مع القرآن الكريم
2022/12/07م
المقالات
894 زيارة
(يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ بِطَانَةٗ مِّن دُونِكُمۡ)
(يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ بِطَانَةٗ مِّن دُونِكُمۡ لَا يَأۡلُونَكُمۡ خَبَالٗا وَدُّواْ مَا عَنِتُّمۡ قَدۡ بَدَتِ ٱلۡبَغۡضَآءُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَمَا تُخۡفِي صُدُورُهُمۡ أَكۡبَرُۚ قَدۡ بَيَّنَّا لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِۖ إِن كُنتُمۡ تَعۡقِلُونَ١١٨) [آل عمران: 118]
جاء في خواطر الشيخ متولي الشعراوي عند تفسير هذه الآيات ما يلي:
«حين يخاطب الله المؤمنين ويناديهم بقوله: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ) فلتعلم أن ما يجيء بعد ذلك هو تكليف من الحق سبحانه. فساعة ينادي الحق المؤمنين به، فإنه ينادي ليكلف، وهو سبحانه لا يكلِّف إلا من آمن به… وهو لا يكلف بـ(افعل) و(لا تفعل) إلا من آمن. أما حين يدعو غير المؤمن به إلى رحاب الإيمان، فإنه يناديه ليدخل في حظيرة الإيمان: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ). فيثير فيه القدرة على التفكير، فيقول له: فكّر في السماء، فكّر في الأرض، فكّر في مظاهر الكون، حتى تؤمن أن للكون إلهًا واحدًا. فإذا ما دخل الإنسان في حظيرة الإيمان، فالحق سبحانه وتعالى يكرم هذا المؤمن بالتكليف بـ(افعل) و(لا تفعل). وما دام العبد قد آمن بالإله القادر الحكيم الخالق القيوم، فليسمع من الإله ما يصلح حياته.
ويجيء في بعض الأحيان ما ظاهره أن الله ينادي مؤمنًا به، ثم يأمره بالإيمان كقول الحق: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ) ويتساءل الإنسان كيف ينادي الله مؤمنًا به، ثم يأمره بالإيمان؟ وهنا نرى أن المطلوب من كل مؤمن أن يؤدي أفعال الإيمان دائمًا ويضيف لها ليستمر ركب الإيمان قويًّا، فالحق حين يطلب من المؤمن أمرًا موجودًا فيه؛ فلنعلم أن الله يريد من المؤمن الاستدامة على هذا اللون من السلوك الذي يحبه الله، وكأن الحق حين يقول: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ) إنما يحمل هذا القول الكريم أمرًا بالاستدامة على الإيمان؛ لأن البشر من الأغيار. ونحن نعرف أن الله أفسح بالاختيار مجالًا لقوم آمنوا فارتدُّوا، فليس الأمر مجرد إعلان الإيمان ثم تنتهي المسألة، لا، إن المطلوب هو استدامة الإيمان.
وحين نقرأ قول الحق: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ) فلنفهم أن هناك تكليفًا جديدًا، وما دام في الأمر تكليف فعنصر الاختيار موجود، إذن فحيثية كل حكم تكليفي من الله له مقدمة هي: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ) ولا تبحث أيها المؤمن في علة الحكم، وتسأل: لماذا كلفتني يارب بهذا الأمر؟ فليس من حقك أيها المؤمن أن تسأل: (لماذا) ما دمتَ قد آمنتَ؛ فالحق سبحانه لم يكلِّف إلا من آمن به، فإذا كنت- أيها المؤمن- قد آمنت بأنه إله قادر حكيم فأمن الله على نفسك، ونفذ مطلوب الله بـ(افعل) و(لا تفعل) سواء فهمتَ العلة أم لم تفهمها.
وسبق أن ضربنا المثل، وما زلنا نكرره.
إن المريض الذي يشكو من سوء الهضم بعد تناول الطعام يفكر أن جهازه الهضمي مصاب بعلة، ويفكر في اختيار الطبيب المعالج ويختار طبيبًا متخصصًا في الجهاز الهضمي، ويذهب إلى هذا الطبيب. وهنا ينتهي عمل العقل بالنسبة للمريض؛ فقد اختار طبيبًا وقرر الذهاب إليه، والطبيب يُجري الفحص الدقيق، ويطلب التحاليل اللازمة إن احتاج الأمر، ويشخص الداء، ثم يكتب الدواء، وحين يكتب الطبيب الدواء للمريض، فإن المريض لا يصح أن يقول للطبيب لن آخذ هذا الدواء إلا إذا أقنعتني بحكمته، بل عليه أن ينفذ كلام الطبيب، وهكذا يطيع المريض الطبيب، وكلاهما مساوٍ للآخر في البشرية، فكيف يكون أدب الإنسان مع خالقه؟ إن كل عمل العقل عند المؤمن هو أن يؤمن بالله، وبعد أن آمنتَ – أيها المؤمن- بالله حكيمًا، فَتَلَقَّ عن الله الحكم؛ لأنه مأمون على أن يوجهكَ؛ لأنك أنت صنعته.
إن الحق يأمر المؤمن بالصلاة، وعلى المؤمن أن يؤديها، ولا يبحث عن علة الصلاة كأنها رياضة مثلًا، لا، إن الأمر صادر من الحق بالصلاة، وحين تصلي، فإنك تلتفت إلى أن نفسك قد انشرحت بالصلاة وشعرت بالراحة، فتقول لنفسك: ما أحلى راحة الإيمان؛ هذه هي علة الحكم الإيماني. إن علة الحكم الإيماني يعرفها المؤمن بعد أن ينفذه؛ ولذلك نجد الحق من فضل كرمه يقول لنا: (وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ) [البقرة: 282].
فأنت ساعة أن تتقي الله في الحكم، يعطيك العلة، ويعطيك راحة الإيمان، إنك أيها العبد لا تسأل أولًا عن الاقتناع بالعلة حتى تنفذ حكمًا لله؛ لأن الحق سبحانه قد يؤجل بعض حيثيات الأحكام لخلقه قرونًا طويلة، ومثال ذلك أننا ظللنا لا نعرف علة حكم من الأحكام لمدة أربعة عشر قرنًا من الزمان مثل تحريم أكل لحم الخنزير، فهل كان على العباد المؤمنين أن يؤجلوا أكل لحم الخنزير أربعة عشر قرنًا إلى أن يمتلكوا معامل للتحليل حتى نعرف المضار التي فيه؟. إن العباد المؤمنين لم يؤجلوا تنفيذ الحكم، ولكنهم نفذوه، واكتشف أحفاد الأحفاد أن فيه ضررًا، وهذا يدفعنا إلى تنفيذ كل حكم لا نعرف له علة، إن هذا الحكم له حكمة عند الله قد لا يستطيع عقل الإنسان أن يفهمها، ولكن ستأتي أشياء توضح بعض الأحكام فيما لم يكن يعرفه الإنسان، وتعطينا تلك الإيضاحات الثقة في كل حكم لا تعرف له علة، وتصبح علة كل حكم هي: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ)… إن الحق بهذا القول ينادي كل عبد من عباده: يا من آمنت بي إلهًا خذ مني هذا التكليف. ومثال ذلك – ولله المثل الأعلى – عندما يقول الطبيب: يا من صدَّقت أني طبيب لمرضك خذ هذا الدواء وستشفى بإذن الله. وعندما يزور الإنسان مريضًا ويسأله: لماذا تأخذ هذا الدواء؟ فالمريض يجيب: لقد كتب الطبيب لي هذا الدواء. فما بالنا بتنفيذ أحكام الله؟ إنه يجب أن ننفذها لأن الله قالها… فالعقل يوصلك إلى أن تؤمن بالله؛ ولكنه لا يحشر نفسه فيما ليس له قدرة عليه.
إن الحق سبحانه في هذا التكليف القادم: ( يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ بِطَانَةٗ مِّن دُونِكُمۡ) أي إنكم ما دمتم قد آمنتم، فعليكم الحفاظ على هذا الإيمان بأن تبعدوا عنه نزغ الشيطان وكيد الأعداء. إن نزغ الشيطان وكيد الأعداء إنما يأتي من البطانة التي تتداخل مع الإنسان. ولنفهم كلمة (بطانة) جيدًا، إن بطانة الرجل هم خاصته، أي الناس الذين يصاحبهم ويجلسون معه ويعرفون أسراره، وكلمة (بطانة) مأخوذة أيضًا من بطانة الثوب… فالصانع يضع للثوب الخشن بطانة ناعمة؛ لأنها التي تلتحم بالجسم حتى تحميه؛ فنحن نرتدي الصوف ليعطينا الدفء، ونضع بينه وبين الجسم بطانة لنبعد عن الجسم خشونة الصوف، ويسمون البطانة بالوليجة، أي التي تدخل في حياة الناس، وكل شر في الوجود من هذه البطانة…
هكذا كان سلوك الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يعطي القدوة للناس، وحتى يعرف كل إنسان أن التحام الناس بعضهم ببعض قد يسبب لواحد استغلال الالتحام في غير صالح الإيمان؛ لذلك يقول الحق سبحانه: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ) تنبهوا إلى أنكم في معسكر من غير المؤمنين يقاتلكم ويعاند إيمانكم، وهؤلاء لا يمكن أن يتركوكم على إيمانكم، بل لابد أن يكيدوا لكم، وهذا الكيد يتجلى في أنهم يدسُّون لكم أشياء، وينفذون إليكم.
ونعرف جميعًا أن الإسلام عندما جاء، كان كثير ممن آمن له ارتباطات بمن لم يسلم؛ فهناك القرابة، والصداقة، والإلف القديم والجوار، والأخوة من الرضاعة؛ لذلك يحذر الحق من هذه المسائل، فلا يقولن مؤمن: هذا قريبي، أو هذا صديقي، أو هذا حليفي، أو هذا أخي من الرضاعة، فالإسلام يحقق لكم أخوة إيمانية تفوق كل ذلك؛ ولهذا فإيَّاكم أن تتخذوا أناسًا يتداخلون معكم بالودِّ؛ لأن الشر يأتي من هذا المجال، وإيَّاكم أن تعتقدوا أن فجوة الإيمان والكفر بينكم ستذهب أو تضيق؛ لأن الكفار لن يتورَّعوا أن يدخلوا عليكم من باب الكيد لكم ولدينكم بكل لون من الألوان، وهم- الكفار- لا يقصرون في هذا أبدًا؛ لذلك يأتي الأمر من الحق: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ)احموا هذا الإيمان فلا تتداخلوا مع غير المؤمنين تداخلًا يفسد عليكم أمور دينكم؛ لأنهم لن يهدؤوا، لماذا؟؛ لأن حال هذه البطانة معكم سيكون كما يلي: (لَا يَأۡلُونَكُمۡ خَبَالٗا) أي لا يقصِّرون أبدًا في الكيد لكم، والخبال: هو الفساد للهيئة المدبِّرة للجسم وهو العقل، ونحن نُسَمِّي اختلال العقل (خبلًا).إن الحق يقول: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ بِطَانَةٗ مِّن دُونِكُمۡ لَا يَأۡلُونَكُمۡ خَبَالٗا وَدُّواْ مَا عَنِتُّمۡ قَدۡ بَدَتِ ٱلۡبَغۡضَآءُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَمَا تُخۡفِي صُدُورُهُمۡ أَكۡبَرُۚ قَدۡ بَيَّنَّا لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِۖ إِن كُنتُمۡ تَعۡقِلُونَ١١٨) [آل عمران: 118].
فالمنهي عنه ليس أن تتخذ بطانة من المؤمنين؛ ولكن المنهيَّ عنه هو أن تتخذ بطانة من غير المؤمنين؛ لأن المؤمن له إيمان يحرسه، أما الكافر فليس له ما يحرسه، والبطانة من غير المؤمنين لا تقصِّر في لحظة واحدة في أنها تريد للمؤمنين الخبال والفساد، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل إنهم يحبون العَنَتَ والمشقة للمؤمنين (وَدُّواْ مَا عَنِتُّمۡ) والحق سبحانه وتعالى لا يريد لنا العنت، وفي هذا يقول سبحانه: (وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَأَعۡنَتَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ) [البقرة: 220]. أي أنه سبحانه لو أراد، لكلَّفكم بأمور كثيرة تحمل المشقة؛ لكن الحق سبحانه يَسّر لكم أيها المؤمنون؛ لكن أهل الكفر لا يودُّون إلا الخبال للمؤمنين، ويحبُّون المشقة لهم.
ومن أين تنشأ المشقة؟ إنك حين تكون مؤمنًا، فأنت تقوم بما فرضه عليك الدين، وهم يحاولون أن ينفخوا في المؤمن بغير ما يقتضيه هذا الدين، فتتوزع نفس المؤمن، وبهذا النفخ تنقسم ملكات المؤمن على نفسها، وعندما تنقسم الملكات على نفسها فإن القلق والاضطراب يسيطران على الإنسان، فالقلق والاضطراب ينشآن عندما لا تعيش الملكات النفسية في سلام وانسجام.
ونحن نرى ذلك في المجتمعات التي وصلت إلى أرقى حياة اقتصادية وأمورهم المادية ميسرة كلها، فالشيخوخة مُؤَمَّنة، وكذلك التأمينات الصحية والاجتماعية، ودخل الإنسان مرتفع، لكنهم مع ذلك يعيشون في تعب، وترتفع بينهم نسبة الانتحار، وينتشر بينهم الشذوذ، والسبب وراء كل ذلك هو أن ملكاتهم النفسية غير منسجمة، وسلام الملكات النفسية لا يتحقق إلا عندما يؤمن الإنسان، ويطبق تعاليم ما يؤمن به. فالرجل – على سبيل المثال – حين ينظر إلى حلاله، أي زوجته، ينظر إليها براحة ويشعر باطمئنان؛ لأن ملكاته النفسية منسجمة، أما عندما تتجه عيناه إلى امرأة ليست زوجته، فإنه يراقب كل من حوله حتى يعرف هل هناك من يراه أو لا؟ وهل ضبطه أحد أو لا؟ وعندما يضبطه أحد فهو يفزع وتتخبط ملَكاته.
لذلك يحذر الحق سبحانه المؤمنين: إياكم من البطانة من غير المؤمنين؛ لأنهم لايقصِّرون أبدًا ولا يتركون جهدًا من الجهود إلا وهم يحاولون فيه أن يدخلوكم في مشقة. والمشقة إنما تنشأ من أن الكافر يحاول أن يجذب المؤمن إلى الانحراف والاضطراب النفسي وتشتت الملكات مستغلًّا القرابة والصداقة، مطالبًا أن يرضيه المؤمن بما يخالف الدين، ولا يستطيع المؤمن التوفيق بين ما يطلبه الدين وما يطلبه الكافر؛ لذلك تنقسم ملكات المؤمن ويحس بالمشقة. والكافرون لا يتركون أي فرصة تأتي بالفساد للمؤمنين إلا انتهزوها واغتنموها. (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ بِطَانَةٗ مِّن دُونِكُمۡ لَا يَأۡلُونَكُمۡ خَبَالٗا وَدُّواْ مَا عَنِتُّمۡ قَدۡ بَدَتِ ٱلۡبَغۡضَآءُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡ). وما دامت البغضاء قد بدت من أفواههم فكيف نتخذهم بطانة؟ إنك حين تصنع لنفسك جماعة من غير المؤمنين، فإنها تضم بعضًا من المنافقين غير المنسجمين مع أنفسهم. والمنافق له لسان يظهر خلاف ما يبطن. وعندما يذهب المنافق إلى غير المؤمنين فإن لسان المنافق ينقل بالسخرية كلام المؤمن. هكذا تظهر البغضاء من أفواه المنافقين المذبذبين بين ذلك، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، إنهم لا ينتمون إلى الإيمان ولا ينتمون إلى الكفر، والذي يصل المؤمنين من بغضاء هؤلاء قليل؛ لأن ما تخفي صدورهم أكبر. وحين تبدو البغضاء من أفواههم، فإما أن يقولوها أمام منافقين، وإما أن يقولها بعضهم لبعض، فيتبادلوا الاستهزاء والسخرية بالمؤمن، والله أعلم بمن قيل فيه هذا الكلام؛ ولذلك فعندما يتحدث الكافرون بكلام فيما بينهم فالله يكشفهم ويفضحهم لنا نحن المؤمنين.
إن الله تعالى يكشف بطلاقة علمه كل الخبايا، وكان على الكافرين والمنافقين أن يعلموا أن هناك إلهًا يرقب عملية الإيمان في المؤمن حتى ينبِّهَه إلى أدق الأشياء؛ لكنهم كأهل كفر ونفاق في غباء، لقد كان مجرد نزول قول الحق: (قَدۡ بَدَتِ ٱلۡبَغۡضَآءُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَمَا تُخۡفِي صُدُورُهُمۡ أَكۡبَرُۚ) كان ذلك فرصة أمامهم ليدفعوا عن أنفسهم لو كانت صدورهم خالية من الحقد؛ لكنهم عرفوا أن الله قد علم ما في صدورهم. إن الغيظ الذي في قلوب هؤلاء الجاحدين الحاقدين قد نضح على ألسنتهم؛ ولكن مَن الذي نقل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته ما في صدور الكافرين مما هو أكثر من ذلك؟ إنه الله – جلت قدرته- قد فضحهم بما أنزل من قوله تعَـالى: (وَمَا تُخۡفِي صُدُورُهُمۡ أَكۡبَرُۚ ُ)إذن لم يعد لمن آمن بالله حجة؛ لأن الله أعطاه المناعات القوية لصيانة ذلك الإيمان، وأوضح الحق للمؤمنين أن أعداءهم لن يدَّخروا وسعًا أبدًا في إفساد انتمائهم لهذا الدين، فيجب أن ينتبه المؤمنون. وإذا ما دققنا التأمل في تذييل الآية نجد أن الحق قال: (قَدۡ بَيَّنَّا لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِۖ إِن كُنتُمۡ تَعۡقِلُونَ) إذًا، فالآيات المنزلة من الله تعالى توضح ذلك، وقد قلنا من قبل: إن الآيات، إما أن تكون آيات قرآنية، وإما أن تكون آيات كونية، فالقرآن له آيات، والكون له آيات. ولنسمع قول الحق بالنسبة للقرآن (وَإِذَا بَدَّلۡنَآ ءَايَةٗ مَّكَانَ ءَايَةٖ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوٓاْ إِنَّمَآ أَنتَ مُفۡتَرِۢۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ ١٠١) [النحل: 101]. وفي مجال الكون يقول الحق سبحانه: (وَمِنۡ ءَايَٰتِهِ ٱلَّيۡلُ وَٱلنَّهَارُ وَٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُۚ لَا تَسۡجُدُواْ لِلشَّمۡسِ وَلَا لِلۡقَمَرِ وَٱسۡجُدُواْۤ لِلَّهِۤ ٱلَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمۡ إِيَّاهُ تَعۡبُدُونَ ٣٧) [فصلت: 37].
وهكذا نعلم أن الآية هي الشيء العجيب اللافت الذي يجب أنه ننتبه إليه لنأخذ منه دستورًا لحياتنا. وعلى ذلك، فالآيات القرآنية تعطي المنهج، والآيات الكونية تؤيد صدق الآيات المنهجية. ويجب أن تتفطَّنوا أيها المؤمنون إلى هذه الآيات. والذي يدل على أن المؤمنين قد عقلوا وتفطَّنوا، أن الآية الأولى بيَّنت أنهم قد نهوا عن أن يتخذوا بطانة من دونهم- أي من غير المؤمنين- وها هي ذي الآية التالية تقول: (هَٰٓأَنتُمۡ أُوْلَآءِ تُحِبُّونَهُمۡ وَلَا يُحِبُّونَكُمۡ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱلۡكِتَٰبِ كُلِّهِۦ وَإِذَا لَقُوكُمۡ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوۡاْ عَضُّواْ عَلَيۡكُمُ ٱلۡأَنَامِلَ مِنَ ٱلۡغَيۡظِۚ قُلۡ مُوتُواْ بِغَيۡظِكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ ١١٩).
2022-12-07