مع القرآن الكريم
2023/09/24م
المقالات
1,132 زيارة
بسم الله الرحمن الرحيم
(إِنَّآ أَنزَلۡنَا ٱلتَّوۡرَىٰةَ فِيهَا هُدٗى وَنُورٞۚ يَحۡكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسۡلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّٰنِيُّونَ وَٱلۡأَحۡبَارُ بِمَا ٱسۡتُحۡفِظُواْ مِن كِتَٰبِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيۡهِ شُهَدَآءَۚ فَلَا تَخۡشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخۡشَوۡنِ وَلَا تَشۡتَرُواْ بَِٔايَٰتِي ثَمَنٗا قَلِيلٗاۚ وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ ٤٤ وَكَتَبۡنَا عَلَيۡهِمۡ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفۡسَ بِٱلنَّفۡسِ وَٱلۡعَيۡنَ بِٱلۡعَيۡنِ وَٱلۡأَنفَ بِٱلۡأَنفِ وَٱلۡأُذُنَ بِٱلۡأُذُنِ وَٱلسِّنَّ بِٱلسِّنِّ وَٱلۡجُرُوحَ قِصَاصٞۚ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِۦ فَهُوَ كَفَّارَةٞ لَّهُۥۚ وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ٤٥) [المائدة: 44-45]
ومما جاء في خواطر الشيخ محمد متولِّي الشعراوي:
الهدى هو الطريق أو الدرب المُوصِّل للغاية. وتأتي على الطريق أحقاب الليل والنهار، فالطريق مُظلم ليلًا، وقد تعترض السائر فيه عقبات، أو قد لا يمشي السائر في سواء السبيل أي وسط الطريق، فيقع في حفرة أو يصطدم بحجر. ويوضح الحق هنا: لقد صنعت لكم الدرب وأَنرته لكم حتى لا تصطدموا بشيء أو تأتي لكم عقبات، وتمثَّل ذلك في المنهج الذي جاء به موكب الرُّسل كلهم. وقديمًا كان العالم مفكَّكًا متناثر الجماعات، فلا توجد مواصلات، وتعيش كل جماعة في انعزال وشبه استقلال، فإن حصلت داءات في بقعة ما تظل محصورة في هذه البقعة، ويأتي رسول ليعالج هذه الداءات، فهذا يعالج أمر عبادة الأصنام، وذلك يعالج مسألة الكيل والميزان، وثالث يعالج الأمور المنظِّمة للحياة الزوجية عند اليهود. هذه الداءات كانت متعددة بتعدد الجهات. وعندما أراد الحق سبحانه أن يبصِّرَ الناس بأسرار كونه ليستنبطوا منها ما يقرِّب المسافات ويمنع المشقَّات لتلتقي الأمم، وعندما تلتقي الأمم لا يوجد فصل بين الداءات، فالداء الواحد يحصل في الشرق لينتقل إلى الغرب. وكأن الداءات تتحد في العالم أيضًا.
إذًا، لابد أن يجيء الرسول الجامع ليعالج الداءات كلها، فيأتي صلى الله عليه وسلم الجامع المانع، فإذا ما قال الحق إنه أنزل التوراة فيها هدى ونور، فالإنجيل أيضًا فيه هدى ونور، وكل هدى ونور في أي كتاب إنما هو للداءات الموجودة في البيئة المنعزلة. مثال ذلك أن سيدنا إبراهيم كان موجودًا، ومعه في الزمن نفسه سيدنا لوط. وها هوذا سيدنا موسى كان موجودًا. وكذلك سيدنا شعيب؛ إذًا، كانت الرُّسل تتعاصر في بعض الأحيان؛ لأن كلًّا منهم يعالج داء معينًا. وهكذا كانت الرسالات تأتي محدودة الزمان ومحدودة المكان. أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد بعثه الله للناس كافة بكل أجناسهم وتقوم على منهجه الساعة؛ لذلك لم تعد الأرض في حاجة إلى رسول آخر، وصار من المنطقيِّ أن يكون هو الرسول الخاتم.
(إِنَّآ أَنزَلۡنَا ٱلتَّوۡرَىٰةَ فِيهَا هُدٗى وَنُورٞۚ يَحۡكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسۡلَمُواْ) لماذا إذًا يأتي الحق بإسلام الأنبياء هنا؟ جاء سبحانه بأمر إسلام الأنبياء تشريفًا للإسلام لأنه جوهر منهج كل نبي؛ إذًا، فالنبيون عندما يصفهم الحق بأنهم أسلموا، إنما يريد الحق أن يشرف الإسلام بأن النبيين أسلموا قيادهم وزمامهم إلى الله لأنهم وجدوه الخير لهم. وإسلام النبيين هو الإسلام بمعناه الكامل، أي هو الانصياع لأوامر الله، فكلَّما فكَّر نبي منهم في أن هناك شرًّا سيأتي له بسبب دعوته، أو أن يضطهده أحد، أو يحلو لأحدٍ أن يسيء إليه فهو يسلم أمره لله؛ لأن الرسول منهم إنما يقول كلمة الحق ولا يبالي بما يحدث بعدها.
(يَحۡكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسۡلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ) وهم يحكمون بالتوراة بين الذين هادوا، أي من يهود، وكذلك يحكم بها الربانيون والأحبار. والربانيُّ منسوب للرب، أي أن كل تصرفاته منسوبة إلى الله. والأحبار هم العلماء حملة أوعية العلم؛ لكن هل ينفذونه أو لا ينفذونه فهذا شيء آخر. صحيح أن كل عالم وعاءُ علم؛ لكن قد ينتفع هو بعلمه وقد لا ينتفع؛ لكنه ينقل علمه إلى من ينتفع به؛ ولذلك يقول أحد العلماء:
فخذ بعلمي ولا تركن إلى عملي وأجْنِ الثمار وخلِّ العود للنار
فلا تقل: إن هذا العالم يقول لنا كذا وكذا، ونراه في تصرفاته عكس ما يقول؛ لأن عليك أن تأخذ ثمرة العلم، واترك العود للنار. ولكن على العالم أن يكون أول من يمتثل ويطبق ما يقوله حتى لا يعذب ولا يدخل تحت قوله تعالى:
(يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفۡعَلُونَ ٢ كَبُرَ مَقۡتًا عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لَا تَفۡعَلُونَ ٣).
(وَٱلرَّبَّٰنِيُّونَ وَٱلۡأَحۡبَارُ بِمَا ٱسۡتُحۡفِظُواْ مِن كِتَٰبِ ٱللَّهِ) وعرفنا أن التوراة فيها نور وهدى ويحكم بها النبيُّون والربانيُّون والأحبار بالوسيلة التي طلب الله منهم أن يحفظوها، وبما طلبه رسولهم منهم أن يحفظوا هذه التوراة. وقال الحق: (استُحْفِظوا) ولم يقل: (حفظوا) ليبين لنا الفارق بين كل كتاب سابق للقرآن وبين القرآن؛ لأننا عرفنا أن كل رسول قد جاء بمعجزة تدل على أنه صادق البلاغ عن الله. ولكل الرسل من السابقين على رسول الله معجزة منفصلة عن المنهج، مثال ذلك سيدنا موسى فمعجزته العصا وفلق البحر، أما منهجهه فهو التوراة. وسيدنا عيسى معجزته إبراء الأكمه والأبرص، والمنهج الذي جاء به هو الإنجيل. أما سيدنا رسول الله فمعجزته هي عين منهجه، وهي القرآن. وكان الأمر الموجود بالنسبة لكل رسولٍ مرتبطًا بزمانه وجماعته ومحتاجًا إلى معجزة مناسبة ومنهج مناسب؛ لكن الرسول الذي أرسله الله إلى الناس جميعًا وخاتمًا للأنبياء لابد أن تظل معجزته عين منهجه بحيث يستطيع أي مسلم أن يقول حتى قيام الساعة: محمد رسول الله، وهذه معجزته وهي عين منهجهه. وسيظل القرآن معجزة ظاهرة إلى أن تقوم الساعة؛ لأن الله أرادها مختلفة عن بقية المناهج والمعجزات. فالمعجزات السابقة كانت كعود الثقاب الذي يشعل مرةً واحدة؛ فمن رآه لحظة الاشتعال فالأمر بالنسبة إليه واضح، أما من لم يره فهو لن يصدق تلك المعجزة إلا أن يخبره من يصدقه.
وقد استحفَظ الله الربانيين والأحبار بالتوراة، أي طلب منهم أن يحفظوها، وكان هذا أمرًا تكليفيًّا، والأمر التكليفي عُرضة لأن يُطاع وعُرضة لأن يُعصى. واستحفظهم الله التوراة والإنجيل: (فَنَسُواْ حَظّٗا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِۦ) [المائدة: 14].
وصار أمر المنهج منسيًّا. وليس على بالهم كثيرًا؛ لأن الأمر إذا توارد على البال واستقرَّ دائمًا في بؤرة الشعور يظل في الذهن؛ لكن النسيان يأتي عندما يكون الأمر بعيدًا عن البال. والحق طلب منهم أن يحفظوا المنهج؛ ولكنهم- ما عدا النبيين- لم ينفذوا، وكل أمر تكليفي يدخل في دائرة الاختيار، ولذلك نجد أن الأحبار والربانيين قد نسوا، وما لم ينسوه كتموه. وأول مرحلة من مراحل عدم الحفظ أنهم نسوا، والمرحلة الثانية هي كتمان ما لم ينسوه، والثالثة هي: ما لم يكتموه حرَّفوه ولوَّوْا به ألسنتهم. وياليتهم اقتصروا على هذه المراحل فقط؛ ولكنهم جاؤوا بأشياء وقالوا: هي من عند الله وهي ليست من عند الله: (فَوَيۡلٞ لِّلَّذِينَ يَكۡتُبُونَ ٱلۡكِتَٰبَ بِأَيۡدِيهِمۡ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ) [البقرة: 79]. إذًا، فالحفظ منهم لم يتمّ؛ لذلك لم يدَعِ الله القرآن للحفظ بطريق التكليف؛ لأنه سبحانه اختبر البشر من قبل، ولأنه أراد القرآن معجزة باقية؛ لذلك لم يكِلِ الله سبحانه أمر حفظه إلى الخلق؛ ولكنه تكفَّل سبحانه بأمر حفظ القرآن:
(إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ ٩) [الحجر: 9].
ومصداق هذا النص، أن بعضًا من المسلمين أسرفوا على أنفسهم في هجر منهج الإسلام ومنهج القرآن إلا أنك تجد عجبًا، فبمقدار بُعدهم عن منهج الإسلام تطبيقًا يحافظون على القرآن تحقيقًا، فيكتبون القرآن بكل ألوان الكتابة وبكافة الأحجام، فهناك حجم ذهبي ترتديه النساء في صدورهن، وحجم يوضع في اليد، وبعد ذلك نجد الكفرة أنفسهم يخترعون طريقة لكتابة القرآن في صفحة واحدة. إذًا، فالله يُسخر لحفظ القرآن حتى من لم يكن مسلمًا. وتلك خواطر من الله. ونحن نرى كل يوم من يبتعدون بسلوكهم عن المنهج لكنهم يرصدون المال لحفظ القرآن. ونجد القرآن محقَّقًا بألف وسيلة حفظ: الرجل يضع في سيارته مصحفًا، وفي حجرة نومه مصحفًا، وقد تكون المرأة سافرة وصدرها مكشوف ولكنها تعلق مصحفًا ذهبيًّا. وهذا يثبت لنا أن حفظ القرآن ليس أمرًا تكليفيًّا، بل هو إرادة الله.
فلو كان الأمر تكليفيًّا لكان نسيان القرآن واردًا؛ لأن المسلمين ابتعدوا في بعض أمورهم عنه كمنهج، ويناسب ذلك أن ينفصلوا عنه حفظًا؛ ولكن الأمر صار بالعكس. فعلى الرغم من بُعد المسلمين عن المنهج؛ ولكن حفظ القرآن لا يقلُّ أبدًا، ومن العجيب أن الكثيرين من المسرفين على أنفسهم، إن سمع واحد منهم أنّ شيئًا يمس المصحف، يقيم الدنيا ويقعدها، فالمسألة ليست مسألته؛ ولكنها مسألة الحافظ جل شأنه. وإن حدث أي تحريف يسير في القرآن من أعداء الإسلام، نجد أمة الإسلام تقف وقفة رجل واحد. ولقد أراد بعض المدلِّسين أن يدسُّوا على القرآن ما ليس فيه، وجاؤوا إلى آية في سورة الفتح وهي: (مُّحَمَّدٞ رَّسُولُ ٱللَّهِۚ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلۡكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيۡنَهُمۡۖ) [الفتح: 29]. وقالوا: (محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم) وكأنهم يرغبون في زيادة التكريم لرسول الله، فلما عرف المسلمون ذلك قامت ضجة وأحرقوا تلك المصاحف. ومنع المسلمون التحريف مهما كان باب الدخول إليه.
(فَلَا تَخۡشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخۡشَوۡنِ) والخشية: خوف متوَهَّم ممن تظن أنه قادر على الضر، ولا أحد غير الله قادر على النفع والضر؛ لذلك لا يصح أن يخاف الإنسانُ مِن سواه، أما أن تظن أن السلطان أو القريب منه قادر على الضر، فهذا أمر غير صحيح، وليخشَ كل إنسان الحق سبحانه، وهو جلَّ وعلا نصحنا أن تكون الخشية منه دون سواه.
وإن غيَّر أحد أحكام المنهج من أجل السلطان أو أقارب السلطان أو أصدقاء السلطان فذلك عين الفساد. والآفات والشرور تأتي من ذلك. بل قد لا يدري السلطان شيئًا عن ذلك، وقد يتدخل قريب للسلطان- دون علم السلطان – ليطلب من العلماء تغيير بعض من المنهج ولا يستسلم له إلا الضعاف منهم. وقد فطن سيدنا عمر رضي الله عنه إلى هذا الأمر فقال: إن الفساد قد لا يأتي من السلطان؛ ولكن من الذين حول السلطان. والخشية هنا تكون من غير الله، ولذلك كان سيدنا عمر يجمع أقاربه والملتفين حوله ويقول لهم: لقد اعتزمت أن أصدر كذا وكذا، فوالذي نفسي بيده من خالفني منكم إلى شيء من هذا جعلته نكالًا للمسلمين. هذا هو أسلوب من أداء أن يخدم ويحكم ولا يحمل أوزارًا، ونرى صور الفساد إنما جاءت نتيجة مخالفة القاعدة الحكيمة: (فَلَا تَخۡشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخۡشَوۡنِ).
ويتابع الحق من بعد ذلك: (وَلَا تَشۡتَرُواْ بَِٔايَٰتِي ثَمَنٗا قَلِيلٗاۚ) وثمن آيات الله مهما بولغ في تقييمها فلن يتجاوز نفعه هذه الدنيا؛ لأن الدنيا- كما قلنا سابقًا- لا تقاس بعمرها الحقيقي أي إلى أن يُفني الله البشر، وإنما دنيا كل حيّ تقاس بعمره فيها… ومادام الثمن الذي يأخذه المرتشون ليغيّروا آيات الله وأحكامه سينفعهم في هذه الدنيا، وأعمارهم في هذه الدنيا محدودة، كان عليهم أن يتذكروا أن حياتهم زمنيًا قليلة بالنسبة لعمر الدنيا… وهو عمر محدود مهما طال. وإن قارنها الإنسان بالحياة في العالم الآخر فسيجد أن عمره الدنيوي منهي (له نهاية)، فإن قايضه بعمر غير منهي (ليس له نهاية) هو عمره في الآخرة، فذلك هو الفوز العظيم… إذًا، فصفقة الدنيا قليلة بالنسبة لما وعد الله به المتقين.
ومن بعد ذلك يقول الحق: (وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ). ماذا يعني الحكم بما أنزل الله؟.نعلم أن الحق سبحانه وتعالى جعل لكل قضية مخالفة في الكون حكمًا، فإذا أردت أيها الإنسان أن تحكم في أمرٍ فعليك أن تبحث عن جوهره بسلسلة تاريخ هذا الأمر. ونجد أن قمة كل لأمور هي العقيدة، وهو وجود الواحب الأعلى وهو الله، فإن حكمت بأنه غير موجود فذلك هو الكفر.؟ وإن آمن الإنسان بالله ثم جاء إلى أحكام الله التي أنزلها وقال: لا ليس من المعقول أن يكون الحكم هو هكذا. فهذا لون من ردِّ الحكم على الله، وهو لون من الكفر.
أما إن آمن الإنسان بالحكم وقال: إنني أصدق حكم الله؛ ولكن لا أقدر على نفسي فهل هذا كفر؟ أم هذا ظلم؟. إنه ليس كفرًا، ويكون ظلمًا إن كان حكمًا بين اثنين. وهو فسق إن كان بين الإنسان وبين نفسه؛ لأنه يفسق عن الحكم كما تفسق الرطبة عن قشرتها. فالفاسق هو من له إطار من التكليفات ويخرج عن هذا الإطار كالرطبة التي خرجت من قشرتها. ومادامت الرطبة قد خرجت من قشرتها فهي عرضة للتلوث؛ إذًا، فإن سمعت قول الله:
(وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ) [المائدة: 44]. وعندما تسمع: (وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ) [المائدة: 45]. وعندما تسمع: (وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ) [المائدة: 47] فتذكر أحكام الله وحاول أن تقدر على نفسك.
وقيل: إن ذلك لليهود؛ لأن الحق قال: (إِنَّآ أَنزَلۡنَا ٱلتَّوۡرَىٰةَ فِيهَا هُدٗى وَنُورٞۚ) [المائدة: 44]. وقيل: إن الثانية جاءت للنصارى الذين لم يحكموا بالإنجيل. ولنا أن نقول ردًا على مثل هذه الأقوال: أمن الممكن أن يكون ذلك للأديان السابقة على الإسلام وليس موجودًا بالإسلام؟ ذلك أمر لا يقبله العقل أو المنطق، فهي آيات نزلت في مناط الحكم عامة. فإن حكم إنسان في قضية القمّة وهي العقيدة بغير الحق، فذلك هو الكفر. وإن ردّ الإنسان الحكم على منشئه- وهو الحق الأعلى- فهذا لون من الكفر. وإن آمن الإنسان بالقضية وهو مؤمن بالإله فغلبته نفسه فهذا هو الفسق. وإن حكم إنسان بين اثنين وحاد ومال عن حكم الله فهذا هو الظلم.
إذًا، فـ(ٱلۡكَٰفِرُونَ) و(ٱلظَّٰلِمُونَ) و(ٱلۡفَٰسِقُونَ) تقول لنا: إن الألفاظ اختلفت باختلاف المحكوم به. فلا يقولنَّ أحد: إن تلك آية نزلت لتلك الفئة، وتلك الآية نزلت لفئة أخرى، وثالثة نزلت لفئة ثالثة؛ ولكنها أحكام عامة لمناط التكليف عامة. والحق قال في بداية كل حكم (وَمَن) ومَن كما نعلم كلمة عامة. والدليل على ذلك أن من يحكم بغير ما أنزل الله إنما هو يشتري بآيات الله ثمنًا قليلًا ورد الحكم على الله. وقال الحق في الآية اللاحقة: (وَكَتَبۡنَا عَلَيۡهِمۡ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفۡسَ بِٱلنَّفۡسِ) [المائدة: 45]… إنها أحكام تتعلق بجرائم، وعقوبات على جرائم، وهنا يكون الحكم بغير ما أنزل الله ظلمًا. إذن فالأمر يختلف حسب المحكوم عليه؛ إذًا، فمن لم يحكم بما أنزل الله رادًّا للحكم على الله ومخطّئًا لله سبحانه فهو كافر. وإن كان حكمًا بين اثنين وحكم بغير ما أنزل الله فهو ظالم. أما إن كان حكمًا على النفس ولم يقدر عليه الإنسان فهذا فسق. وكل وصف جاء حسب حكمه. ولا داعي- إذن- للجدل ولا للخلاف ولا ادعاء أن هناك قولًا يقصد به اليهود، وآخر ورد في النصرانية، ولا يصح أن يزين الإنسان الباطل لأحد؛ لأن ورود الحكم بما أنزل الله في الإسلام أمر جازم يوجب الالتزام به.
ويقول الحق من بعد ذلك: (وَكَتَبۡنَا عَلَيۡهِمۡ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفۡسَ بِٱلنَّفۡسِ وَٱلۡعَيۡنَ بِٱلۡعَيۡنِ وَٱلۡأَنفَ بِٱلۡأَنفِ وَٱلۡأُذُنَ بِٱلۡأُذُنِ وَٱلسِّنَّ بِٱلسِّنِّ وَٱلۡجُرُوحَ قِصَاصٞۚ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِۦ فَهُوَ كَفَّارَةٞ لَّهُۥۚ وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ ٤٥) لقد كتب الحق على اليهود في التوراة التي وصفها من قبل بأنها هدى ونور، كتب وأوجب عليهم أن النفس بالنفس، وعلينا أن نأخذ كل أمر وما يناسبه من الحدث… فهناك النفس تقتل بالنفس، وهناك العين تفقأ بالعين، وكذلك الأمر في جدع الأنف، وصلم الأذن… وبعد ذلك يقول الحق عن الجروح: (وَٱلۡجُرُوحَ قِصَاصٞۚ) لأن الجرح قد يكون في أي مكان. والقصاص يكون بمثله ومساويًا للشيء، وهو مأخوذ من قص الأثر؛ أي السير تبعًا لما سارت عليه القدم السابقة دون انحراف…
وقد قنن الحق للجريمة، ولم يغلق سبحانه باب الطموحات الإيمانية، فقال: (فَمَن تَصَدَّقَ بِهِۦ فَهُوَ كَفَّارَةٞ لَّهُۥۚ). ومعنى (تَصَدَّقَ) أنه دفع وأعطى شيئًا غير مستحق، ولا واجب عليه أي تبرع به ابتغاء وجه الله. إن الذي يتعب البشر في تقنيناتهم أنهم يطلبون إجراءات التقاضي، فساعة تقع جريمة يستمر التحقيق فيها بواسطة القضاء لأكثر من عام، فتنبهِتُ بشاعة الجريمة في النفس البشرية. ومن الواجب كذلك أن يكون الأمر لولي القصاص؛ لأنك إن مكَّنته أرضيت نفسه بأول شفاء. وساعة يُعطي الإنسان ذلك الحكم فقد يزهد فيه؛ لأن الأمر حين يكون في يده ويقدر على القصاص فمن المحتمل أن يعفو، وسيظل المتصدَّق عليه طيلة حياته يدين بحياته أو بجارحة من جوارحه لصاحب القصاص. وبدلًا من إيعازات الثارات تنشأ المودة. وحين يشرِّع المشرع الأعلى يوضح لنا: لا تحكم بأنك دائمًا معتدى عليك، بل تصور مرة أنك معتدٍ، ألا تحب في مثل هذه الحالة أن يتصدَّق عليك صاحب القصاص؟ فإذا أرادت الحكومات لأن تنهي الثارات فلهم في التشريع الأعلى الحكم الواضح. وفي صعيد مصر، ساعة يُقتل إنسان نجد الذي عليه الثأر يأخذ كفنه ويذهب إلى العائلة الطالبة للثأر، ولحظة يدخل عليهم حاملًا كفنه بيديه تشفى النفوس من طلب الثأر ويحيا، وصاحب الثأر متفضل عليه بالعيش (فَمَن تَصَدَّقَ بِهِۦ فَهُوَ كَفَّارَةٞ لَّهُۥۚ) تكون الصدقة هنا من ولي القصاص. والفعل (تَصَدَّقَ) يحتاج إلى اثنين هما: (متصدِّق) و(متصدَّق عليه). وسبحانه الحق يكفر عن المتصدِّق من الذنوب بقدر ما تسامح فيه لأخيه، وهنا يحنِّن الله الخلق بعضهم على بعض؛ لذلك تأتي المسألة هنا من ناحية صاحب القصاص لترغبه في التصدق. وينهي الحق الآية بقوله: (وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ) وعرفنا من قبل ضرورة الحكم بما أنزل الله.
2023-09-24