النظام الاقتصادي الأمثل
2023/01/07م
المقالات
1,149 زيارة
(قواعد النظام الاقتصادي الإسلامي) (7)
د. محمود عبد الهادي
القاعدة الثانية:
كيفية التصرف بالمال:
حق التصرف بالمال هو معنى تملكه. وهو مقيد بإذن الشارع، وحق التصرف بالعين المملوكة يشمل: 1- حق التصرف في تنمية الملك. 2- وحق التصرف بالمال صلة ونفقة.
1- تنمية الملك: وهو يختلف عن تنمية المال، ولا دخل للنظام الاقتصادي بتنمية المال، إذ هذا مرتبط بالأساليب والوسائل أي بالعلم. وإنما يتدخل النظام الاقتصادي بتنمية الملك، وتنمية الملك مقيدة بالحدود التي وضعها الشارع، وهي تحصل من ثلاثة أشياء: أ – الزراعة، ب – التجارة، ج – الصناعة.
وسنبيِّن فيما يلي الخطوط العريضة لأحكام هذه المصادر الثلاثة للاقتصاد.
أ – أحكام الزراعة: لقد بيَّن الشرع أحكام الزراعة في بيانه لأحكام الأراضي وما يتعلق بها وهي كما يلي:للأرض رقبة ومنفعة، وهي إما خراجية أو عشرية. فالأراضي الخراجية هي كل أرض افتتحها المسلمون عنوة ما عدا جزيرة العرب أو صلحًا على أن الأرض لنا، وبذلك تكون ملكًا للدولة. والأرض العشرية هي كل أرض أسلم أهلها عليها كإندونيسيا، وكل أرض في جزيرة العرب. وإن فتحت الأرض صلحًا على أنها لهم وعلى أن يقرُّوا عليها بخراج معلوم فهذا يكون جزية يسقط بإسلامهم أو ببيع الأرض إلى مسلم لأن المسلم ليس عليه جزية، وإن باعوها إلى كافر فإن الخراج يبقى. والأرض العشرية يؤخذ على ناتجها الزكاة، وهو العشر فيما يسقى بماء المطر، ونصف العشر فيما يسقى اصطناعيًّا. وتوضع الزكاة في بيت المال ولا تصرف إلا للأصناف الثمانية، ولا تؤخذ من غير مسلم لأن غير المسلم ليس من أهل الزكاة، ولا تؤخذ على غير الأصناف الأربعة: الشعير والقمح والزبيب والتمر.أما الخراج فهو يقدر بحسب ما تحتمله الأرض بحسب إنتاجها عادة، ويحَصَّل كل سنة سواء أنتجت الأرض أم لم تنتج، زرعت أم لم تزرع. وإن وضع الخراج على مساحة الأرض فإنه يحصل عند نهاية السنة الهلالية لأنها السنة المعتبرة شرعًا، وإن وُضع على مساحة الزرع، فإنه يحصّل عند نهاية الشمسية لأنها السنة التي تكون عليها الأمطار والزراعة. والأرض الخراجية التي ضرب عليها الخراج تبقى خراجية أبدًا، فإن أسلم أهلها أو باعوها إلى مسلم وجب فيها العشر إضافة إلى الخراج.
وتملَّك الأرض بالإحياء، وهو إحياء الموات، سواء أكانت عشرية أم خراجية. والموات هي التي لم يظهر عليها أنه جرى عليها ملك أحد، ولا ينتفع بها أحد. وبالتحجير، وهو مثل الإحياء فهو سبب من أسباب ملكية الأرض. وكذلك الإقطاع سبب للملكية ولكنه غير الإحياء، فهو تمليك من الدولة أو الإمام فيحتاج إلى إذن، وهو يكون في الأرض العامرة الصالحة للزراعة في الحال التي يظهر عليها أنه سبق أن جرى عليها ملك أحد، وفي الأرض التي سبق أن زُرعت ثم خربت ولا يضر إقطاعها بأحد من المسلمين، وفي الأرض الموات التي تضع الدولة يدها عليها لأنها من مرافق المدن والقرى مثل شواطىء البحار والأنهار، وفي الأرض التي تضع الدولة يدها عليها لأن أهلها أهملوها ثلاث سنين أو أكثر.
والإحياء أو التحجير هو فقط للأرض الميتة، ولا يحتاج إلى إذن الإمام بعكس الإقطاع. وإقطاع الدولة الأراضي للأفراد في الأرض الخراجية هو تمليك منفعة الأرض مع بقاء رقبتها لبيت المال، وأما في الأرض العشرية فهو تمليك لرقبة الأرض ومنفعتها. ومن أحيا أرضًا ميتة في أرض العشر ملك رقبتها ومنفعتها مسلمًا كان أو كافرًا. ويجب على المسلم فيها العشر، ويجب على الكافر فيها الخراج وليس العشر لأن العشر زكاة. والكافر ليس من أهل الزكاة، ولأن الأرض لا يصح أن تخلو من وظيفة: عشرٍ أو خراج.
ومن أحيا أرضًا ميتة في أرض الخراج لم يسبق أن ضرب عليها الخراج، ملك رقبتها ومنفعتها إن كان مسلمًا، ومنفعتها فقط إن كان كافرًا. ويجب على المسلم فيها العشر فقط، وعلى الكافر الخراج فقط. ومن أحيا أرضًا ميتةً في أرض الخراج سبق أن وضع عليها الخراج ملك منفعتها فقط، ولا يسقط الخراج عنها أبدًا سواء ملكها مسلم أو كافر. قال صلى الله عليه وسلم:«من أحيا أرضًا ميتةً فهي له»، وقال: «من أحاط حائطًا على أرض فهي له» وقال: «من أعمر أرضًا ليست لأحد فهو أحق بها».
أما من حيث التصرف في الأرض فإن الأرض تملَّك بالتحجير وبإقطاع الخليفة وبالإحياء وبالميراث وبالشراء، ويجبر كل من ملك أرضًا على استغلالها، ولكن إذا أهملها ثلاث سنين تؤخذ منه، وتعطى لغيره. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «ليس لمحتجر حق بعد ثلاث سنين». وقد انعقد إجماع الصحابة على أن من عطَّل أرضه ثلاث سنين تؤخذ منه وتعطى لغيره. وليس الأمر خاصًا بالمحتجر، وإنما كيفما كانت طريقة التملك؛ لأن العلة هي التعطيل. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «من عطل أرضًا ثلاث سنين لم يعمرها فجاء غيره فعمرها فهي له». وإعمار الأرض هو باستغلالها للزراعة أو غيرها. ولا يجوز لمالك الأرض أن يؤجرها للزراعة، سواء كانت الأرض خراجية أم عشرية، وسواء كان الأجر نقودًا أم غيرها. قال صلى الله عليه وسلم:«من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه، فإن أبى فليمسك أرضه» رواه البخاري. وفي صحيح مسلم: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ للأرض أجر أو حظ».
ب – أحكام التجارة: وهي أحكام البيع والشركات.أحلَّ الله البيع وهو من التجارة، قال تعالى: (وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْۚ). والتجارة نوع من أنواع تنمية الملك. وأحكامها واضحة في أحكام البيع والشركات. والتجارة نوعان داخلية وخارجية، والتجارة الداخلية هي عمليات البيع والشراء التي تجري بين أفراد الأمة الواحدة، وهذه تشرف عليها الدولة إشرافًا عامًا ولا تباشرها، ولا قيود عليها إلا ما ورد من الأحكام المتعلقة بالبيع. والتجارة الخارجية هي شراء سلع من خارج البلاد وبيع سلع البلاد إلى خارجها، سواء أكانت هذه السلع زراعية أم صناعية. وهذه التجارة تخضع لإشراف الدولة المباشر، فالدولة تتولى الإشراف المباشر على إدخال السلع أو إخراجها. لذلك فإن أحكام التجارة تتبين ببيان أحكام الشركات وأحكام التجارة الخارجية.
أحكـام الشـركـات: الشركة لغة خلط النصيبين فصاعدًا بحيث لا يتميز الواحد عن الآخر. وشرعًا هي عقد بين اثنين فأكثر يتفقان فيه على القيام بعمل مالي. وعقد الشركة يقتضي وجود الإيجاب والقبول فيه معًا كسائر العقود. والشركة إما شركة أملاك أو عقود، الأولى كالشركة في عين يملكها رجلان. وشركة العقود هي موضع البحث في تنمية الملك. وشركات العقود في الإسلام خمسة أنواع: شركة العنان، وشركة الأبدان، وشركة المضاربة، وشركة الوجوه، وشركة المفاوضة.
شركة العنان: هي أن يشترك بدنان بماليهما، ويشترط فيها أن يكون رأس المال نقودًا أو مقومًا بالنقود. والربح على ما يشـترطان والخسارة بحسب نسبة المال. ولكل من الشريكين أو الشركاء أن يبيع ويشتري ويقبض.
شركة الأبدان: وهي أن يشترك اثنان أو أكثر بأبدانهما فقط دون مالهما، أي فيما يكتسبانه بأيديهما أي بجهدهما، والربح بحسب الاتفاق.
شركة المضاربة: وتسمى قراضًا وهي أن يشترك بدن ومال. والربح على ما يشترطانه والخسارة على المال ولا تخضع لاتفاق الشريكين، ومن المضاربة أن يشترك مالان وبدن أحدهما.
شركة الوجوه: وهي أن يشترك بدنان بمال غيرهما. أي أن يدفع واحد ماله إلى اثنين فأكثر مضاربة، وحقيقتها ترجع إلى المضـاربة. ومن شركة الوجوه أن يشترك اثنان فأكثر فيما يشتريانه بثقة التجار بهما من غير أن يكون لهما رأسمال. والربح على ما يشترطانه، والخسارة على قدر ما يملكان مما يشـتريانه وليس حسب الربح. وقد يكون اتفاقهما على نسبة الربح مختلفًا عن نسبة ما يملكه كل منهما مما يشتريانه.
شركة المفاوضة: وهي أن يشترك الشريكان في جميع أنواع الشركة المار ذكرها، كأن يدفع شخص مالًا لمهندسَيْن شراكة مع مالهما مضاربة ليبنيا دورًا لبيعها والتجارة فيها، واتفقا على أن يشتغلا بأكثر مما بين أيديهما من مال، وصارا يأخذان بضاعة من غير دفع ثمنها مالًا بناءً على ثقة التجار بهما. وتبطل الشركة – أيًّا كان نوعها – بموت أحد الشريكين أو جنونه أو الحجر عليه أو بالفسخ من أحدهما. وإن مات أحد الشريكين وله وارث فله أن يقيم على الشركة وله المطالبة بالقسمة.
هذه هي أنواع الشركات في الإسلام، والشركة التي لا تقع ضمن هذه الأنواع هي شركة غير جائزة. فشركات المساهمة مثلًا هي من شركات النظام الرأسمالي، وهي غير جائزة لأن الشركة في الإسلام عقد، ومن شروط العقد في الإسلام وجود الإيجاب والقبول، والشركة المساهمة ليس فيها إيجاب وإنما فيها قبول فقط من المساهمين، وكذلك من شروط الشركة في الإسلام وجود الشريك البدن أي الذي يقوم بالتصرف بالمال وهذا مفقود في شركة المساهمة. وكذلك فإن أحكام بطلان الشركة أو فسخها أو الاستمرار فيها عند موت أحد الشريكين أو الحجر عليه أو عند إرادته الفسخ والقسمة، هذه الأحكام غير معتبرة في شركات المساهمة؛ لذلك فإن شركات المساهمة باطلة شرعًا.
أحكـام التجـارة الخارجيـة: التجارة الخارجية هي عمليات البيع والشراء التي تجري بين الشعوب والأمم لا بين أفراد من دولة واحدة. لذلك تباشر الدولة منع إخراج بعض البضائع وإباحة بعضها، وتباشر موضوع التجار الحربيين والمعاهدين. فالدولة تباشر التجارة الخارجية، بخلاف التجارة الداخلية فهي تشرف عليها إشرافًا عامًا؛ لذلك ينبغي أن يكون للدولة مراكز على الحدود يسميها الفقهاء مسالح. وهذه المسالح تشرف مباشرة على التجارة التي تدخل البلاد أو تخرج منها، ومعنى الإشراف المباشر هو تنظيم انتقال الأشخاص والأموال دخولًا وخروجًا وتنفيذ هذا التنظيم. وتختلف أحكام الإسلام عن نظرة النظام الرأسمالي إلى التجارة الخارجية، فالنظام الرأسمالي ينظر إلى المال وإلى المنشأ الذي أنتجه فيعطي المال حكم المنشأ. أما الإسلام فينظر إلى التاجر لا إلى المال. فالرأسمالية تعتبر المال، والإسلام يعتبر الشخص. والتجار الذين يدخلون الدولة الإسلامية أو يخرجون منها ثلاثة أصناف:
1 – رعايا الدولة سواء كانوا مسلمين أم ذميين. 2 – معاهدون. 3 – حربيون
أما رعايا الدولة، فلا يجوز لهم أن يحملوا إلى دار الحرب ما يستعين به أهل الحرب على الحرب، سواء أسلحة أم غيرها، ويعد ذلك تعاونًا على الإثم(وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ)، أما إذا لم يكن إخراجها إعانة لهم ضد المسلمين فإنه حينئذ يجوز، هذا إذا كانت دار الحرب محاربة حكمًا، أما إذا كانت محاربة فعلًا كـ(إسرائيل) فإنه لا تجوز التجارة معها. أما بالنسبة لإدخال التجارة إلى البلاد فإنه يجوز للمسلم والذمي إدخال كل ما يجوز للمسلم أن يملكه. وأما المعاهدون فإنهم يعاملون في التجارة الخارجية بحسب نصوص المعاهدة المعقودة معهم؛ إلا أنهم لا يمكنون من أن يشتروا من بلادنا السلاح وكل ما يستعان به على الحرب، وإذا اشتروه لا يمكَّنون من إخراجه من بلادنا لأنهم يمكن أن يكونوا محاربين، إلا إذا كان ذلك السلاح لا يؤثر ولا يصل إلى درجة الإعانة، فهنا تزول علة المنع وهي إمداد العدو وإعانته. وأما الحربيون فهم كل من ليس بيننا وبينهم معاهدات وليسوا من رعايا الدولة الإسلامية، فإن كانت الحرب بيننا وبينهم قائمة بالفعل فهم محاربون فعلًا، نأخذ أسراهم ونقتل من نظفر به منهم إن لم يكن أعطي أمانًا ونستحل أموالهم. وإن لم تكن حالة الحرب قائمة بالفعل فهم محاربون حكمًا، فلا يحلُّ منهم شيء إلا من دخل بلادنا بغير أمان، أي إذن خاص بالدخول، سواء دخل هو أم ماله، فيعتبر هو اعتبار الحربي ويعتبر ماله مال حربي. وإعطاء الأمان للحربي شرط في استحقاقه حفظ دمه وماله في بلادنا، فإن لم يعط الأمان لا يحفظ. وإعطاء الحربي الأمان لنفسه يعد إعطاءً للأمان لماله. وإن أعطي الحربي الأمان لنفسه ودخل وأدخل ماله، ثم خرج وفقد أمان نفسه وأبقى ماله بأن أودعه عند مسلم أو ذمي، فإنه يفقد أمان نفسه ويبقى الأمان لماله، ولو مات الحربي يبقى الأمان لماله ويسلم لورثته، أما إذا أخرج ماله معه وفقد أمان نفسه، فإنه يفقد أمان ماله، وتجارته من ماله. ويمكن أن يعطى الأمان لمال الشخص دون نفسه، فيستطيع أن يرسل ماله مع وكيله أو أجيره. وإذا ملك المال أو التجارة مسلم أو ذمي في دار الحرب فإنه يستطيع إدخال المال دون إذن؛ لأن رعية الدولة لا يحتاجون إلى إذن وكذلك تجارتهم وأموالهم. أما بالنسبة لإخراج الحربي ذي الأمان للمال من البلاد فإنه ينطبق عليه ما ينطبق على الرعية والمعاهدين.
أما بالنسبة للضرائب التي توضع على التجارة، فالإسلام لا ينظر إلى نوع المال أو منشئه وإنما ينظر إلى التاجر. فالمسلمون والذميون لا يوضع على تجارتهم شيء مطلقًا، قال صلى الله عليه وسلم:«لا يدخل الجنة صاحب مكس» أما المعاهدون فيؤخذ منهم بحسب ما نصَّت عليه المعاهدة بيننا وبينهم، وإن نصَّت على إعفائهم يُعْفَوْا. أما الحربي فحكمه أن نأخذ منه كما تأخذ دولته من تجارنا. قال أبو عبيد: وكان الذي يشكل على وجهه أخذه (يعني عمر) من أهل الذمة (يعني نصف العشر)، فجعلت أقول: ليسوا بمسلمين فتؤخذ منهم الصدقة، ولا من أهل الحرب فيؤخذ منهم مثل ما أخذوا منا، فلم أدرِ ما هو حتى تدبرت حديثًا له فوجدته إنما صالحهم على ذلك صلحًا سوى جزية الرؤوس وخراج الأرضين، وروى في الأموال: «ما كنا نعشر مسلمًا ولا معاهدًا، قلت فمن كنتم تعشرون؟ قال: تجار أهل الحرب كما كانوا يعشروننا إذا أتيناهم».
ج – أحكام الصناعة: لقد بيّن الشرع أحكام الصناعة في بيان أحكام الأجير والاستصناع. وقد تبيَّنت مشروعية الإجارة فيما سبق في بيان أسباب الملكية. أما الاستصناع فقد استصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمًا واستصنع المنبر.ويعتمد الاستصناع على المصانع اليدوية أو الآلية، وفي عصرنا تعتمد الصناعات المهمة على المصانع الآلية والكبيرة، التي غالبًا ما يشترك فيها عدة أفراد. فمن حيث إنشاء هكذا مصانع، تنطبق عليها أحكام الشركات، وهذه قد تم بيانها تحت بيان أحكام التجارة. ومن حيث العمل في هكذا مصانع فتنطبق عليها أحكام إجارة الأجير. وهذه قد تم بيان خطوطها العريضة فيما سبق في بيان إجارة الأجير تحت عنوان السبب الأول من أسباب الملكية وهو العمل. ومن حيث تصريف إنتاج هذه المصانع، فتطبق أحكام التجارة، وقد تم بيانها آنفًا. وسنبيِّن فيما يلي حكم الإسلام في الأساس الذي ينبني عليه تقدير أجرة الأجير، لأهمية هذا الأمر، ومناقضته للنظامين الرأسمالي والشيوعي.
أما الأساس الذي يقوم عليه تقدير الأجرة فتختلف أحكام الإسلام في هذا الأمر عن غيره من النظم كالرأسمالية والاشتراكية. فالإسلام يشترط لانعقاد الإجارة أهلية العاقِدَيْن، بأن يكون كل منهما مميزًا، ويشترط لصحتها رضا العاقدين، ويشترط أن تكون الأجرة معلومة. قالصلى الله عليه وسلم: «إذا استأجر أحدكم أجيرًا فليعلمه أجره». ويرجع عند الاختلاف في مقدارها إلى أجر المثل، ويقوم بتقديرها الخبراء. والأساس في تقديرها هو المنفعة، سواء منفعة العمل أم منفعة العامل، ولا تقدر بإنتاج الأجير، ولا بأدنى حد لمستوى عيشه، ولا بارتفاع مستوى عيشه، أي إنها لا تقدر بحاجته أو كفايته، ولا بثمن السلعة التي ينتجها، كما أنه من الخطأ تقدير ثمن السلعة بناء على الأجرة. فكل واحد منهما له عوامل معينة. وهذه الأفكار هي من ترقيعات النظام الرأسمالي. أما النظام الشيوعي فيرى أن عمل العامل هو الأساس في الإنتاج، فيكون أجر العامل هو ما ينتجه، وهذه تفاهة واضح فيها إهمال المادة الخام. وإن كفاية حاجات الأجير وسد ضروراته لم يوجبها الشرع على صاحب المصنع أو صاحب العمل أو المستأجر، وإنما أوجبها على من أوجب عليهم نفقته، ونفقة كل محتاج، سواء كان أجيرًا أم غير أجير، عاملًا أم غير عامل، وسواء كان غير قادرٍ على كفاية حاجاته والانفاق على نفسه، أم كان قادرًا ولكنه لا يجد عملًا. فإن هذه المسؤولية تقع على الأب أو الابن أو الزوج أو الأقارب، فإن لم تحصل كفاية المحتاج بذلك، فإن المسؤولية تنتقل إلى الأمة، وتنوب عنها الدولة في ذلك. والمصـانع يمكـن أن تكون ملكية فردية، وملكـية عامة، وملكية دولة، وقد تبين هذا سـابقًا تحت عنوان ملكية الدولة.
هذه هي الخطوط العريضة لأحكام مصادر الاقتصاد الثلاثة: الزراعة، والتجارة، والصناعة. أما ما يروَّج له من مصدر السياحة وما يسمونه قطاع الخدمات، فهو خداع وتفاهة لا تساوي شيئًا إذا ما قورنت بهذه المصادر، ناهيك عما فيها من محرمات لا يعدها الإسلام من مصادر الاقتصاد، وما أحله الإسلام منها فلا يخرج عن الأحكام المذكورة في المصادر الثلاثة، وعلى وجه الخصوص أحكام التجارة.
الطرق الممنوع تنمية الملك بها: الطرق الممنوع تنمية الملك بها هي: القمار، الربا، الغبن الفاحش، والغبن هو بيع الشيء بأكثر أو بأقل مما يساوي. والتدليس في البيع، والتدليس من البائع هو كتم العيب في السلعة مع علمه بها، ومن المشتري هو أن يزيف العملة أو يكتم ما فيها من عيب مع علمه بها. والاحتكار، والمحتكر هو من يجمع السلع انتظارًا لغلائها حتى يبيعها بأسعار غالية بحيث يضيق على أهل البلد شراؤها. والتسعير، وكذلك عقود شركات التضامن وشركات المساهمة والتجارة بأسهمها، والجمعيات التعاونية، وشركات التأمين، وهذه الشركات من شركات النظام الرأسمالي.
نقود الدولة الإسلامية: إن تبادل السلع والجهود يعتمد على المنافع التي في السلع والجهود، وتحتاج هذه إلى مقياس للمنفعة. ومما يسهل عملية التبادل وجود نقود تعد مقياسًا لهذه المنافع. فالنقود هي وحدات تقاس بها منفعة الشيء ومنفعة الجهد. والإسلام عندما قرر أحكام البيع والإجارة لم يفرض وحدة نقدٍ أساسًا للمبادلة، فأجاز تبادل سلعة بسلعة أو بالعمل عند صاحبها مدة معلومة، وأجاز تزوج امرأة بتعليمها شيئًا من القرآن. إلا أنه إذا كانت مبادلة السلعة بوحدة معينة من النقد فإن الإسلام قد عين الوحدة النقدية في الذهب والفضة. فهو حين نهى عن كنز المال خص الذهب والفضة بالنهي مع أن المال هو كل ما يتموَّل. وحين ربط بعض الأحكام بالمال ربطها بالذهب والفضة كنصاب السرقة ونصاب الزكاة. وكذلك ربط الديات بالذهب والفضة، وكذلك عين النبي صلى الله عليه وسلم الذهب والفضة كمقياس نقدي واستعملهما في جميع المعاملات كالبيوع والأنكحة. وكانت وحدات النقد مشهورة في زمنه كالأوقية والدرهم والدانق والقيراط والمثقال والدينار. وروى النسائي عن ابن عمر قوله: (الوزن وزن أهل مكة) ومن مراجعة الموازين النقدية في الإسلام يتبين أن الأوقية الشرعية أربعون درهمًا، والدرهم ستة دوانق، والدينار أربعة وعشرون قيراطًا، وكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل، وقد أقرت موازين المدينة على هذا. وكذلك جاءت أحكام الصرف ناصةً على الذهب والفضة: «بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدًا بيد»، «الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء». وبالمقاييس السائدة اليوم، فإن الدينار يساوي 4,25 غرامًا من الذهب، والدرهم يساوي 2،975 غرامًا من الفضة.
أحكام الربا والصرف: وهي من أحكام التجارة. والربا هو أخذ مال بمال من جنس واحد متفاضِلَيْن. والصرف هو أخذ مال بمال من الذهب والفضة من جنس واحد متماثِلَيْن، أو من جنسين مختلِفَيْن متماثِلَيْن أو متفاضِلَيْن.والربا يقع في البيع والسلَم في ستة أشياء فقط، في التمر والقمح والشعير والملح والذهب والفضة، ويقع في القرض في كل شيء، فلا يحل إقراض شيء ليرد أكثر أو أقل. قال صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلًا بمثل سواء بسواء يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد» رواه مسلم. والتحريم في هذه الأشياء لا يعلل لأنها أشياء جامدة غير مفهمة للتعليل. والسلَم هو أن يسلم عرضًا حاضرًا بعرضٍ موصوفٍ في الذمة إلى أجل، ويُسمَّى سلمًا وسلفًا. أما القرض فهو نوع من السلَف وهو أن يعطي مالًا لآخر ليسترده منه وهو جائز.والصرف في النقد الواحد جائز، ويشترط فيه أن يكون مثلًا بمثل يدًا بيد عينًا بعين. والصرف بين نقدين جائز ولا يشترط فيه التماثل أو التفاضل، وإنما يشترط أن يكون يدًا بيد وعينًا بعين. قال صلى الله عليه وسلم:«بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدًا بيد» رواه الترمذي. ويشترط أن يقبض المتصارفان في المجلس، ومتى انصرف المتصارفان قبل التقابض فلا بيع بينهما. قال صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء» رواه البخاري.
الميزان التجاري: الميزان التجاري هو المقارنة بين قيمة الصادرات المنظورة والواردات المنظورة، فإن فاقت قيمة الصادرات قيمة الواردات كان الميزان التجاري في صالحنا. ولا يصح أن يحـرص على أن يكون الميزان التجاري لصالحنا إلا إذا لم تكن للدولة أغراض أخرى. أما إذا كان لها أغراض أخـرى، تتعـلق بالمبدأ، أو الدعـوة له، أو بالإعداد الصناعي، أو تتعلق بسد الحاجات، أو تتعلق بأمور سياسية بالنسبة لموقف الدولة التي نتعامل معها تجاريًا، وما نريده أن يكون عليه، أو بالنسـبة للموقـف الدولي وما يؤثـر فيه، فإنه يتبع الغـرض المقصود، ويضحى بالميزان التجاري. فالنظرة التجارية وإن كانت نظرة ربح، ولكنها في الوقت نفسه نظـرة دولة لا نظـرة فرد، فيراعى فيها هدف الدولة وكيانها قبل الربح التجـاري. فالتجـارة الخـارجية تخضع لسياسة التجارة الخارجية التي تخضع لرعاية شـؤون الأمة من ناحية خارجية، ولا بد أن تكون مبنية على أسس معينة، وتختلف نظرة الأمم للسياسة الخارجية تبعًا لاختلاف وجهة نظرها في الحياة.
2 – حق التصرف بالإنفاق صلة أو نفقة: إنفاق المال هو بذله بلا عوض، أما بذله بعوض فلا يسمى إنفاقًا. وهو يكون من الأفراد ويكون من الدولة. وتصرف الفرد بماله بنقل ملكيته إلى غيره بلا عوض، إما أن يكون بإعطائه للناس وإما بإنفاقه على نفسه وعلى من تجب عليه نفقتهم. ونفاذ هذا الإنفاق يكون إما حال حياته، كالهبة والهدية والصدقة والنفقة، وإما بعد وفاته، كالوصية، وقد بين الإسلام الأحكام في هذه الحالات الخمس. ومن الأحكام المتعلقة بنفقته على نفسه وعلى من تجب عليه نفقتهم:
أ – منع الإسلام الفرد من الإسراف ومن التبذير وعدَّه سفهًا يوجب الحجر عليه، والإسراف والتبذير لهما معنى لغوي ومعنى شرعي، والمقصود هو المعنى الشرعي، وهو إنفاق المال فيما نهى الله عنه. أما الإنفاق في المباح فليس إسرافًا ولا تبذيرًا.
ب – منع الإسلام الفرد من الترف. وهو البطر والغطرسة من التنعم وليس مجرد التنعم، فليس الترف هو التمتع بالمال وإنما هو البغي والتكبر والتجبر.
ج – منع الفرد من التقتير على نفسه وهو البخل على نفسه، فإذا فعل فقد أثم. أما إذا بخل على من تجب عليه نفقتهم، فإنه فوق إثمه لا بد من إجباره على الإنفاق على أهله. هذا فيما يتعلق بنفقته على نفسه أو على من تجب عليه نفقتهم.
أما فيما يتعلق بتصرفه بإعطائه للناس، فقد بين الإسلام هذه الأحكام ومنها:
أ – منع الإسلام الفرد أن يهدي للعدو في حالة الحرب أو أن يتصدق عليه ما يتقوى به على المسلمين.
ب – منع الفرد من أن يهب أو يهدي أو يتصدق إلا فيما يبقي له ولعياله غنى، فإن أعطى ما لا يبقي لنفسه وعياله بعده غنى فسخ كله. روى الدارمي عن جابر بن عبد الله قال: «بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل بمثل البيضة من ذهب أصابها في بعض المغازي، قال أحمد في بعض المعادن وهو الصواب، فقال: يا رسول الله، خذها مني صدقة، فوالله مالي مال غيرها، فأعرض عنه، ثم جاءه على ركنه الأيسر فقال مثل ذلك، ثم جاء من بين يديه فقال مثل ذلك، ثم قال: هاتها، مغضبًا، فحذفه بها حذفة لو أصابه لأوجعه أو عقره ثم قال: يعمد أحدكم إلى ماله لا يملك غيره، فيتصدق به ثم يقعد يتكفَّف الناس، إنما الصدقة عن ظهر غنى، خذ الذي لك لا حاجة لنا به. فأخذ الرجل ماله».
ج – منع الإسلام الفرد من أن يهب أو يهدي أو يوصي وهو في مرض الموت، وإذا فعل لا تنفذ إلا في ثلث ما وهب أو أهدى أو أوصى. روى الدارقطنى عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في حسناتكم ليجعلها زيادة لكم في أعمالكم».
وقد جعل الشرع إشباع الحاجات الأساسية وتوفيرها لمن لم يجدها فرضًا، فإذا وفرها الفرد لنفسه كان بها، وإذا لم يستطع أوجب الشرع إعانته على غيره. وقد فصل الشرع هذا الأمر فأوجبها على الأقارب الذين هم رحم محرم، فإن لم يكن له أقارب ممَّن عليهم نفقة قريبهم انتقلت النفقة على بيت المال في باب الزكاة، فإن لم يفِ قسم الزكاة وجب على الدولة أن تنفق عليه من أبواب أخرى من بيت المال، فإن لم يوجد يجب على الدولة أن تفرض ضريبة على أموال الأغنياء وتحصلها لتنفق على الفقراء والمساكين. ويجب على الدولة أن تضمن إشباع الحاجات الأساسية لجميع الأفراد.
الفقر والغنى:
الفقير هو المحتاج الضعيف الحال الذي لا يسأل، وهو من عُدِمَ إشباعَ حاجاته الأساسية من مأكل وملبس ومسكن، وتجب له النفقة. والمسـكين فقير، والفرق بينهما هو أن الفقراء هم الذين يملكون أموالًا ولكن نفقاتهم أكثر مما يملكون، أما المسـاكين فهم الذين لا يملكون أموالًا وليسـت لهم واردات. قال تعالى: (أو مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ). والغني هو الذي تجب عليه النفقة، وهو من ملك ما يفضل عن إشباع حاجاته بالمعروف وليس حاجاته الأساسية فقط، ويقدر ذلك بحسب حاله وأمثاله من الناس. وبناءً على هذا التعريف للغنى والفقر فإن هناك من هو ليس غنيًّا ولا فقيرًا، وهو من يكفي حاجاته الأساسية من مأكل وملبس ومسكن، ولكنه لا يكفي حاجاته بحسب حاله وأمثاله من الناس؛ وعلى ذلك فإن الإسلام قد اعتبر الفقر اعتبارًا واحدًا في أي بلد وفي أي جيل. وهو عدم إشباع الحاجات الأساسية إشباعًا كاملًا. والحاجات الأساسية هي المأكل والملبس والمسكن، وهي التي يجب الإنفاق على من يحتاج إليها. قال تعالى: (وَعَلَى ٱلۡمَوۡلُودِ لَهُۥ رِزۡقُهُنَّ وَكِسۡوَتُهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ) وقال: (أَسۡكِنُوهُنَّ مِنۡ حَيۡثُ سَكَنتُم مِّن وُجۡدِكُمۡ) وروى ابن ماجة عن أبي الأحوص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهنَّ في كسوتهنَّ وطعامهنَّ». والذي تجب عليه النفقة من أقارب الفقير والمسكين هو الغني. فإن لم يوجد ما يسد الحاجات انتقلت النفقة على بيت المال، أي على الدولة.
نفقات الدولة:
ونفقات الدولة هي من بيت المال، فإن كان فيه زكاة فيجب صرفها إلى مستحقيها. ونفقات الدولة على الفقراء والمساكين وابن السبيل، والجهاد لا تقتصر على الزكاة، وإنما على كل واردات بيت المال، فإن لم يكن المال موجودًا وخيف مفسدة من التأخير تقترض الدولة لأجل الوفاء بالحاجات ريثما تجمعه من المسلمين، وإن لم يكن ثمة مفسدة من التأخير (فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيۡسَرَةٖۚ). ومن نفقات بيت المال الواجبة المستحقات الواجبة على وجه البدل، وذلك كحقوق أجراء مصالح الدولة أو مصالح المسلمين، وكأرزاق الجند ورواتب الموظفين والقضاة والمحامين وما شاكل ذلك.
وكذلك ما كان واجـبًا على بيت المال على وجه المصلحة والإرفاق دون البدل، وذلك كإنشاء الطرقات وبناء المدارس والمساجد والمستشفيات وما شاكل ذلك. وهذه ينفق عليها من بيت المال إن وجد، فإن لم يوجد ينظر، فإن كان ضروريًّا انتقل الوجوب على الأمة، فإن كان في التأخير ضرر اقترضت الدولة ريثما تجمع من المسلمين ما تحصل به الكفاية. وإن لم يكن ضروريًّا ولا يحصل من عدم الإنفاق عليه ضرر على الأمة، فإن وجد في بيت المال وجب صرفه لهذه الأشياء وإن لم يوجد سقط وجوبه، ولا يجب على المسلمين دفع مال لأجله. ومن المستحقات على بيت المال الحوادث الطارئة على المسلمين، كحصول مجاعة أو طوفان أو زلزال أو هجوم عدو. فهذا حق لازم في حالة الوجود والعدم، فإن كان موجودًا وجب صرفه في الحال، وإن لم يكن موجودًا وجب جمعه من المسلمين في الحال، وإن خيف التأخير تقترض الدولة ثم تسد الدين مما تجمعه من المسلمين. وإذا لم تفِ الواردات الدائمة بحاجات الرعية فإن الدولة تفرض ضرائب على المسلمين. والدولة تفرض الضرائب لأجل الوفاء بما هو واجب على المسلمين، فإن لم يكن واجبًا على المسلمين لا تفرض فيه الضرائب، فإن وجد في بيت المال قامت الدولة بالسداد، وإلا فإن وجوبه يسقط عن الدولة.
وتفرض الضرائب في الحالات التالية:
1 – لسد النفقات الواجبة للفقراء والمساكين وابن السبيل وللقيام بفرض الجهاد.
2 – لسد النفقات الواجبة على سبيل البدل.
3 – لسد النفقات الواجبة على سبيل المصلحة والإرفاق دون بدل إذا كانت من الضروريات وينال الأمة ضرر من عدم وجودها.
4 – لسد النفقات الواجبة على وجه الضرورة للحوادث الطارئة من مجاعة أو طوفان أو زلزال أو هجوم عدو أو ما شاكل ذلك.
5 – لتسديد ديون اقترضتها للقيام بما هو واجب على المسلمين كالحالات الأربع السابقة أو أي حالة أوجبها الشرع على المسلمين.
إن الموارد التي حددها الشرع لبيت المال كافية لإدارة شؤون الرعية ولرعاية مصالحهم ولا حاجة لفرض ضرائب مباشرة أوغير مباشرة؛ ولكن الشرع احتاط للحالات الخاصة أو النادرة، ففرض الإنفاق لبعض الحاجات على بيت المال، أي على الموارد الدائمة فإذا لم يوجد فلا ينفق، وجعل الواجب في بعض الحاجات على المسلمين فإذا وجد في بيت المال أنفق منه وإلا فإن الفرض ينتقل على المسلمين، فتفرض الضرائب، وهذه الضرائب لا تؤخذ من غير المسلمين، وكذلك لا يؤخذ من المسلمين غير ما فرض عليهم، فلا تؤخذ رسوم للمحاكم ولا للدوائر ولا لأي مصلحة، ولا يوجد ضريبة جمارك، وحيثما وجدت فهي من قبيل معاملة الدول بمثل ما تعاملنا به، ولا يجوز أخذها من المسلمين والذميين، ولا يؤخذ من غير المسلمين سوى الجزية والخراج. والخراج يؤخذ من المسلم وغير المسلم، والضريبة التي تؤخذ من المسلمين تؤخذ مما زاد عن نفقتهم ومما يعد عن ظهر غنى، أي مما زاد عن إشباع الحاجات الأساسية والكمالية بالمعروف ويراعى فيها العدل بين المسلمين.
القاعدة الثالثة: توزيع الثروة بين الناس
وذلك أن الإسلام وقد أباح الملكية الفردية وحدد كيفية التملك وكيفية التصرف بالمال، فقد لاحظ تفاوت القوى العقلية والجسمية لدى الناس فاحتاط لهذا التفاوت في إعانته العاجز، وكفايته المحتاج، وفرضه في أموال الأغنياء حقًا للفقراء والمساكين. وكذلك جعل ما لا تستغني عنه الجماعة ملكًا عامًا لجميع المسلمين لا يجوز لأحد أن يمتلكه أو يمنعه أو أن يحميه لنفسه أو لغيره وهو الملكية العامة، وكذلك شرع أحكامًا لملكية الدولة، وجعل الدولة مسؤولة عن توفير الثروة أموالًا وخدمات للرعية، فأباح لها أن تتملك ملكية خاصة بها، فتكون الملكية العامة لجميع أفراد الرعية، لا يستأثر بها أحد ولا يُمنع منها أحد، وتكون ملكية الدولة وسيلة من وسائل تطبيق الإسلام. ومن ذلك كفاية المحتاج وضمان إشباع الحاجات الأساسية لجميع الأفراد، والكمالية بحسب الإمكان؛ إلا أنه مع ضمان ذلك كله بواسطة أحكام القاعدتين السابقتين وضمان حصول كل فرد على كفايته من الثروة، فقد يحصل لسبب من الأسباب، كانحراف البعض عن تطبيق الأحكام، أو لحصول عجز أو تقصير من الدولة، قد يحصل تفاوت فاحش في الملكية، ومستويات مختلفة من العيش، فتظهر طبقية في المجتمع، وتظهر الأثرة والأنانية والبغضاء والانقسام بين الناس. وهذه ظاهرة منتشرة في مختلف دول العالم. وقد حاولت الرأسمالية معالجة هذا التفاوت البشع والفاحش فلم تستطع. والاقتصاديون الرأسماليون حين يبحثون نظرية سوء توزيع الدخل يهملون كل الإهمال سوء توزيع الدخل الشخصي ويكتفون بعرض الإحصائيات من غير معالجة ولا تعليق. والاشتراكيون لم يجدوا وسيلة لمعالجة سوء التوزيع سوى تحديد الملكية بالكم. والشيوعيون جعلوا المعالجة بمنع الملكية. أما الإسلام فقد ضمن حسن التوزيع في تعيين أسباب الملكية وأنواعها وكيفية التصرف بالملك تنمية وإنفاقًا وصلةً. وزيادة على ذلك فقد عالج التفاوت الفاحش عن طريق أحكام توزيع الثروة، وليس المقصود بتوزيع الثروة كفاية الفقراء والمحتاجين، فهذه تكفلها أحكام القاعدتين الأولى والثانية. وإنما المقصود رفع التفاوت الفاحش في الخدمات ومستوى العيش. وقد شرع الإسلام لذلك:
1 – التوازن الاقتصادي في المجتمع؛ حيث منع الإسلام حصر تداول المال بين فئة من الناس وجعل هذا الأمر علة شرعية، أي خطًّا عريضًا أو قاعدة كلية ينبني عليها التشريع في موضوعها، فتتخذ لأجل هذا المنع الإجراءات اللازمة. قال تعالى: (كَيۡ لَا يَكُونَ دُولَةَۢ بَيۡنَ ٱلۡأَغۡنِيَآءِ مِنكُمۡۚ) لذلك منع الإسلام هذه الظاهرة وإن كانت الكفاية حاصلة. وعلى ذلك فإن الدولة تعطي من أموالها (التي هي ملكية دولة) للرعية ملاحِظَةً تحقيق التوازن ومنع انحصار تداول المال بين الأغنياء. وقد قسم النبي صلى الله عليه وسلم فَيْءَ بني النضير على المهاجرين ولم يعطِ الأنصار شيئًا سوى أبي دجانة سماك بن خرشة وسهيل بن حنيف، فقد كانت حالهما كحال المهاجرين من حيث الفقر. ويلاحظ أن إعطاء المال للفقراء يكون بإعطائهم المال منقولًا وغير منقول، وغاية منع التفاوت هي ليست سد الحاجة مؤقتًا، أو سد الضرورات أي المأكل والمسكن والملبس، وإنما هي إعطاء الفقراء ليتملكوا وسائل سد الحاجات، ولرفع مستوى عيشهم قدر الإمكان. وعلى ذلك فإن الدولة تتخذ الإجراءات التي تمنع ما يؤدي إلى وجـود هذا التفاوت، وتتخـذ الإجراءات التي ترفعه إن وجد. ولكنها لا تفرض ضرائب على الأغنياء لتعطيها للفقراء لأجـل رفع التفاوت، بل تعطي الفقراء لأجل رفع التفاوت إن وجد لديها مال. وهذا بخلاف سد الحاجات الضرورية للفقراء، فإن لم يوجد لدى الدولة مال فإنها تفرض ضريبة على الأغنياء من المسلمين لأجل ذلك.
2 – منع كنز الذهب والفضة، ويلحق بهما أي نوع من النقد المتداول، قال تعالى: (وَٱلَّذِينَ يَكۡنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلۡفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٖ) وقد مُنِعَ في هذه الآية أمـران: الكنز، وعدم الإنفاق في سـبيل الله أي في الجهاد.والكنز غير الادِّخار. فالكنز هو جمع النقد بعضه فوق بعض لغير حاجة، فهو حبسٌ للنقد عن السـوق. أما الادخار فهو خزن النقد لحاجة من الحاجات، كأن يجـمع النقد ليبني بيتًا، أو ليتزوج، أو ليشتري مصنعًا، أو ليفتح تجارة، أو غير ذلك، فهذا لا خطر فيه ولا يحبس المال عن السوق، فإن نسبته قليلة، وهو يجمع ليوضع في السوق لاحقًا. وإنما الخطر في جمعه بعضه فوق بعض لغير حاجة، فهو سحب للمال من السوق.ومنع الكنز يشجع على وضع المال في السوق ويشجع الاستثمار، فتوجد الحركة ويوجد الإنتاج والتنافس، وتتوفر الحاجات والخدمات ويوجد التنافس في الصناعة والجودة والتطوير، ويبعث على إيجاد مراكز الأبحاث والتجارب العلمية وغيرها، وكل هذا يزيد من فرص العمل المنتج، كما أنه يجعل المال في السوق بين أيدي الناس ويزيد من تداوله، فيرتفع مستوى الدخل كما يرتفع الفقر وترتفع البطالة، ويحصل الازدهار والانتعاش والتقدم.ويمكـن ملاحظة وجه الشـبه بين هذا الحكم وحكم تعطيل الأرض الزراعية حيث يجـوز أخذها ممن عطلها ثلاث سنين وإعطاؤها لغـيره. ووجه الشـبه هو منع تعطيل المال عن الإنتاج، سـواء كان المال منقولًا أم غير منقول. (انتهى)
2023-01-07