العدد 455 -

السنة التاسعة والثلاثون، ذو الحجة 1445هـ الموافق تموز 2024م

عند استخدام السيوف، الدموع أسوأ سلاح… غزة مثالًا

يوسف أرسلان

 عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية أفغانستان

قال الشاعر:

وشرُّ سلاح المرء دمع يُفيضُه        إذا الحربُ شَبَّت نارها بالصوارم!

الخير والصلاح وحسن الحال يعقد للناس من حكامهم وعلمائهم إن هم أحسنوا، ويعقد عكسه إن هم أظهروا الفساد.

وكمثال عن الحكام، فإنه عندما هاجم الصليبيون الأراضي الإسلامية، بما فيها القدس، لم يكن الوضع السياسي والاجتماعي في ذلك الوقت يختلف كثيرًا عن اليوم. الأمير السلجوقي، قلج أرسلان، الذي كان يبلغ من العمر 17 عامًا فقط، أعلن الجهاد وقاتل الصليبيين. ومع ذلك، كان أمراء المسلمين متورطين في المنافسات والانقسامات السياسية. عندما عبر الصليبيون مضيق البوسفور، واجهوا قلج أرسلان، الذي كان مستعدًّا للقتال ضدّ احتلالهم؛ ولكن كان هناك من بين المسلمين منْ بدلَ أن يتوحَّدَ معه ضدّ الصليبيين، سعى إلى استغلال الوضع للقتال ضدّه. أحد هؤلاء الأشخاص كان دانشمند، لكن هذه الخيانة لم تردع عزيمة أرسلان. فقرّر قلج أرسلان التفاوض مع دانشمند ومن ثمّ قتال الصليبيين، وهو الأمر الذي أثبت نجاحه، على عكس حكام اليوم الذين يتفاوضون مع المحتلين ويقاتلون إخوانهم.

وكان الخليفة في ذلك الوقت المستنصر بالله منشغلًا بالكماليات والمساعي الفنية والشعرية. لقد استمتع بأن يُنظر إليه على أنه شخص لطيف وحذر، مثل حكام اليوم الذين يستمتعون بألقاب مماثلة. إلا أنّ هؤلاء الحكام يتفوَّقون على غيرهم في ليونتهم. ويتأثر تساهلهم ووسطيتهم بعقائد غير إسلامية، وتحت ستار الاعتدال والوسطية، قاموا بتعليق تطبيق أحكام الشريعة لضمان بقائهم، ساعين إلى الحصول على أوسمة «البصيرة السياسية» من العلمانيين وتجنُّب وصف التطرُّف.

وكما أنّ المسلمين اليوم منقسمون بسبب الحدود الوطنية والعقائد غير الإسلامية ولديهم دول متعددة، ففي ذلك الوقت، على الرّغم من وجود الخلافة العباسية، فقد كانت بلاد المسلمين منقسمة بين العديد من الأمراء؛ حيث لم يكن الخليفة أكثر من رمز. في الشام (سوريا)، حكم العديد من الأمراء، حتى إنّ بعضهم تعاون مع الصليبيين لضمان بقائهم  تمامًا مثل حكام اليوم الذين قسموا بلاد المسلمين إلى دول عديدة، وانحنوا للمستعمرين لتحقيق مكاسب شخصية بينما الأطفال والنساء والرجال في غزة يذبحون أمام أعينهم.

حارب ياغي سيان الصليبيين في أنطاكية؛ لكن الأمة الإسلامية انقسمت إلى فصائل صغيرة. وفي سوريا حكم شقيقان متعطّشان لدماء بعضهما بعضا: رضوان أمير حلب، ودُقاق أمير دمشق. وكانت الموصل تحت قيادة كربغا؛ لكن هؤلاء الأمراء لم يقفوا ضد الصليبيين بحجة المصلحة وضمان بقائهم، ولم يؤيدوا إعلان الجهاد ضدّ الصليبيين، لقد ظنوا أنهم إذا حموا أنفسهم من الصليبيين، أو اعتمدوا الحياد، أو مدّدوا التملق، فسيكون ذلك مفيدًا لبقائهم، لكن عندما انكسرت الخطوط الأمامية للمجاهدين، التهم الصليبيون الإمارات الأخرى أيضًا، وقضي على وجودها السياسي.

إن الذين زرعوا الفتنة وتساوموا مع الكفار لأي سبب من الأسباب، سيحكم عليهم التاريخ بشدة، وحكم الله أشد. بينما كان قلج أرسلان يقاتل بمفرده ضدّ الصليبيين في آسيا الصغرى، كان العديد من الأمراء المسلمين يراقبون ذلك، وأثناء الهجوم الصليبي، كانت فلسطين تحت سيطرة الفاطميين. وعندما هزم الصليبيون قلج أرسلان أرسل الفاطميون رسالة تهنئة لهم. يكتب ابن الأثير: «لقد انقسم السلاطين؛ ولهذا تمكن الصليبيون من احتلال أرضنا».

أما العلماء، فإنه عندما يفسد الحكام، وتنتشر الفتنة، يجب أن تكون كلمات العلماء أكثر حدة، وخطواتهم أكثر ثباتًا على الظالمين؛ لأنّ واجب العلماء محاسبة الحكام وإرشاد الناس؛ لكن في ذلك العصر، كان بعض العلماء من أهل البلاط، وكان كثيرون آخرون لديهم ميول صوفية، أولئك الذين اعتبروا الإسلام هو فقط الصلاة والصيام والذكر. تمامًا كما هو الحال اليوم؛ حيث لا يُعرض على الناس سوى علماء السلاطين، ويُترك العلماء الحقيقيون وحيدين ومضطهدين. وإذا كان الصوفيون في ذلك العصر يركِّزون أكثر على العبادة، فإن العلماء اليوم، باسم الإسلام، يقدِّمون تفسيرات علمانية وفاسدة للمجتمع لتحقيق مصالحهم، عن علم أو بغير علم لضمان بقاء الحكام الخونة وتعميق الانحلال.

يستذكر أمين معلوف، وهو كاتب لبناني نصراني، بأمانة كبيرة شخصًا اسمه أبو سعد الهروي، وكان عالـِمًا صالحًا، تولَّى منصب القضاء في الخلافة العباسية. ولما رأى هول الصليبيين وذلّ المسلمين وإذلالهم، صعد ذات يوم في شهر رمضان، وقد اجتمع الناس في المسجد للصلاة، صعد المنبر وتظاهر بالإفطار، فغضب جميع الحاضرين واقتربوا منه بغضب. فنادى الهروي: اجلسوا واستمعوا، كيف تغضبون إلى هذا الحدّ من إفطار شخص بينما لا تغضبكم مذبحة آلاف المسلمين وتدمير مقدساتكم؟! نعم، لقد تحدَّى الهروي مشاعرهم، مثل أولئك الذين ينزعجون اليوم من قضايا شخصية أو قومية بسيطة أكثر من انتهاك حدود الله.

وبعد هذا المشهد دخل الهروي أشعث ومكشوف الرأس وحليق الرأس إلى بلاط الخليفة برفقة آخرين في حالة مماثلة، وهذا المظهر يشير إلى عدم الرضا. فقال للخليفة: أرى أن المدافعين عن الإيمان قد ضعفوا! كيف تقبلون أن تكونوا آمنين بينما يقتل إخواننا وأخواتنا؟! العديد من الفتيات الجميلات (خوفًا من الصليبيين) يخفين وجوههن بأيديهن. لقد كنتم شرفاء؛ ولكنكم اليوم تستسلمون لهذه الدولة؟!

وعند سماع هذه الكلمات وعتاب الهروي الشديد بكى الجميع؛ لكن الهروي لم يردَّ دموعهم وتعازيهم؛ فقد كان يعلم أن الذي يخاطبه هو الحاكم وليس شخصًا عاديًّا لا حول له ولا قوة، وكان يعلم أن تحرير الأقصى وغيره من الأراضي الإسلامية يتطلب حركة الجيوش، وليس دموع الضعفاء، أو دعاء الزاهدين، أو عزاء المخلصين. ولهذا ختم الهروي كلامه للحاشية بالقول:

وشرُّ سلاح المرء دمع يُفيضُه

  إذا الحربُ شَبَّت نارها بالصوارم!

نعم، هذا هو الحلّ الحقيقي والشرعي الوحيد للأراضي المحتلة، وهو أن تُسلَّ السيوف، وأن نسير بإصرار من حديد نحو أبواب الأقصى. فلم يتحدث النبي صلى الله عليه وسلم عن الدبلوماسية والتفاوض عندما وعد بمواجهة المسلمين ضد اليهود؛ بل تحدث عن القتال والجهاد، فالجهاد الذي عرفه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يكن سوى القتال الذي يقوم به جيش الدولة الإسلامية. عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا الْيَهُودَ، حَتَّى يَقُولَ الْحَجَرُ وَرَاءَهُ الْيَهُودِيُّ: يَا مُسْلِمُ، هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي فَاقْتُلْهُ».

ولكن على الأمة الإسلامية، وخاصة العلماء، أن تفهم أن مهمتها أثقل. وفي كل عصر تصبح فيه صورة الإسلام وحلوله غير واضحة، يتقدم العلماء الأبرار متقبلين كل الصعوبات في التنبيه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومحاسبة الحكام. بخلاف ذلك، فقد رأينا في التاريخ أنّ علماء البلاط، الذين كانوا خائفين أو قدموا تفسيرات غير سياسية للإسلام، قد سقطوا في الفتنة أيضًا، وكانوا غير قادرين على حماية أحكامهم بالتدابير المادية، ولا تغيير مصيرهم.

يسجّل التاريخ أنّ القدس ظلت تحت حصار الصليبيين لمدة 40 يومًا تقريبًا. وفي 22 شعبان 492هـ، تمّ كسر الحصار، ودخل الصليبيون القدس، وواصلوا المجازر من بيت إلى بيت. ولم يبقَ مسلم واحد داخل أسوار المدينة. وذُبح الآلاف إمّا على أعتاب منازلهم أو في محيط المساجد. وكان من بين القتلى العديد من الأئمة والعلماء والصوفية الذين تركوا أراضيهم للعزلة في القدس.

على العلماء، باعتبارهم ورثة الأنبياء، أن يفهموا أنهم لم يرثوا إلا العلم، وأن العلم الحقيقي هو الذي يورث الخوف من الله، ويخلص الإنسان من مخاوف الدنيا. ولا ينبغي أن يرتعش اللسان عند قول الحق. ومن ثم، ينبغي للعلماء أن يقرؤوا تاريخ شخصيات مثل سعيد بن المسيب، الذي كان شديد التعلُّق بالمسجد من ناحية، ولم يسكت أبدًا على مظالم الحكام من ناحية أخرى. ولما طلب عبد الملك بن مروان البيعة لابنه، رفض سعيد، واعتبر ذلك خطأ. لقد هُدد بالقتل والجلد والنفي؛ لكنه ظل ثابتًا في سبيل رضا الله. وعلى علماء اليوم أن يتذكروا سعيد بن جبير، الذي قال الحق وهو يواجه الموت أمام الحجاج، وظلّ على أمل لقاء خالقه. وعليهم أن يتذكروا الإمام أبا حنيفة الذي كان صريحًا في محاسبة أبي جعفر المنصور، وانتقاد الأخطاء القضائية، واتخاذ موقف حازم ضدّ تصرفات الحكام. ورغم السجن والمصاعب، ظل ثابتًا. وكذلك واجه الإمام جعفر الصادق والإمام مالك بن أنس المنصور. ولم يكن الإمام الشافعي غير مبالٍ بأحداث مجتمعه السياسية والاجتماعية، محاسبًا الخلفاء العباسيين. وقد تحمَّل الإمام أحمد بن حنبل جلد المأمون لقوله الحق، كما كان ابن تيمية يذكّر المسلمين أثناء غزو المغول برسالتهم، متحملًا المشاق.

ولذلك يجب أن يعلم العلماء أن محن كل عصر تختلف. إن المحنة اليوم هي غياب دولة الخلافة وأن تجاهد الجيوش في سبيل الله. لقد كان علماء الماضي يملكون الخلافة والجهاد المستمر؛ ولكننا اليوم نفتقر إلى كليهما. ومن ثمّ فإن الواجب على العلماء أن يدعوا الناس والحكام إلى إعادة الخلافة الراشدة الثانية، لا إلى الاستعانة بمحاكم الحكام، فإن بلاط السلطان له محاكماته «ومَن اتَّبَعَ السلطانَ افْتُتِنَ». عندما يُذبح إخواننا وأخواتنا أمام أعيننا في غزة، تشتد محنة الأمة. ويجب على العلماء تذكير المسلمين برسالتهم، ودعوة أهل القوة إلى الوحدة والجهاد، وكشف خيانة الحكّام، وتحدي الظالمين، وعدم الخوف من اللّوم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا رَأَيْتُم أُمَّتِي تَهَابُ الظَّالِمَ أَنْ تَقُولَ لَهُ: إِنَّكَ أَنْتَ ظَالِمٌ، فَقَدْ تُوُدِّعَ مِنْهُمْ» رواه أحمد.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *