا تمنع زعامات هذه التنظيمات من صداقة إيران وولائها مع أن إيران تقتل المسلمين صباح مساء في سوريا والعراق واليمن، وهذه الزعامات لا يوجد لديها ما يسمونه «المرجعية الشرعية» لأحكام السياسة، فعندهم كل عمل سياسي جائز. وأخيرًا صار البعض يخرج على الناس بجواز مفاوضة اليهود على حل للقضية الفلسطينية، وكأن الإسلام لم يضع أي حكم في الأمور السياسية وتركها للملوثة قلوبهم بالأموال القطرية. وبالمجمل فإن الأمة تلاحظ أن هذه الزعامات جاهلة في أحكام الإسلام السياسية، وكأن الإسلام لا يهدف إلا لأن يصل «الشيخ الملتحي» للحكم فيحكم هو بالأحكام الوضعية، أي بالكفر، بدلًا من العلمانيين، وهم يسوِّقون لذلك بذريعة «التدرج» دون أن يفرقوا بين تدرج الآيات في التشريع وبين مسارعة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وصحابته لتطبيق أي حكم ينزل دون أي تدريج. ولا يتسع المجال هنا للخوض في التدليل الشرعي، إنما الموضوع هنا هو أن حرب غزة التي أوقفت المسلمين بعد أن كان كثير منهم نيامًا قد نتج عنها سقوط هذه الزعامات والقيادات للتنظيمات الإسلامية «المعتدلة» بعد أن وجدها الناس تحت جناح الحكام لا يملكون الخروج عن إرادتهم.

وبهذا الفراغ القيادي الكبير فإن الأمة قد صارت تتلمس طريقها وتبحث عن قيادة جديدة، وقد شاهدنا همة الناس في إدلب وتأثير حزب التحرير فيها، وشاهدنا مسيرات الاستنصار في فلسطين والالتفات القوي نحو الحزب، فرجال حزب التحرير لا يُشبِعون الأمة الأوهام بصد هجوم يهود على غزة ووقف مجازره إلا بإقامة الخلافة على منهاج النبوة، ولا يمنُّون الأمة بمناوشات يقوم بها حزب إيران من لبنان ولا من إيران نفسها، فحزب إيران يناوش بالقدر الذي تريده إيران لا يتجاوزه مع قدرته على تحرير شمال فلسطين من يهود، وإيران لا تحاول تحرير فلسطين وقد اكتشفت الأمة جعجعاتها، بل إن يهود قد أسدوا لها الضربات المميتة ولم تردَّ إلا ردًّا لا يسمن ولا يغني من جوع مع قدرتها على تحرير فلسطين بكاملها، فهي تعمل مع القوى الدولية وأولها أمريكا في نطاق النظام الدولي القائم.

وقد بينت حرب غزة صدق ما يقوله حزب التحرير، فأهل غزة تحت الجوع والقتل والتدمير لا تسعفهم أموال قطر ولا تسعفهم المساعدات الإنسانية التي يجود بها المسلمون لأن جيش يهود يمنعها عنهم… لا يسعفهم إلا وقوف جيش مصر في وجه يهود، ولأن رئيس مصر، عميل أمريكا السيسي يمنعه، فلن يسعف أهل غزة إلا أن يهب الجيش المصري ويقلب السيسي وينصب خليفة للمسلمين خلال ساعات قليلة ينطلق بعدها للجهاد وتحرير غزة وكل فلسطين. والأمة تشاهد أن كل الحلول المطروحة غير هذا الحل الذي يقدمه حزب التحرير هي حلول واهية حتى لو أوقف يهود إطلاق النار في غزة، فالحرب يمكن أن تندلع مرة أخرى، بل مرات، وقد اندلعت في غزة في سنوات (2008، 2012، 2014)م، وغيرها، بل وتندلع كل عام، ولا يوقفها إلا تحرير فلسطين، وهذا يلزمه دولة يقودها رجال صادقون يعرفون كيف يطبقون الإسلام ولا يقبلون لهذا الإسلام العظيم أن يكون تحت جناح أي من حكام الضرار، بل يعملون لكنسهم كلهم وتطبيق الإسلام وإعادة الأمة الإسلامية كالشامة بين الأمم، وهذا لا يكون بالخضوع للنظام الدولي، فقد شاهدت الأمة عقم الأمم المتحدة وعقم مجلس الأمن وعقم محكمة الجنايات الدولية، وعقم محكمة العدل الدولية، وهي محاكم غربية، فكل هذا النظام الدولي وما فيه من محاكم وحدود للدول يجب أن يسقط، والأمة الإسلامية هي الأمة الوحيدة القادرة على فعل ذلك.

فالأمة اليوم تبحث عن قيادة تستطيع تفجير الإسلام فيها، فيكون طاقة جبارة كما كان منذ البداية في عصر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وحتى هدم آخر خلافة إسلامية، والأمة ترى صفرية الموقع الذي وضعها فيه الحكام، وترى بأن زعامات التنظيمات الإسلامية «المعتدلة» إنما هي جزء من زعامات الحكام، أي جزء من النظام القائم، وليست بديلًا عنه، بل إن الأمة ترى بأن هذه الزعامات التي كانت تنطق بالإسلام في المساجد سرعان ما تتحول إلى زعامات وطنية وقومية وتنطق بـ«حل الدولتين» الأمريكي بعد الانتخابات وصيرورتها بأموال قطر ومنابرها الإعلامية شخصيات رسمية ممثلة للشعب ووبالًا على الأمة، وغير قادرة على تفجير الإسلام فيها، بل إنها تخجل من النطق بالإسلام مخافة اتهامها بالإرهاب من النظام الدولي، بل إن بعضها كحزب النهضة في تونس قد أبعد الإسلام عن السياسة بشكل رسمي حين نادى بفصل «الدعوي» عن «السياسي» حتى يقبل به الغرب، فهذه زعامات عجزت عجزًا أكيدًا عن قيادة الأمة بالإسلام، ولم يبقَ للأمة إلا أن تتطلع لقيادة حزب التحرير لإخراجها من هذه الظلمة العميقة التي وصلت الأمة إليها.

فالأمة شاهدت بأن هذه القيادات الجديدة مخلصة وتنطق بالإسلام، وليس في ثقافتها إسلام إلا بدليل شرعي، وقد رفضت مشاركة الحكام منذ عقود، وهي تنطق اليوم بما نطقت به بالأمس، وهذه القيادة ليست بعيدة عن ضباط الجيوش، بل تحثُّهم حثًّا على إعطاء النصرة للحزب لإقامة دولة الخلافة على منهاج النبوة، وهؤلاء الضباط سيستجيبون لهذه الدعوة، إن شاء الله تعالى، عاجلًا غير آجل بعدما رأوا ما صنعته حرب غزة وكشفته من شدة عداء الكفار، أمريكا وأوروبا خاصةً، للمسلمين، وشدة ضعف الحكام، وما كشفته من شدة وهن جيش يهود وأن تحرير فلسطين هي مسألة ساعات أو أيام يزمجر بها جند المسلمين، ويرى هؤلاء بأن قيادة حزب التحرير تعي بشكل عميق ما لدى الأمة من طاقات وإمكانيات. ففضلًا عن الطاقات المادية من عسكرية واقتصادية وموقع متحكم، فإن الأمة تمتلك أعظم طاقة من طاقات قوة الأمم، وهي الإسلام، وليست الأمة بحاجة إلا لمن يفجر هذه الطاقة فيها، وقد شاهدت الأمة كيف صمدت غزة بطاقة الإسلام والعقيدة، وكيف قاتل المجاهدون في غزة جيش يهود المدجج بأحدث الأسلحة، وكيف تحمل أهل غزة الجوع والظلمة والعطش، كل ذلك بما تفجر لديهم من طاقة الإسلام. فالأمة تغلي بما لديها من إسلام، وهي بحاجة إلى قيادة تقودها وفق أحكام هذا الدين فتنتفض على النظام الدولي ولا تقر له حدودًا ولا تقر لليهود بكيان، بل تجاهد لنقل الهدى لبلاد الكفار، وسيتفاجأ المسلمون بأن ذلك قابل للتحقيق، وقابل للنجاح عندما يكتمل مكر الله ويكتمل أمر أهل النصرة، فينصِّبوا خليفة يحكم الأمة بدين الله، فيفجِّر كل طاقاتها بإذن الله، ويوحِّد كافة بلاد الإسلام حتى تصبح أمة الإسلام أعظم أمة على وجه الأرض في غضون سنوات قليلة تدعو إلى الخير داخليًا وعلى الساحة الدولية وتنهى عن المنكر في الداخل والخارج، وجيشها ومالها وأرواح أبنائها خدم لدينها لتخرج الناس من عبادة أمريكا إلى عبادة رب أمريكا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *