بسم الله الرحمن الرحيم
الحق اليقين في الكتاب المبين من سورة المائدة
(من صفات المؤمنين)
حمد طبيب – بيت المقدس
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)).
«هذه الآية الكريمة من سورة المائدة تتحدث عن موضوع مهم وعظيم؛ وهو عقوبة من يرتد» عن دين الله عزّ وجل – من الأقوام- من أمة الإسلام، وكيف أن الله عز وجل يستبدل بهم أناساً غيرهم ليحملوا أمانة وحي السماء بدلاً منهم، وتتحدث كذلك عن صفات هؤلاء القوم الذين استحقوا رضا الله عز وجل وكرمه وفضله. ونبدأ أولاً بتفسير هذه الآية الكريمة وبيان معانيها، ثم نتحدث عن الدروس والعبر المستفادة منها.
التفسير والمعاني:
ابتدأ الحق تبارك وتعالى الخطاب في الآيات بالتنبيه، وذكر الإيمان، وذلك ليوقظ عقول المسلمين ويذكرهم بإيمانهم، وينبه فيهم مشاعر الإيمان ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) لأن القضية المذكورة قضية خطيرة، وعاقبتها أيضاً خطيرة في الدنيا والآخرة، هذه القضية هي الردّة عن دين الله عز وجل بموالاة الكافرين، والتي ذكرت في الآيات السابقة لهذه الآية ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ ) ( مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ ) وهنا يحذِّر المولى عز وجل وينذر من يرتد بالاستبدال في دار الدنيا… وقد جاء التحذير على صيغة الشرط وجوابه؛ الذي يفيد معنى التحذير من سوء العاقبة. أي إذا ارتددتم عن دينكم بموالاتكم لليهود والنصارى فإني أعاقبكم بالاستبدال بقوم آخرين…
ومعنى الردة هنا هو الرجوع الكامل عن الدين، لأن الارتداد في السير هو الرجوع خطوة تلو خطوة عن الطريق الذي سار فيه إلى الطريق الذي كان عليه. والمعنى: أنكم إذا نقضتم ما أنتم عليه من إيمان وعمل ورجعتم عنه إلى ما كنتم عليه من الكفر، فإنه يحصل معكم كذا وكذا من العقاب الدنيوي أي الاستبدال…
أما بالنسبة للإتيان الذي توعد به الحق تعالى ( فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ ) فإنه الاستبدال بنفس الصفات السابقة التي نالها مَن قبلكم من الاستخلاف والتمكين، والذي دل على هذا الأمر هو أنهم قوم ( يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ )، وهذا لا يكون إلا بقوة ومكنة، وإذا تعلق الأمر بقوم مؤمنين فإن ذلك يكون مكنة واستخلافاً ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ) إذ يجعل الله لهم مكنة وقوة…
هؤلاء القوم لهم صفات في هذه الآية استحقوا بها هذا الأمر العظيم، فما هي هذه الصفات؟ هذه الصفات هي (يحبُّهم ويحبُّونه) (أذلةٍ على المؤمنين أعزةٍ على الكافرين) (لا يخافون في الله لومة لائم).
وقد قدم الحق تبارك وتعالى هنا محبته لأنها أشرف وأعظم من محبة المخلوق، والمعنى يحبهم بسبب محبتهم له، أي يثيبهم الحق تعالى، وينعم عليهم وينصرهم، ويجري الخيرات على أيديهم، وتشمل أيضاً كل النعم الربانية التي يجريها الحق تعالى على أيدي عباده المؤمنين، أما محبة المؤمنين فهي الطاعة والعبادة والالتزام المطلق بأمره ونهيه انطلاقاً من قاعدة الإيمان التي تشرّفوا بها .. وقد جاءت كلمة يحبهم ويحبونه بصيغة المضارع هنا، وهي تدل على التجدّد، أي أن محبة الله عز وجل تتجدد وتزداد بمحبتهم له؛ أي بتجديد الطاعات مع عظم محبة الله وشرفها على محبة المخلوق…
( أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ) كلمة أذلة كلمة جامعة لأمور كثيرة، وكذلك كلمة أعزة جامعة لأمور كثيرة، وهذا من الإيجاز البليغ في كتاب الله عز وجل، فالتذلل للمؤمنين يشمل (العطف والمودة ولين الجانب والرقة وخفض الجناح…) وغير ذلك من صفات اللين والعطف والمحبة، وهذا من جوامع الكلام. وأيضاً كلمة العزة معناها (القوة والشدة والقسوة وغلظ الجانب وعدم الرحمة والرأفة…)، وغير ذلك من صفات العلوّ على الكافرين… وقد قدم الحق تعالى صفة التذلّل للمؤمنين على صفة العزة للكافرين، وذلك لشرف المؤمنين؛ فالتقديم هنا للتشريف،وهذا من بلاغة القرآن في التقديم والتأخير، ( يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) أي يقاتلون وينفقون ما يستطيعون إنفاقه وبذله في سبيل الله عز وجل، وهذه صفة ثالثة من صفاتهم التي أحبهم الله بسببها، وقد جاءت بصيغة المضارع لأنها ملازمة لصفة الإيمان، فالمؤمن دائماً يبذل الوسع والطاقة، ويجهد نفسه في سبيل الله، أي في سبيل رفع أمر دينه والدفاع عنه ونشره في أرجاء المعمورة، فهذه صفة دائمة متجددة تماماً كتجدد المحبة التي ذكرها بحق المؤمنين، وهذا انسجام في المعنى بين محبة العبد لربه بشكل دائم متجدد وبين جهاده الدائم المتجدد…
وكلمة ( فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) هي كلمة جامعة أي من المفردات الجامعة لأكثر من معنى، وكلمة يجاهدون أيضاً من الكلمات الجامعة ؛ أي هو إيجاز دل على أكثر من معنى – وهذا من بلاغة القرآن في المعاني…
فكلمة سبيل الله أي في الطرق التي يرضى عنها الله عز وجلّ؛ أي في سبيل مرضاته؛ وهي هنا من أجل رفع كلمة الله عز وجل وإعزاز دينه ونشره، فهؤلاء القوم يبذلون ويجهدون أنفسهم في البذل من المال والنفس والوقت والقلم واللسان؛ لأن كلمة ( يُجَاهِدُونَ ) أي بذل الجهد، جعلها مفتوحة هنا لكل ما يستطيعه المؤمن من بذل، فهي كلمة جامعة لكل ألوان البذل التي يقدر عليها المجاهد، فمن يستطيع بنفسه فذلك خير، ومن يستطيع بماله فذلك خير، ومن يستطيع بكليهما فذلك خير على خير، ومن يستطيع بلسانه فذلك خير… إلى غير ذلك من ألوان البذل في الجهاد…
( وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ) وهذه أيضاً من صفات هؤلاء القوم أنهم لا ينظرون إلا إلى محبة الله ورضاه، ولا يخافون أحداً سواه في سبيلها. واللوم هنا هو الملامة والعتاب، وقد جاءت منكّرة هنا، وجاءت أيضاً لفظة لائم منكرة، وهذا في قمة البلاغة في الوصف والبيان، وهو إن دل على شيء فإنما يدل على رِفعة هذا الكلام الرباني وسموِّ مكانه ومكانته البلاغية، فتنكير لومة هنا يدل على التعدّد، أي لا يخافون أي لومة كانت، سواء أكانت عتاباً بخشية الفقر أو الموت أو الصعوبات، أو غير ذلك من أنواع اللوم التي تقع من ضعاف النفوس. وكلمة لائم أيضاً جاءت منكَّرة لتدل على تعدد الوصف، بجميع أنواع ضعاف النفوس من المنافقين والكافرين ومحبي الدنيا وأولياء الحكام، وممن يتمسكون بأذناب البقر ويرضون بالزرع وغير ذلك…
فهؤلاء المؤمنون صفاتهم أعلى وأسمى من كل ذلك ( وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ) في سبيل الله عز وجل، وفي سبيل الجهاد لرفعة راية الحق والإيمان…
( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ )، اسم الإشارة هنا له دلالتان عظيمتان في المعاني؛ الأولى: الإيجاز حيث جمع كل الأمور السابقة (محبة الله، الذل على المؤمنين، الجهاد، الاستبدال والاستخلاف… ) كل هذه الأمور السابقة جمعت في اسم الإشارة: ( ذَلِكَ )، وفي هذا إيجاز بليغ، وهو فن من فنون البلاغة في اللغة، والدلالة الثانية لاسم الإشارة هي أن ( ذَلِكَ ) من معانيها الرفعة وعلوّ الدرجة لأنها إشارة للبعيد، والبعد هنا هو بعد الدرجة وعلوها وارتفاعها عند الله عز وجلّ… وهذا يشبه قوله تعالى: ( ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ ).
وهذا الاستخلاف والاستبدال هو مكرمة ربانية عالية ( فَضْلُ اللَّهِ ) وهو جائزة الإيمان والتقوى والعمل الصالح بسبب كل ما ذكر من صفات حميدة وأعمال صالحة…
وكلمة ( فَضْلُ ) هنا أضيفت إلى اسم الجلالة ( اللَّهِ ) جل جلاله لزيادة الإشعار بالتكريم، لأنها تدل على عظمة التفضل والتكريم لهؤلاء القوم…
( يؤتيه من يشاء ) وفي هذا إشارة ربانية أن أسباب التمكين والاستخلاف مرتبطة بالله وليس بأسباب البشر، فالإتيان، أي المنة. والاختيار هو أمرٌ رباني سامٍ يعطيه الله عز وجل لمن يختار من عباده ممن يستحق هذه المكرمة الربانية السامية، ( وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) واسع في فضله ومنته وقدرته وتهيئة الأسباب، وعليم أيضاً عندما يختار هؤلاء الناس… وقد جاءت هاتان الصفتان منكرتان وذلك للشمول والإحاطة التامة الكاملة، وفي هذا زيادة طمأنينة للمؤمنين أن الله عز وجل بيده كل شيء، ومحيط بكل شيء ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) .
الدروس والعبر في الآية :
1- المنة الربانية في الاستخلاف والتمكين في الأرض لها شروط قبل حصولها، ولها شروط أيضاً لاستمراريتها. ومن شروطها التي ذكرت في الآية أنهم يحبون الله عز وجل أي يطيعونه ولا يعصونه في كبيرة ولا صغيرة، ومن صفاتهم التي استحقوا بها هذه المرتبة والشرف العالي أنهم أذلة على المؤمنين وأعزة على الكافرين، ويحبون الجهاد في سبيل الله عز وجل…
2- إن الله عز وجل يستبدل من تحصل منهم الردة عن دينه، وينزع منهم هذه المكرمة، وهذه عقوبة ربانية حصلت مع الأقوام السابقين كبني إسرائيل مثلاً، عندما عصوا موسى عليه السلام، وخالفوا أمره في دخول الأرض المقدسة، فحصل ما حصل لهم من العقوبة أولاً ثم حصل الاستبدال بعد أربعين سنة…
3- إن طاعة الله عز وجل ومحبته والتزام أمره واجتناب نهيه لها جائزة عند الله عز وجل؛ وهي محبته في الدنيا والآخرة، ومحبة الله عز وجل في دار الدنيا هي مغفرةٌ ورعايةٌ وحفظٌ وتمكينٌ في الأرض، وتهيئةٌ لكل أسباب الرفعة والسمو لمن أحب الله عز وجل، وفي هذا درسٌ بليغٌ لمن يبحثُ عن رضا الله ومغفرته، بأن يلتزم منهجه…
4- إن المسلم الذي يسند ظهره لله، ويحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله لا يخاف أحداً ولا يحسب حساباً لأحد من الناس، ولا يخاف في الله لومة لائم من بشر لأن الله عز وجل هو وكيله، وهو وليُّه، وهو كافيه، وهو حاميه… وفي هذا درس لكل مسلم يحمل هذه الأمانة الربانية، أن السند الحقيقي هو الله وليس البشر، قال عليه الصلاة والسلام : «من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس. ومن أرضى الله بسخط الناس رضي الله عليه وأرضى عليه الناس» رواه الترمذي .والله سبحانه وتعالى يقول: ( وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ) ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ) ( إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ) .
5- الله سبحانه وتعالى هو صاحب صفات العظمة والجلال والكمال، التي لا تغيب عن ذاكرة المسلم، فهو واسع في ملكه وفي إرادته وفي قوته وفي كل أمر من الأمور، وهو عليمٌ علماً محيطاً كاشفاً لكل أمر من أمور البشر، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وفي هذا درس بليغ للناس وهو: أن من يتوكلون عليه ومن يسندون ظهورهم إليه؛ هو قادر على كل شيء… وليس كالبشر العاجزين، وصفاته سامية عليا؛ لذلك يفعل المسلم ما طلبه منه ربه عز وجل من أمور الطاعات، والباقي هو في دائرة قدرته تعالى وعلمه… فلا ييأس المسلم أبداً في عمله مهما تأخرت الأمور، ولا تفُتر همَّتُه أبداً لأنه يعلم علم اليقين أن الله عز وجل سينصره وسيستخلفه في الأرض، وإذا تأخرت الأمور فذلك خير يرتبه المولى عز وجل في دائرة علمه الذي لا نعلمه ولا يعلمه إلا هو وحده سبحانه… نساله تعالى أن نكون ممن أحبهم الله وهيَّأهم لحمل أمانة وحي السماء… اللهم آمين يارب العالمين…q