غزة: حرب الأوهام اليهودية وحلم دولة يهود الكبرى
2024/06/19م
المقالات
2,548 زيارة
د. محمد جيلاني
لا يمكن لأحد أن يصدق أن الحرب التي يشنها كيان يهود في غزة ورفح وشمال فلسطين هي مجرد رد وثأر وانتقام على عملية طوفان الأقصى التي شنتها حماس في السابع من تشرين أول 2023م. فبالرغم من التعاطف الذي حصل عليه الكيان في بداية الحرب، إلا أن المجتمع الدولي ممثلًا بدول ومؤسسات ونقابات وجامعات وأفراد عاد ليتهم الكيان بأعمال الإبادة الجماعية، وقد تمت إدانته فعلًا بارتكاب فظائع حرب إبادة وقتل لأطفال ونساء وشيوخ وهدم مدارس ومستشفيات ومساجد، وأن هذه الأفعال والجرائم لا يمكن أن تكون رد فعل على عملية طوفان الأقصى. ومن ثَم تم اتهام رئيس وزراء العدو بأنه مجرم حرب وتشبيهه بهتلر النازية وميلوسوفيتش الصرب. ولا يزال الكيان إلى اليوم يرفض ويتهرَّب من كل محاولات لوقف الحرب الإجرامية. فما هي الأسباب الحقيقية وراء هذه الحرب الشعواء والإجرام الشنيع؟ وما هي النتائج المتوقعة؟
1- الدوافع والأسباب
يعود إنشاء كيان يهود في فلسطين إلى وعد بلفور وزير خارجية بريطانيا الذي نصَّ على منح الحركة اليهودية الصهيونية وطنًا قوميًّا في فلسطين، مشاركةً مع أهل فلسطين مع اشتراط عدم وجود أي نوع من التمييز ضد المواطنين الأصليين من أهل فلسطين. وتبنَّت عصبة الأمم قرار بلفور وأوصت دولة الانتداب (بريطانيا) بالعمل على تسهيل هجرة يهود إلى فلسطين، وقد عمدت بريطانيا إلى تشجيع هجرة اليهود وتسهيل معاملات الهجرة والاستيطان في فلسطين، وأضافت اللغة العبرية إلى الوثائق التي كانت تصدر من حكومة فلسطين. ومن ثم تم استغلال الحرب العالمية الثانية والذعر لدى يهود أوروبا من خلال مجازر تم الترويج لحدوثها لتدفع اليهود للهجرة إلى فلسطين. وكان هذا نواة لدولة أرادتها بريطانيا تضم اليهود والفلسطينيين وتجعل القيادة السياسية للحركة الصهيونية. وقبل البدء بأعمال إنشاء الكيان رسميًّا وتقديمه للأمم المتحدة، قامت أمريكا بتقديم حل آخر لقضية إنشاء كيان يهود عرف بالكتاب الأبيض وحمل قرارًا للأمم المتحدة برقم 181، يقضي بإنشاء كيانين في فلسطين أحدهما خاص باليهود على مساحة 42% من أراضي فلسطين، وكيان للفلسطينيين على مساحة 56% وما تبقى أي 2% من المساحة تكون أراضيَ دوليةً وتشمل القدس وبيت لحم. وفي الوقت الذي قبل يهود والحركة الصهيونية بهذا القرار على اعتباره مرحلة أولى لدولتهم، فقد رفضه العرب بما فيهم جامعة الدول العربية، والسبب الرئيس لرفض العرب لقرار التقسيم يعود لتبعيتهم لبريطانيا صاحبة المشروع الأول، والتي رأت من خلال المشروع الأمريكي تهديدًا لمصالحها ونفوذها في المنطقة.
2- التهجير الأول
تم إنشاء كيان جديد في فلسطين عرف بدولة (إسرائيل) من خلال احتلال عسكري وبتواطؤ من بريطانيا والدول الخاضعة لها في مصر والأردن وفلسطين. ومن خلال قرار الأمم المتحدة بإنشاء دولة (إسرائيل) واعتراف الدول العظمى والأمم المتحدة بالكيان الحديث، والذي شمل معظم أراضي فلسطين باستثناء غزة والضفة الغربية لنهر الأردن. أما غزة فقد أُلحقت إداريًّا بمصر التي كان يحكمها الملك فاروق تحت النفوذ البريطاني، وتم إلحاق الضفة الغربية لنهر الأردن بإمارة شرق الأردن الخاضعة للنفوذ والاحتلال البريطاني والتي أصبحت تسمى المملكة الأردنية الهاشمية. وقد عمد كيان يهود إلى تهجير أكثر من 750000 من أهل فلسطين إلى الضفة الغربية وغزة ولبنان وسوريا والأردن؛ بحيث أصبح اليهود في فلسطين المحتلة هم الأغلبية العظمى. وقد أطلق على المهجرين عام 1948م لقب «اللاجئين». وتم إنشاء وكالة غوث اللاجئين خصيصًا لرعاية شؤون المهجرين في مخيمات اللجوء. وقد أدرك يهود منذ البداية أن التركيبة السكانية في فلسطين سوف تتغيَّر لصالح الفلسطينيين خلال بضعة عقود، ومن الأرجح أن يزيد عدد الفلسطينيين في دولة الكيان عن النصف مع حلول عام 2050م. وهذا التغيُّر الكبير والسريع شكل دائمًا مصدر قلق ورعب ليهود، وقد عبَّر عنه زعماؤهم بشكل صريح خلال حرب غزة بقولهم: «إن الحرب التي نخوضها هي حرب وجود».
3- التهجير الثاني
وفي عام 1967م، تمكن كيان يهود من احتلال ما تبقى من فلسطين أي الضفة وقطاع غزة. ونتج عنها عملية تهجير ثانية، حيث تم تهجير أكثر من 250 ألفًا من الضفة الغربية وغزة بمن فيهم لاجئو سنة 1948م، وأُطلق على المهجرين بعد حرب حزيران 1967 لقب «النازحين» تمييزًا لهم عن لاجئي سنة 1948م. والغالبية العظمى من النازحين تم تهجيرهم إلى الأردن. وبعد اتفاقيات أوسلو سنة 1993م تم تسليم إدارة الضفة وقطاع غزة للسلطة الفلسطينية رسميًّا، وإن كانت لا تزال هذه المناطق من حيث المبدأ تخضع لسيطرة الاحتلال، سواء وجد جيش الاحتلال فيها بشكل دائم أم بشكل متقطع. ثم تمكنت حركة حماس من الصعود إلى السلطة من خلال انتخابات في غزة؛ حيث تمت سيطرة حماس على النفوذ في غزة. وقد قرَّر الاحتلال اليهودي سنة 2014م سحب قواته من غزة من طرف واحد ودون أي اتفاق؛ ليبقى من الناحية الرسمية والعملية محتلًّا للقطاع وإن كان ليس لديه جيش هناك.
وقد عمد الاحتلال إلى بناء مستوطنات شبه دائمة في الضفة الغربية حيث تم توطين أكثر من 700 ألف يهودي فيها، ولا تخضع هذه المستوطنات للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية. وبذلك يكون كيان يهود قد تمكن من خلق تهجيرين لأهل فلسطين من أراضي فلسطين، حيث يزيد عدد المهجرين من أهل فلسطين خارج أراضي فلسطين الآن عن 3 ملايين. ومن خلال الاستيلاء على ممتلكات أهل فلسطين في الضفة الغربية بالقوة وبناء مستوطنات عليها، فقد أصبحت مساحة ما تبقى من الضفة والخاضعة للسلطة فيها أقل من 20% من مساحتها.
لقد اقتضت الظروف السياسية المحلية والدولية، خاصة الصراع الأنجلو-أمريكي على النفوذ في المنطقة، والتي سادت منذ إنشاء هذا الكيان أن يستمر وجود ولو جزئي للفلسطينيين على أرض فلسطين، التي يعتبرها كيان يهود كلها من البحر إلى النهر هي دولة (إسرائيل). فلم يتم تهجير جميع الفلسطينيين مرة واحدة.
4- التهجير الثالث
لقد عاد الحديث الآن عن تهجير ثالث للفلسطينيين يتم بموجبه تهجير الغالبية العظمى ممن بقي في فلسطين، سواء في المحتل منها عام 1948م أم المحتل منها عام 1967م. ولا يكفُّ كيان يهود عن السعي لتحقيق ما يصبو إليه من إتمام بناء دولتهم على أرض فلسطين كلها وتهجير ما تبقى من الفلسطينيين منها. وقد نشرت هآرتس بتاريخ 7/10/2022م مقالًا تحت عنوان «سيناريو نكبة 2023: طرد 200 ألف من عرب (إسرائيل) خلال يومين». وجاء في المقال ما نصه «زعماء الليكود والقوى اليهودية لا يُخفون مخططاتهم بخصوص تهجير عرب (إسرائيل)». كما تعهد بن غفير أنه سيشكل «هيئة وطنية لتشجيع الهجرة» تعمل على «إخراج أعداء (إسرائيل) من أرض (إسرائيل)». كما أعلن الدكتور مايكل بن آري، أنه سيعمل على تشجيع هجرة «عرب أم الفحم الذين يرقصون على أسطح المنازل عند ذبح اليهود». وقد نشرت هآرتس خطة لعملية التهجير، جاء فيها أن جيش الدفاع لديه آلية لتهجير أكثر من 200 ألف شخص خلال يومين. وتبدأ الخطة بافتعال معارك في سوريا ولبنان ومن ثم تتعرض (إسرائيل) إلى هجمات من حزب الله بالصواريخ والطائرات المسيَّرة. وأثناء تحرك جيش (يهود) ومروره من القرى العربية تتعرض سيارات وآليات جيش اليهود إلى قنابل مولوتوف ورمي بالحجارة من قبل المواطنين العرب. فتقوم قوات يهود بعملية تهجير قسري بحجة عدم إعاقة الأعمال العسكرية لجيش الاحتلال اليهودي. وخلال يومين يتم تهجير 200 ألف فلسطيني إلى الضفة الغربية. وقد جاء في السيناريو أن مكان التهجير على الأغلب سيكون في مخيم جنين. وليس بالضرورة أن يكون ما تم نشره في هآرتس دقيقًا ولكنه يكشف عن تفكير ونوايا زعماء يهود في فلسطين المحتلة، وأن التهجير غاية مستمرة. ولا يُستبعد أن يتم التهجير في النهاية للأردن الذي تم إنشاؤه كإمارة في شرق الأردن سميت (Transjordan)، والذي يعني إمارة انتقالية (Transient) أو إمارة تهجير (Transfer) وما جرى في أروقة مجلس الأمن بتاريح 6/1/2023م من ادِّعاء سفير الكيان بأن الأردن كان محتلًّا للضفة الغربية، كان بداية لإظهار دوافع كيان يهود نواياهم ودوافعهم بشكل علني ورسمي. وقد تبع ذلك إبراز وزير في حكومة الكيان خريطة (إسرائيل) والتي تشمل جزءًا كبيرًا من الأردن.
ثم إن إعلان أمريكا مرارًا وتكرارًا أنها لا توافق على تهجير قسري لأكثر من مليون من أهالي غزة إلى خارج غزة، ما هو إلا إبراز صريح لدوافع الكيان لهذه الحرب، وأهمها إفراغ فلسطين من أهلها وإقامة دولة الكيان على كافة أرض فلسطين واعتبارها يهودية صرفة. وبالرغم من إعلان أمريكا رفضها للتهجير “القسري”، فإن بايدن في أول زيارة له للكيان بعد 7 تشرين الأول 2023م كان قد صرح علانية بأنه يقف وراء يهودية الدولة حين قال: “أنا أؤيد قيام دولة يهودية في (إسرائيل)”. إضافة إلى أن أمريكا كما تصرح هي نفسها أنها تمانع التهجير القسري وليس مطلق تهجير، ولا شك أن انتقاء الألفاظ والتعابير هي من أدوات الخداع السياسي.
إن موضوع تهجير الفلسطينيين الثالث ليس مجرد دعاية، بل هو تفكير جدي خاصة أن زعماء يهود يعلمون أن أمريكا بصدد بناء شرق أوسط جديد بعد أن تمكنت من قلع النفوذ الإنجليزي من إيران والعراق وتمكنت من إيجاد نفوذ قوي لها في السعودية، وجلبت تركيا إلى صفها. فمن هنا يرى يهود أن الوقت ليس في صالحهم، وعليهم عمل ما يلزم للحفاظ على يهودية دولتهم، والتخلص من خطر محدق يتمثل بغزة والضفة الغربية في خاصرتيها وفلسطينيي الداخل في قلبها.
5- حل الدولتين: التصور الأمريكي
بعد حرب حزيران سنة 1967م، أصدر مجلس الأمن قراره 242 الذي صاغه السفير البريطاني اللورد كارادون القاضي بسحب قوات يهود من بعض الأراضي التي احتلتها دون تحديد هذه الأراضي والزمن اللازم للانسحاب. ولم يحصل من تنفيذ ذلك القرار أي شيء. وفي العام 1969م قدمت أمريكا بديلًا عن قرار 242 بما عرف فيما بعد بمشروع روجرز الذي احتوى في طياته إعادة طرح حل الدولتين؛ إلا أن هذا الطرح اصطدم مرة أخرى مع موقف بريطانيا وعملائها في المنطقة. وعادت أمريكا وطرحت حل الدولتين مرة أخرى بعد حرب 1973م، حين تمكنت بعدها من إخراج مصر من المواجهة مع دولة الاحتلال.
ومن جديد رأت أمريكا أن الظروف مناسبة لفرض حل الدولتين، واحدة لكيان (إسرائيل) وأخرى للفلسطينيين؛ حيث صرح المسؤولون الأمريكيون وعلى رأسهم الرئيس بايدن أنه وبعد انتهاء الحرب والذي أطلقوا عليه «اليوم التالي للحرب» يجب العمل مباشرة على حل الدولتين. والذي ما فتئت دولة الاحتلال ترفضه، وتعتبر قيام دولة فلسطينية يستمر بتهديد وجود الكيان.
ولم تكن أمريكا في السابق قد حددت معالم هاتين الدولتين على وجه التحديد من حيث الهوية والحدود. ولكنها الآن بدأت تصرح أنها تتفق مع اليهود بأن تكون دولتهم يهودية، يعني أن مواطنيها يهود فقط مقابل دولة أخرى مواطنوها فلسطينيون. ويهودية الدولة بات مطلبًا أساسيًّا للكيان المحتل، وأصبح الإعلان عنه والحديث فيه بشتى السبل وبشكل واضح لا لبس فيه. خاصة وأن التركيبة السكانية للكيان المحتل خلال 20-30 سنة ستكون لصالح الهوية الفلسطينية. وقد ردَّد بايدن التأكيد على دولة يهودية ديمقراطية، بل وربط استقرار الشرق الأوسط بوجود دولة يهودية معترف بها. كما كرَّر ذلك وزير خارجيته مرارًا وتكرارًا. بمعنى أن حرب غزة هذه أوجدت وسطًا خصبًا للإعلان عن بعض ما خفي في السابق. كما أن كيان يهود بدأ الإفصاح عن حدود دولتهم التي يريدون شيئًا فشيئًا. فالحديث عن التهجير للفلسطينيين من الجزء المحتل عام 1948م تم الحديث عنه صراحة في مقال هآرتس الذي تم الحديث عنه سابقًا في البند (4) من هذا المقال. وما الحديث الذي تردد مرارًا وتكرارًا إبان الحرب على غزة عن تهجير أهل غزة إلى سيناء وتهجير أهل الضفة الغربية إلى شرق الأردن، إلا دلالة واضحة على خطط يهود التي يبدو أنها لا توجد قوى حقيقية تقف أمامها لمنع تنفيذ هذه الخطط عمليًّا. فقد ورد عن محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية قوله: «أخشى أن يتم تهجير أهل الضفة الغربية إلى شرق الأردن» حسب ما أوردته عمون نيوز في 15/5/2024م. ولا أظن أن خشية عباس لا أصل لها. أما أمريكا فحين تعلن عن رفض التهجير فإنها تضيف لها لفظ «التهجير القسري» ليتم تفسير التهجير إن كان قسريًّا أو طوعيًّا حسب ما تراه مناسبًا. كما أنها حين تتحدث عن إعادة احتلال غزة ورفضها له، فإنها تضيف إليه عبارة «الاحتلال طويل المدى» وليفسر المفسرون ما شاؤوا، والمعنى في قلب المتحدث وليس المفسر.
وما الحديث الذي يتردَّد أحيانًا في أوساط أردنية وفلسطينية عن أن الأردن هو وطن بديل لفلسطين، إلا تسريب ممنهج أن هذا الأمر مطروح في أروقة الاستخبارات العالمية والمسيطرين على مجريات الأمور.
والحاصل أن كيان يهود اليوم يرفض بشكل قاطع ما يسمى حل الدولتين ما دام في دولتهم عدد كبير من العرب الفلسطينيين والذين ستزيد نسبتهم عن 50% مع حلول عام 2050م، ووجود فلسطينيين في وحدتين جغرافيتين هما غزة في خاصرة الكيان الغربية والضفة الغربية في الخاصرة الشرقية لكيانهم، ويعتبرون ذلك تهديدًا لوجودهم. ومن هنا تأتي تبريرات نتنياهو للحرب القائمة بالرغم من حجم الخسائر بأنها حرب مصيرية تتعلق بوجود الكيان اليهودي. ولعل نظرة اليهود هذه للحاجة الماسة لهودنة كيانهم وعدم السماح لوجود أهل فلسطين لا في داخل الدولة ولا في خاصرتيها، هي التي تجعل أمريكا تمد الحبل للكيان في حربه وتمهله أسابيع أو أكثر ليحقق ما يصبو إليه، لعلها تنجح في إجراء حل دولتين.
فما بين إصرار أمريكا على ضرورة حل الدولتين، وما بدأ تداوله في أروقة الأمم المتحدة والتوجهات الدولية من الاعتراف بدولة فلسطين كما حصل من قبل في النرويج والسويد وأيرلندا في 20/5/2024م، فلا شك أنه يؤشر بشكل واضح على استراتيجية أمريكا المتعلقة بقضية كيان يهود وفلسطين. فمن جهة دولة الكيان تريد أمريكا أن تكون دولة مكتملة الأركان، ذات حدود واضحة وهوية محددة وغاية محددة لوجودها، وأن تكون جزءًا لا يتجزأ من إقليم الشرق الأوسط الذي تسعى أمريكا لإيجاده. أما الدولة الأخرى وهي دولة فلسطين، فلا شك أن أمريكا تعتبر قيامها وشرعنتها في المنظمات الدولية، بعد تحديد حدودها ومكانها الجغرافي، تعتبره إنهاء لما عرف بقضية فلسطين منذ قيام دولة يهود على أرض فلسطين؛ لتصبح دولة فلسطين هي دولة كل الفلسطينيين سواء في داخل كيان يهود أو في دول التهجير كسوريا ولبنان والأردن، أو في حدود غزة والضفة الغربية أو في دول المهجر خارج الوطن العربي. بمعنى أنه لا بد أن تقوم هذه الدولة باعتبارها دولة الفلسطينيين ويقبل بها أهل فلسطين، خاصة الجهات صاحبة النفوذ كالسلطة الفلسطينية وما ينضوي تحتها من منظمات كفتح وغيرها، والمقاومة في غزة والضفة والمتمثلة بحماس والجهاد وغيرهم من أذرع المقاومة، إضافة إلى عموم الشعب الفلسطيني. وبالتالي تلتغي صفة اللاجئين عن الفلسطينيين في المخيمات في الأردن وسوريا ولبنان وغزة والضفة وفي شتى أنحاء العالم.
هل يقبل أهل فلسطين بقيام دولة فلسطين مقابل الاعتراف الكامل بدولة الكيان؟ حتى هذه اللحظة لا يوجد أي مؤشر على عدم قبول هذا الحل من أهل فلسطين ممثلين بجميع الفئات سواء من المقاومة أم السلطة. بل إن جميع الفصائل الفلسطينية رحبت بقرارات الدول التي قررت الاعتراف بدولة فلسطين من دون تحديد حدود وهوية واستقلالية هذه الدولة.
أما يهود فلا يزالون يصرون على عدم قبول وجود كيان للفلسطينيين في دولة تسمى فلسطين. والراجح أن اليهود يقصدون بذلك دولة تقوم على الأرض التي ما فتئت دولة يهود تعمل على ضمها بالقوة وتهجير أهلها منها بالقوة، أي في غزة والضفة الغربية؛ ولكن كيان يهود لن يقاوم قيام دولة فلسطينية على الأردن بشكل كامل، أو في الجزء المتبقي من الصفة بعد اقتطاع الجزء الأكبر والذي أقيمت عليه مستوطنات كثيرة؛ خاصة إذا ارتبطت هذه الدولة بالأردن بشكل محكم من خلال اتحاد فيدرالي أو كونفيدرالي. فعلى الحالتين تكون الدولة ليس لها أي شكل من أشكال القوة.
والحاصل أن ما تسعى إليه أمريكا هو التأكيد على شرعية كيان يهود وجعله جزءًا لا يتجزأ من منظومة الشرق الأوسط الجديد. كذلك إيجاد كيان للفلسطينيين على شكل دولة تكون قابلة لاستيعاب أهل فلسطين في مخيمات اللجوء، وبذلك تنتهي قضية اللاجئين وما يصاحبها من حق العودة إلى فلسطين الأرض، فالمطالبة بالعودة في مثل هذا الحل سوف يتم تأويله أو تحويله للمطالبة بالعودة إلى دولة فلسطين التي قبل بها أهل فلسطين، سواء أكانت على الجزء المتبقي من الضفة الغربية، أم كانت جزءًا من كونفدرالية مع الأردن، أم كانت هي الأردن المتحوِّل إلى وطن بديل. وسوف يكون حل الدولتين على هذا الشكل، واحدة يهودية قوية جدًّا وأخرى فلسطينية هزيلة جدًّا ومسلوبة الإرادة، سيكون وبالًا على أهل فلسطين، وعارًا على عموم المسلمين، وكارثة أسوأ من كارثة الاحتلال نفسها.
فالاعتراف بكيان يهودي في أرض فلسطين كلها أو الجزء الأكبر منها، سوف يستغله يهود بما عرف عنهم من مكر وجشع واحتيال، للإعلان عن أن وجود الفلسطينيين في أرض (إسرائيل) لم يكن شرعيًّا من أصله، وأنهم كانوا محتلين لأرض (إسرائيل) التي كان يطلق عليها فلسطين! وقد رشح مثل هذا السيناريو من قبل أحد وزراء حرب الكيان المحتل، حين ادَّعى أن الأردن من خلال ضمه للضفة الغربية كان قد احتلها وعاد يهود ليحرروها من الاحتلال الأردني. ومن الممكن أن يطالب يهود بتعويضات من الجانب الأردني ومن الفلسطينيين ممثلين بدولتهم. وما ذلك على يهود ببعيد.
6- أمريكا ومشروع الشرق الأوسط الجديد
أمريكا تعلم جيدًا أن الاعتراف بكيان يهود من قبل الدول العربية بما فيهم فلسطين عند قيامها لن يوفر للكيان حاضنة طبيعية بين دول عربية اللغة والقومية تدين بالإسلام، بينما الكيان يهودي العرق والدين وعبري اللغة. فلا بد من نظام سياسي جديد ذي ميزة جغرافية سياسية (geo-politicalregion). وهذا ما تتحدث به أمريكا وتعنيه حين يصرح بايدن قائلًا: “ما لم يتم الاعتراف بالكيان من جميع دول المنطقة والتطبيع معه فلن يكون هناك استقرار في الشرق الأوسط”. فبناء إقليم الشرق الأوسط هو هدف استراتيجي لأمريكا لأسباب كثيرة أهمها جعل كيان يهود جزءًا من إقليم سياسي تعمل أمريكا على المحافظة فيه على التوازن الاستراتيجي ذاتيًّا. وبالإضافة إلى كيان يهود تعمل أمريكا على جعل إيران وتركيا جزءًا من إقليم الشرق الأوسط، ولكل منهما دور مهم، كما رشح من تقرير بيكر-هاملتون بعيد احتلال أمريكا للعراق؛ حيث كشف عن دور مهم لإيران وتركيا ضمن منظومة الشرق الأوسط. خاصة وأن إيران منذ ثورة 1979م أصبحت فريدة في المنطقة دون رابط يربطها بأي إقليم، ما يشكل عبئًا على الدولة الأولى في العالم من حيث إفراد سياسة خاصة بها. ومثلها تركيا التي لم تتمكن من الانضواء تحت رابطة الاتحاد الأوروبي فبقيت هي الأخرى فريدة في المنطقة. من هنا فإن أمريكا تسعى لبناء شرق أوسط جديد تكون فيه الدول العربية في آسيا وشمال أفريقيا، إضافة إلى كيان يهود وإيران وتركيا. ولعل ما جرى من عمليتين محدودتين بين إيران وكيان يهود ما هو إلا مقدمة لجعل الدولتين جزءًا من الإقليم المزمع إنشاؤه. وكذلك محاولة إدخال تركيا في المفاوضات التي تجري بين الكيان من جهة وبين حماس من جهة أخرى. وأضف إلى ذلك أهمية التوازن الاستراتيجي الذاتي في الشرق الأوسط والذي لا يمكن أن يتم بشكل طبيعي ما دامت هناك دولة واحدة تملك أسلحة دمار شامل نووية كدولة كيان يهود؛ لذلك سعت أمريكا دائمًا لتوفير غطاء لإيران كي تمتلك القدرات النووية ومنعت دائما كيان يهود من توجيه ضربة للمنشآت النووية إلى أن تمتلك إيران السلاح النووي. وعندها يصبح استخدام السلاح النووي لبسط النفوذ على الإقليم غير ممكن لوجود التوازن الاستراتيجي. وقد حصل مثل ذلك حين مكَّنت أمريكا الباكستان من الحصول على السلاح النووي بعد أن حصلت عليه الهند.
والحاصل أن أمريكا في أعمالها السياسية القائمة في الشرق الأوسط الآن تحرك القطع وتستحدث الأعمال بناء على تصور واضح لديها عن خارطة الشرق الأوسط السياسية، والتي تضمن بها الهيمنة المطلقة على الإقليم، وتستبعد نفوذ أي دولة أخرى كبريطانيا. وقد عملت على إخراج إقليمها المنشود بشكل دؤوب وعملت على حل العقد في طريقها عقدة عقدة. فقد أخرجت النفوذ البريطاني من إيران سنة 1979م، وأوجدت لها نفوذًا في جمهورية إيران، واحتلت العراق وأخرجت منه النفوذ البريطاني العريق، وركزت نفوذها في السعودية منذ مجيء الملك فهد ومن ثم سلمان وابنه، وساهمت في كسر شوكة وحمية الشعب في سوريا والذي كان عقبة كأداء أمام الاعتراف بكيان يهود كما ورد في تقرير لكيسنجر بعيد حرب 1973م، وتمكَّنت من وضع قواعد عسكرية في دول الخليج ذات النفوذ البريطاني القوي، وعملت على تقسيم السودان الدولة ذات المساحة الكبرى في المنطقة، وتعمل حثيثًا لبسط نفوذها في شمال أفريقيا وإخراج النفوذ البريطاني والفرنسي منه. لقد كان حل هذه العقد واحدة تلو الأخرى ضروريًّا ومهمًّا لبناء إقليم شرق أوسط جديد، ولعل أمريكا بدأت ترى أن الحرب الدائرة في غزة ستؤدي إلى حل آخر عقدة في عملية بناء الإقليم، ما يلقي الضوء على الاهتمام الشديد سياسيًّا وعسكريًّا في مجريات الأحداث يومًا بيوم وساعة بساعة، فلم تخلُ المنطقة من سياسيي أمريكا ولو ليوم واحد منذ بدايتها.
7- ماذا بعد؟
منذ بداية هذا المقال، لم يتمَّ التطرَّق إلى العامل الأهم والأكثر حساسية وتأثيرًا في مجريات الأحداث، وهو عامل الإسلام بوصفه فكرة عقدية متأصلة في المنطقة تؤمن به شعوب المنطقة، وترجو أن يعود ليكون هو محرك الأحداث لا المنفعل بها. والسبب في تأخير هذا الجزء المهم من المقال إلى النهاية، هو أن الأعمال السياسية وما يتبعها من أعمال عسكرية وتحدٍّ لمخططات دولية لا يمكن أن تتم لمجرد إيمان الشعوب العربية والتركية والإيرانية بهذا المبدأ، دون أن يكون لمبدأ الإسلام السيادة الوحيدة على مجريات الأمور والأحداث، والمقدرة على التصدي لها من جهة، واستحداث أعمال وخطط خاصة به من جهة أخرى. فالأحداث الجارية في المنطقة ومنذ هدم كيان دولة الخلافة الإسلامية سنة 1924م وإلى الآن كلها تتمُّ بعيدًا عن دور الإسلام ومبدئه بشكل مطلق. ومع ذلك فإن القيم الإسلامية وما ينتج عن الإيمان بالله وبعقيدة الإسلام مطلقًا تظهر على أفراد الأمة بشكل واضح وجلي خاصة عندما تضيق بهم الآفاق، كما ظهر جليًّا في حرب غزة من صبر أدهش الكفار قبل المسلمين وعزيمة قوية يلين لها الحديد. أما من الناحية السياسية والتصدي لخطط أمريكا وعملائها فالموضوع مختلف جدًّا. والإسلام بوصفه عقيدة كلية ومبدأ شاملًا ليس له من الأمر شيء حتى هذه اللحظة. وإن كانت تحت الأمواج الهادرة في المنطقة هناك موجة متحركة بشكل قوي وثابت باتجاه إعادة الإسلام كمبدأ أصيل مصحوبًا بنظام شامل وطريقة واضحة ليصبح محركًا أساسيًّا للأحداث؛ حيث إن العمل لاستئناف الحياة الإسلامية وإعادة بناء نظام الخلافة السياسي الذي تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم نظامًا شاملًا، واضحًا، قويًّا، مؤثرًا قبل أن ينتقل إلى الرفيق الأعلى، وقال في ذلك «تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ» وقال «وَسَتَكُونُ خُلَفَاءُ فَتَكْثُرُ» وقال «ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ». فنظام خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحكم والذي سار عليه المسلمون ابتداء بأبي بكر وانتهاء بآخر خليفة للمسلمين، بدأ يلوح في الأفق، ويشعُّ نورُه من بين ظلمات متراكمة. ولا شك أن ظهور الإسلام الثاني؛ الخلافة على منهاج النبوة، سيقلب الموازين تمامًا. فالاعتراف بكيان يهود في فلسطين سيتمُّ دثره ورده إلى ظلمات البحار. والحدود التي فرضتها بريطانيا وفرنسا وكرستها وأعادت أمريكا ترتيبها سيتم شطبها من خريطة التاريخ الحديث كاملًا، والاعتماد على أدوات الاستعمار الغربي كالبنك الدولي وغيره ستصبح أثرًا بعد عين، وغيرها الكثير الكثير. ولن يكون همُّ أمريكا وحلفائها كيانَ يهود بقي أم اندثر، بل سيكون همهم الأكبر الحيلولة دون عودة جيوش المسلمين لجهاد الفتح الذي توقف منذ زمن؛ ولكن أولئك الطغاة لم ينسوه أبدًا.
إن عودة الإسلام إلى الحكم وإدارة شؤون المسلمين، كل المسلمين، بات مطلبًا لكل المسلمين بعد أن رأوا وشاهدوا وأصابهم ما أصابهم أثناء غياب ماردهم القوي. وبما رحمة من الله، قام حزب التحرير في الأمة رافعًا راية رسول الله، وحامل لواء الخلافة على منهاج النبوة، لا يضره من خذله، ولا يصدُّه ظلم الحكام، وإحجام المرجفين، وتردد المنافقين، بل يسير سافرًا متحديًا الظلم والإحجام والسجن والتعذيب والقتل. ولم يبقَ من الطريق التي قطعها وسار عليها منذ عام 1953م إلا إعلانها خلافة على منهاج النبوة. أسأل الله أن يكون ذلك قريبًا، وما ذلك على الله بعزيز.
(وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ)
2024-06-19