دراسات غربية مُلوثّة تطعن في فكرة الدولة الإسلامية
2024/03/26م
المقالات
1,143 زيارة
أحمد الخطواني
تتسابق المؤسّسات البحثية التي يتم توظيفها لخدمة النظام الرأسمالي العالمي ونشر القيم الفردية والمادية واللادينية في طرح دراسات مُوجّهة من الحكومات الغربية لضرب فكرة الدولة الإسلامية وتشويهها، بل وفي مُحاولة إثبات فشل الجماعات الإسلامية في إقامة نموذج للحكم الإسلامي خاصة بعد إفشال الموجة الأولى من الثورات العربية بالتآمر عليها ركوبًا وإجهاضًا واحتواءً.
وتتماهى مراكز الدراسات في الدول القائمة في البلاد الإسلامية مع هذا الطرح، بل وتُبالغ في الهجوم على مفهوم الدولة الإسلامية، وعلى أحكام نظام الحكم الإسلامي، وتتجاوز كل الحدود الموضوعية في التعدِّي على المفاهيم السياسية في الإسلام، وفي نشر الأكاذيب حول شمولية الإسلام على جميع أنظمة المجتمع بزعم أنّه مجرد مجموعة من العبادات ومنظومة من القيم الخلقية ولا علاقة له بالسياسة.
ويُلاحظ أنّ ما تنشره المراكز البحثية الرسمية في بلاد الـمُسلمين لا يختلف بشيء عمّا تطرحه المراكز البحثية في البلدان الغربية، فكأنّ المراكز البحثية في بلادنا نسخة كربونية عن تلك المراكز.
كيف لا، والذي يرعى هذه الدراسات ويُموّلها هم تلك النخبة من عملاء الدول الغربية في السياسة وفي الفكر، فهم مُجرّد صدى للصوت القادم من الغرب، ولا تختلف مراكز الدراسات في هذه التبعية بين أن تكون تابعة للأنظمة الـمُوالية لأمريكا والغرب ظاهرًا وباطنًا كمصر والسعودية، أو بين الأنظمة التي تُسمي نفسها مُمانعة كسوريا، أو التي تعتبر نفسها داعمة للشعوب في التحرر من الاستبداد كقطر.
فمثلًا نشر مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية بتاريخ 31 من كانون الثاني لعام 2023م دراسة حديثة بعنوان «النوستالجيا السياسية بين المأزق والملاذ في العالم والإقليم»، والذي تناول الحديث عن توظيف ما يسمى الحنين لفترات سياسية ماضية بهدف حل المشكلات السياسية في الوقت الراهن، والذي قد يؤدي إلى إشكالية إرباك سياسي وانعدام الرؤية لتغيرات وحقائق الواقع، وبالتالي فشل هذه السياسات. فعلى سبيل المثال بوتين يسعى إلى إحياء قوة الاتحاد السوفياتي البائد وأن الحرب على أوكرانيا كانت نتيجة لذلك، كما أن ترامب رفع مجدَّدًا شعار «أمريكا عظيمة مرة أخرى»؛ لكن حديث هذه الدراسة لا يقتصر على الغرب إنما تناول الحديث عن الشرق الأوسط بوصفه هيمنة عقلية ماضوية على ثقافة المجتمعات. وبدلًا من استثناء الدولة الإسلامية كنظام حكم متكامل رباني يناسب جميع الأزمان تحدثت الدراسة عنها كأنها وهْمُ الحنين إلى أمجاد الدولة الإسلامية الذي يدفع بعض الجماعات الإسلامية المتطرفة أن تحاول استدعاء الماضي الذي لن يحل أزمات الشباب في الحاضر سواء الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية!
لم تتناول هذه الدراسة المأزق أو الملاذ الذي تحدث عنه العنوان، وتجاهلت تمامًا أن الأنظمة الرأسمالية هي فاسدة أصلًا وأنها المأزق الحقيقي، وأن الدولة الإسلامية هي نظام حكم وليست مجرد حقبة سياسية ولَّت واندثرت.
إن أكثر الدراسات التي نشرت على إثر الثورات العربية استغلَّت نتائج تلك الثورات لإزاحة الوجهة الصحيحة للتغيير نحو ما يسمى بالواقعية، أي الاعتراف بالأمر الواقع؛ حيث قدّمت للشباب الساعي نحو التغيير أمثلة حية من أرض الواقع عن نتائج هذا التغيير، وبذلك تمّ صرف جهودهم عن العمل لإقامة نظام الحكم الإسلامي بعرض وقائع لا تعبِّر إلا عن الاستسلام للعلمانية، والانصياع للرأسمالية تحت مسمَّيات دينية!
فقد نشر مركز الجزيرة للأبحاث في تاريخ 17 من نيسان عام 2016م، دراسة بعنوان «إسلاميو المنطقة المغاربية: من حلم الدولة إلى واقعية السلطة» عرضت فيها فكرة أسلمة الدولة ورفضتها، وبيّنت عدم قدرة الإسلاميين على مجاراة المشكلات السياسية، وبسبب ذلك تمّ تقديم التنازلات، ثمّ تمّ الاستسلام للعلمانية بوجه أو بآخر.
ومثلًا طرح سعد الدين العثماني وزير الخارجية المغربي السابق فكرة «التمييز بين الدين والسياسة» وهي في الواقع الوجه الآخر لفصل الدين عن الدولة، وبحسب هذه الدراسة فقد استندت الفكرة على (الواقعية) كونها المحرك الرئيسي للسياسة، وهي أكثر تأثيرًا من التشريع الإسلامي؛ إذ ذكر في الدراسة الاقتباس التالي تحديدًا:
«هنالك حاجة إلى العودة زمنيًّا إلى الماضي للإشارة إلى أنّ شعار إقامة دولة إسلامية مثَّل محرِّكًا عاطفيًّا ووجدانيًّا وتنظيميًّا للأجيال الأولى من الإسلاميين الباحثين عن الحل لأوضاع الاستبداد السياسي والتخلف الاقتصادي، ويمكن وصف تلك المرحلة بأنها فترة الاعتماد الكبير على «النص» الشرعي التأسيسي بكل دلالاته التي تشير إلى وجوب إقامة الدولة والحكم الإسلامي، رفضًا لأنماط الحكم السائدة في المنطقة العربية، واستلهامًا لنموذج تاريخي، اعتقد الإسلاميون في تلك المرحلة، ولا يزال آخرون يعتقدون حتى اللحظة أن بإمكانه تقديم الحلول السياسية الصحيحة لإدارة الحكم الرشيد».
فهو يعتبر أنّ الدولة الإسلامية مُجرد شعار، وأنّها محرّك عاطفي ووجداني وليس تنظيميًّا، وقرّر بشكلٍ تعسفي أنّها كانت مجرد نموذج تاريخي اعتمد في تلك المرحلة على النص الشرعي، وهو لم يعد مقبولًا اليوم.
وهو بذلك يُناقض الحقيقة التشريعية والتاريخية؛ فنظام الإسلام لو كان نموذجًا تاريخيًّا فقط لما نجح في سياسة أمة نحو 1300 عام، وسياسة شعوب بألسنة وثقافات متفاوتة بين الشرق والغرب من خلال قيادة فكرية ناجحة.
ثمّ كيف يُفسّر في دراسته تحكيم الشرع في السياسة والسلطة إشكالًا؛ حيث قال: «طغى النظر إلى السياسة والسلطة من خلال المباحث الفقهية، وهو ما يُعتبر أحد الإشكالات؛ إذ السياسة ليست فتاوى بالجواز وعدمه، فوراء كل سلوك سياسي فكر وفلسفة سياسية ليس مجالها هو الشروط والموانع والقيود بمعناها الفقهي». وفي هذا الكلام قبول بفكرة فصل الدين عن الحياة وعن الحكم بكلام فلسفي لا علاقة له بالفقه ولا بالمعارف الشرعية.
وأمّا مركز الدراسات الاستراتيجية التابع للجامعة الأردنية، فقد نشر بتاريخ 18 من تشرين الثاني لعام 2018م دراسة بعنوان «الإسلام السياسي بما فيه إضرار بالدين والسياسة» والذي حاول تسليط الضوء على أن وجود الإسلام في الساحة السياسية هو مدعاة للإرهاب والتطرف، وأنّه يجب أن يقتصر على أن يكون ملهمًا للأخلاق والقيم لا أن يكون هو الأساس في العملية السياسية؛ حيث إن تدخل الإسلام في السياسة ما هو إلا عدو للديمقراطية وحرية الاعتقاد – على حد زعمه – مستندًا بذلك على تقرير البرلمان البريطاني.
ويُرى جليًّا تجذُّر الفكرة العلمانية بهذا النص الوارد في الدراسة: «لكن ورغم هذا الغموض في الأفكار الإسلامية، فقد أظهرت الأحداث الأخيرة في الشرق الأوسط (الربيع العربي) قوة الأفكار وقدرتها على عبور الحدود الوطنية والتأثير على الأفراد والدول والمجتمعات، وإن كان من عقد اجتماعي يصلح مخرجًا للأزمات والصراعات القائمة، فهو «التدين بدلًا من الأسلمة» بمعنى أن يكون الدين ملهمًا للقيم والمبادئ والسياسات على نحو فردي و/أو اجتماعي في حين تخضع السياسة والتشريعات للعقلانية الاجتماعية والأخلاقية معبرًا عنها باجتهاد الناس حسب الانتخابات التشريعية والعامة دون ادِّعاء بالصواب الديني أو السياسي، بل وفي التزام سياسي وثقافي باحتمالية الخطأ، ما يعني بالضرورة أنه ليس ممكنًا في الديمقراطية والحكم والسياسة اجتراح حلول ومبادئ وقرارات تمثل الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه!»
فهذه المعاني تجعل من مبدأ الإسلام الرباني العظيم مجرد تدين ملهم للقيم، بدلًا من اعتباره مبدأ ونظام حكم وطريقة عيش، وجعل الديمقراطية مبدأ بديلًا عن الإسلام، أو حتى شرعنة الديمقراطية حتى يبدو الإسلام في عيون الغرب بريئًا من الإرهاب والتطرف! وهذا كله سوء فهم للإسلام وللتشريع الإسلامي، وانتقاص من كونه مبدأً كاملًا وصالحًا للبشرية في كل زمان ومكان.
ولا بُدّ من التنويه في هذا المقام أنّ مصطلح الإسلام السياسي استُحدث لحرف البوصلة السياسية عن وجوب إقامة الخلافة، وطمس الأفكار التي تؤدي إلى التغيير الجذري من خلال الحكم بالإسلام من خلال دولة الإسلام.
إن اعتبار الدراسة أنّ الإسلام غير مقبول إذا تدخل في العملية السياسية فيكون إسلامًا سياسيًا بقولها: «شاع استخدام مصطلح الإسلام السياسي، باعتباره يعني الجماعات الإسلامية السياسية التي تعمل لأجل تطبيق الشريعة الإسلامية والمفاهيم والأحكام الإسلامية من خلال المشاركة السياسية السلمية و/أو الديمقراطية؛ لكنه اسم يحتمل تسميات أخرى كثيرة غير ذلك؛ إذ إنه يعني التطبيق والمفهوم السياسي للإسلام، ويشمل هذا التعريف الأنظمة السياسية العربية والإسلامية القائمة، والتي تطبِّق الشريعة الإسلامية أو تقوم بدور ديني سياسي، كما يشمل أيضًا جماعات إسلامية متطرفة، سواء أكانت سلمية أم تستخدم العنف؛ لأنها أيضًا جماعات لديها برامج وتصورات لتطبيق الإسلام وفهمه سياسيًّا». هذا الاعتبار فاسد من حيث المعنى والاصطلاح والمضمون.
هذه عيّنة قليلة، وهي نزر يسير من بحرٍ مُتلاطم الأمواج من الدراسات الغربية الحديثة التي تحمل مفاهيم الغرب بلسانٍ عربي سقيم، ليس لها من همّ سوى الطعن في فكرة الدولة الإسلامية، وتلويث نظام الحكم في الإسلام، واعتباره حقبة زمنية مضت ولا أمل لها في الرجوع، وهدفها الرئيسي توجيه الطاقات الشبابية نحو التعاطي مع الأنظمة الفاسدة، والقبول بها على أنّها واقع لا رادّ له، والتكيُّف معها، وتصويرها بأنّها هي الحق والحرية ورفض الاستبداد، بدلًا من العمل على بيان انحرافها وخطرها وتدميرها للبشرية، والعمل على اجتثاثها والتخلص منها بانتزاع جذورها العفنة من قلوب الـمُـغرّر بهم، واستبدال نظام الإسلام بها بعقيدته ونظامه، وبفكرته وطريقته، وبهديه وعدالته، والعمل على إعادته إلى الواقع تطبيقًا وحملًا وجهادًا من خلال دولته دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة التي وعدنا الله سبحانه بها، وبشّرنا بها رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، وإنّ النصر لحليف المتَّقين، ورديف العاملين.
2024-03-26