بزوغ نور من المسجد الأقصى: انطلاقة مسيرة حزب التحرير
2006/09/01م
المقالات
3,817 زيارة
بزوغ نور من المسجد الأقصى:
انطلاقة مسيرة حزب التحرير
شاء الله أن نكون في آخر الزمان، حيث الفتن فيه كقطع الليل المظلم تجعل الحليم حيران، فقد غاض حكم الله عن الأرض وعمّ الظلم وانتشر الطغيان… وشاء الله أن يكون لهذا الليل إدبارٌ، ولصبح الخلافة إسفارٌ، ولنفوس تاقت إلى رضى ربها استبشارٌ… فعادت الخلافة إلى اللسان بعد انقطاع، وإلى الأذهان بعد تشتت عنها وضياع… وشاء الله أن يدعو لها أهلٌ هم لها أهلٌ، أهلٌ قل نصيرهم حتى بين أهلهم، وأن يصبروا عليها حتى صارت بإقرار من أعدائهم هي الشمس التي يَخافُ منها من ألِفَ الظلم والظلمة، وأمن العيش في العتمة، يخاف أن تبزغ لتقول «هذا ربي».
ولا شك أن لكل طريق معالمها، فمتى رأى سالكو هذه الطريق أنهم بدأوا مثلما بدأ رسولهم الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وساروا مثلما سار، فقد حقّ لهم أن يقتنعوا أنهم واصلون إلى ما وصل إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) ومحققون ما وعد به: «خلافة راشدة على منهاج النبوة».
وإنه لفخر ما بعده فخرإذا وفَّق الله سبحانه حزب التحرير ليكون هو تلك الثلة المؤمنة، والجماعة الموعودة، والطائفة المنصورة، بإذن الله. وإننا لنرجو من الله سبحانه وتعالى تلك المأثرة، تلك المكرمة التي يطمع بها كل تقيّ نقيّ وفيّ…
وهذا شيء يسير مما استطعنا أن نجمعه من سيرة من أسس هذا الحزب وأقام عماده «العالم العلامة الشيخ تقي الدين النبهاني» وسيرة من أكمل البناء من بعده وشاده « العالم الكبير الشيخ عبد القديم زلوم» وسيرة من يرجى من الله تعالى أن يهيئ له النصر ويمكِّن له القيادة «عالم الأصول عطا أبو الرشتة»…
وهذه أيضاً بعض الأضواء نلقيها على حزب التحرير ليتبين للقارئ صفاء فكرته، وصحة طريقته، وحسن تأسيه، وقوة استمساكه…
وأخيراً هذا طرف من بعض المقابلات مع بعض الأعضاء من الرعيل الأول الذين شهدوا الفترة الأولى للعمل في حزب التحرير والتي كانت مليئة بالصعوبات، ولكنها كذلك بالأمل بالنصر…
1- تقي الدين النبهاني… الشيخ المؤسس
هو العالم العلاّمة، مؤسس حزب التحرير، الشيخ تقي الدين بن إبراهيم بن مصطفى بن إسماعيل بن يوسف النبهاني نسبة لقبيلة بني نبهان من عرب البادية في فلسطين التي استوطنت قرية «اجزم» قضاء صفد التابعة لمدينة حيفا في شمال فلسطين. ولد الشيخ في قرية اجزم وفي الراجح من الأقوال عام 1332هـ – 1914م، في بيت علم ودين مشهور بالورع والتقوى، كان والده الشيخ إبراهيم شيخاً فقيهاً يعمل مدرساً للعلوم الشرعية في وزارة المعارف الفلسطينية، كما كانت والدته على إلمام كبير بالأمور الشرعية التي اكتسبتها عن والدها الشيخ يوسف.
والشيخ يوسف هو، كما جاء عنه في التراجم: يوسف بن إسماعيل بن يوسف بن حسن بن محمد النبهاني الشافعي “أبو المحاسن” أديب شاعر صوفي، من القضاة البارزين، تولى القضاء في قصبة جنين من أعمال نابلس، ورحل إلى القسطنطينية، وعين قاضياً بكوي سنجق من أعمال ولاية الموصل، فرئيساً لمحكمة الجزاء في اللاذقية ثم في القدس، فرئيساً لمحكمة الحقوق ببيروت، له تصانيف كثيرة تبلغ ثمانية وأربعين مؤلفاً.
لقد كان لتلك النشأة الأثر البالغ في تكوين شخصية الشيخ تقي الدين الإسلامية، فحفظ القرآن كله غيباً في سن مبكرة وهو لم يتجاوز الثالثة عشرة بعد، وتأثر بتقوى ووعي جده لأمه واستفاد من علمه الغزير، وتمتع مبكراً بالوعي السياسي وخاصة القضايا السياسية المهمة التي كان لجده دراية بها من خلال صلته الوثيقة برجال الحكم في الدولة العثمانية، وأفاد الشيخ من حضوره المجالس والمناظرات الفقهية التي كان يعقدها جده الشيخ يوسف، وقد لفت نظر جده نبوغه ونباهته الفائقة أثناء مشاركته قي مجالس العلم تلك، فاهتم به اهتماماً كبيراً وأقنع والده بضرورة إرساله إلى الأزهر لمواصلة التعليم الشرعي.
علمه ودراسته:
التحق الشيخ تقي الدين بالثانوية الأزهرية عام 1928م، واجتازها في العام نفسه بتفوق فنال شهادة الغرباء، والتحق إثرها بكلية دار العلوم التي كانت آنذاك تتبع الأزهر، وإلى جانب ذلك كان يحضر حلقات علمية في الأزهر الشريف على شيوخ أرشده إليهم جده من مثل الشيخ محمد الخضر حسين -رحمه الله- حيث كان نظام الدراسة القديم في الأزهر يسمح بذلك. ورغم جمع الشيخ النبهاني بين النظام الأزهري القديم، وبين دار العلوم فإنه أظهر تفوقاً وتمايزاً في جده واجتهاده، ولفت أنظار أقرانه ومعلميه لما عرف عنه من عمق في الفكر ورجاحة في الرأي وقوة الحجة في المناقشات والمناظرات الفكرية التي كانت تعج بها معاهد العلم آنذاك في القاهرة وغيرها من بلاد المسلمين.
الشهادات التي يحملها الشيخ النبهاني هي الثانوية الأزهرية، وشهادة الغرباء من الأزهر، ودبلوم في اللغة العربية وآدابها من كلية دار العلوم في القاهرة، وحصل من المعهد العالي للقضاء الشرعي التابع للأزهر على إجازة في القضاء، وتخرج من الأزهر عام 1932م حاصلاً على الشهادة العالمية في الشريعة.
المجالات التي عمل فيها:
عمل الشيخ في سلك التعليم الشرعي في وزارة المعارف حتى سنة 1938م حيث انتقل لمزاولة القضاء الشرعي، فتدرج في ذلك حيث ابتدأ بوظيفة باش كاتب محكمة حيفا المركزية ثم مُشاور (مساعد قاضي) ثم قاضي محكمة الرملة حتى عام 1948م، حيث خرج للشام إثر سقوط فلسطين بيد اليهود. ثم عاد في السنة نفسها ليعين قاضياً لمحكمة القدس الشرعية، بعدها عين قاضياً بمحكمة الاستئناف الشرعية حتى سنة 1950م حيث استقال وانتقل لإلقاء محاضرات على طلبة المرحلة الثانوية بالكلية العلمية الإسلامية في عمان حتى سنة 1952م. كان رحمه الله بحر علوم واسع المعرفة في كل العلوم، مجتهداً مطلقاً، متحدثاً ذا حجة بالغة.
مؤلفاته:
1) نظام الإسلام، 2) التكتل الحزبي، 3) مفاهيم حزب التحرير، 4) النظام الاقتصادي في الإسلام، 5) النظام الاجتماعي في الإسلام، 6) نظام الحكم في الإسلام، 7) الدستور، 8) مقدمة الدستور، 9) الدولة الإسلامية، 10) الشخصية الإسلامية في ثلاثة أجزاء، 11) مفاهيم سياسية لحزب التحرير، 12) نظرات سياسية، 13) نداء حار، 14) الخلافة، 15) التفكير، 16) سرعة البديهة، 17) نقطة الانطلاق، 18) دخول المجتمع، 19) تسلح مصر، 20) الاتفاقيات الثنائية المصرية السورية واليمنية، 21) حل قضية فلسطين على الطريقة الأميركية والإنكليزية، 22) نظرية الفراغ السياسي حول مشروع أيزنهاور، بالإضافة إلى آلاف النشرات الفكرية، والسياسية، والاقتصادية.
كما أصدر عدداً من الكتب بأسماء أعضاء في الحزب ليتسنى له نشرها، بعد أن صدر حظر قانوني لتداول كتبه ونشرها.
ومن هذه الكتب:
1) السياسة الاقتصادية المثلى، 2) نقض الاشتراكية الماركسية، 3) كيف هدمت الخلافة، 4) أحكام البينات، 5) نظام العقوبات، 6) أحكام الصلاة، 7) الفكر الإسلامي.
وكان قد أصدر سابقاً -قبل تأسيس الحزب- إنقاذ فسلطين، ورسالة العرب.
صفاته وأخلاقه:
يقول الأستاذ زهير كحالة الذي يعمل مديراً إدارياً للكلية العلمية الإسلامية والذي كان ملازماً للشيخ تقي الدين منذ أن وطأت قدماه أرض الكلية: «كان رجلاً نزيهاً، شريفاً ونظيفاً، مخلصاً متفجر الطاقة، متحرقاً ومتألماً لما أصاب الأمة من جراء زرع الكيان الإسرائيلي في قلبها».
كان ربعة، متين البنية، جم النشاط، حاد المزاج بارعاً في الجدل، مفحم الحجة، متصلباً فيما يؤمن به أنه الحق، وكان ذا لحية متوسطة يخالطها الشيب، ذا شخصية قوية، مؤثراً حين يتحدث مقنعاً حين يحاجج، يكره بعثرة الجهود، والانكفاء على الذات، والانعزالية عن مصالح الأمة، ويكره أن ينشغل المرء بأمور حياته الشخصية،, يعمل لخير الأمة، متمثلاً قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم» وكان يكثر من ترداده والاستشهاد به، وكان ينعى على الإمام الغزالي صاحب «الإحياء» تركه الصليبيين يغزون البلاد الإسلامية منكفئاً في المسجد يؤلف كتبه.
إنشاء حزب التحرير والسير فيه:
أخذ الشيخ تقي الدين يدرس بعمق واهتمام الأحزاب والحركات والتنظيمات التي نشأت منذ القرن الرابع الهجري، درس أساليبها وأفكارها وأسباب انتشارها أو فشلها، وكان الدافع لدراسة هذه الأحزاب هو إحساس الشيخ بوجوب وجود تكتل إسلامي يعمل لإعادة الخلافة، فبعد إلغائها على يد المجرم مصطفى كمال (أتاتورك) لم يستطع المسلمون إعادتها على الرغم من وجود تنظيمات إسلامية تعمل آنذاك، ولما وجدت دولة (إسرائيل) في أيار عام 1948م على أرض فلسطين، وظهور ضعف العرب أمام عصابات اليهود ربيبة الانتداب البريطاني الذي كان يتحكم في الأردن ومصر والعراق… ثار إحساس الشيخ تقي الدين، فأخذ يدرس الأسباب الحقيقية التي تنهض بالمسلمين، فحاول عن طريق الفكر القومي إنهاض الأمة، وكتب ذلك في رسالتين هما: 1- رسالة العرب، 2- وإنقاذ فلسطين، واللتان صدرتا في عام 1950م، ولم تكن نزعته القومية التي ظهرت في هاتين الرسالتين مجردة عن فكر وعقيدة ورسالة الأمة الحقيقية في الوجود وهي رسالة الإسلام وهذا الفرق بينه وبين دعاة القومية العربية الذين جردوا أمتهم من رسالتها ونادوا برسالات ومذاهب وأيدلوجيات غريبة عن هذه الأمة ومناقضة لعقيدتها وخلقها وقيمها. ثم عاد تقي الدين عن هذا الخط الذي سلكه في أول أمره وأخذ يحاور ويستمع لكل ما يعرض على الساحة إلا أنه لم يقتنع بها جميعاً.
وما إن انتقل إلى القضاء حتى أخذ يتصل بالعلماء الذين عرفهم والتقى معهم في مصر وراح يعرض عليهم فكرة إنشاء حزب سياسي على أساس الإسلام لإنهاض المسلمين وإعادة عزهم ومجدهم، وتنقل لهذا الغرض بين أكثر مدن فلسطين يعرض الأمر الذي اختمر في فكره على الشخصيات البارزة من العلماء وقادة الفكر، حيث كان يقوم بعقد الندوات، وجمع العلماء من شتى مدن فلسطين، وفي هذه الأثناء كان يحاورهم في طريق النهضة الصحيحة، وكان كثيراً ما يناقش القائمين على الجمعيات الإسلامية والأحزاب السياسية والقومية والوطنية، مبيناً لهم خطأ سيرهم، وعقم عملهم،كما أنه كان يعرض للعديد من القضايا السياسية في خطاباته التي كان يلقيها في المناسبات الدينية في كلٍ من المسجد الأقصى، ومسجد إبراهيم الخليل وغيرهما من المساجد، حيث كان يهاجم النظم العربية بقوله إنها من صنائع الاستعمار الغربي، ووسيلة من وسائله يستعين بها لإبقاء بلاد المسلمين في قبضته، وكان يكشف المخططات السياسية للدول الغربية ويفضح نواياهم ضد الإسلام والمسلمين، وكان يبصر المسلمين بواجبهم ويدعوهم للتحزب على أساس الإسلام .
ثم تقدم الشيخ تقي الدين ورشح نفسه إلى مجلس النواب… ونظراً لمواقفه الملتزمة ونشاطه السياسي وعمله الجاد لإنشاء حزب سياسي مبدؤه الإسلام، وتمسكه القوي بالإسلام، وتأثير الدولة في النتائج، كل ذلك ساعد على ظهور النتائج في الانتخابات لغير صالحه.
ولم يتوقف نشاط الشيخ السياسي ولم تفتر عزيمته، وبقي على اتصالاته ومناقشاته حتى استطاع أن يقنع مجموعة من العلماء الأفاضل والقضاة المرموقين، والشخصيات السياسية الفكرية البارزة بإنشاء حزب سياسي على أساس الإسلام، وشرع يعرض عليهم الإطار الحزبي والأفكار التي يمكن أن تكون الزاد الثقافي لهذا الحزب، فلاقت أفكاره عند هؤلاء العلماء الرضى والقبول. وتوج نشاطه السياسي بتشكيل حزب التحرير .
بدأ العمل لتشكيل الحزب في مدينة القدس، حيث كان يعمل الشيخ في محكمة الاستئناف الشرعية هناك، وقد اتصل بعدد من الرجال آنذاك منهم الشيخ أحمد الداعور من قلقيلية، والسيدان نمر المصري وداود حمدان من اللد والرملة، والشيخ عبد القديم زلوم من مدينة الخليل، وعادل النابلسي، وغانم عبده، ومنير شقير، والشيخ أسعد بيوض التميمي، وغيرهم.
في بداية الأمر، كانت اللقاءات بين الأفراد المؤسسين عشوائية وغير منظمة، وكان معظمها يتم إما في القدس أو في الخليل لتبادل الآراء واستقطاب أفراد جدد. وتركز فيها النقاش على المواضيع الإسلامية المؤثرة في نهضة الأمة، واستمر الوضع كذلك حتى أواخر سنة 1952م عندما بدأ أولئك الأفراد يأخذون صفة الحزب السياسي.
وفي السابع عشر من شهر تشرين الثاني سنة 1952م، تقدم خمسة من الأعضاء المؤسسين للحزب بطلب رسمي لوزارة الداخلية الأردنية، بهدف الحصول على رخصة إنشاء حزب سياسي، وهم:
-
تقي الدين / رئيساً للحزب
-
داود حمدان / نائباً للرئيس وسكرتيراً للحزب
-
غانم عبده / أميناً للصندوق
-
د. عادل النابلسي / عضواً
-
منير شقير / عضواً.
ثم استكمل الحزب الإجراءات القانونية المطلوبة في قانون الجمعيات العثماني، وأن مركز الحزب هو القدس، وأخذ (علم وخبر) حسب القانون.
وبتقديم الحزب بيانه للحكومة مرفقاً بنظامه الأساسي، ونشر الكيفية من قبله في جريدة الصريح العدد 176 المؤرخ في 14/3/1953م، أصبح حزب التحرير حزباً قانونياً اعتباراً من يوم السبت الواقع في 28 جمادى الثانية سنة 1372هـ الموافق 14 آذار سنة 1953م، وصارت له الصلاحية بمباشرة نشاطه الحزبي وممارسة كافة الأعمال الحزبية التي ينص عليها نظامه الأساسي، وفق قانون الجمعيات العثماني المعمول به.
إلا أن الحكومة استدعت مؤسسيه الخمسة وحققت معهم واعتقلت أربعة منهم، ثم أصدرت بتاريخ 7 رجب سنة 1372هـ الموافق 22/3/1953م بياناً اعتبرت فيه حزب التحرير غير قانوني ومنعت القائمين عليه من أي عمل (أي من النشاط الحزبي)، وبتاريخ 1/4/1953م أمرت بنـزع لافتات حزب التحرير المعلقة على مكتبه في القدس ونزعتها بالفعل.
إلا أن الشيخ تقي الدين النبهاني لم يُقم وزناً لهذا المنع، وأصر على المضي قدماً في حمل الرسالة التي أسس الحزب عليها، وعندما خرج داود حمدان ونمر المصري من قيادة الحزب عام 1956م، دخل القيادة مكانهما الشيخ عبد القديم زلوم، والشيخ أحمد الداعور، وأصبحت قيادة الحزب مكونة من هذين العالمين الجليلين بإمرة العلامة الشيخ تقي الدين النبهاني، وقد قامت هذه القيادة بأعباء الدعوة خير قيام بفضل من الله ورضوان.
ومن ساحات الأقصى أخذ الحزب بحملة تثقيف جماهيرية لاستئناف الحياة الإسلامية وأبدى نشاطاً واسعاً مما اضطر السلطات لاتخاذ خطوات قوية لمنعه من تشكيل نفسه وتقوية تنظيمه، فاضطر النبهاني إلى ترك البلد في نهاية عام 1953م من تلقاء نفسه إلا أنه منع من العودة إليها ثانية.
في تشرين الثاني عام 1953م رحل الشيخ النبهاني مرغماً إلى دمشق التي لم يلبث فيها إلا قليلاً حيث قامت السلطات السورية باعتقاله وإلقائه على حدود سورية مع لبنان، إلا أن السلطات اللبنانية هي الأخرى منعته من دخول أراضيها، فطلب من مسؤول مركز الشرطة اللبناني في وادي الحرير أن يسمح له بالاتصال مع شخص يعرفه في داخل لبنان فسمح مسؤول الأمن اللبناني له بإجراء الاتصال، فطلب الشيخ النبهاني من صديقه ذاك أن يتصل بالمفتي الشيخ حسن العلايا مفتي لبنان، فلما تناهى الخبر إلى مسامع الشيخ العلايا تحرك بسرعة إلى المسؤولين اللبنانيين ليأمروا فوراً بإدخال الشيخ النبهاني إلى الأراضي اللبنانية وإلا فإنه سيعمل على نشر هذا الخبر في كافة البلاد التي تدعي الديمقراطية وتمنع عالماً من علماء الدين الإسلامي أن تطأ قدماه أرضها، فما كان أمام السلطات اللبنانية إلا الخضوع والتسليم لأمر مفتي لبنان.
ومنذ أن حل الشيخ النبهاني في لبنان عمل على نشر أفكاره واستمر في ذلك دون مضايقة تقريباً إلى عام 1958م حيث أخذت السلطات اللبنانية تضيق الخناق عليه بعد أن أدركت خطورة أفكاره عليها فاضطر الشيخ للرحيل من بيروت إلى طرابلس متخفياً. يقول أحد معارفه الثقات: «كان الشيخ يقضي كثيراً من وقته في القراءة والكتابة والمذياع أمامه يستمع منه أخبار العالم ليكتب منشوراته السياسية القوية. وكان تقياً اسماً ومسمًى وعفيفاً في بصره ولسانه ولم أسمع منه يوماً أن شتم أو ذم أو حقر أحداً من المسلمين خاصة دعاة الإسلام على اختلاف اجتهاداتهم».
لقد أولى الشيخ المؤسس عملية النصرة في العراق اهتماماً بالغاً، سافر لأجلها للعراق عدة سفرات؛ ليقوم بمشاركة الشيخ عبد القديم (أبو يوسف) الذي كان هناك في بعض الاتصالات المهمة منها الاتصالات مع المرحوم عبد السلام عارف وغيره، وكانت آخر تلك الرحلات قبل وفاته حيث اعتقل في العراق، وقد عذَّبوه كثيراً، إلا أنه لم يُجْدِ التعذيب الذي مارسه المحققون معه عن أن ينالوا منه شيئاً، وكان كل ما قاله معرفاً عن نفسه: «شيخ يبحث عن العلاج!» فملوا منه وطردوه عبر الحدود السورية مشلول اليد خائر القوى من شدة وهول التعذيب الذي مارسه الطغاة معه، وكان طرده عبر الحدود قبل أن يأتيهم من المخابرات الأردنية أن المعتقل لديكم هو الشيخ تقي الدين النبهاني المطلوب عندكم، ولكن بعد فوات الفرصة والحمد لله.
لقد أسس، رحمه الله، الحزب على قدم ثابتة، وكان الوصول إلى الهدف قاب قوسين أو أدنى، ولكن لكل أجل كتاب.
وفي غرة محرم 1398 هـ يوم الأحد فجراً، الموافق 11/12/1977 للميلاد، فقدت الأمة الإسلامية جمعاء علماً من أعلامها البارزين هو بحر العلوم، وأشهر فقهاء العصر على الإطلاق، مجدد الفكر الإسلامي في القرن العشرين الفقيه المجتهد العالِم العلاّمة الشيخ تقي الدين النبهاني أمير حزب التحرير المؤسس، ودفن في مقبرة الأوزاعي في بيروت، حيث توفاه الله تعالى ولم يتمكن من حصاد ثمار عمله الذي وهبه كل عمره وهو دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، تاركاً الأمانة لخلفه ورفيق دربه العالم الكبير الشيخ عبد القديم يوسف زلوم. ومع أنه رحمه الله لم يشهد الهدف الذي عمل جاهداً لتحقيقه، إلا أن جهوده قد أثمرت حزباً ينتسب إليه ويحمل فكره آلاف كثيرة، علاوة على ملايين المؤيدين، وانتشر رجاله في كثير من بقاع المعمورة وفي كثير من سجون الكفرة والطغاة والظالمين.
2- الشيخ عبد القديم زلوم:
خير خلف لسلفه في قيادة الحزب
هو العالم الكبير الشيخ عبد القديم بن يوسف بن عبد القديم بن يونس بن إبراهيم الشيخ زلوم ولد في عام 1342هـ 1924م في الراجح من الأقوال في مدينة الخليل من عائلة معروفة ومشهورة بالتدين، فوالده رحمه الله من حفظة القرآن، وكان يتلو القرآن غيباً حتى آخر عهده في الحياة، وقد عمل والده مدرساً في زمن دولة الخلافة.
وكان عم والده عبد الغفار يونس زلوم مفتياً للخليل في زمن دولة الخلافة. وكانت عائلة زلوم من العائلات التي تخدم المسجد الإبراهيمي فهم من الذين يخدمون سيدنا يعقوب عليه السلام، وهم الذين يرفعون العلم على المنبر في يوم الجمعة وفي المناسبات، وهم الذين يحملون العلم في المواسم والاحتفالات.
وكانت الدولة العثمانية توزع مهام خدمة المسجد الإبراهيمي على العائلات المشهورة في الخليل، وكانت العائلات تعتبر ذلك شرفاً وتكريماً لها أن تكون من خدمة المسجد الإبراهيمي.
نشأ وترعرع في مدينة الخليل حتى بلغ الخامسة عشرة من عمره، وتلقى تعليمه الابتدائي في المدرسة الإبراهيمية في الخليل ثم قرر والده رحمه الله أن يرسله للأزهر الشريف ليتعلم الفقة ويكون من حملته والدعاة إلى الله فأرسله بعد أن بلغ الخامسة عشرة من عمره إلى القاهرة وإلى الجامع الأزهر وكان ذلك في عام 1939م حصل على شهادة الأهلية الأولى في الجامع الأزهر عام 1361هـ 1942م وحصل على شهادة العالية لكلية الشريعة في الأزهر عام 1366هـ الموافق 1947م وحصل على شهادة العالمية مع تخصص القضاء والتي تعتبر كشهادة الدكتوراه الآن عام 1368هـ الموافق 1949م.
أثناء الحرب الفلسطينية الإسرائيلية، عمل على تجميع الشباب والرجوع من مصر للجهاد في فلسطين، ولكنه عندما رجع كانت الهدنة قد أعلنت، والحرب قد وضعت أوزارها، فلم يتمكن من الجهاد في فلسطين مع عقد النية لذلك. كان محبوباً من أصحابه في الجامع الأزهر إذ كانوا يطلقون عليه “الملك” وكان متفوِّقاَ في دراسته.
عندما عاد إلى الخليل في عام 1949م عمل في مجال التدريس، فعيّن في مدارس بيت لحم لمدة سنتين، ثم انتقل إلى الخليل في عام 1951م وعمل مدرساً في مدرسة أسامة بن منقذ.
إلتقاه الشيخ تقي الدين رحمه الله في عام 1952م، وصار يذهب إلى القدس للتنسيق معه والدرس والمناقشة حول موضوع الحزب. وقد انضم إلى الحزب عندما بدأ العمل، وأصبح عضو قيادة في الحزب منذ 1956م. كان خطيباً بارعاً، محبوباً من الناس، وكان يلقي في يوم الجمعة قبل الصلاة درساً في قسم من المسجد الإبراهيمي يدعى اليوسفية، وكان يحضره خلق كثير، ثم أصبح يلقي خطبة بعد الجمعة في المسجد الإبراهيمي في قسم يدعى الصحن وكان يحضره خلق كثير. ولما أعلنت الانتخابات النيابية سنة 1954م، ترشح الشيخ فيها، وكذلك سنة 1956م، ولكنه لم ينجح بسبب تزوير الدولة للنتائج. وقد تم اعتقال الشيخ وأودع سجن الجفر الصحراوي ومكث فيه سنين إلى أن منَّ الله عليه بالخلاص.
لقد كان، رحمه الله، بحق الساعد الأيمن للأمير المؤسس، وسهماً في كنانته، يرسله للمهمات الكبيرة، فلا يتردد، يقدم الدعوة على الأهل والولد ومتع الحياة الزائلة، تراه اليوم في تركيا وغداً في العراق، وبعده في مصر ثم لبنان والأردن… حيثما يطلبه أميره يجده بجانبه قائماً بالحق. ولقد كانت مهمته في العراق مهمة كبيرة لا يقوم بها إلا الرجال الرجال، تولاها بتكليف من الأمير المؤسس وبرعايته، وكان شأنه فيها بإذن الله عظيماً.
ولما توفى الله الأمير المؤسس اختير لحمل الأمانة من بعده، فحملها وسار بها من شاهق إلى شاهق، فَعَلا صرح الدعوة، وامتد ميدان عملها حتى وصل إلى مسلمي آسيا الوسطى وجنوب شرق آسيا… بل إن رنين الدعوة كان له صدًى في أوروبا وغيرها.
وفي أواخر عهد العالم الكبير حدثت فتنة النكث، حيث استحوذ الشيطان على عقول نفر استغلوا حِلمَ الشيخ، فدبَّروا أمراً بليْلٍ، وحاولوا حرف المسيرة عن خطها المستقيم. لقد حاولت زمرة الناكثين تلك أن توجد جرحاً غائراً في جسم الحزب لولا لطف الله سبحانه، ثم حكمة الشيخ وحزمه، فلم تزد محاولات الناكثين عن إيجاد ثلمٍ سطحي لم يلبث أن صحَّ وعاد أقوى مما كان، وانكفأت تلك الزمرة وأصبحت في طي النسيان.
وقد استمر العالم الكبير في حمل الدعوة وقيادتها حتى جاوز الثمانين، وكأنه أحس بدنو أجله فأحب أن يلقى الله سبحانه وهو مطمئن على سير هذه الدعوة التي قضى في حمل أعبائها ثلثي عمره، نحو خمس وعشرين سنة ساعداً أيمن للأمير المؤسس ومثلها قائداً للمسيرة أميراً للحزب؛ لذلك أحب أن يتنحى عن إمارة الحزب ويشهد انتخابات الأمير من بعده، وهكذا كان، فقد تنحى عن إمارة الحزب في يوم الاثنين الرابع عشر من محرم الحرام سنة 1424هـ الموافق 17/03/2003م.
بعد ذلك بنحو أربعين يوماً توفي العالم الكبير، أمير حزب التحرير الشيخ عبد القديم يوسف زلوم في بيروت ليلة الثلاثاء السابع والعشرين من صفر الخير سنة 1424هـ الموافق 29/04/2003م. عن عمر يناهز الثمانين عاماً، وأقيم له بيت عزاء في ديوان (أبو غربية الشعراوي) بالخليل لم تشهد المدينة له مثيلاً حيث توافد الناس من كل المدن والقرى، وتسابق المعزون والشعراء والمكلومون لإلقاء كلمات المشاركة في العزاء شعراً ونثراً، وتتابع رنين الهاتف الموصول بالمذياع لينقل للحاضرين كلمات التعازي والمشاركة في العزاء من السودان والكويت وأوروبا وإندونيسيا وأميركا والأردن ومصر ومن شتى بقاع المعمورة، كما أقيم له بيوت عزاء في عمان وغيرها.
كان رحمه الله جريئاً في الحق لا يخشى في الله لومة لائم، نشيطاً لا يكل ولا يمل في الدعوة. عرف بالتواضع وحسن الخلق وهدوء الأعصاب على غير محرّم، حليماً كريماً، وعرف عنه قيام الليل، يغالبه البكاء وهو يتلو آيات الله سبحانه، صبوراً جلداً في الدعوة، وقد عاش غريباً ملاحقاً من الظالمين، حتى توفاه الله سبحانه. فوقع أجره على الله، رحمه الله رحمة واسعة.
من مؤلفاته ومن الكتب والكتيبات التي أصدرها الحزب في عهده:
1) الأموال في دولة الخلافة، 2) توسيع وتنقيح نظام الحكم، 3) الديمقراطية نظام كفر، 4) حكم الشرع في الاستنساخ ونقل الأعضاء وأمور أخرى، 5) منهج حزب التحرير في التغيير، 6) التعريف بحزب التحرير، 7) الحملة الأميركية للقضاء على الإسلام، 8) الحملة الصليبية لجورج بوش على المسلمين، 9) هزات الأسواق المالية، 10) حتمية صراع الحضارات…
3- العالم في أصول الفقه عطا أبو الرشتة:
الأمير الحالي للحزب
وبتاريخ 11 من صفر الخير سنة 1424هـ الموافق 13/04/2003م أعلن رئيس ديوان المظالم في حزب التحرير عن انتخاب عالِم الأصول المهندس «عطا أبو ألرشته» -أبي ياسين- أميراً لحزب التحرير، الذي يُؤْمل أملاً كبيراً من الله سبحانه أن يأخذ بيده إلى النصر، لما يُؤثر عنه من اهتمام فائق بالدعوة، ولما يُلمس منه من حسن إدارة عمل الحزب واستغلال طاقات الشباب أفضل استغلال.
نبذة عن حياته:
l هو عطاء بن خليل بن أحمد بن عبد القادر الخطيب أبو الرشتة، ولد على الأرجح عام 1362هـ الموافق 1943م، من أسرة متديَّنة تديُّنَ العامة، في قرية صغيرة (رعنا) من أعمال الخليل في الديار الفلسطينية. وشهد وهو صغير مأساة فلسطين واحتلال اليهود لها عام 1948 بدعم من بريطانيا وخيانة الحكام العرب. وانتقل وأهله بعد ذلك إلى مخيمات اللاجئين قرب الخليل.
أتم دراسته الابتدائية والوسطى في المخيم، وأكمل الدراسة الثانوية وحصل على الشهادة الثانوية الأولى (المترك الأردني) في مدرسة الحسين بن علي الثانوية بالخليل عام 1959م ثم حصل على الشهادة الثانوية العامة (التوجيهي المصري) عام 1960 في المدرسة الإبراهيمية بالقدس الشريف. بعد ذلك التحق بجامعة القاهرة – كلية الهندسة في العام الدراسي 60-1961م وحصل على شهادة البكالوريوس في الهندسة المدنية من الجامعة عام 1966م. ثم عمل مهندساً بعد تخرجه في عدد من الدول العربية. وله مؤلف في أعمال الهندسة المدنية اسمه (الوسيط في حساب الكميات ومراقبة المباني والطرق).
l التحق بحزب التحرير أثناء دراسته المتوسطة نحو منتصف الخمسينات، وأوذي في سبيل الله كثيراً في سجون الظالمين، واستمر عاملاً في الحزب في جميع مكوناته التنظيمية والإدارية: دارس، عضو، مشرف، نقيب محلية، عضو ولاية، معتمد، ناطق رسمي، عضو مكتب الأمير، ثم اعتباراً من 11 صفر الخير 1424هـ الموافق 13/04/2003م شاء الله أن ترسو إمارة الحزب على كتفيه، وهو يسأل الله أن يعينه على حملها.
له المؤلفات الإسلامية التالية:
1 – تفسير سورة البقرة واسمه (التيسير في أصول التفسير – سورة البقرة)
2 – دراسات في أصول الفقه – تيسير الوصول إلى الأصول
3 – عدد من الكتيبات:
أ) الأزمات الاقتصادية – واقعها ومعالجاتها من وجهة نظر الإسلام
ب) الغزوة الصليبية الجديدة في الجزيرة والخليج
ج) سياسة التصنيع وبناء الدولة صناعياً
4- وقد صدرت الكتب التالية للحزب في عهده (حتى الآن):
أ) من مقومات النفسية الإسلامية.
ب) قضايا سياسية – بلاد المسلمين المحتلة.
ج) تنقيح وتوسيع كتاب مفاهيم سياسية.
د) أسس التعليم المنهجي في دولة الخلافة.
هـ) أجهزة دولة الخلافة في الحكم والإدارة.
وهو يسأل الله سبحانه العون والسداد للقيام بما حمِّل من أمانة الدعوة على الوجه الذي يحبه الله سبحانه ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأن يفتح الله على يديه بإقامة الخلافة الراشدة، إنه سميع مجيب.
ولقد كان من الأعمال اللافتة للنظر في عهده أن وجَّه الحزب في 28 رجب 1426هـ (2/9/2005م) نداءً إلى المسلمين بمناسبة الذكرى الأليمة للقضاء على الخلافة قبل أربع وثمانين سنة من النداء المذكور. وقد صدع الحزب بالنداء في جموع المسلمين بعد صلاة الجمعة لذلك اليوم ابتداء من إندونيسيا على أطراف المحيط الهادي شرقاً إلى المغرب على شواطئ المحيط الأصلسي غرباً، ولقد كان للنداء تأثير وأي تأثير. هذا بالإضافة إلى أعمال الحزب العامة التي تصدع بالحق في مؤتمراته ومسيراته وندواته…
لقد كانت السنوات الثلاث التي مضت من عهد الأمير الحالي حافلة بالخير الذي نرجو الله سبحانه أن يمتد ويزداد. كما أن تباشير النصر قد بدت تلوح بإذن الله على الحزب مع الأمير الحالي، وتجعل الأمل كل الأمل ينعقد عليه في هذه الفترة علها تكون هي الفترة التي يأذن الله فيها بالنصر.
ويؤثر عن هذا الأمير الجليل زهده وورعه، وشدة تقيده والتزامه وعلمه. ولقد أفاد أيما إفادة من تبوئه مختلف المسؤوليات في إدراة عمل الحزب وبخاصة مسؤوليات الناطق الرسمي والمعتمد وعضو مكتب الأمير السابق ما جعله يقود الحزب وهو يعرف تماماً ما تتطلبه كل مسؤولية من أعمال ومتابعة ونشاط، لذلك يرى الشباب وكأنَّ أميرهم معهم يقودهم حتى في التفاصيل، وهذا ما جعله يستغل قدرات الشباب على أفضل وجه…
l l l
وهكذا أُعلن من المسجد الأقصى المبارك انطلاق نشاط حزب التحرير في بداية الخمسينات من القرن المنصرم، وقد وضع له هدفاً رئيساً وهو العمل على إقامة الخلافة الراشدة. واستمر العالم العلاّمة الشيخ تقي الدين النبهاني في قيادة الحزب إلى حين وفاته بعد نحو خمس وعشرين سنة من قيادته للحزب.
وتولى العالم الكبير الشيخ عبد القديم زلوم إمارة الحزب من بعده عام 1977م، وكبر عمل الحزب في فترته حيث ازداد عدد أعضائه، وامتدّت يدا الحزب إلى دول كثيرة من العالم. واستطاع الحزب تنظيم وضم آلاف الشباب المسلم. وقد توفي العالم الكبير عبد القديم زلوم، عن عمر يناهز الثمانين عاماً، بعد أن قضى نحو ربع قرن في قيادة الحزب.
ثم تولى إمارة الحزب من بعده عام 2003م أحد أبرز علماء الحزب الأجلاء عالم الأصول عطا أبو الرشتة لينطلق بالحزب انطلاقة قوية تعمل على حصد ثمار ما تم زرعه في عهد الشيخين قبله، وما أضافه من زرع طيب بعدهما.
ومن أجمل ما قيل في الأمراء الثلاثة هذه المقولة الطيبة من أحد شبابه:
هم ثلاثة أتم الله على أيديهم ثلاثة: ثلاثة أمراء أتموا ثلاثة أدوار:
الأول: أسس وكتّل.
والثاني: فعَّل وأعلن.
والثالث: استنصر وبإذن الله سينصر (آمين).
أضواء على حزب التحرير
تتردد على ألسنة عديدة بعض الأسئلة عن حزب التحرير من مثل ما هي الميزات التي يختلف بها عن باقي الحركات والأحزاب؟ وما هي إنجازاته عبر خمسة عقود؟ وما هي تطلعاته؟ وما هي مهمة التحرير التي يضطلع بها؟ وهل تكفي الأعمال التي يقوم بها لتحقيق ما يصبو إليه في ظل الظروف الراهنة التي أطبقت فيها ملة الكفر بكل ما أوتيت من قوة تسخرها ضد دعوة الإسلام؟
للإجابة على هذه الأسئلة فإنه لابد من البدء بفهم الواقع السيئ الذي وصل إليه المسلمون لنصل بعد ذلك إلى معرفة ما هو مطلوب شرعاً تجاه هذا الواقع… وعلى ضوء ما تقدم نقول:
إن ما تعاني منه الأمة من ذل وانحطاط هو بسبب تغييب الإسلام عن سدة الحكم حيث غاضت أحكامه عن الحياة والمجتمع، فظهر التحول الملحوظ والانحدار السريع الذي حل بأمة حكمت العالم وقادت الأمم أربعة عشر قرناً عاشت خلالها ازدهاراً وصدراة بالإسلام: حكماً، وعيشاً، ودعوةً، ومن بعد هذا كانت النكسات والنكبات، حتى قسمت البلاد ونهبت الثروات وانتهكت الأعراض ومرغت بالتراب الكرامات، حتى صرنا في ذيل الأمم وعالة عليها، وأكبر شاهد على ذلك أن كبرى حواضرنا وأعلى مناراتنا محتلة مدنسة… وغني عن الإسهاب فإن واقع ما نعيشه يومياً أوضح من أن يشرح وأبلغ من أن يوصف، وهذا يدل دلالة قطعية ومسلمة بديهية أن الحل والأمل هو بالعودة للإسلام عوداً حميداً: عيشاً به، وحملاً له، وموتاً في سبيله.
من هنا بدأت الحيرة والاختلاف كيف نعود بالإسلام عوداً حميداً، وبدأت الحركات والجماعات والأنشطة تقوم وتبحث: من أين نبدأ وكيف نبدأ؟ أمن تحرير فلسطين أم الأندلس؟ أم بالقضاء على الفقر بجمع الزكوات؟ أم بالقضاء على الجهل ببناء المدارس؟ أم بإقامة الحدود لحفظ حرمات الله؟ أم بتحقيق أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ أم بأداء الحقوق وتطبيق الإسلام بموالاة الحكام؟… وهكذا اختلطت الأمور واختلفت الجموع وافترقت التوجهات على نحو يشتت الجهود في أحلك الظروف التي هي بحاجة إلى أن تجتمع فيها للخلاص مما هي فيه، فتعقدت الأمور وادلهمت الخطوب حتى بدا أنه لا منجى ولا مخرج، وأصبح لسان الحال يقول فهل إلى خروج من سبيل؟ وهل لأمة الإسلام من رأي راشد يحدد لها طريق عودتها إلى سابق عزها ويخرجها من ورطاتها وهي في أشدها؟
إن ما وصلت إليه حال الأمة من ذل بعد عز، وفرقة بعد وحدة، وفقر وقهر بعد استغناء وغلبة، دفع الكثيرين من أبناء المسلمين للتفكير ملياً للخروج من هذه المعضلات، فقامت الجهود والحركات والأعمال، تجوب طول البلاد وعرضها. ومن وسطها، من القدس تحديداً، وصل قاضي الشرع الشريف العلامة تقي الدين النبهاني الذي كان مرهف الإحساس فائق الشعور بالمسؤولية مستنير الفكر عميقه، وصل ومعه ثلة من العلماء الواعين المخلصين إلى تحديد قضية المسلمين المركزية، وتحديد الحل الجذري الشرعي لها، وبعدها تم التوصل إلى أن الحل الشرعي يتجسد في إقامة دولة الخلافة الإسلامية، وهذه لابد لها من جماعة أو حزب يحدد أحكام الفكرة والطريقة اللازمة لعمله. فكان حزب التحرير هذه الجماعة.
لقد أخذ حزب التحرير على نفسه الاضطلاع بمهمة التحرير الحقيقي الشامل، بدءاً من تحرير الأمة مما تعاني من سيطرة للأفكار والآراء والمشاعر والأنظمة الدخيلة، وصولاً إلى تحرير العالم من خلال دولة إسلامية هي دولة الخلافة الراشدة التي تقوم بهذه المهمة.
لم يكن القيام بمهمة التحرير من قبل الحزب بالمهمة السهلة، ولم تكن من قبيل الكلام العام الخالي من المضمون، بل إن الحزب كان في كل ما توصل إليه يقوم بدراسة جدية وجذرية ومحددة لكل التفاصيل التي تلزمه للعمل تحديداً، يضع فيه الإصبع على كل الأسباب والمسببات، الجزئيات والكليات، بانياً كل ذلك على الأفكار والمقاييس الشرعية. فهو قد قام بتشخيص الواقع بكل دقة وموضوعية جاعلاً الواقع موضع التفكير والبحث لا مصدراً له، ومن خلال القاعدة العملية التي ينتقل خلالها من الإحساس إلى التفكير وتحديد الغاية والأعمال التي تؤدي لتحقيقها كل ذلك مربوطاً بالعقيدة. وانطلاقاً من مسلمة عقدية وهي أن الإسلام قادر على أن يوحد الأمة بعد أن تفرقت، وفيه الطاقة القادرة على تحديد القضية المركزية والتي تحل من خلالها جميع قضايا المسلمين… من خلال كل ذلك توصل إلى أن الحل يكمن بالخلافة بكل ما تعنيه تفصيلاتها. فكان هذا هو أهم إنجاز توصل له الحزب، وهو أعظم مهمة اضطلع بها متفانياً في سبيل تحقيقها، حتى قرنت الخلافة والحكم بما أنزل الله بحزب التحرير في توأمة شرف وعز، والحمد لله أن وصل الحزب بتوفيق من الله لمكمن الحلول لقضايا المسلمين جميعاً، والأهم من ذلك هو الإنجاز الثاني والمهمة الثانية التي اضطلع بها الحزب وهي الطريق العملي الشرعي المثبت بالأدلة الشرعية المتضافرة، وبأوجه استدلال متين، وبجدية منقطعة النظير تظهر في أخذه بكل أسباب الوصول إلى ما يلزمه وجوباً للمشروع الذي يضطلع به، ابتداءً من بناء رجالات الدعوة، وبناء تكتل قادر قدرة كيانية وفكرية على تغيير المجتمع وإحداث الانقلاب الجذري الشامل وإحداث النهضة الصحيحة، وبناء مجتمع إسلامي فريد تاجه خلافة راشدة على منهاج النبوة، وانتهاءً بحاجات الدولة وبناء كيانها وأجهزتها ومحاسبتها وتهيئتها لقيادة الأمة الإسلامية بحمل رسالتها للعالم أجمع.
تظهر هذه الثقافة فيما تبناه في كتبه ابتداءً من نظام الإسلام ومفاهيم حزب التحرير والتكتل الحزبي، حيث بدأ من خلالها بناء لبنات وخلايا أسسها على طريق الإيمان فبنى العقلية والنفسية متجهاً وجهة النهضة على أساس روحي.
وكان مما تبناه الحزب في هذه الثقافة النظام الاقتصادي، وهو أحكام شرعية جسد من خلالها سياسة الاقتصاد في الإسلام ليحل من خلالها معضلات العالم الاقتصادية مهما استعصت، وأظهر في هذا الصعيد النظام الاقتصادي كنظام صالح ولوحده على تحقيق الرفاهية ورغد العيش، وقد نقد في مقدمة الكتاب الأنظمة الاقتصادية المتحكمة في العالم اليوم في سابقة فريدة وبالأدلة الواقعية الدامغة وفي تحد لا ينقطع.
وتبنى الحزب النظام الاجتماعي في الإسلام استقصى فيه أحكام تنظيم الأسرة الإسلامية، فجمع بين شرفها ولحمتها وبين عفتها وصلابة بنائها في نظام يحدد علاقة الرجل بالمرأة تحديداً يجمع بين الاستقامة والبناء والارتقاء بالمجتمع في نظام فريد وفي سابقة تحدٍّ لكل الأنظمة البشرية التي أدت إلى التفكك الأسري والاحتقار للمرأة والنـزول بها إلى أسفل الدركات، نعم كل هذا في سابقة بعثت الأمل والحنين في المسلمين إلى الماضي العفيف والشرف الرفيع.
وتبنى الحزب نظام الحكم في الإسلام فجمع فيه بكل استقصاء أحكام الشرع المتعلقة بالحكم ابتداءً من أحكام البيعة وشروط انعقادها وأفضليتها، وانتهاءً بمحاسبة الخليفة ونصحه، مستفيداً من الحقبة الزمنية الممتدة من حكم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى آخر خليفة، وقد كان نظام الحكم في الإسلام الذي تبناه الحزب نسيجاً جامعاً مانعاً في سابقة يتحدى فيها كل أنظمة الحكم في العالم من حيث القوة في الكيان والقدرة، وفي الإدراة والاستقامة والشورى، وقد تبنى الحزب في نفس الصعيد مقدمةً للدستور تحتوي مواد جاهزة للتطبيق قائمة على أدلة شرعية وفق طريقة معتبرة في الاجتهاد أعاد من خلال إعدادها التشريعي والفقهي الأمة إلى عبق عصور الازدهار الفقهي وحرارة مجالس الفقهاء، كل هذا كان في قوة تحدٍّ لكل من رمى الإسلام بحيلولة عودته، وقد جسد الحزب رأياً عاماً يقوم على أن الإسلام صالح للناس في كل زمان ومكان مهما تقادم العهد، ومهما طعن الطاعنون وشكك المشككون، فالإسلام يعلو دائماً ولا يعلى عليه.
لقد حرص الحزب فيما تبناه إلى إعادة ثقة الأمة بدينها، وإلى إظهار قوة الإسلام في عقيدته وأنظمته للحياة، وإلى كشف زيف الفكرة التي أعطاها الغرب عن الإسلام بأنه دين كباقي الأديان: روحي، مشاعري، أخلاقي، وليس فيه أنظمة تعالج مشاكل الحياة معالجة حقيقية، بل على العكس من ذلك، فقد كشف أن الإسلام دين عقيدته روحية سياسية تنبثق عنها معالجات مشاكل الحياة جميعها، ليس للمسلمين فحسب بل للعالم أجمع.
لقد كان قيام الحزب، بعد أن مضى على هدم الخلافة عقود، في ظروف مظلمة عنيدة قطعت فيها الأمة الأمل بعودة الخلافة إلى الحياة، وفي ظروف دفع فيها اليأس أمة الإسلام إلى استلهام النهضة والتحرير من عدوها ومن أنظمته ومن روابط القومية والوطنية، وهي لا تعلم أنها بذلك تتجه نحو أسحق دركات الانحطاط. في هذه الظروف، وبفضل الله وتوفيقه، قيض الله لهذه الأمة أسداً من أسود الإسلام وهو العلامة المجدد المؤسس لحزب التحرير تقي الدين النبهاني، رحمه الله، فطرح مشروع عودة الأمة إلى عهدها الأول فبعث حمية الإسلام في جنباتها، وأضاء نور العقيدة في قلوب الرجال، وأعاد الثقة بوعد الله، وأعاد الثقة بنظام الإسلام وحتمية عودته إلى حيز الوجود منيعاً مطبقاً ورسالة ظاهرة على الدين كله، وقد عمل على إنشاء حزب يخطو بقوة ليعيد بذلك سيرة كتلة الصحابة مترسماً خطى المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتثقيف، فخرّج شخصيات إسلامية فذة قادرة على حمل الدعوة باستقامة في السير وصلابة في الإرادة وثبات في العقيدة، ومن يطلع على كتاب الشخصية الإسلامية يرى الزخم الفكري الذي يصنع في الأمة بذرة هي بأشد الحاجة لها في هذا الزمان لتعود من جديد أمة تنبت رجال الدولة والحكم والفكر والسياسة، رجالاً قادرين على تحديد مجرى التاريخ.
لقد شكلت هذه الثقافة التي تبناها الحزب زاداً لحملة الدعوة والأمة، فهي ترقى بهم من علي إلى أعلى، وفي الوقت ذاته تجعل حملة الدعوة يسهرون ليصهروا أمتهم رأياً وفكراً وحكماً ليوحدوا هدفها؛ كي تسير في جادة عزها ونهضتها، ونذكر في هذا المقام كيف أن الله وفق الحزب للاضطلاع بمهمة بلورة الكثير من الأفكار والمقاييس وخصوصاً الأساسية والمفصلية منها، ومن أهمها تعريف العقل التعريف الصحيح حيث حقق بذلك إنجازاً عظيماً طالما حلم بتحقيقه الكثير من علماء المسلمين وغير المسلمين، وبهذه البلورة وضع الحدود في البحث وذلك من خلال تحديد العقل بحدوده، واعتبار البحث في خارج هذه الحدود إنما هو تجاوز وانحراف عن جادة الصواب؛ فلا يبحث فيما وراء الحس وهذا بحد ذاته أدى إلى الخروج من حيرة طالما عانى منها الكثير من العلماء وكانت تلقي بظلالها على عامة المسلمين.
ومن أبرز الأفكار التي بلورها الحزب تعريف المجتمع تعريفاً يكشف حقيقة المجتمعات على نحو يضع المرء إصبعه على العناصر المهمة والتي من خلالها يتم التغيير للمجتمعات نهضة أو إصلاحاً، وهذا الإنجاز بحق وضع ولأول مرة المسلمين على بداية الطريق نحو النهضة الصحيحة على أساس الإسلام، في فترة عانى منها المسلمون من التأثر بنظرة المبدأ الرأسمالي لواقع المجتمع على أنه يتكون من أفراد فإذا صلح الفرد يصلح المجتمع، وبقي الكثير من المسلمين في هذه الظلمة عشرات السنين يتخبطون في عملية التغيير بتأثير مثل هذه المفاهيم. كذلك وفق الله سبحانه وتعالى الحزب إلى التفريق الصحيح المنضبط ما بين الحضارة والمدنية والعلم والثقافة بشكل يجعل المسلمين يعرفون ماذا يجوز لهم أن يأخذوه من غيرهم من أصحاب الأفكار والمبادئ الأخرى وما لا يجوز، فأنقد الأمة من التخبط في هذا المجال. كذلك وفق الله الحزب لبلورة معنى الروح والروحانية والناحية الروحية ليبعد عن المسلمين تلك المشاعر الروحانية الخادعة، وليجعل روحانيتها الصحيحة دافعة لها إلى العبادة الحقة والموجهة توجهاً سليماً في عملية إرضاء الله سبحانه وتعالى.
أما بقية الأفكار التي بلورها الحزب فهي لا تقل أهمية عن هذه المقاييس التي عنت للمسلمين الشيء المهم والمصيري والتي يضيق هذا المقام لإظهارها فكلها متعلقة بوجود المسلمين أو اندثارهم.
وقد أعاد الحزب مستعيناً بالله فتح باب الاجتهاد باعتباره عنوان عز ودليل رشد وإبداع يعود بالأمة لتقتعد ذرى المجد. وفتحُ باب الاجتهاد يحل للمسلمين وللعالم أجمع معضلاته ومشاكله المستجدة، فقد سلط الحزب في هذا المقام الأضواء وبكل مثابرة وجد على طاقة الشحن للمسلمين في حياتهم ودولتهم ومجتمعهم، وهي طاقة قوامها الإسلام واللغة العربية تجتمع بما يكمن فيهما من قدرة على التأثير والتوسع والانتشار ليعيد بذلك للأمة مكانتها صاحبة رسالة تحيا بها ومن أجلها. هذا ولم يكتفِ الحزب بفتح باب الاجتهاد، بل قام بولوجه بقوة، فقد قام بعملية اجتهاد منضبطة بأصول شرعية تحقق له صفاء النظر ونقاء الفكر، ومن ثم قام على أساسها بتبني ثقافته اللازمة له للعمل لتحقيق ما وضعه لنفسه من غاية وهدف. وللحق وللتاريخ نقول إن الحزب بفتحه لباب الاجتهاد ولولوجه فيه ولتبنيه المنضبط يكون قد قام بأعظم إنجاز يعيد به الأمة إلى أمسها ليشرق من جديد.
ولقد نحى الحزب منحًى عقدياً عندما ترسم طريق الإسلام في التغيير، طريق الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الواجبة الاتباع، وقد كان التزامه بالأدلة الشرعية وباستدلال شرعي واضح في كل ما دق وجل، والمبدئية التي اتسم بها في التزامه وصلابته واستمراريته على ذات المنهج الشرعي الذي سار عليه المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم). قد كان هذا بتوفيق من الله وفضل، فقد سار كالجبل الأشم يردد قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه» وكان لهذه الصراحة والصلابة والصدق صدًى عظيماً أقلق الدول الكبرى وعلى رأسها أميركا ومراكزها البحثية. وما ظهر على ألسنة كبرائهم وما أعلن لخير دليل، وما خفي أعظم.
نذكر في هذا المقام ما تسرب عن أحد أدهى رؤوس حراب الكفر في قلب العالم الإسلامي الجنرال السياسي العسكري غلوب باشا في الخمسينات، حيث تسرب من بعض دهاليز مجالسه معلقاً على حزب التحرير قائلاً: لقد قام هذا الحزب ليعيد الحروب الصليبية من جديد، وهو يعني كل ما يقول، وقد قالها محذراً ومحملاً الحكام المسؤولية في القضاء على هذا الحزب؛ لذلك فإننا نرى أن الشدة التفت على عنق الحزب من هذه الأنظمة وبخاصة الحصار الإعلامي الخانق الظالم الذي عانى منه.
إن حزب التحرير هو الحزب الوحيد الذي اضطلع بمسؤولية حل قضايا المسلمين من خلال الاهتداء إلىعقدة الحل الأساسية، وكان ذلك بتحديده القضية المركزية تحديداً شرعياً واعياً وموضوعياً وملتزماً بطريق الإسلام في ذلك.
لقد أخذ على عاتقه مسؤولية القوامة على فكر المجتمع وحسه حتى يسير به نحو النهضة الحقيقية التي تحول بينه وبين الانتكاس، وكي يصل به إلى السعادة التي لا تتحقق إلا بنوال رضوان الله تعالى، وظل الحزب في كل هذا يتصرف تصرف القائد الرائد الذي لا يكذب أهله حتى استطاع أن يصهر الأمة في بوتقته على عين بصيرة ساهرة، فوحد هدفها بتوحيد أفكارها وآرائها وأحكامها حتى أصبحت العقيدة والخلافة والجهاد هي حياة الأمة ومصدر إلهامها، تتوق لإقامة الخلافة لتعود لجهادها ولتحمل عقيدتها، وهذه الأحاسيس في الأمة اليوم نراها عياناً بعد أن استيأسنا من الاستجابة لها سنين طوالاً.
والحزب اليوم، ولله المنة والفضل، يدق باب الخلافة، والأمة من ورائه ترنو عيناها ليفتح الباب في أي لحظة، وإنا لنراها قريبةً جداً، إن شاء الله، وسنراها عياناً بإذن الله وإنا لصادقون ومستبشرون بوعد ربنا. وهذه بحق هي تباشير النصر ومقدماته، ولو رجعنا إلى الوراء نرى فارقاً واسعاً بين اليوم والأمس، كيف أن الحزب كان يطرق باب المجتمع وحده ليفتح له، وظل يطرقه طرقاً فكرياً عقدياً حتى فتح له وحده، فكيف به اليوم يطرق باب الخلافة والأمة من ورائه تستنهض أبناءها من أولي العزم والقوة والمنعة كي ينصروها بنصرة الحزب؛ ليحكمها بما أنزل الله، وليعيدها خلافة راشدة لا شرقية ولا غربية، خلافة جهاد تقوم على العقيدة التي تحيا الأمة بها ومن أجلها، وتعيد الأمة إلى دارها دار الإسلام تحمل رايته، وتستظل بها، وتذلل الرايات تحتها، فما أعظمها من أيام وما أسعدها من ساعات.
ثم إن حزب التحرير لا تقتصر إنجازاته على ما قبل إقامة الخلافة، بل يملك تطلعات مبدئية واعية لما بعد الخلافة، و تتسم بالمسؤولية والوعي. ولعل أبرز تطلعات الحزب لما بعد إقامة الخلافة الراشدة هي:
1- أن يظل ضمانة في المجتمع يحول دون انتكاسه، بل ويظل مضطلعاً بمهمته كحزب مبدئي ردفاً للدولة ليصدقها ويؤازرها في مواطن الصدق، ويحاسبها وينصحها ويعزرها في مواطن الضعف، ضمن ما تمليه عليه الأحكام الشرعية، وللحزب في هذا الباب ما يتبنى.
2- أن يظل حارساً أميناً للإسلام خادماً وفياً لأمته، ينفي عن الإسلام ما ليس منه، ويبلور ما أبهم منه، ويستنطق نصوصه في كل ما يجدّ، ويحرص على حمله والدعوة به، ويخدم أمته من خلال سهره على مصالحها ضمن ما تمليه عليه الأحكام الشرعية بحث لا تتعارض مع ما هو مناط بالدولة الإسلامية، وبحيث لا تتجاوز رعاية شؤونها. وسيظل الحزب في هذا المجال وفياً للأمة كما عهدته منذ ما قبل إقامة الخلافة، وسيظل يشد ظهرها بإبداعه وحنكته وإقدامه.
3- أن يظل حريصاً على القيام بكل أسباب المحافظة على ما أنجزه من خلال الرقابة التي تمليها المسؤولية الحزبية في ظل الدولة. كي تكون كما كانت في سالف عهدها أمة العقيدة والخلافة والجهاد، تعيش بإنجازها عزيزة، وتحمل رسالتها تقية نقية، وتكون لربها راضية مرضية.
خلاصة القول:
إن حزب التحرير قد اضطلع بمسؤولية مشروع الخلافة العظيم بكل جدارة، باذلاً في سبيل ذلك خيرة شبابه، وقد بنى رأياً عاماً على ذلك حتى أصبحت الخلافة والعقيدة والجهاد أمل الأمة المرتجى، تهتف بها كأمل مخلص من أقصى الشرق في جاكرتا إلى أقصى الغرب في الرباط، تشد على يد أبنائها من أهل القوة والمنعة أن ينصروا حزبها وجامع كلمتها؛ ليعيد الخلافة من جديد، ولتعود الحياة الإسلامية إلى دار المسلمين، وليحمل الإسلام رسالة خير للعالم أجمع. وبناء على هذا الرصيد الذي جمعه الحزب بفضل الله فإن ثمرة زرعه قد أصبحت يانعة، وقد حان قطافها بإذن الله، وإن الخلافة لم يبقَ إلا إعلانها إن شاء الله. (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ) [الروم 4-5].
مقابلات مع شباب من الرعيل الأول في الدعوة
إن أوائل من حمل الدعوة مع حزب التحرير تعرضوا للضغوط والمنع والاعتقال والتهجير والسجن لمنعهم من حمل الدعوة، إلا أنهم استمروا بكل عزم وثبات، وكانوا سبباً في حمل الكثيرين من المسلمين لدعوة الخير هذه. وكم يزداد التقدير لهؤلاء عندما تراهم لايزالون يحملون الدعوة ويعملون بكل عزم وحزم في صفوف حزب التحرير من غير أن تفتر لهم همة أو تلين قناة. نسأل الله أن يكرم أمثال هؤلاء الذين تتشرف الدعوة بوجودهم في صفوفها أن يكرمهم بنصر قريب، وما من شيء على الله بعزيز.
وإن «الوعي» أحبت أن تنقل بعض المقابلات مع شباب من الرعيل الأول ممن كان لهم باع في الدعوة، ممن تحملوا لأواءها وذلك كنموذج ومثال لما واجهته الدعوة من بداية طريقها وماتزال، ولتكشف عن أن حلقات الدعوة الحقة متجانسة من لدن آدم عليه السلام مروراً بالأنبياء والرسل عليهم السلام إلى قيام الساعة. ومما جاء في هذه المقابلات:
المقابلة الأولى مع الحاج أبو راتب (70 سنة):
1- سؤال: الدعوة بدأت في فلسطين وبالتحديد في مدينتي القدس والخليل، كيف كان واقع المسلمين في ذلك الوقت وكيف أصبح المسلمون اليوم؟
– جواب: كان الناس في ذلك الوقت يعيشون في ظلام، ولم يكونوا يعرفون أنهم كذلك، وكانت عوارض الانحطاط تظهر عليهم في أحاديثهم التي لم تكن تمت إلى حالهم بصلة، حتى إنهم كانوا يفخرون بملوكهم وزعاماتهم، وعلى سبيل المثال كنا نسمعهم يفخرون بالملك فاروق لجماله وقيافته، ويقولون هذا ملك مصر والسودان، وكنا نسمع عن الأمير عبد الله بن الحسين بن علي -قائد الثورة العربية- كما يزعمون، وكذلك الكلام عن غلوب الإنجليزي الملقب (غلوب باشا) حيث كان الناس يمدحونه لأنه أنه كان سريع التأقلم مع القبائل في الأردن، وكان الناس إذا ما زار ملك أو زعيم بلداً يتسابقون ويهرولون لرؤيته وهو مار في موكبه، ولم يكونوا يرجون من زعيم شيئاً لأنهم لم يكونوا يحسّون بأنهم بحاجة إلى شيء من التغيير، أما ما كانوا يقرؤون في الصحف والمجلات، فكانت تصلهم آنذاك الصحف والمجلات من مصر ولبنان، وكانت صفحاتها مليئة بأخبار الرياضة وفيها من الأحجيات والهزل وأخبار القصور الملكية وسكانها، وتنقلات الأميرات وأقوالهن وزياراتهن الشيء الكثير، والمصيبة أن الناس كانوا يتعايشون مع الذي يقرؤون.
هذا شيء من مظاهر الانحطاط كانت تعيشه الأمة.
أما اليوم والحمد لله وبفضله، ترسخت وتجذرت الدعوة التي يقودها حزب التحرير لاستئناف الحياة الإسلامية بإقامة الخلافة، فنستطيع القول إن بناء دولة الخلافة قد تحقق منه الجزء الأكبر، حيث أصبح الناس ينبذون ويستقذرون كل الشعارات التي ليست من الإسلام، ولم يبقَ مجال أو اتساع إلا للدعوة إلى الخلافة، وصار معظم الناس في العالم الإسلامي ينتظرون عودة الخلافة التي كانت خرافة قبل وجود حزب التحرير.
2- سؤال: ما الذي تشعر به وقد وجدت في الفترة التي غاب فيها الحكم الإسلامي؟
– جواب: يمكن الإجابة على هذا السؤال من وجهين، الوجه الأول أنني أعتصر ألماً لأننا نعيش في ديار الكفر وفي غياب حكم الإسلام، وقد تكالبت علينا الأمم الكافرة وحلت بنا المصائب.
أما الوجه الآخر فإنني أشعر بالمكرمة من الله وأنا أعيش في مجتمع ليس إسلامياً وبحاجة إلى التغيير، وأنا سعيد حيث مكنني الله سبحانه من المشاركة في أعظم الأعمال وهو التغيير، الذي يخرج الناس من الظلمات إلى النور، إن هذه مكرمة من الله أن يشارك المسلم في إعادة حكم الإسلام إلى أرض الواقع، ويمكن القول إن هذا الظرف من نوادر الدهر، فطوبى لمن استغله وشارك في التغيير الذي فرضه الله على كل مسلم. إن هذا الظرف لم يتيسر لأحد قد عاش في ظل حكم الإسلام وقد حرم أجر التغيير. إن هذا العمل السياسي الجبار عمل الأنبياء، لا يتيسر إلا لمن يسّره الله له. إن الناس يطمعون بالصدقة الجارية على عظم أجرها، ولكن أين الصدقة الجارية من هذا العمل العظيم الذي يمكن صاحبه من نيل أجر الذين سوف يدخلون في الإسلام وحتى قيام الساعة؟
ولو فهم المسلمون هذه الحقيقة لما تخلف أحد منهم عن المشاركة في إعادة حكم الله إلى الأرض.
3- سؤال: هل درست على يدي الشيخ تقي الدين النبهاني مؤسس حزب التحرير؟ وهل من أمر كان ملفتاً للنظر؟
جواب: طبعاً أنا درست على يدي الشيخ تقي الدين النبهاني، رحمه الله، وكان معنا في حلقتنا الشيخ غانم عبده، والشيخ عبد العزيز البدري، والشيخ أحمد الداعور، والشيخ عبد القديم زلوم، رحمهم الله جميعاً.
كان إنتاج الشيخ تقي الدين رحمه لله غنياً عن القول وعن التعريف به، وكان الشيخ يكن له الناس كل التقدير والاحترام، وأستطيع القول إن العلاقة التي كانت بين الشباب وبين أميرهم تعود بنا إلى عهد الصحابة علاقة مبنية على الأخوة في الله وعلى التواضع والتقدير…
أقول لك إن هندام (ملابس) الشيخ تقي الدين كانت تشع ذكاءً، لقد كان إنساناً فريداً مفكراً وعبقرياً.
4- سؤال: هل هناك من نصيحة توجهها لحملة الدعوة وللمسلمين بعامة؟
– جواب: أنصح كل مسلم أن يعمل على إبراء ذمته أمام الله وأن يحمل الدعوة ويكسب هذا الشرف العظيم، شرف إقامة دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة، فالعمل لها قبل قيامها ليس كالتصفيق لها بعد قيامها.
المقابلة الثانية مع الشيخ أبي مأمون (70 عاماً):
1- سؤال: المسلمون اليوم يتوقون لعودة الخلافة الإسلامية، هل يمكننا القول إن فكرة الخلافة وترسيخها في أذهان المسلمين منشؤها حزب التحرير؟
– جواب: لم يسبق حزب التحرير أحد في هذا الطرح وكانت هذه الفكرة نتيجة بحث طويل وتفكير مستنير في التوصل لعلاج مشكلة الأمة، وهو استئناف الحياة الإسلامية بإعادة الخلافة، نعم إن فكرة عودة الخلافة منشؤها حزب التحرير.
2- سؤال: ما هي الشعارات التي كانت سائدة في بداية الدعوة، وبالذات سنوات الخمسينات والستينات؟
– جواب: القومية العربية كانت تغني لها كل الإذاعات (صوت العرب، إذاعة عمان، بغداد…) وكانت موضة تلك الفترة، ولقد كانت هذه الدعوات عقبة أمام صحوة الأمة وعودتها إلى دينها، وأخذت دوراً وفترة من الزمن من حياة المسلمين.
3- سؤال: كيف كانت ثقة الناس بالحكام وبالأنظمة القائمة في بداية ظهور حزب التحرير؟ وكيف كانت تنظر الأمة لما يطرح الحكام من أمور سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية؟
– جواب: الأمة كما قلت لك في البداية كانت تعيش في ظلام، وكان للحكام مكانة عند الكثيرين، فقد صور الحكام في تلك الفترة بأنهم أبطال ومجاهدون، ومحررون للمسلمين من الاستعمار… فالعديد من المسرحيات والتمثيليات حبكت وأخرجت للمسلمين، وأبرزت تلك الصورة عنهم، وانطلت على الكثيرين منهم… ولذلك كان اتهام أي حاكم بالعمالة أو الخيانة أمر كبير وخطيئة يحاسب صاحبها عليها…
المقابلة الثالثة مع الأستاذ جمعة من مدينة أنقرة:
1- سؤال: كيف التقيتم بالحزب، وكيف كانت الأجواء في تركيا من الناحية الإسلامية؟
– جواب: في السنوات الأولى لتأسيس الحزب كنت طالباً في الإعدادية في سوريا، وكانت منشورات الحزب آنذاك تصل إلي، مما جعلني أطلع على أفكار الحزب في وقت مبكر من عمري. لقد كان تأسيس الحزب عملاً جسوراً وذا بصيرة ثاقبة، ذلك أن البلاد الإسلامية التي كانت مجتمعة تحت لواء الخلافة العثمانية قد تم تقطيعها على يد الكفار المستعمرين، إضافة إلى أن الكفار المستعمرين تمكنوا من خلال الأعمال المدروسة من إبعاد الأمة عن دينها، ومنعوها من تعلم الأفكار السياسية الإسلامية. وفي هذه الأجواء وبالرغم من أنني ولدت في تركيا، إلا أنني عندما بلغت سن السادسة رفض والدي تسجيلي للتعلم في المدارس التركية العلمانية، وقام ببيع أملاكه وعقاراته وتوجه بي إلى سوريا، وما قاله لي آنذاك لا يزال يرن في أذني: “أرجو أن نتمكن بهذا من تعلم ديننا، وأن لا نترعرع كالكفار”.
في ذلك الوقت كانت المرأة المسلمة في تركيا لا تتمكن من السير في الطرقات وهي ترتدي اللباس الشرعي، وإن هي قامت بذلك، فستكون معرضة للمضايقات وتقطيع ونتش لباسها. ومن جانب آخر فقد أسست في ذلك الوقت محاكم الاستقلال، وقاموا بإظهار أشد أنواع ردود الفعل تجاه علماء أجلاء كالشيخ سعيد الكردي الذي تم إعدامه لكونه ترأس حركة تطالب بإعادة الخلافة. وكان الهدف من وراء وحشيتهم تلك ترويع المسلمين، وكأنهم يقولون لهم: “إن أنتم طالبتم بالخلافة.. وإن أنتم عملتم ضمن أي حركة تسعى لذلك.. فإن نهايتكم ستكون كنهاية الشيخ (سعيد بيران)”.
2- سؤال: ما هي الأصداء وردات الفعل التي أوجدتها فكرة إعادة إقامة الخلافة بقيادة حزب التحرير في الرأي العام التركي، خصوصاً وأن تركيا تتحمل وزراً كبيراً من أنها البلد الذي هدمت الخلافة فيه؟
– جواب: في عام 1967 عدت من سوريا إلى تركيا، وفي تلك السنوات نفذت أولى عمليات الاعتقال ضد حزب التحرير في تركيا، وكان قادة الحزب في تركيا قد اعتقلوا. وفي ذلك الوقت الأعم الأغلب من الصحافة التركية كانت منشغلة بأخبار الحزب وتكتب عنه بالخط العريض، حتى أن عصمت إنينو رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض آنذاك، وهو من أقرب المقربين لمصطفى كمال، كان قد أخذ كتابنا “نظام الإسلام” بيده ورفعه في البرلمان وخاطب النواب بغضب قائلاً: “من الذين يطبعون هذا الكتاب؟! ومن أين ينفق عليه؟!”، لقد قال ذلك ووجه الاتهام للحكومة، وكرد على ذلك قام وزير الداخلية فاروق سوكان بتأسيس “تشكيلات الصراع القومي الجديدة” للوقوف في وجه الحزب وللحيلولة دون انتشار وتجذر فكرة الخلافة الراشدة في المجتمع التركي. إن هذه التشكيلات من جانب استخدمت النواحي الفكرية، فاستخدمت الألفاظ والمصطلحات الإسلامية محاولة جذب المسلمين إليها، ومن جانب آخر كانت تتقصد التغلغل في الأوساط المتدينة لمعرفة حقيقة أفكار الحزب وهيكليته الحزبية.
إن هذه التشكيلات لعبت وتلعب دوراً أساسياً في الأسس التي تقوم عليها كافة الأحزاب السياسية التي توجه خطابها للمسلمين، فعلى سبيل المثال؛ لعبت هذه التشكيلات دوراً أساسياً في تأسيس أحزاب كلٍ من نجم الدين أربكان وتورغوت أوزال ورجب أردوغان الآن، حتى إن عدداً من وزراء حكومة حزب العدالة والتنمية الآن هم أعضاء قدامى في تلك التشكيلات. ولهذا فإن العداء الشديد الذي تظهره حكومة حزب العدالة والتنمية تجاه الخلافة وتجاه الحزب، هو عداء قديم مستفحل متجذر تاريخي. وبمعنى آخر، إن عملاء الإنجليز آنذاك من العلمانيين وعملاء أميركا من المحافظين قد اتحدوا في مواجهة الدعوة الإسلامية. ورغم كل ذلك فإن مما لا شك فيه أن رغبة الأمة متجهة نحو الخلافة، وإن كان يسود الناس الخوف.
المقابلة الرابعة مع الأستاذ مهمت من مدينة أنقرة:
1- سؤال: كيف التقيتم بالحزب، وكيف كانت الأجواء في تركيا من الناحية الإسلامية؟
– جواب: بالنسبة لالتقائي بحزب التحرير، فقد كان على النحو الآتي:
في عام 1965 كنت طالباً في جامعة “غازي” بأنقرة، وهناك حضر إلي أحد زملائي في الدراسة وقال لي: “إن خونة العرب والترك الذين تحالفوا مع الإنجليز هم الذين طعنونا من الخلف، لذا فمن الخطأ تحميل المسئولية لكافة العرب”، لقد وقع كلامه علي وقعاً جميلاً وتأثرت به أيما تأثر. لذا بدأت الدراسة معهم في ثقافة الحزب، وأنهيت دراستي الجامعية، وقبل أن يتم تحزيبي، صدر قرار بنقل وظيفتي إلى مدينة أخرى. لذا بدأت بمفردي حمل الدعوة في المكان الذي انتقلت إليه. وبعد عام من ذلك تمت محاكمتي بسبب المنشورات التي عثر عليها في منـزلي، واتهمت بالعمل لإسقاط الدولة وبتحقير مصطفى كمال. وتمت معاقبتي بمنعي من ممارسة وظيفتي لمدة عامين، وخلال العامين استمررت في حمل الدعوة دون توقف.
في ذلك الوقت كانت الأفكار المادية (الشيوعية) والأفكار الكمالية هي المسيطرة على المدارس والأوساط التعليمية، ولم يكن هناك شيء باسم الإسلام بتاتاً. وفي مثل تلك الأجواء كانت هنالك طرق صوفية وحركات قومية وأخلاقية تمثل الإسلام، وحتى هؤلاء كانوا يعملون بسرية. المراجع التي كان يستند إليها آنذاك في الجانب السياسي الإسلامي هي كتب سيد قطب وأبو الأعلى المودودي وجماعة الإخوان المسلمين، إلا أن تلك المراجع لم تتعدَّ عن كونها ثقافة، فلم تتحول تلك الثقافة إلى تكتل يحملها ويدعو إليها، فكانت أفكاراً بلا تكتل. في هذه الأجواء وضع حزب التحرير دمغته الأولى في تركيا بتأسيسه أول تكتل سياسي إسلامي في تركيا يقوم على المبدأ الإسلامي وعلى الأفكار السياسية. وصُدم حكام تركيا آنذاك بالطابع وبالأوصاف التي يقوم عليها الحزب. وكان الحزب آنذاك يوزع المنشورات والإصدارات بصورة سرية إلا أنها مؤثرة، حتى وصل الحال بوزير الداخلية آنذاك (فاروق سوكان) بالتعليق على أعمال الحزب قائلاً: “لا أستطيع النوم منذ عدة أيام بسبب المستجدات”.
2- سؤال: ما هي الأصداء وردات الفعل التي أوجدتها فكرة إعادة إقامة الخلافة بقيادة حزب التحرير في الرأي العام التركي، خصوصاً وأن تركيا تتحمل وزراً كبيراً من أنها البلد الذي هدمت الخلافة فيه؟
– جواب: أود أن أعطي بعض الأمثلة حول ذلك:
في ذلك الوقت، كانوا قد نشروا في إحدى الصحف كاريكاتيراً، يظهر فيه رجلاً يقص شعره عند الحلاق، ورجل آخر يدخل محل الحلاقة وهو مضطرب ومدهوش ويصرخ قائلاً: “التحريريون قادمون!”.
وفي كاريكاتير آخر: إمرأة غاضبة تدخل مركزاً للشرطة وتشكو للشرطة قائلة: “إن هؤلاء التحريريين يضعون المنشورات في صندوق بريدنا أيضاً”.
إن السلطان عبد الحميد خان المشهور بدهائه السياسي، كان يدرك مستجدات الأحداث وتطوراتها وردود فعل الناس من خلال متابعة الكاريكاتيرات. فعندما يصل الأمر إلى أن ترسم الكاريكاتيرات التي تتحدث عن حزب التحرير، فإن ذلك يشير إلى المدى الذي وصل به تغلغل الحزب وانشغال الرأي العام به.
وأود أن أتحدث عن بعض المقالات التي كتبت آنذاك، لبيان مدى الحملة التي وجهت لنا:
في شهر آب/أغسطس 1967 كتب الكاتب الصحفي العلماني مهمت توكار، وهو نسيب عصمت إنينو، مقالاً يدعو فيه الجيش للقيام بواجبهم، حيث جاء في المقال ما نصه: “يتوجب على مجلس الأمن القومي دراسة المنشور الأخير الذي وزعته التشكيلات السرية لليمينيين المتمثلة بحزب التحرير دراسة مستفيضة… ومما يفهم من المنشور أنهم يفكرون بشكل جدي تعيين خليفة في مكان ما، ويعدون لجعل المسلمين في تركيا يبايعونه… وكما أذكر فإن نسيب إنينو كان قد كتب في مقالة أخرى له: “إن الشيوعيون يوجدون التشكيلات، والمسلمين أيضاً يوجدون التشكيلات، إلا أن الخطر الذي سيأتي من المسلمين سيكون أضعافاً مضاعفة للخطر الذي قد يأتي من الشيوعيين!”.
3- سؤال: ما الذي شعرتم به أثناء حضوركم فعاليات قراءة نداء حزب التحرير الذي نظم العام المنصرم والذي طالب بإعادة إقامة الخلافة التي تمكن أعداء الإسلام من هدمها في معقلها في مدينة السلطان محمد فاتح القسطنطينية، مركز دار الخلافة إسلامبول؟
– جواب: لقد حمدت الله كثيراً، من الصعب أن أشرح لك الآن الأحاسيس التي انتابتني آنذاك، ولكنني أستطيع أن أصف العمل بكلمة واحدة وهي أنه كان عملاً “عظيماً”. راجياً من الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لتنظيم عمل أكبر وأكثر تأثيراً في القريب العاجل.
في المجتمع رغبات خاصة تجاه الأفكار الإسلامية وتجاه الخلافة، وعندما تشرح الأفكار لها تصغي بعناية، وحتى إن كان هناك خوف فإن الخوف لا يظهر مباشرة، ذلك أن الرغبة والفضول تدفع الأمة للتفكير ووزن ما يطرح عليها. إن أمتنا بحاجة ماسة لكيان سياسي عظيم يحكم بما أنزل الله ويقضي على ظلم وطغيان الكفر من الأرض ويؤسس حكم الإسلام ويهرول لمد يد العون لإخواننا في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير، والتي ستعلن الجهاد في سبيل الله. إن هذا الكيان لم يعد مجرد مطلب شرعي بل بات مطلباً سياسياً وإنسانياً، خصوصاً بعد أن عانت البشرية بأكملها من الرأسمالية الفاسدة ورائحتها النتنة التي أزكمت الأنوف. لذا فإن هذه المسئولية العظيمة تقع على عاتقنا، ومما هو حقيقة أن حملنا الدعوة بعزم وإصرار وإخلاص ودون أن نخشى لوم اللائمين سيؤدي في النهاية إلى تلبية الناس لدعوتنا وندائنا والتفافهم حولنا ونصرة دعوة الخير هذه.
بحمد الله وفضله فمنذ تلك السنوات وحتى أيامنا هذه حُملت راية العزة هذه، والآن نحن مطمئنون أن حملة الراية هم من خيرة أبناء الأمة وهم خير من يُستأمن على حمل راية العزة هذه. وبحمد الله إنني أشعر براحة واطمئنان وسعادة من هذا الجانب. ومهما حمدنا الله سبحانه وتعالى أن أكرم الأمة الإسلامية بشباب مختارين أقوياء أشداء أصحاب عزم وقرار فلن نؤديه حقه جل وعلا. ولقد آن أوان العمل الدؤوب الجدي الذي يوصل الليل بالنهار المفضي لإلحاق الضربة القاضية للطاغوت بعون الله وإذنه.
المقابلة الخامسة مع الشيخ الإمام راشد من مدينة بورصة:
1- سؤال: بداية، هل لكم أن تعلمونا بأحاسيسكم بمناسبة ذكرى هدم دولة الخلافة؟
– جواب: إن الخلافة تعني تنظيم الحياة بأكملها بما يرضي الله تعالى. إن الخلافة هي نظام الحكم في الإسلام، فزوال الخلافة يعني زوال تطبيق الإسلام من الحياة وعدم العيش وفق أحكام الله. وللأسف فإن أمة الإسلام العظيمة بعد أن زالت الخلافة عنها أصبحت كالجسد بلا رأس، ففقدت جُنَّتها، وأصبحت عرضة لمختلف الأمراض والبلايا، وبات الكفار المستعمرون يعتدون عليها من كل حدب وصوب، وكسروا أذرع وأرجل الأمة فشلوا حركتها، واستمر الحال على ذلك منذ 85 عاماً، إن حال الأمة هذا هو الهوان بعينه. وطالما لا وجود للخلافة فلن يكون باستطاعة الأمة جمع أوصالها من جديد، ولن تتمكن من إعادة أمجادها الماضية وأيامها المشرفة، فبالخلافة نحيا وبلا خلافة فلا حياة لنا.
2- سؤال: عندما تقارنون بين سير حزب التحرير في سنوات السبعينيات من القرن المنصرم وبين سيره الآن، هل تلاحظون أية فروق؟
– جواب: لا يوجد أية فروق في الأسس التي يقوم عليها الحزب بين ذلك الوقت والآن، فالحزب كان يقوم آنذاك على الأحكام الشرعية والآن الواقع لم يتغير فهو يقوم على الأحكام الشرعية نفسها، ولأن الأحكام الشرعية لا تتغير ولا تتبدل بتغير الزمان فالأسس التي يقوم عليها الحزب لم تتغير ولم تتبدل مع مرور الزمان. وطريقة الحزب هي طريقة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهي حكم شرعي ثابت لا يتغير. أما بالنسبة لاختلاف الأساليب والاجتهاد فيها فهو لطف من الله سبحانه وتعالى ورحمة بالعباد. واتساع حجم تبنيات الحزب لدليل على ارتفاع ونهضة وقوة الحزب.
إن حزب التحرير كان أول من عرَّف المسلمين في تركيا بالعديد من المفاهيم الإسلامية الأساسية ودفعهم لاتخاذها قضية مصيرية، من مثل: الخلافة، الدولة الإسلامية، وجوب الالتزام بالأحكام الشرعية، وجوب الالتزام باللباس الشرعي، ارتداء الخمار، وجوب وحدة الأمة، وجوب حمل الدعوة الإسلامية بعزم وحزم وقوة، ووجوب التكتل ضمن حزب سياسي مبدأه الإسلام. وبحمد الله فما زال الحزب يحافظ على نهجه وعلى دوره القيادي للأمة.
فبفضل الله وحده استطاع الحزب أن يجعل الخلافة موضع نقاش وما زالت تأخذ حيزاً كبيراً من نقاشات الرأي العام. ففي السبعينات عندما كنا نطرح مفهوم الخلافة بين الناس، كنا نجد بوناً شاسعاً بين الناس وبين الخلافة، أما الآن وبحمد الله وحده فإن الناس باتوا يتقربون منا ويستمعون إلينا ويعون ما نقول. لذا فعندما أنظر من هذه الزاوية أرى فرقاً كبيراً إيجابياً. فالحمد لله، إن الخلافة أصبحت رغبة ومطلباً متركزاً لدى الناس.
3- سؤال: ختاماً ما الذي يتوجب أن تعنيه الخلافة بالنسبة للمسلمين، ما هو قولكم بهذا الخصوص؟
– جواب: إن الخلافة ليس بالمطلب المستحيل، بل إنها أهم وألزم الأمور لكل مسلم يبغي نيل سعادة الدنيا والآخرة، وهي بشرى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). مما لا شك فيه أن الله سائلنا عن أعمالنا، لذا فيتوجب علينا جعل الإسلام هو الحاكم لشؤون الحياة وأحكامه هي المطبقة. ولا يمكن أن يَتصور المسلم حياة عزيزة له دون الخلافة، فلا يوجد نظام أو طراز حياة يوازي نظام الخلافة وطراز الحياة الإسلامية. إن الخلافة هي تاج الفروض، بها تقام أحكام الإسلام وحدوده، وبها يحل العدل والإحسان، الأمن والطمأنينة، الاستقرار والسكينة، الرحمة والهداية. وأي شيء دون الخلافة فهو محض هوى وضلال وفي بعض الأحيان خيانة.
لقد تمكن الكفار المستعمرون من إلغاء الخلافة بواسطة عملائهم في المنطقة من خلال الخطط والمؤامرات والدسائس والأضاليل التي حاكوها تجاه الأمة الإسلامية، حتى وصل حد مؤامرتهم للقول آنذاك: “إن الخلافة لن تلغى، وستبقى مندمجة في الجمهورية”، وما لبثوا بعد ذلك بقليل إلا أن أعلنوا إلغاء نظام الخلافة كاملاً، وطردوا الخليفة وعائلته من بلادهم شر طردة، وقاموا بإلغاء كافة مظاهرة الشريعة من الحياة، ووضعوا أنظمة وقوانين مأخوذة من الغرب وطراز حياتهم، حتى وصل بهم الحد أن منعوا تعلم وتعليم القرآن في تركيا، وحولوا الأذان للغة التركية، وحولوا عدداً من المساجد لتصبح إسطبلات للحيوانات، فأظهروا بأفعالهم الدنيئة تلك مدى الحقد الدفين الذي يكنونه للإسلام. بعد أن تمكنوا من إلغاء الخلافة فعلياً أظهروا وجههم الحقيقي، حيث قاموا إضافة إلى ما ذكرت، بقتل خمسمائة ألف (500,000) مسلم معظمهم كانوا من العلماء والأئمة والفقهاء ومن المسلمين الذين كانوا يدركون حقيقة الإسلام وحقيقة كفر النظام الجمهوري، وبعد ذلك استمرت ومازالت ظلمات ومؤامرات ومكائد الجمهورية التركية تجاه الإسلام والمسلمين. إن النظام الجمهوري العلماني يستند في أسسه على عقل الإنسان العاجز الناقص المحتاج، وهو عينه ما تستند عليه أنظمة الغرب الكافر، ونظامهم يقوم على عبادة العباد للعباد، وعلى الظلم والتضليل، لذا فإن النظام العلماني أبداً لم يمنح أمتنا السعادة، ولم ولن يحل أياً من المشاكل التي تواجه أمتنا.
وختاماً فإنني أوجه النداء لحملة الدعوة المخلصين الأشداء:
اصبروا واثبتوا، فمما لا شك فيه أن الله مع الصابرين، واصلوا تفاعلكم وعملكم الدؤوب، صِلوا ليلكم بنهاركم، ولا تحزنوا فالله معنا، وغذوا سيركم لتصلوا إلى قمة الفهم والإدراك والوعي، ولا تلقوا بالاً للظلمة وظلمهم، فالله ممهلهم وليس مهملهم. واذكروا على الدوام فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان، وكشمير وأمهاتنا وآباؤنا وأخواتنا وإخواننا وأطفالنا الذين يرزحون تحت نير الاحتلال والظلم. إن مما لا شك فيه أن وعد الله سبحانه حق، وأن بشرى رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) كائنة لا محال، فإن أنتم نصرتم دين الله فإن الله ناصركم في الحياة الدنيا وفي الحياة الآخرة، واعلموا أن نصر الله قريب، وعندها يفرح المؤمنون بنصر الله.
2006-09-01