أثر غياب الحزب السياسي على سقوط الخلافة وإقامتها
2006/09/01م
المقالات
2,317 زيارة
أثر غياب الحزب السياسي على سقوط الخلافة وإقامتها
إن الأمة التي تريد النهوض لابد لها من أن تؤسس حياتها على مبدأ يجمع بين الفكرة والطريقة، فيكون هذا المبدأ أساساً فكرياً، وقيادة توجه فكر الإنسان في الحياة، فيأخذ منه معالجاته وأنظمة حياته إن كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية،أو غيرها فيحصل بذلك الاستقرار والارتقاء.
فالدولة هي التي تجعل المبدأ فاعلاً في الحياة، ووجود الدولة والمحافظة عليها لا يتم الا عن طريق حزب سياسي. وكذلك هدم الدولة يتم عن طريق حزب سياسي؛ لأن الدولة كيان تنفيذي لمجموعة المقاييس والمفاهيم والقناعات التي تقبلها شعب ما أو أمة، والذي يحمل شعباً أو أمةً على تقبل هذه المفاهيم هو الحزب السياسي.
وهذا يفسر لنا ما قام به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما جاء بالإسلام بوصفه مبدأًَ للحياة. حيث عمل على تكتيل كل من آمن به على أساس الإسلام في جماعة سياسية لتقوم معه بالعمل على إقامة الدولة. ووصفنا للجماعة التي أسسها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنها حزبٌ سياسيٌ، لأنها ينطبق عليها تعريف الحزب؛ لأن الحزب عبارة عن أفراد تكتلوا حول فكرة واضحة مبلورة يريدون إيجادها في الواقع، وهذا ما عمله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فنجد أن الصحابة، رضوان الله عليهم، يمثلون تكتلاً سياسياً يعمل على إيجاد الإسلام في الواقع، فهذه الجماعة التي أنشأها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هي التي عملت على إقامة الدولة الإسلامية في المدينة.
وشاهد من الواقع الذي عايشناه وهو قيام دولة الاتحاد السوفياتي فقد كان عن طريق الحزب الشيوعي. ولكن الفارق بينها وبين دولة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو أن دولة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قامت بعد تقبل جمهرة الناس في المدينة لمفاهيم الإسلام، أما الحزب الشيوعي فقد حمل الناس بالقوة على الخضوع لأفكاره ومفاهيمه دون قناعة بها، ولقد قيل إن الذين اعتنقوا الشيوعية لا تصل نسبتهم إلى خمسة بالمئة من جمهرة الناس وكان هذا عاملاً قوياً ساعد على انهيار الدولة.
ولا يقتصر عمل الحزب على إقامة الدولة فحسب، إنما يستمر عمله للمحافظة على الدولة من الانحراف وعلى المجتمع من الانحلال؛ لأن قوة الدولة في فكرها. والذي يقوم على هذا الفكر هو الحزب السياسي، فهو الحارس على فكر المجتمع وحسه، فإذا لاحظ انحرافاً فكرياً في الدولة أو المجتمع قام على تصحيحه، فيكون المبدأ في حصن حصين، وهذا ما كان يفعله الصحابة، رضوان الله عليهم، إذ لايقبلون في الحق شفيعاً ولا يسكتون عن باطل مهما كان. ونجد أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حافظ على صفاء ونقاء فكر هذه الكتلة، لأنها هي الضمانة لسير الدولة بعد إقامتها، وهذا ما نفهمه من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «لاهجرة بعد الفتح» وقد أدرك عمر (رضي الله عنه) هذه النقطة فحرص على نقاء الكتلة، فمنع الصحابة من الاستيطان خارج المدينة حتى تبقى الكتلة نقية فكرياً ومشاعرياً.
ثم إننا نجد أن الله وعز وجل قد وضع أحكاماً في القرآن والسنة تبين أهميه وجود الحزب للمحافظة على المبدأ، قال تعالى: ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) [آل عمران 104]، في هذه الآية ذكر الله تعالى الأمر بالمعررف والنهي عن المنكر بعد ذكر الخير الذي يتضمنهما، وفي ذلك دلالة على أهميه الأمر بالمعرف والنهي عن المنكر؛ لأن ذكر الخاص بعد العام يدلل على أهمية الخاص. وتأتي أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الآية لأنهما يمثلان حكماً شرعياً متعلقاً بالمحافظة على المبدأ من أن يفرّط فيه بعض أبناء الأمة، فينهار بذلك البنيان الذي يطبق الإسلام. ومن السنة قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنْ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا» (البخاري) فيبين الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن عدم المحافظة على أفكار وأحكام الإسلام يؤدي إلى الهلاك، وأكبر هلاك هو سقوط الدولة التي بسقوطها يبعد المبدأ عن التطبيق في الحياة.
ومن النصوص التي تؤكد أهمية وجود الكتلة لتحافظ على الدولة قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «النّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسّمَاءِ، فَإِذَا ذَهَبَتِ النّجُومِ أَتَىَ السّمَاءَ مَا تُوعَدُ. وَأَنَا أَمَنَةٌ لأَصْحَابِي، فَإِذَا ذَهَبَتُ أَتَىَ أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ. وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لأِمّتِي، فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَىَ أُمّتِي مَا يُوعَدُونَ». (مسلم) فكون الصحابة هم أمنة الأمة، يعني أنهم يحافظون عليها، والمحافظة عليها في المقام الأول تكون بالمحافظة على المبدأ؛ لأن حياة الأمة ومماتها في مبدئها، وذلك كما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «يا ويح قريش، لقد أكلتهم الحرب، فماذا عليهم لو خلّوا بيني وبين سائر العرب؟ فإن أصابوني كان الذي أرادوا، وإن الله أظهرني عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يقبلوا قاتلوا وبهم قوة، فما تظن قريش؟ فوالله لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله به حتى يظهرني الله أو تنفرد هذه السالفة» (كنـز العمال) فهذا دليل على أن حياة الأمة في مبدئها، والواقع الآن يؤكد ذلك جلياً، وهنا نذكر بعض المواقف التي تؤكد حرص الكتلة على المبدأ والدولة:
1- قول أبي بكر (رضي الله عنه) في حروب الردة: «والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة».
2- قول عمر (رضي الله عنه) كما جاء عن موسى بن أبي عيسى قال: «أتى عمر بن الخطاب مشربة بني حارثة، فوجد محمد بن مسلمة فقال عمر: كيف تراني يا محمد؟ فقال: أراك والله! كما أحب وكما تحب من يحب لك الخير، أراك قوياً على جمع المال: عفيفاً عنه، عدلاً في قسمه، ولو ملت عدلناك كما يعدل السهم في الثقاب، فقال عمر: هاه! وقال لو ملت عدلناك كما يعدل السهم في الثقاب؟ فقال: الحمد الله الذي جعلني في قوم إذا ملت عدلوني» (ابن المبارك).
فوجود الصحابة بوصفهم حزباً كان الضمانة للأمة والدولة من الانحراف والتنكب. أما عندما جاء عصر عثمان بن عفان (رضي الله عنه) وفتح الباب أمام الصحابة فنجدهم تفرقوا في الأمصار، وبذلك فقد عثمان (رضي الله عنه) الوسط السياسي الحارس الأمين على المبدأ، وبقي منهم أفراد لا بصفة كيانية وإنما بوصفهم أفراداً، فأصبح تأثيرهم في الأمة والدولة أضعف كما لو كانوا جماعة؛ لأن الأمة كيان، والدولة كيان، ولا يؤثر في الكيان إلا كيان مثله.
وما نشاهده الآن في الدول الرأسمالية خير شاهد للدلالة على أن الحزب يحافظ على الدولة، فنجد الساسة في الغرب كثيراً ما يخالفون المبدأ في أعمالهم التي يقومون بها تجاه المسلمين، فتقوم الأحزاب لتحريك الشعوب فتحاسب الساسة وتردهم إلى ما يؤمنون به من الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرها من أفكارهم، مما يحمل الساسة على النفاق والمراوغة لمسايرة الشعوب -وهذا مؤشر خير على وهن المبدأ الرأسمالي ومؤذن بسقوطه- فهذه الأعمال دليل على أن الحزب ضروري للمحافظة على الدولة وحملها على تطبيق المبدأ.
ولا نستطيع أن نقول إن الخلافة التي أعقبت الخلافة الراشدة كانت غير ناهضة ولكنها كانت تسير بقوة الدفع التي حصلت من الدولة الأولى، وإن صح القول إنه لم ينشأ حزباً سياسياً طوال عصر الدولة غير حزب الصحابة الذي أسسه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، مما ساعد على انحدار الدولة الإسلامية نحو الانحطاط حتى السقوط. ولكن لو كان هناك حزب سياسي لحال دون ضعف الفهم عند الأمة؛ لأن الحزب السياسي عندما يكون حزباً مبدئياً يعمل على صفاء الفكرة ونقائها حفاظاً على المبدأ، وبذلك يكون محافظاً على الدولة من الانحدار والسقوط. وبدونه لا يوجد من يقوم بالحفاظ على فكر الأمة وحسها، ولا يوجد من يقوم بمحاسبة الدولة وحملها على الحق وتقويم اعوجاجها، ولا يوجد من يقوم بكشف المؤامرات التي تحاك ضدها من قبل أعدائها، فبغياب الحزب السياسي تصبح الأمة فريسة للجهل ولأعدائها.
ونلفت نظر المسلمين إلى أن الكافر عندما هدم دولة الخلافة، استعمل الأحزاب السياسية، لأنه يدرك أن اقامة أي دولة أو هدمها لا يمكن أن يتم إلا عن طريق حزب سياسي؛ لذلك نجده أسَّس أحزاباً وطنية وقومية لتقوم بهدم الخلافة، ومن جهة أخرى عمل على تنفير المسلمين من الأحزاب ومن العمل السياسي، حتى لا يعودوا من جديد في دولة واحدة؛ لإدراكه أن الوصول إلى وحدتهم في دولة واحدة والمحافظة على وحدة الدولة لا تتم إلا عن طريق حزب سياسي؛ وعليه فإن عدم وجود حزب سياسي يقوم بكشف مؤامرات وخطط الكافر، ساعده على استهداف الأمة وتنفيذ مخططه تجاهها بإبعاد المبدأ عن الحياة والدولة والمجتمع.
وأخيراً إن الحزب السياسي المبدئي هو الذي يوجد النهضة في الأمة بإقامة دولة تطبق المبدأ وتحافظ عليه، وغيابه حتماً له الأثر الأكبر في سقوطها وانهيارها، ولذا يمكن القول إن غياب الحزب السياسي كان له أثر كبير في سقوط دولة الخلافة.
وبعد بيان أثر الحزب السياسي في إقامة الدولة وهدمها، على الأمة أن تدرك أهمية العمل السياسي مع حزب سياسي مبدئي يقوم بالعمل في الأمة ومعها لإيجاد أفكار ومفاهيم ومقاييس الإسلام عندها، حتى تقيم على أساسها دولة إسلامية للمسلمين جميعاً في الأرض، فتضع الإسلام موضع التطبيق، لتتخلص من الحالة السيئة التي تعيشها، ومن الذل والهوان والتبعية للغرب الكافر، فتحصل لها بذلك النهضة المنشودة، ومن ثمَّ تقوم بعملها الأساسي، وهو حمل الإسلام رسالة هدى للعالمين، لتخرجهم من الظلمات إلى النور، ولتحقق الشهادة المناطة بها من الله تعالى على سائر الناس، قال تعالى: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) [البقرة 143].
عوض ناجي – السودان
2006-09-01