وجوب أن تنقاد الأمة لعلمائها، وللأحزاب السياسية المخلصة فيها (الكيان التنفيذي والكيان المجتمعي)
2024/03/26م
المقالات
1,214 زيارة
ثائر أحمد سلامة
تتكوَّن الأمة من كيانين: كيان تنفيذي ممثل بالحاكم وبطانته وجهاز الحكم في دولته والشرطة والجيش الذي يعمل على حماية تطبيق الإسلام ونشره في العالم، فهذا الكيان يسهر على تطبيق الإسلام وبيده القوة التي وصفها سيدنا عثمان رضي الله عنه بقوله: «يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن».
والكيان الثاني هو كيان الأمة المجتمعي، وهذا لا بد له من قيادة تقوده، ولا بد له من ساهر على وعيه وثقافته، وحارس يبين له أي جنوح عن تطبيق الإسلام ممن بيدهم القوة، أو من مؤامرات تحاك ضدهم من قبل أولي الأمر أو من قبل أعدائهم أو فئات منهم، وهذه القيادة لا تتمثل إلا بالعلماء، وإلا بالأحزاب السياسية التي تقود الأمة! وعلى الأمة أن تنقاد لها! خاصة والإسلام يدرك أن الدولة الإسلامية دولة بشرية تتراوح في قوة تطبيقها للإسلام بين خلافة راشدة وبين ملك عاضٍّ! وأن المسلمين قد يغفلون عن حماية الإسلام فتضيع الدولة فيقعون بين فك ملك جبرية تهلكهم!
من هنا فالحاكم هو قائد الكيان التنفيذي يسهر من مكانه على تطبيق الإسلام وحراسته، وبيده القوة التي يزع بها الله من لم يزعه القرآن، ولكنه بشر يصيب ويخطئ. والعلماء والأحزاب السياسية هم قادة الكيان المجتمعي يسهرون على تطبيق الإسلام وأهم أعمالهم المحاسبة!! والتثقيف وبناء الرأي العام ودوام سقيه ورعايته ليبقى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صفة أساسية للمجتمع!.
إن من أشد الأمور خطرًا وأهميةً للمسلمين هو وعيهم على ضرورة الانقياد للعلماء وللأحزاب السياسية التي تحمل الإسلام مبدأ للتطبيق، وتسهر قوّامة على فكر المجتمع وقضاياه. فأما العلماء، فلا بد لهم من أن يدركوا أن واجبهم الأخطر والأهم ليس الوعظ والإرشاد، ولا الإفتاء، ولا تحصيل الشهادات والأبحاث التي تتناول قضايا بالكاد تجد من يقرؤها من رسائل الماجستير والدكتوراه شديدة التخصص، في قضايا علمية أكاديمية بحثية منبتّة عن الواقع، ولا تدريس الإسلام تدريسًا أكاديميًّا؛ إذ إن التدريس الأكاديمي يُفقد التثقيف المطلوب فاعليته في التأثير والتغيير، ولا بد من أن يوضع حائل كثيف بين أذهان المتلقِّين عنهم وبين الناحية العلمية، حتى لا تتجه الثقافة الحزبية، أو الثقافة المجتمعية اتجاه الثقافة المدرسية العلمي المنفصل عن الواقع. فالإسلام إنما جاء لتغيير المفاهيم، وللتطبيق في الواقع حتى يغيره ويصوغه في قالبه، ولمعالجة مشاكل الإنسان والمجتمع في معترك الحياة، ولصياغة شخصية الإنسان عقليةً ونفسيةً، ولصياغة علاقات المجتمع على أساس الإسلام. فالصحابة الكرام كانوا «يقرؤون القرآن للعمل والتطبيق، لا بقصد الثقافة والاطلاع، ولا التذوق والاستمتاع، بل التلقي والتنفيذ، يعالج مشاكل حياتهم والنوازل العملية الواقعية، فيتلقون تصوُّره وهديه، ويستلهمون منهجه، ويصححون تصوراتهم وأخطاءهم بناء على هديه، ويصوب مشاعرهم وسلوكهم، ويضبط علاقاتهم، في جو إيماني مرتبط بالله تعالى، يعيشون مع الملأ الأعلى، ويكيّفون واقع حياتهم وفقًا لذلك المنهج»[1]. إذ لم تكن العقيدة الإسلامية يومًا فلسفةً جامدةً ولا فروضًا نظريةً تخاطب «الفكر البشري» وحده خطابًا باردًا مصبوبًا في قالب المنطق الذهني»[2]، ولا دروسًا أكاديمية، بل لقد زاوج الوحي بين الإيمان والعمل الصالح! فكان عقيدةً نابضةً بالحياةِ، لا فلسفة جافَّةً باردةً، كان مفاهيم حيوية تحرك النفوس، وتبعث في أرجائها السكينةَ والطمأنينةَ والتأثُّرَ والتأثِيْرَ، والتفكيرَ والتَّدبُّرَ، والانطلاقَ لحمل رسالته، والثقةَ المطلقةَ بالوصول للحقيقةِ المطلقةِ، والدافعة للقيام بخوارق الأعمال والأفعال!.
كما أن التعليم الأكاديمي يفصل الفرد عن محيطه المجتمعي، فيتعلم فردًا، أو يرى نفسه منتميًا إلى أقلية معينة غير قادرة على التأثير والتغيير، ويتعلم -أي إنه يكتسب المعارف وينمِّيها- ما قد يحتاجه في الحياة، وما قد لا يحتاجه، وقد يحتاج ما تعلمه في الحياة؛ ولكنه لا يقوّم سلوكه وفقًا لها، فتتحول إلى معارف جامدة باردة، بينما التثقيف المطلوب فإنه يبني شخصيته، ويقوّم سلوكه. وأما التثقيف المطلوب فهو التثقيف الجماعي الذي يُصلح جزئية الجماعية لا لفرديتهم، فالمقصود به فهم ما في المجتمع من عقائد وأفكار وعادات باطلة سيخوض معها مرحلة صراع عنيفة، فلا بد من الإحاطة بها لمعرفة الرد عليها، كالديمقراطية والعلمانية والليبرالية والوطنية وغيرها، مما هو من هذا الباب. ودراسة علاقات المجتمع الفاسدة لإصلاحها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن تؤخذ هذه المعارف والمعلومات للعمل بها حالًا في معترك الحياة. وحين نقول للعمل بها في معترك الحياة، فإننا لا نعني بها الاقتصار على تسيير سلوكه الشخصي بموجبها، بل المراد حملها للناس، وخوض الصراع الفكري مع خصومها، بغية جعلها أعرافًا للمجتمع، وأساسًا لعلاقاته، أو للتغيير بناء عليها، أو نشر أفكار المبدأ وآرائه ومعتقداته.
ولهذا لا بد من أن تكون الثقافة عملية، سواء من حيث سلوك الفرد، أم من حيث حملها ونشرها للناس وخوض الصراع الفكري بها. ولا بد أن تُستبعد الناحية المدرسية العلمية، فلا هو امتحان ولا سؤال وإجابة، ولا هو مسألة حفظ واستظهار. بل مسألة فهم وعمل، مسألة تثقيف وتفاعل وتجسيد للمبدأ في الدارس وفي المجتمع من حوله. فإذا ما تفاعل العالم والدارس مع الثقافة بهذه الطريقة انعكس أثر بضعة علماء ربانيين مخلصين، وبضعة أعضاء في الحزب السياسي على جموع حاشدة، لا يلبث تأثيرها أن يمتد لثقافة ووعي المجتمع، فتكون قوة يحسب لها الحساب، بينما يعجز التعليم الأكاديمي الفردي عن تعدي تأثيره في بضعة أفراد لا يحدثون تغييرًا في المجتمع[3].
ولكن دور العلماء -والأحزاب السياسية- الأخطر والأهم هو أولًا أن يتجسد الإسلام فيهم تجسدًا حقيقيًّا، بعقيدته وحيويته وتكاليفه، أن يتسموا بالنزاهة والصدق والأمانة، فلا يأمرون بخير إلا كانوا أول من يأخذ به، ولا ينهون عن شر إلا كانوا أول منته عنه. فإن الأمة إذا رأت ذلك منهم انقادت لهم طبيعيًّا، وطريقة ذلك أن يكونوا شخصيات قيادية مؤثرة ملهمة، تمتلك الرؤية الواضحة لما تريد تحقيقه، وتركيز الخطاب على تحقيق تلك الرؤية، بنهج واضح عملي قادر على التغلب على العقبات، تصاحبه المثابرة والإصرار والهمة العالية، ودوام التواصل مع الأمة وتحفيزها على تسيير شؤونها وفقًا لهذه الرؤية الواضحة، واطّلاعهم على أحوالها، والاستماع لآرائها، فتلمس الأمة فيما يرشدها إليه علماؤها وأحزابها السياسية الفهم العميق، والفكر المستنير، والهدي المنطبق على الواقع، ويرون منهم القرب منهم، والقدوة التي تعينهم على الضغوط التي يتعرضون لها، كل ذلك مع اتصافهم بالتواضع والرحمة والحرص، مما ينشأ عنه علاقة محبة متبادلة، وشخصياتٍ راغبةً في التغيير، مؤمنةً برسالتها، وأن يكون العلماء، وتكون الأحزاب في أشد درجات القرب المكاني من حمى وطيس المعركة الفكرية مع الحكام والسلطات، يتقدمون الركب، مؤمنين بموعود الله، وهذا ما يدفع تيار الأمة المتحرك للنمو، والتطور بالانتقال من حال إلى حال، يستمد حياته واندفاعه من الحيوية النابعة من طبيعة العقيدة الحيوية.
ومن ثم يأتي دورهم المهم في: قيادة الأمة، فهم كيانٌ فاعلٌ في الأمة، لا منفعل بها، أي إنهم يقومون بالتأثير في الواقع، بغية تغييره، بإظهار مدى فساده، وصياغة رؤية تغييره على أساس الإسلام، لا بالتأثر به لوضع حلولٍ جزئيةٍ منبثقةٍ منه تطيل عمره، ولا بالرضى بالواقع والاستسلام له، وحلقاتهم يجب أن تكون مركزةً على قضايا الأمة المصيرية، ودور الأمة في حلها، ووضع يد المسلمين على مواطن قوتهم وقدرتهم على التغيير، وإعادة بث روح الثقة في نفوسهم، سواء الثقة بقدرتهم على التغيير أو الثقة بدينهم، من خلال شحذ نفوسهم تجاه استشراف غاياتهم وطريقة تحقيقها، وتثقيفهم بواجبهم الشرعي، والالتحام بفكر الأمة وشعورها، ورأب الصدع بين أفكار الأمة ومشاعرها، لتوحيدها حول الإسلام وحده، فيكون المنبع الوحيد الصافي الذي تستقى منه الحلول، وتمنع من استقاء أي حلول من غيره، وبجعله مركز تنبُّه الأمة الطبيعي، وعبر الإحساس بحاجات الأمة، وتبنِّي مصالحها العامة، والشعور بالمسؤولية الرهيبة، فإن دور العالِم ودور الحزب السياسي في الإسلام بالغ الخطورة، لا يقل عن خطورة دور الحاكِم الذي إن غش رعيته لم يرح رائحة الجنة، وكذلك العلماء والأحزاب فإن مسؤوليتهم تجاه الأمة وقيادتها، وتجاه الشريعة وحراستها كشأن دور الحاكم تمامًا، فهما قُطبا الرَّحى، وهم أشبه أن يكونوا الموتور الذي يحرك الآلات، إذا توقف عن العمل توقفت سائر القطع، وإذا ولّد الطاقة الهائلة تحركت الآلات للإنتاج، ولا يكون توليد الطاقة الهائلة إلا نتاج الوعي عند العالم وعند الحزب السياسي على دورهم هذا، واضطلاعهم بمسؤولياتهم على أفضل وجه، وبلا يأس، فإن إحداث التغيير الحقيقي يحتاج إلى صبر ومثابرة وصدق، وإيمان واتصال بالله تعالى، وبقدر نقاء مصدر الطاقة بقدر ما يكون تأثيرها في الأمة، واستجابتها لحركتها، فإذا ما تحركت تحركًا واعيًا، كانت جزءًا من الموتور، فلا تهدأ حتى تبلغ غاياتها، إلا إن هذا الموتور وهذه الآلات ليست آلات صمَّاء، وإنما هو موتور اجتماعي، تغذيه طاقة فكرية مشاعرية؛ لذلك فعلى العلماء وعلى الأحزاب السياسية المداومة على سقي الأمة بالعلاج السليم لمشاكلها، والمستند إلى عقيدتها وشريعتها، فيتجسَّد الإسلام في الأمة فكرةً وعقيدةً وأحكامًا، تجسُّدًا ناتجًا عن فهم خالص، لا عن انفعال عاطفي، فيحدث فيها ثورة جامحة؛ إذ يبصّرها بالفرق الشاسع، والبون الواسع بين واقعها المتردي، وبين مستقبلها المشرق في ظل دولة الإسلام وعدله، فتتحرق شوقًا، وتحترق لهيبًا يشيع فيها التلهب والحماس والصدق، فيكون نارًا يحرق الفساد، ونورًا يضيء طريق الصلاح، فتتحرك في الأمة مشاعر الغضب لله، ولحرمات الله، وتستعد الأمة للتضحية بالغالي والنفيس في سبيل دينها، بدلًا من حالة الانفصام الحالية، وبدلًا من التشبث بفُتات الدنيا ولعاعتها، فتتحرك لأجل الإسلام، لا لأجل العشيرة ولا الوطن، ولا للأعراف البالية، والعقائد المتداعية، ولا للحلول المجزوءة التي تُبقي تدوير الباطل، واستبدال وجوه رؤوس الوزراء الكالحة وجهًا عبوسًا قمطريرًا بآخرَ أشدَّ عبوسًا منه، ولصًا فاسدًا بآخر أكثر جرأة على اللصوصية والعمالة منه، ويبقى الحال على ما هو عليه، ولا حركة تطالب برغيف خبز، وإصلاح شارع، ولا بزيادة راتب، لكنها تتحرك حركةً جماعيةً عموديةً مركّزةً للأعلى، تستند إلى قاعدة فكرية ثابتة هي العقيدة الإسلامية، ويتصل فكرها المبني على عقيدتها بالعمل، لكنه عمل من أجل غايات واضحة وأهداف محددة، في جو إيماني ثابت، متصل بطلب مرضاة الله تعالى، وترتبط ببعضها برابطة العقيدة، لا بغيرها، وتنظر بعين التغيير نحو أهدافها الواضحة العليا، مثل الاحتكام للشريعة، روح الأمة وسر حياتها، ونحو اقتعاد مركز الذروة بين الأمم، واستعادة خيرية الأمة، ووحدتها، بأن تكون خير أمة أخرجت للناس، وجعل أعراف الإسلام أعرافًا عامةً في المجتمع والدولة، ومنكرات الإسلام منكرات لهما، وإدراكها لأعدائها -دول الغرب التي تحاربها كافة-، ووعيها على السموم الفكرية التي يبثها الغرب في أوساط الأمة، لصرفها عن منابع الهدي الرباني الصافي، وعلى خططها ومؤامراتها على الأمة، والتي من أخطرها تقسيم الأمة إلى كيانات كرتونية هزيلة ضعيفة يحكمها طواغيت.
وأن تدرك أنه لا يكفي وجود الإسلام في قلوبها، ولا في مناهج التعليم، ولا في خطب الجمعة، وإنما أن تدرك طريقة الإسلام في تحريك النفوس، وبعث الحياة في الأمم، فتعتقد بأن ما أصابها لم يكن ليخطئها، وتعتقد بأن الغاية من وجودها رضا الله تعالى، والاحتكام لكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وتعتقد بحقيقة التوكل على الله، والاستعانة به وحده، ونَصره أولًا شرطًا لتنزيل نصر الله تعالى على الأمة، وتعتقد بحقيقة أنَّ أحدًا لا يملك أن يرزقها إلا رب العالمين، وأنَّ أحدًا لا يستطيع أن يُقرّب أجلًا أو يباعده، إلا رب العالمين، وأن عليها واجب أن تأطر الحاكم على الحق أطرًا، وأن تقول بالحق لا تخشى في الله لومة لائم، وأن المساجد لله، فلا تخشى إلا الله تعالى، وأن تثق بوعد الله بالاستخلاف والتمكين والنصر والجنة، وأن تؤمن بأن الابتلاءات والمحن وسيلةٌ لتمحيص صدق إيمانها، وطريقةٌ لتحقيق مرضاة ربها، فلا تخيفها أي قوة، ولا يفت في عضد تصميمها أي تخويف، أي باختصار أن تجعل مفاهيم العقيدة الإسلامية الحيوية، المحرك الدافع لها لخوض غمرات الحياة، تقدم غير هيابة، فترفض الخنوع والخضوع لأن لديها قوة جماعية قادرة على تحقيق أي تغيير تطمح إليه، فما هي إلا أن تقوم بالعصيان المدني الشامل فتشل أركان الحياة حتى تخضع لها رقاب الجبابرة، وما هي إلا أن تنزل إلى الساحات فتغلقها وتعتصم بها بمئات الألوف حتى تنزل السلطات عند مطالبها، أو تتنحى السلطاتُ هاربة، وما هي إلا أن تقوم بشحذ همم أبنائها من ضباط الجيوش للقيام بدورهم في التغيير ورفضهم أن يكونوا مجرد جيوش للحاكم ومن يحركه من دول الاستعمار، حتى يحدث التغيير، وكل هذا لا يتم إلا بأن تنقاد الأمة لعلمائها، وأن تنقاد للأحزاب السياسية المخلصة لتنظيم حركتها نحو أهدافها، حتى لا تكون حركتها ارتجالية ولا فورة غضب ما تلبث إلا أن يتم تنفيسها وإحباطها بتحقيق مطالب جزئية لا ترقى لمستوى الأمة العظيمة.
إضافة إلى دور الأمة في الالتفاف وراء علمائها وأحزابها، واحتضانهم، لمنع السلطة الحاكمة من أن تبطش بهم أو تهددهم في عيشهم، ولأجل بلوغ ذلك، لا بد من فهم أن السلطة الفاسدة والجيوش لا تستطيع أن تمنع فكرة آن أوانها، ولا أن تهزمها، فإذا ما ركز العلماء وركزت الأحزاب السياسية العاملة على حشد الرأي العام الجامح حول فكرة تطبيق الشريعة الإسلامية، ووحدة الأمة الإسلامية، وجهاد أعدائها، وتغيير الأوضاع الفاسدة، وزيادة الامتعاض كلما جدَّ من السلطة ما يمس دينها، مثل دور الحركات النسوية، وثقافة الشذوذ، والإعلام الفاسد، ودعم الأعداء وتمكينهم من مقدرات الأمة وأبنائها، وغير ذلك، وحثهم على إظهار هذا الامتعاض والتحرّك الجدّي لأجل منعه، ومحاسبة الحكام، وتحريض الجيوش على القيام بدورها في تحرير مقدسات الأمة والدفاع عن حرماتها، فإن أحدًا لا يستطيع هزيمة هذه الفكرة، ولا يعود الأمر محصورًا في شخص العالم أو شخص أعضاء الحزب، أو حتى في أشخاص أبناء الأمة الذين يطمحون للتغيير ولكنهم ينتظرون من يحركهم، فإن واجب التحريك يقع على كاهل العلماء والأحزاب السياسية، وبالتالي ستستعصي على السلطات مكافحة هذه الفكرة، ولن ينفعها أن تحبس العالِمَ أو حامل الدعوة، لأن المجتمع من حوله يضج بعين الأفكار، ولن تستطيع أن تحبس الأمة كلها إذا تحركت تحركا جماعيًا إجماعيًا.
وأن تكون طبيعة خطاب العلماء والأحزاب السياسية تحريضية، تحاسب السلطة على كل هفوة، وعلى كل بُعدٍ عن الإسلام، تجعل السلطة تحسب لهم كل حساب، وأن تضرب إسفينًا يشدخ العلاقة بين الحكام بغير الشريعة وبين المحكومين، فينظر المحكومون إليهم نظرة عداء ورغبة جامحة في اجتثاثهم،
لقد جعل الاسلامُ العالِمَ (والحزب السياسي)، والحاكِمَ كقطبي مغناطيس متشابهين، فكلاهما يحمل نفس الشحنة الموجبة؛ إذ إنهما يعملان على تحقيق نفس الغاية: حراسة تطبيق الشريعة في الأمة الإسلامية حتى يحيا الناس في المجتمع حياة إسلامية، وأمد الأول بصلاحيات وسلطة وقوة تعينه على حسن التطبيق، ولكنه بشر، لذلك وجب وجود وزن مضاد مساوٍ في القوة، قادر على ردع الحاكم إن مال عن الصراط، فكان هذا هو دور العالم4، ودور الحزب السياسي إذ يقود الكيان المجتمعي ليحرس حسن التطبيق، ويديم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!
4 جاء في الجامع لأحكام القرآن: قال ابن إسحاق: تحامل الوليد بن عتبة على الحسين بن علي في مال له – لسلطان الوليد؛ فإنه كان أميرًا على المدينة – فقال له الحسين: أحلف بالله لتنصفني من حقي أو لآخذن بسيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله ﷺ ثم لأدعون بحلف الفضول. قال عبد الله بن الزبير: وأنا أحلف بالله لئن دعاني لآخذن بسيفي ثم لأقومن معه حتى ينتصف من حقه أو نموت جميعًا؛ وبلغت المسور بن مخرمة فقال مثل ذلك؛ وبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي فقال مثل ذلك؛ فلما بلغ ذلك الوليد أنصفه.
وهكذا فالعلماء قادة الكيان المجتمعي لإحقاق الحق إن بغى الحاكم وجار.
وعندما أراد معاوية بن أبي سفيان أن يأخذ البيعة لابنه يزيد، علم أن قادة المجتمع هم الحسين بن علي رضي الله عنهما والعبادلة رضي الله عنهم، فكان جل همه أن يأخذ بيعتهم أو أن يكرههم عليها، وهم الذين وقفوا في وجهه سدًا منيعًا حتى غلبهم بالسلطان، فقاموا -بعد وفاة معاوية، واغتصاب يزيد للسلطة- بإشعال الثورة من أجل إعادة الحق للأمة الذي انتزعه منها يزيد، تلك الثورة التي لم يقوموا بها في أيام معاوية لأنه خليفة مبايع بيعة شرعية، وله طاعة ما لم يأمر بمعصية، ولكن لا يجوز الخروج عليه إلا بالكفر البواح، ولم يكن منه ذلك، أما يزيد فكان بوراثة، وبمحاولة لإدخال نظامها في الدولة، فثار الحسين رضي الله عنه وتبعته ثورة عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، لمنع تغييرٍ خطير في نظام الحكم وهو أن تسلب الأمة حقها في الشورى والسلطان، وتكون البيعة بالوراثة!
وفي العراق كان ابن الأشعث وسعيد بن جبير وطائفة من العلماء قادة الأمة في تحركها ضد طغيان الحجاج والحكام الظلمة!
عن أبي قبيل قال خطبنا معاوية في يوم جمعة فقال: إنّما المال مالنا والفيء فيئنا من شئنا أعطيناه، ومن شئنا منعناه. فلم يرد عليه أحد، فلما كانت الجمعة الثالثة فقام إليه رجل ممن شهد المسجد فقال: كلا، بل المال مالنا، والفيء فيئنا، من حال بيننا وبينه حاكمناه بأسيافنا، فلما صلى أمر بالرجل فأدخل عليه، فأجلسه معه على السرير، ثم أذن للناس فدخلوا عليه ثم قال: أيها الناس إني تكلمت في أول جمعة، فلم يرد علي أحد، وفي الثانية فلم يرد علي أحد، فلما كانت الثالثة أحياني هذا أحياه الله، سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: «سيأتي قوم يتكلمون فلا يرد عليهم، يتقاحمون في النار تقاحم القردة » فخشيت أن يجعلني الله منهم، فلما رد هذا علي أحياني أحياه الله، ورجوت أن لا يجعلني الله منهم.
وأخرج الحافظ ابن عساكر فيتاريخ مدينة دمشق في ترجمة بشير بن سعد ـ رضى الله عنه ـ من عدة طرق يقوي بعضها بعضًا، أثرًا عن عمر بن الخطاب، منها التالي: عن ابن شهاب، حدثني محمد بن النعمان أن النعمان بن بشير أخبره: «أن عمر بن الخطاب قال في مجلس، وحوله المهاجرون والأنصار: أرأيتم لو ترخصت في بعض الأمور ما كنتم فاعلين؟فقال ذلك مرتين، أو ثلاثًا: أرأيتم لو ترخصت في بعض الأمور ما كنتم فاعلين؟ فقال بشير بن سعد: لو فعلت ذلك قومناك تقويم القدح. فقال عمر: أنتم إذًاأنتم».
لذا كان وجود العالم في وسط الناس مشعرًا له بحاجاتهم ودافعًا لقيادتهم حتى لا يقع الظلم عليهم، ولنا في قصة العز بن عبد السلام رحمه الله -سلطان العلماء- عبرة؛ إذ أراد المماليك فرض ضريبة إضافية من أجل تجهيز الجيش لتحرير بلاد المسلمين من التتار فأمر أن تباع القصور وما فيها من حلي ومتاع حتى إذا لم تكفِ الأموال فرضت الضريبة على الناس. فالدَّور الذي أناطه الشارع إذًا بالعالم أو بالحزب السياسي أن يكون قائدًا للكيان المجتمعي ليحرسَ بقوةِ الرعيةِ الهائلةِ الشريعةَ من أن يعبث بها القائمون على الأمر وقوتهم بأيديهم!
وما فائدة القائد إن لم تنقد الجموع له؟ لذلك يجب أن تعي الأمة أن عليها واجب الانقياد لعلمائها الربانيين المخلصين، ولأحزابها السياسية المخلصة التي تعمل على إنهاضها.
لا شك أن الأمة هي القوة الهائلة التي توقف السلطان وتردعه عن أن يبتعد عن تطبيق الإسلام قيد شعرة! وأن هذه الأمة بحاجة دومًا لمن يبين لها مثل هذه المخالفات، فيرفع من مستوى وعيها ويبين لها شرعًا الموقف الصحيح الذي عليها أن تتخذه في كل ظرف، وبالتالي يقف سدًا منيعًا إذا ما حادت الدولة عن تطبيق الشرع أو أساءت تطبيقه! فالأمة إذن الحارس على تطبيق الشرع، تأطر الحاكم على الحق أطرًا، وتنابذ من عطله أو أراد إحلال الكفر محله بالسيف.
كما أن الشرع جعل في ذمة المسلمين أن ينصحوا لولاة الأمر ليقوموا اعوجاجهم:
فعن جرير بن عبد الله قال: «بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم» متفق عليه، ومثله حديث تميم الداري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ؛ قُلْنَا لِمَنْ؟ قالَ: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ ولأئمة الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ». رواه البخاري ومسلم، واللفظ له.
[1]بتصرف يسير عن «معالم في الطريق» لسيد قطب رحمه الله، فصل: جيل قرآني فريد. ص 16.
[2]خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، الشهيد سيد قطب رحمه الله، كَلِمَة في المنْهج.
[3]التكتل الحزبي لحزب التحرير، بتصرف، وشرح التكتل الحزبي للأستاذ حافظ صالح، بتصرف.
2024-03-26