دور العلماء في المساهمة في عملية التغيير الكوني المرتقب
2023/04/08م
المقالات
754 زيارة
محمد صالح
رفع الله سبحانه وتعالى شأن العلم، وأعلى من شأن العلماء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ» [أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح].
فالعلماء يُصحِّحون العقائد الفاسدة، ويبيِّنون الأفكار الخاطئة، ويصدعون بكلمة الحق بجرأة وصراحة وقوة فكر، لا يخشون في الله لومة لائم، مهما كانت مكانة الشخص الذي أمامهم، سواء أكان من الحكام أم من غيرهم، فالصراحة والقوة والفكر، وتحدي كل ما يخالف الشرع، والتصدي للباطل؛ هو ديدنهم، فإنْ كان هذا على المسلم واجبًا، فإنَّه على العلماء أوجب.
فالعالم العامل الرباني لا يعرف أي خوف ولا جبن، تحترمه الرعية، ويهابه الراعي، وكلمة من لسانه تُحرِّك الشعوب، وتزعزع الحكام؛ وما سبب ذلك إلا العلم، الذي كرّمه الله تعالى به، وزيَّنه في قلبه. فعندما أكرم الله عزَّ وجلَّ البشرية بالإسلام، وُجد العلماء بهذه الكيفية، تشعُّ منهم المهابة والوقار والتقوى، لا يخشون إلا الله، ويتحدَّوْن كل حاكم انحرف عن الصراط المستقيم، مهما أوتي من قوة وسلطة وجبروت، فلا يستطيع أن ينتزع منهم فتيا، أو يستميلهم إلى موقف لصالح حكمه.
فكل هذا الفضل هو للعلماء العاملين، الجريئين في الحق، المحبِّين للخير، الآمرين بالمعروف، الناهين عن المنكر، المحاسبين للحكام، الناصحين لهم، الساهرين على مصالح الأمة، المهتمين بأمورها، والمتحمِّلين كل أذى ومشقة في هذا السبيل.
نعم، كل هذا الإكرام هو للعلماء الذين يحرسون الإسلام، الأمناء على دين الله، الداعين إلى تطبيقه بلسان صدق، المتَّصفين بخلق المرسلين الذين أدركوا معنى قوله سبحانه وتعالى: (وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكۡتُمُونَهُۥ) [آل عمران 187]، فكانوا لا يسكتون عن حق، ولا يرضون بظلم، وهم بحقٍ «وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ»؛ كما وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هؤلاء العلماء الربانيُّون، الذين جمعوا العلم والبصيرة بسياسة الناس، والتمسك بدين الله وطاعته، قد حَفَلَت دولة الخلافة في تاريخها الطويل بمآثرهم الجليلة، التي سُجِّلت في مواقفهم الفذة مع الحكام؛ تلك المواقف التي اتَّسمت بالصدق والجرأة، والإخلاص لله ولدينه الحنيف؛ لذلك نجد منهم المنكرين على الحكام سوء أفعالهم، وقبيح تصرفاتهم، وفساد أقوالهم. ونجد منهم الناصحين للحكام، الرافضين أعطياتهم، الصابرين على مِحَنِهم. ومنهم الساعون لمواجهتهم بكلمة الحق؛ صريحة جريئة لا غموض فيها، بلا كنايات ولا استعارات، حيث لا يخافون لومة لائم. ثم نراهم الرُّكَّع السجود في السجون، يكتبون ويُؤلِّفون، ويَهدُون النّاس إلى ما ينفعهم في دنياهم وآخرتهم؛ فهم شموع تُضيء، وسُرُج تُنير، أينما حَلُّوا وارتحلُوا، فكانوا بحق، النجوم التي يهتدي بهم الناس؛ حكامًا ومحكومين.
وبعد أن كانت دولة الخلافة، هي الدولة الأولى في العالم قرابة ألف عام أو يزيد، وبعد أن أزالها الكافر المسـتعمر على يد المجرم مصطفى كمال في الثامن والعشرين من رجب سنة 1342هـ، الموافق للثالث من آذار سنة 1924م؛ تباطأ الكثير من العلماء عن حمل لواء الإسلام بعد أن وقع اللواء، وأمسى الكثير منهم لا ينصرون حقًّا، ولا يمنعون باطلًا، ولا يأمرون بمعروف، ولا ينهون عن منكر، ولا يحاسبون حاكمًا، ولم يقتفوا أثر سلفهم الصالح من العلماء الربانيين، ليجعلوا مما حاق بالأمة نصرًا مبينًا، وليعيدوا إلى الإسلام سيرته الأولى، باستئناف الحياة الإسلامية.
أصبح الكثير من هؤلاء العلماء – إلا النَّزْر اليسير الذين لن يخلو عصر من العصور من أمثالهم حتى تقوم الساعة – رجال دين! حسب المفهوم الغربي الكهنوتي، وهذا المفهوم من أخطر وأخبث المفاهيم الغربية؛ فهذا المصطلح يحمل مفهومًا خطيرًا، ومعنى فاسدًا سقيمًا، أطلقه الغربيون على القساوسة والرهبان والأساقفة؛ وصفًا لهم، وتقريرًا لواقعهم، عندما خسروا السلطة الزمنية التي كانت بأيديهم لصالح رجال الفكر الذين انتزعوها من أيديهم، وتركوا لهم أمور العبادة والطقوس الدينية، يديرونها كيفما يشاؤون، وقد رضي رجال الدين هؤلاء بهذا الحال ووافقوا عليه، فاستقلوا بالسلطة الروحية، واحتفظ السياسيون بالسلطة الزمنية، ونتج عن هذا فصل الدين عن الحياة، ومنه فصل الدين عن الدولة والحكم والسياسة.
وبعد هدم دولة الخلافة العثمانية، واحتلال الكافر المستعمر بلاد المسلمين بشكل مباشر، ثم خروجه منها، وتركه عملاء له فيها؛ كُرِّس هذا المفهوم الغربي لرجال الدين على العلماء المسلمين، وأصبح هذا المصطلح يُطلق بهتانًا على من يتخصَّص بالعلوم الشرعية، مع أنّ الإسلام سمَّى الذين تخصَّصوا في فهم الإسلام بالعلماء والفقهاء والمجتهدين، قال تعالى: (إِنَّمَا يَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَٰٓؤُاْۗ)[فاطر: 8]، وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ» [رواه البخاري ومسلم]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» [رواه البخاري ومسلم]، ولإقرار الرسول صلى الله عليه وسلم، لقول معاذ بن جبل رضي الله عنه، لـمّا أراد أن يبعثه إلى اليمن، فقال له: «كَيْفَ تَقْضِي إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟»، قال: «أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ»، قال: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟»، قال: «فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم»، قال: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا فِي كِتَابِ اللَّهِ؟»، فقال رضي الله عنه: «أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلَا آلُو»، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ» [رواه أبو داود في السنن، قال الإمام الحافظ الذهبي عنه في التلخيص: حديث حسن الإسناد].
وأما ما يُرى على رؤوس العلماء من العمائم، فهو لباس جميع المسلمين في العصر الإسلامي، فالعلماء في ذلك العصر لم يتميزوا بلباس ليُعرفوا به، وإنما عُرفوا بالعلم والعمل، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو إمام العلماء الذين ورثوه وسيدهم، كان جالسًا مع أصحابه، فجاء أعرابي فقال: أيُّكم ابن عبد المطلب؟ فقالوا: «هذا الرَّجُلُ الأبْيَضُ المُتَّكِئُ»، فقال الأعرابي: يا ابن عبد المطلب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قدْ أجَبْتُكَ» [رواه البخاري في صحيحه]؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يتميَّز على أصحابه بلباس مُعيَّن.
ولباس العلماء في عصرنا اليوم، ليس لباسًا مُميِّزًا لهم عن أفراد الأمة الإسلامية، لأنَّ لباس العِمامة، كان زِيّا لجميع المسلمين، فتبدَّل بأزياء أخرى اقتبسوها من الآخرين، وقلَّدوهم فيها، إلا أن العلماء أبقوا على زِيّهم الأول – زِيّ كل المسلمين في العصور السابقة – فهم لم ينفردوا بزِيّ، وإنما بقوا على زِيّهم السابق؛ ولكن تغيير لباس المسلمين جعل لباس العلماء الثابت متميزًا عليهم.
ومع تأثر كثير من العاملين في الاختصاصات الشرعية، بعد هدم الخلافة، وقَصْرِهُم الإسلام على العبادات وأحكام النظام الاجتماعي (الأحوال الشخصية) فقد تخلَّوا بذلك عن مسؤوليتهم تجاه قضايا أمتهم، واقتصر اهتمامهم بأحكام الشعائر التعبدية الفردية، ورضاهم بأن يكونوا تابعين لا متبوعين، يُؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، وُجد في الأمة الإسلامية ثُلَّة من العلماء الربانيين؛ الذين ساروا على نهج سلفهم من علماء الأمة العاملين، ومن هؤلاء العلماء:
1- الشيخ محمد شاكر رحمه الله، المتوفى سنة 1939م؛ ففي عام 1900م ترقَّى إلى منصب قاضي قضاة السودان، ثم انتقل إلى القاهرة لمعاونة شيخ الأزهر، ثم عُيّن وكيلًا للجامع الأزهر عام 1909م، وهو والد العلامة المحدث أحمد محمد شاكر رحمه الله، والعلامة شيخ العربية وحامل لوائها محمود محمد شاكر رحمه الله.
ولعل أشهر مواقف الشيخ محمد شاكر رحمه الله، كانت في حضور الملك حسين كامل ابن الخديوي إسماعيل – الذي لُقِّب بسلطان مصر – حيث كان يصلي الجمعة في عابدين، فاستحضروا له محمد المهدي، وكان الملك يحب الصلاة خلفه، وكانت هذه الجمعة بعد رجوع الدكتور طه حسين من بعثته إلى فرنسا، وحصوله على درجة الدكتوراه، واستُقبل بحفاوة وكُرِّم رسميًّا، فأراد الخطيب محمد المهدي أن يمدح سلطان مصر حسين كامل، لعنايته بالدكتور طه حسين، فقال: «ما عبس وما تولى لـمّا جاءه الأعمى»، وكان في ذلك تعريض بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومزايدة على فعله تجاه الصحابي الأعمى عبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنه، وبعد الفراغ من الصلاة، قام الشيخ محمد شاكر رحمه الله، وكان وكيل الجامع الأزهر، فقال: «أيها الناس إن صلاتكم باطلة فقد كفر الخطيب»، وحدث هرْج ومرْج في وجود الحاكم، فلم ينتظر الشيخ محمد شاكر إذن الملك للصدع بالحق، وتصحيح الخطأ، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإنما بقي دوي صوته يتردد: «أيها الناس صلاتكم باطلة، وخطيبكم كافر».
ولم يكتفِ الشيخ محمد شاكر بذلك، بل توجه إلى قصر الملك حسين كامل، ورفع إليه فتوى مكتوبة، يدعوه فيها إلى إعادة الصلاة، مُبيّنًا له الحكم الشرعي. [من كتاب كلمة الحق، للعلامة أحمد محمد شاكر، صفحة 150 – 151].
2- الشيخ عبد العزيز البدري المتوفى 1969م، كان رحمه الله من أوائل الدعاة في العراق الذين قاوموا استبداد السلطات الحاكمة، ودعوا لاستئناف الحياة الإسلامية بإقامة الخلافة، ويعد أول داعية تم إعدامه في ظل حكم النظام الأسبق، خوفًا من قوة تأثيره في الناس، إذ لم يعرف الخوف طريقه إلى نفسه أبدًا، فواجه بإيمانه وصبره وشجاعته بطش السلطات؛ فكان يترجَّل على المنابر وينتقل بين المدن، مبينًا ظلم النظام ومخالفته لأحكام الشريعة الإسلامية.
وبعد سقوط الحكم الملكي في العراق سنة 1958م، كان المدّ الشيوعي قد أخذ مأخذه، فتصدى للشيوعية على المنبر، فتم وضعه تحت الإقامة الجبرية لمدة سنتين، حتى صدور العفو العام عن السياسيين في عام 1961م.
وعند افتتاح جامع عادلة خاتون، قرب جسر الصرّافيّة في جانب الرَّصَافة، وهو يلقي خطبته على المنبر فوجئ بدخول عبد السلام عارف رئيس العراق آنذاك، ولم يكد يأخذ عارف مكانه حتى بدأ الشيخ البدري بتوجيه كلماته المشهورة إلى عارف دون خوف أو تردد: «يا عبد السلام، طبق الإسلام.. إن تقربت من الإسلام باعًا تقربنا إليك ذراعًا.. يا عبد السلام، القومية لا تصلح لنا، وحده الإسلام ملاذنا». وعند الانتهاء من خطبته جلس جانبًا ولم يلتفت إلى الرئيس العراقي، فقام الأخير وصافحه قائلًا: «أشكرك على هذه الجرأة!».
واصل الشيخ البدري نهجه الشجاع، وعدم انصياعه لرغبات حكام العراق، وكان دائمًا يوجه لهم النصيحة والنقد، أملًا في رجوعهم إلى منهج الإسلام.. ولقد استمر رحمه الله يعتلي منابر بغداد، مبتدئًا بمقدمته الشهيرة: «أعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات حكَّامنا»، ويختم خطبته قائلًا: «اللهم ارزقنا دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا من الدعاة إلى طاعتك والاقتداء إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة، وشهادة في سبيلك».
وبالطبع، لم تَرُقْ أعمال وتصرفات الشيخ البدري للنظام السابق وأزلامه، وفي إحدى الليالي، وبينما كان راجعًا من المسجد بعد صلاة العشاء، انقضَّ عليه أزلام النظام، ثم ذهبوا إلى بيته وصادروا كل خطبه وأشرطته المسجلة، بالإضافة إلى كتابين كانا معدين للطباعة هما: «كتاب الله الخالد»، و»الإسلام حرب على الاشتراكية والرأسمالية».
اعتقل بسجن قصر النهاية، لتعذيبه واستجوابه من صدّام حسين (المسؤول عن الملف الأمني للدولة)، وناظم گزَار (مدير الأمن العام الأسبق). ويقول أحد الشهود الذين كانوا معه في الزنزانة: «لم أرَ في حياتي رجلًا بشجاعته داخل المعتقل، يُعذب ويفقد الوعي، ثم يعود إلى رشده فيعذب مرة أخرى، وهو يكرر ذكر الله، ثم يفقد الوعي تارة أخرى»، لذلك كان المعتقلون معه يتوسلون إليه أن يلين بعض الشيء وأن يسكت؛ ولكنه لم يعترف للبعثيين بشرعية، ولم يمنحهم تأييدًا، بل كان يصرُّ في التحقيق على أنهم عملاء المستعمر.
وفي أحد الأيام شتم ناظم گزَار الشيخ البدري، فما كان من الشيخ إلا أن رفع يده وضربه، فانهال الجنود على البدري بالضرب من كل مكان وبمختلف الوسائل حتى أُغمي عليه، واستمروا في تعذيبه وحبسه انفراديًا.
وفي كل مرة بعد التعذيب كان يرسل إلى مستشفى الرشيد العسكري لإيقاظه من غيبوبته، ثم يُعاد إلى التعذيب، وهكذا.. وهو يذكر اسم الله، ويقرأ آيات من الذكر الحكيم، ويدعو الله، حتى قضى نحبه على يد الطغاة، حيث اغتيل على أيدي أزلام الحكام في بغداد، في 26 من حزيران/يونيو 1969م، وهو تحت التعذيب، ونُقل إلى مستشفى الرشيد العسكري؛ حيث تم تغسيله وتكفينه لتغطية الجريمة، ووُضِع في تابوت ألقاه الجنود أمام داره وهربوا.
للشيخ البدري رحمه الله، خمسة كتب، تعتبر من أغنى الكتب التي أُلِّفت في عصرنا الحديث في الإسلام السياسي، وهي: «حكم الإسلام في الاشتراكية»، «الإسلام بين العلماء والحكام»، «الإسلام حرب على الاشتراكية والرأسمالية»، «الإسلام ضامن للحاجات الأساسية لكل فرد»، «كتاب الله الخالد القرآن الكريم». بالإضافة إلى عشرات الخطب والمواعظ التي كان الناس يتداولونها قبل أن يصادر النظام مكتبته الصوتية بما فيها من تسجيلات، ويمنع تداولها في الأسواق. [كتاب من أعلام الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة، تأليف المستشار عبد الله العقيل صفحة 457 – مقالة عظماء منسيون: الشهيد العالم الصادع عبد العزيز البدري السامرائي، في مجلة المجتمع العدد 1921، للدكتور محمد بن موسى الشريف].
3- الشيخ المفسر المحدث الطاهر بن عاشور المتوفى عام 1973م، كان الشيخ ابن عاشور رحمه الله؛ عالما مجددًّا، لا يستطيع الباحث في شخصيته وعلمه أن يقف على جانب واحد فقط، إلاّ أنّ القضية الجامعة في حياته وعلمه ومؤلفاته؛ هي التجديد والإصلاح من خلال الإسلام وليس بعيدًا عنه، ومن ثم جاءت آراؤه وكتاباته ثورة على التقليد والجمود، وثورة على التسيّب والضياع الفكري والحضاري. وعنوان تفسيره «التنوير والتحرير»، هو عنوان مختصر من عنوانه الطويل: «تحرير المعنى السديد، وتنوير العقل الجديد، من تفسير الكتاب المجيد».
ومن المواقف المشهورة للطاهر بن عاشور رحمه الله، رفضه القاطع استصدار فتوى تبيح الفطر في رمضان، وكان ذلك سنة 1961م، عندما دعا بورقيبة الرئيسُ التونسي الأسبق، العمالَ إلى الفطر في رمضان بدعوى زيادة الإنتاج، وطلب من الشيخ أن يفتي في الإذاعة بما يوافق هذا، لكن الشيخ صرَّح في الإذاعة بما يريده الله تعالى، بعد أن قرأ آية الصيام، وقال بعدها: «صدق الله وكذب بورقيبة»، فخمد هذا التطاول المقيت، وهذه الدعوة الباطلة بفضل مقولة ابن عاشور. [كتاب شيخ الجامع الأعظم محمد الطاهر بن عاشور حياته وآثاره للدكتور بلقاسم الغالي].
وللشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله، نقد علمي من سبع وثلاثين صفحة، لكتاب الإسلام وأصول الحكم؛ الذي ألفه علي عبد الرازق في سنة 1925م، والذي أحدث ضجة بسبب رفضه لفكرة الخلافة والدعوة إلى مدنية الدولة.
هؤلاء علماءٌ، قِلَّة من ثُلَّة من العلماء العاملين، الذين ساروا على نهج علماء الأمة الربانيين، الذين قالوا كلمة الحق، ولم يخشوا في الله لومة لائم.
فيا أيها العلماء الأفاضل:
إن الأمة لم تكن في يوم أشدّ حاجة لعلمكم النافع، وجرأتكم منها اليوم. فعلى صعيد الحكم صعدت دعوات للدولة المدنية؛ وما هي إلا الدولة العلمانية نفسها التي كانت، والدعوة إلى الديمقراطية؛ وما هي إلا نظام الحكم في المبدأ الرأسمالي العفن.
وإنكم لتعلمون، أن للإسلام نظام حكم، فدولته دولة الخلافة، والحاكم هو الخليفة؛ الذي يبايعه المسلمون على السمع والطاعة على تطبيق كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وإنكم لتعلمون، ليست هناك واقعة كانت أو تكون أو ستكون إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، إلا ولها حكم شرعي، ولا مشكلة إلا ولها محل حكم شرعي؛ فقد أحاطت الشريعة الإسلامية بجميع أفعال الإنسان إحاطة تامة شاملة، فلم يقع شيء في الماضي، ولا يعترضه شيء في الحاضر، ولا يحدث له شيء في المستقبل، إلا ولكل شيء من ذلك حكم في هذه الشريعة.
وإنه لواجب على المسلمين أن يوجد فيهم المجتهدون القادرون على استنباط الأحكام الشرعية لكل مسألة.
وإنه لا يخفى عليكم أن حكام المسلمين جميعًا لا يحكمون بالإسلام، حتى الذين يُطبِّقون بعض الأحكام من الإسلام ليحكموا بغيره، فهم يوالون الكفار، ويُقرِّون بسلطان الكفر على بلاد المسلمين؛ فلا يعملون على إزالته فحسب، بل يعملون على حمايته، وتطبيع المسلمين على قبوله.
فالواجب عليكم أن تحملوا المسؤولية التي كلَّفكم الله بها، ولا تكونوا مثل الذين قال الله تعالى فيهم: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ۙ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) [البقرة 159].
2023-04-08