النظام الاقتصادي الأمثل (صور من النظام الإسلامي والنظام الرأسمالي) (4)
2022/10/07م
المقالات
958 زيارة
د. محمود عبد الهادي
الشركات المساهمة من بلايا الرأسمالية على العالم
إن المساهمة هي من بلايا هذا النظام على العالم، وواقعها وقوانينها تنطق أنها لم تكن إلا لأجل منافع الأثرياء الجشعين ولتيسير نهبهم للمال وزيادة فرصهم لذلك. وهي تقدم للأثرياء المستثمرين إمكانية زيادة رأسمالهم من أموال الناس ليكبر حجم رأسمالهم فتزداد أرباحهم على حساب المساهمين الذين يُلقى إليهم الفُتات، وكذلك هم يتاجرون بأموال الناس بل يغامرون بها إذ جل الخسارة ستكون على أموال الناس. ومجلس الإدارة في هذه الشركة هو الذي ينوب عن الشركة في أعمالها، وهو في حقيقته يمثل المستثمرين الأثرياء فيها الذين يمتلكون إمكانية التصرف بأسهمها وأموالها بيعًا وشراءً، فيقومون بعمليات ترجع عليهم بالأرباح الباهظة ويبيعون أسهمهم وتنتهي علاقتهم بالشركة، فيكونون قد خرجوا منها قبيل خسارتها أو إفلاسها وضياع أموال سائر الشركاء. ففي هذه الشركات كل من يمتلك سهمًا أو أسهمًا يصبح شريكًا، وإذا باع أسهمه يخرج من الشركة ويصبح مشتريها هو الشريك، وليس للشركاء أو حملة الأسهم في هذه الشركات أي ولاء للشركة، وبخاصة مؤسسوها الذين اتفقوا على تأسيسها والمساهمة فيها؛ إذ قد يتحيَّن أي شريك أو – أكثر من شريك – الفرصة المناسبة وقد يصطنعون هذه الفرصة ليبيعوا ما لديهم من أسهم فيها، فتنتهي علاقتهم بها، وقد تحصل الدعاية والترويج للشركة وأسهمها فيرتفع سعر سهمها بغض النظر عن زيادة أو نقصان أملاك الشركة أو موجوداتها. ومن قوانين هذه الشركات بل من شذوذها أنها محدودة المسؤولية، أي أنها عند الخسارة أو وقوعها تحت دين لأي جهات أخرى ومهما بلغ حجم الدين، فليس فيها من يتحمَّل المسؤولية تجاه أصحاب الحقوق عليها، وكل صاحب أسهم يتحمَّل الخسارة فقط بمقدار أسهمه، فحقوق أصحاب الحقوق هي على الشركة التي هي شخصية معنوية وليست على أحد فيها، فلا يمكن مطالبة أحد من أعضاء الشركة سوى بمقدار أسهمه مهما كانت أملاكه غير الأسهم، فإذا ما ضرب أولئك الجشعون المحتالون ضربتهم ونالوا من أموال الشركة ما استطاعوا وباعوا أسهمهم في اللحظة المناسبة وبالسعر الأنسب لهم، فإنهم يصبحون خارج الشركة وتنقطع علاقتهم بها، ثم تبدأ الشركة بالانكشاف ويتدهور سعر سهمها، فيخسر أصحاب الأسهم أموالهم، كما يخسر أصحاب الحقوق عند الشركة حقوقهم التي قد تكون قروضًا ضخمة وأثمانًا كبيرة، فلا يحصلون إلا على ما تبقي من أملاك الشركة والتي قد تكون أصلًا مجرد أرقام وتسجيلات خداع وتلاعب، وبحسب قوانين هذه الشركات فهم لا يستحقون غير هذا المتبقي لأن الشركة محدودة المسؤولية. هذا البيان السريع للشركات المساهمة يوضح أنها من أهم أسباب الاحتيال للقيام بعمليات نهب أموال الناس والقيام بحركات مقصودة لأجل الربح الهيِّن والسريع على حساب خسائر الناس.
قوانين الإفلاس لصوصية بالقانون
ومما يزيد بيان فساد هذا النظام قوانين الإفلاس التي يطبقونها ويفرضون تطبيقها على سائر دول العالم لتسهيل عملياتهم في النهب واللصوصية من غير أن يتحمَّلوا أي مسؤولية، ويسمونها قوانين حماية للمستثمرين والتجار، ويخادعون بأنها لتشجيع الاستثمار ودخول الأموال للبلاد، وأنها لازمة للتنمية ومعالجة الاقتصاد في البلد، ويتدخل البنك الدولي لفرضها باعتبارها من وصفات العلاج والتقدم والقضاء على الفقر، وما هي إلا لتقنين وتسهيل أكل أموال الناس بالباطل ونهب الثروات، ولحماية أصحاب هذه العمليات الأثرياء الغربيين ومؤسساتهم. فتقضي قوانين الإفلاس أن الشركة أو المستثمر إذا زادت ديون مؤسسته عن موجوداتها أو أصبح غير قادر على السداد فإنه يكون مفلسًا، وبمجرد إعلان أن الشركة أو المؤسسة أو التجارة مفلسة فإن القانون يتدخل لحمايتها من الدائنين وأصحاب الحقوق، وتضيع حقوق الناس، في حين إن مدير الشركة أو المسؤولين عنها يكونون أغنياء وأصحاب مؤسسات أخرى، بل غالبًا ما يكونون هم أصحاب الحيل لنهب أموال الشركة ثم إعلان إفلاسها، فتضيح حقوق الناس، ويذهبون هم لإعادة كرة الاحتيال والنهب بعمليات جديدة في نفس البلد أو في غيره.
إن الوقائع الشاهدة على ما سبق متلاحقة لا تتوقف ولا تنحصر، ولكنني أذكر مثالًا واحدًا عليه، وهو ما حصل في بنك ليمان براذرز الذي أفلس إبان الأزمة المالية العالمية سنة 2008م، وقد كان رئيس البنك ريتشارد سيرفين ديك فولد قد أغرق البنك في عمليات الرهن العقاري عالي المخاطر ما أدى إلى انهيار البنك وإفلاسه، ولكنه كان قد حصل لنفسه قبل إعلان إفلاس البنك على تعويضات مقدارها 500 مليون دولار، ورشح عن أخبار التحقيقات حصول تلاعب وحيل بمئات المليارات.
وعلى سبيل المثال أيضًا نشرت الصحف الكويتية بتاريخ 10 و11/11/2013م مطالبة البنك الدولي للكويت بسن قانون إفلاس عصري، ومما جاء في الخبر: «…يؤكد القاضي تشارلز كيس المتقاعد حديثًا من محكمة الإفلاس في أمريكا والعضو في فريق البنك الدولي على الحاجة لقانون جديد بالكامل للشركات المعسرة حيث قال: « الأحكام الحالية في القانون التجاري القائم تركز على التصفية والجزاء والإجراءات المطوَّلة، ولكي تصبح الكويت مركزًا ماليًا فإنها تحتاج إلى قانون عصري يشجع على إعادة تأهيل المؤسسات القابلة للنجاح والتصفية الفورية للمؤسسات غير القابلة للاستمرار، وفسح مجال أوسع للمدين ودائنيه لطرح آراء واقتراحات للجوء للقضاء»».
كذلك نشر موقع أربيان بيزنس في 12/2/2014م أن الملياردير البريطاني السير ريتشارد برانسون عبر عن دهشته لعدم وجود قوانين إفلاس في الإمارات، وأشار لموقع أربيان بيزنس أنه أصيب بالذهول لعلمه أنه لا يوجد لدى الإمارات قانون ناظم للإفلاس، وأن تأمين حماية من الإفلاس هو أولوية مهمة حيث هناك حاجة ملحة لتوليد وظائف جديدة، وقال: «أنا منذهل لسماعي أنه لا يوجد قانون إفلاس، فالذي نقل بريطانيا إلى مستوى آخر عام 1850م هو قانون الإفلاس الذي حمى الناس من السجن في حال تعرَّضوا لضائقة مالية لمنحهم فرصة أخرى للمحاولة بتأسيس شركة أخرى».
وهذا من حيلهم ومخادعاتهم لفرض القوانين والنظم التي تحميهم وتحمي أموالهم وتمكنهم من تقديم المشاريع البراقة تحت عناوين الاستثمار في البلاد التي تتمتع بثروات كبيرة، أي فيها قابلية النهب والسطو عليها والخروج السريع بأرباح كبيرة، فتتضافر أنظمة البنوك الربوية والشركات المساهمة وقوانين الإفلاس لتسهل لهم لصوصيتهم التي ما زالوا يتقلبون يكررونها في البلاد، وهو ما حصل في بلدان جنوب شرق آسيا عام 1997م، عندما غزتهم في الأسبوع الأخير من شهر تشرين أول أزمة مالية سريعة بهبوط حاد للأسهم في الأسواق المالية الكبرى، جعلت أصحابها يتضرجون بقهرهم وفقرهم، وقد خسروا ممتلكاتهم بمئات المليارات وكأنهم هزموا هزيمة منكرة في حربٍ عظيمة.
مثال عملي على خدع ومؤامرات النهب الرأسمالي المدمرة
فعلى سبيل المثال يتفق بعض حيتان المال من أصحاب البنوك وكبار المستثمرين الغربيين على إنشاء صندوق مالي ضخم وينشئون شركة مساهمة أو أكثر، ثم يعمدون إلى الترويج لأسهم هذه الشركات عبر أجهزتهم الإعلامية ويقدمون البيانات الموجهة لمصلحتهم مما يغري الناس بالأسهم التي يرَون سعرها يرتفع، ويأتي دور البنوك التي تزيد الإغراء إغراءً بتقديم الطعم الدسم وبخاصة للأثرياء وأصحاب الممتلكات الكبيرة، ومما تقدمه أن من يشتري أسهم هذه الشركات فالبنك يقدم له قرضًا يساوي تسعة أضعاف المبلغ الذي اشترى به؛ وذلك ليزيد ما اشتراه من أسهم بنفس النسبة. وأمام هذا الإغراء وأمام البيانات الدورية السريعة التي تتحدث عن ارتفاع أسعار هذه الأسهم ينجذب المخدوعون ويُقبلون على شرائها، ويبتلعون الطُعمَ بنهم ليتفاجؤوا بعد فترة أن ذلك الدسم إنما كان غلالة خارجية تخفي تحتها السم الزؤام، أو مجرد فقاعة منفوخة.
فإذا قام مستثمر صغير بشراء 1000 سهم وكان سعر السهم 10 دولارات، فيقدم للبنك مبلغ 10,000 دولار ويقدم له البنك 90,000 دولار، فيشتري 10,000 سهم بدل الـ 1000. ثم تسير المؤامرة فيرتفع السهم دولارًا مثلًا، فيكون ربح هذا الشخص 10,000 دولار، ويكون حسابه المودع من غير القرض 20،000 دولار، ويستحق مقابله من البنك 9 أضعافه أي 180,000 دولار في حين البنك سبق أن قدم له 90,000 دولار، فيقدم له البنك قرضًا أضافيًا بالفرق وهو 90,000 دولار على شكل أسهم بسعر 11 دولارًا للسهم، أي أنه يحصل على 8,182 سهمًا جديدًا، ويكون له 18,182 سهمًا في الشركة. وتنتشر الأخبار بجدوى الاستثمار في هذه الشركة ويُقبل المزيد على أسهمها فيرتفع سعر السهم مرةً أخرى، وإذا افترضنا ارتفع السهم دولارين، يصبح رصيد هذا الشخص: 18,182× 13 = 236,000 دولار تقريبًا. ويكون حسابه المودع له من غير القرض: 236,000- 180,000 = 56,000 دولار. فيستحق من البنك 9 أضعافه: 56,000×9 = 504,000 دولار، بينما ما قدمه له البنك هو 180,000 ألفًا، فتزداد أسهمه بما يعادل: 504,000 – 180,000 = 324,000 دولار. فتزداد أسهمه: 324,000 ÷ 13 = 24,923 سهمًا، ويصبح مجموع أسهمه في الشركة 43,105 سهمًا، بسعر 13 دولارًا للسهم، وبذلك فهو يرى أن له في البنك 560,000 دولار، وعليه منها للبنك 504,000 دولار، فيبقى له 56,000 دولار، وبذلك فأرباحه السريعة تكون 46,000 دولار جاءت من استثمار 10,000 دولار فقط، إن الأمر مشجع للأغبياء والجهلة بل ولغيرهم.
إن الذين يقفون خلف هذه العملية المبيتة والمدروسة والمتابَعة بدقة يختارون الوقت المناسب ليتخلصوا مما لديهم من أسهم، فيُقدمُ الناس على شرائها وهي في أعلى أسعارها، فيبيعها هؤلاء ويرحلون وتنتهي صلتهم بالشركة إذ هي شركة مساهمة. وتتوقف الأخبار عن الشركة وأسهمها، وتبدأ أسعار الأسهم بالانخفاض. فإذا ما أُعلن عن انخفاض سعر السهم دولارًا واحدًا. فإن الشخص المذكور أعلاه تصبح قيمة أسهمه 43,105 × 12 = 517,000 دولار تقريبًا، وينبغي أن يكون قرض البنك له تسعة أعشار هذا المبلغ أي: (517,000 × (9÷10) = 465,000 دولار تقريبًا، بينما القرض المقدم له هو 504,000 دولار، فيطالبه البنك بالفرق البالغ 39,000 دولار، وهو لا يملكها؛ إذ كل تلك الأرقام التي كانت تدغدغ خياله هي أرقام مسجلة في قيود له كذا وعليه كذا، فيضطر ليبيع من أسهمه تلك بسعر 12 دولارًا للسهم، أي لبيع 3,250 سهمًا ليسدِّد ما عليه للبنك، ولكن المفاجأة أنه في هذه اللحظة أصاب الآلافَ ما أصابه، فيحصل تهافت في السوق على البيع وتنتشر الأخبار بهبوط سعر سهم هذه الشركة وبالخطر على حملة هذه الأسهم، وقبل أن يجد من يشتري أسهمه بسعر 12 دولارًا تأتيه إخطارات البنك بأن سعر السهم صار مثلًا 9 دولارات، وعليه فإن أسهمه البالغة 43,105 تعادل 387,000 دولار تقريبًا، ويستحق مقابلها من البنك تسعة أعشارها أي 349,000 دولار تقريبًا، بينما القرض المقدم له 504,000 دولار، فعليه أن يسدد الفرق وهو 155,000 دولار تقريبًا، أو أن يبيع من أسهمه بهذه القيمة ليسدد للبنك. فصار عليه أن يبيع 17,222 سهمًا. ويكون سوق هذه الأسهم بحالة فوضى عارمة والكل يسارع للتخلص من أسهمه، فيزداد انخفاض سعر السهم بحدة وبشكل شبه عامودي، وهكذا إلى أن ينتهي الأمر بعرض السهم ببضعة سنتات ولا من يشتريه. ويخطر البنك هذا الشخص بأنه عليه أن يسدِّد للبنك 504,000 دولار عدا الفوائد المترتبة على هذا المبلغ، وعدا رأسماله 10,000 دولار الذي فقده، فيضع البنك يده على ممتلكاته بما يكفي لسداد المبلغ إن وُجدت. وهذا بالنسبة لمستثمر بـ10,000 دولار، فإن كان المبلغ 100,000 دولار فسيزيد المبلغ المطلوب سداده للبنك عن 5 ملايين دولار وهكذا. هذا يحصل مع عشرات آلاف الواثقين بهذه البنوك وبهذه الشركات الموعودين والطامعين بالربح الهين والسريع. وبهذا لا يفتقر الناس فحسب، وإنما تسقط الدولة بل تسقط دول بين مخالب الدولة التي سهلت لمؤسساتها ومستثمريها هذه العمليات المالية، والتي تتخذ مما جرى ذريعةً لتضع يدها على ثروات الشعوب في باطن الأرض وعلى ظهرها.
تطوير المؤامرات وتضخيم أعمال النهب المدمرة
هذا الطمع بتحقيق أرباح هائلة عبر عمليات مالية سريعة، حفَّز كبار الأثرياء إلى التعاون لإنشاء صناديق مالية ضخمة تمكِّنهم من التحكُّم بحركة السوق وبالأسعار بشكل يضمنون فيه الأرباح، فظهر في مطلع خمسينات القرن الفائت ما يسمى صناديق التحوُّط (Hedge Funds) وهي صناديق يشترك فيها حوالى500 مستثمر بما لا يقل عن نصف مليون دولار للواحد، وتسلَّم إدارتها لمدير مالي من كبار الأثرياء الخبراء بحيث لا يُراجع ولا يُلام في تصرفاته، ووظيفتها القيام بأعمال الاستثمار المالي مضمونة الربح كما يدل اسمها، وقد ازدادت هذه الصناديق عبر العالم لتتلاعب بالمال والنقد والأسهم والفوائد والأسعار والاقتصاد، وليس هناك أحصاء موثوق لعددها ولكنها تزيد عن عشرة آلاف. وبهذا كان التوجه في العالم إلى منع المال عن الاقتصاد الحقيقي المنتِج وإلى فورة في الاقتصاد الطفيلي؛ ما أدى إلى اضطراب في الأسعار وتقلبات، وإلى خسائر ومخاوف لدى العاملين والمنتجين في الاقتصاد الحقيقي، وكذلك لدى العاملين والمضاربين في مجالات الاقتصاد الطفيلي غير الحقيقي، فكان هذا فسادًا كبيرًا أصاب العالم كله ويرزح تحت ظلمه ونيره كل فرد في العالم. ودفعت مخاطر فقدان الاستقرار النقدي وتقلُّبات أسعار كل شيء إلى إيجاد وسائل للتحوُّط والتخفيف من هذه المخاطر، فراجت تجارة ما يسمى بالمشتقات المالية (Financial Derivatives)، التي تعاظمت وتحول العالم معها إلى كازينو قمار كبير تصب عائداته في خزائن الأثرياء المتحكمين بالاقتصاد والأسواق.
المشتقات المالية بدع شيطانية جعلت العالم كازينو قمار
ومعنى المشتقات المالية هو عقود مالية (فرعية) مبنية على عقود أساسية موضوعها أدوات استثمارية كأسهم شركات أو سندات… أو تجارة حقيقية كتسليم قمح أو حديد أو نفط… أو ذهب أو نقود، وهذه العقود ليس فيها تسليم سلعة ولا وجود للسلعة أصلًا عند بائعها، وإنما تتم تسوية في تاريخ تنفيذ العقد حيث يكون أحد طرفي العقد رابحًا فيها للفرق بين سعر السلعة المنصوص في العقد وسعرها في الأجل المضروب في العقد للتنفيذ. فإذا افترضنا أن تاجرًا أو مقاولًا تعهَّد بتسليم 1000 طن من الحديد لمستفيد بعد شهر وعلى أساس أنه يشتريه من السوق بسعر 1000 دولار للطن، فإن تقلُّبات الأسعار وقابليتها للارتفاع تجعله يحجم خوف الخسارة، فقد يخشى المقاول أو يتوقع ارتفاع الحديد في السوق عند موعد تسليمه مثلًا إلى 1100 دولار للطن، وسيخسر أو يعجز عن الالتزام، وليحتاط ضد الخسارة يلجأ إلى العقد (الفرعي) فيشتري من البورصة، أو ممن يبيع بعقد من عقود المشتقات المالية، 1000 طن بسعر بسعر 1000 دولار للطن، وعلى أن يكون تنفيذ التسليم بنفس أجل تسليمه هو للكمية بالعقد الأصلي. فإذا حلَّ أجل تسليمه الحديد للمستفيد وكان السعر في السوق 1050 دولارًا للطن، فهذا يعني خسارته 50,000 دولار؛ ولكن عقده المستقبلي في سوق المشتقات يقضي بأن يستلم الألف طن من ذلك البائع؛ ولكن ذلك العقد ليس فيه سلعة ولا استلام ولا تسليم، وإنما فيه تسوية، والتسوية هي أن يحصل من البائع على 50,000 دولار، لأن العقد نص على استلام 1000 طن بسعر 1000 دولار للطن، وبما أن الطن ارتفع 50 دولارًا، فتكون العملية هي فقط ربح 50,000 دولار. وبهذا يكون المقاول بهذا العقد قد احتاط من الخسارة التي لحقت بغيره.
إلا أنه قد يحصل أن يهبط السعر في السوق إلى 950 دولارًا للطن مثلًا، وفي هذه الحالة فإن البائع في سوق المشتقات باع للمقاول بسعر 1000 دولار، وبما أنه لا يوجد في هذا العقد أي سلعة حقيقة وإنما هي عملية مقامرة، تكون التسوية بأن يحصل البائع من المقاول على 50,000 دولار، ولكنه سيوفرها من سوق الحديد الحقيقي الذي هبط فيه السعر 50 دولارًا للطن؛ لأجل هذا يدافع المروِّجون لهذا المبتكرات عنها بذريعة أنها احتياط ضد المخاطر. بينما الحقيقة هي أن هذه المعاملات وضروبها قد طغت على المعاملات المالية وصارت لها بورصاتها وأماكنها المفصولة تمامًا عن أي تحوُّط أو عقد أصلي. ثم تفتَّقت عبقريات هؤلاء الشياطين عن ابتكارات أخرى على سبيل تشجيع هذه المقامرات فابتكروا ما يسمى عقد الخيار؛ خيار البيع أو خيار الشراء. فعلى سبيل المثال، المقاول المذكور أعلاه، يجد أنه في حال ارتفع سعر الحديد في السوق فمن مصلحته إنفاذ العقد لتعويض خسارته؛ ولكن في حال هبوط السعر في السوق فهذا يزيد من أرباحه؛ ولكنه يخسر هذه الزيادة بسبب عقده المستقبلي في سوق المشتقات؛ لذلك نشأ عندهم عقد الخيار، وهو أن المقاول يكون له حق لإنفاذ العقد عندما يحلُّ أجله وله حق عدم إنفاذه، ولكنه بهذه الحالة عليه أن يدفع مبلغًا يتفق عليه مقابل كل طن، ولنفترض المبلغ 30 دولارًا. فيقوم المقاول بتحرير عقد لشراء لألف طن بسعر 1000 دولار للطن إلى الأجل المحدد، ويبيعه لمن يشتريه، وعند الأجل إذا ارتفع سعر الحديد في السوق فمن مصلحته إمضاء العقد، وعليه أن يدفع لشاري العقد 30,000 دولار، أما إذا انخفض السعر فمصلحته بعدم إنفاذ العقد بل سيشتري الحديد من السوق ولكن عليه أن يدفع الـ 30,000 دولار.
وقد دخلت هذه العقود والخيارات في شتى المعاملات؛ في أسهم الشركات وأسعار العملات وفي التغيرات التي تطرأ على الفوائد، إضافة إلى أسعار السلع والخدمات وكل ما يمكن أن يخطر بالبال، وتعقدت، وتعقدت حساباتها، ونشأت مؤسسات كبيرة عليها، وصارت بحاجة إلى متخصصين في الرياضيات لحساباتها ولدراسة الأسواق وحركات التغيُّر في الأسواق وفي الأسعار، ووضع لأجل ذلك معادلات رياضية بعيدة جدًا عن الدقة أو الإصابة في محاولات يائسة ولا نفع فيها لتوقع الأسعار وحركة المال في آجال محددة.
الإسلام يحرم عقود المشتقات المالية كلها
هذه العمليات ليس فيها قبض للسلعة ولا للمال، ولا وجود فيها للسلعة أصلًا؛ لذلك فهي محرمة، ولا سبيل إلى قبولها شرعًا وإن أفتى بها أو برَّرها بعض المهزومين أمام الغرب وأفكاره، وهي ابتكارات أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة وموظفيهم الخبراء الذين يتعاونون على الآثام فيُنشئون الصناديق الضخمة ويَدخلون بها الأسواق، ولضخامة إمكاناتهم وخبرتهم ونفوذهم يؤثرون بحركة السوق ويفتعلون تغيير الأسعار برفع سلع معينة أو خفضها، فيضخُّون ثروات البلاد وأموال الناس إلى صناديقهم، وتساعدهم في ذلك الدول الرأسمالية ذات النفوذ بما تفرضه من قوانين وسياسات اقتصادية ومالية تحت عناوين اقتصاد السوق وحرية السوق المطلقة والانفتاح وتشجيع الاستثمار. وقد صار هذا النوع من الاقتصاد الطفيلي يؤثر على الأسعار الحقيقية للأشياء وبالتالي على مصائر الشعوب وثرواتهم.
كان من نتائج إتاحة هذه الأنماط من الفكر الاقتصادي الحدُّ من النشاط الاقتصادي المنتج وإضعافه بشكل كبير، وشجَّعت كبار الأغنياء على سلوك هذه الأساليب لأجل الربح السريع والضخم من غير اكتراث بآثاره الوخيمة على البشر، بل وشجعت على إيجاد أفكار جديدة وابتكار أساليب جديدة لجعل الأموال في العالم تتحرك باتجاه واحد ودائم هو إلى صناديقهم. وصارت معالجة البطالة بإيجاد فرص عمل تعني أيَّ عمل يحصل منه العامل على المال بغير أي اكتراث بواقع هذا العمل، فانعدمت القيم الروحية أو المعنوية كما انعدمت القيمة الخلقية، وارتفعت نسبة الأعمال التي لا تنتج للناس شيئًا سوى الضرر بعد الضرر، فكان وجود هذه الأعمال أشد ضررًا على المجتمع من البطالة أو الغلاء أو اضطراب النقد والأسعار، وضررها يطال العالم بأسره.
الرأسمالية نظام فاحش منتن، ونُذُر انفجاره تلوح وتقترب بسرعة
إن الاقتصاد القائم اليوم على النقود الورقية غير المغطاة بالذهب وعلى الربا المتفشي في العالم وعلى الشركات المساهمة أدى إلى هيمنة الاقتصاد المالي الطفيلي على الاقتصاد الحقيقي، وإلى ضرب الاستقرار النقدي، وإلى اضطراب حركة الاقتصاد في العالم وخسائر كبيرة لصالح حيتان المال الجشعين، يضاف إلى ذلك العمليات المقصودة للتلاعب بأسعار سلع رائجة كالذهب والنفط وغيرها والتي ينتج عنها تقلبات مفاجئة في أسعار السلع والنقود، هذا كله أدى إلى خوف من التجارة الحقيقية فتراجعت أعمال الاقتصاد الحقيقي لصالح الاقتصاد الطفيلي أو الوهمي أو الرقمي الذي صار يشكل أكثر من 98% من حجم الاقتصاد الكلي بينما يشكل الاقتصاد الحقيقي أقل من 2% منه، ولقد تتابعت الأزمات الاقتصادية والخسائر الضخمة خلال العقود الماضية، وإن نذر انفجار عالمي أضخم من كل ما سبق يلوح ويصفق.
هذا غيض من فيض من فحش النظام الاقتصادي الرأسمالي والنَّتن الذي آل إليه، ومع ذلك ينعق بعض المهووسين بالغرب وبأنظمته وبعض الرويبضة بذكر هذا النظام باعتباره عبقريةً ونتاجَ تطور وعلم وإبداع. ويقولون إنه استثمار، وما هو باستثمار، ولكنهم بين كذَّاب أَشِر ومخدوع ومخادع، فيقولون إنه استثمار غير مباشر، وما هو إلا خداع وتجارة بالأوهام، هو قمار تصاغ له قوانينه وتقام له مبانيه ومنشآته، وقد انتشر وتشعب هذا النوع من القمار حتى صارت له بورصاته العالمية والمحلية، وصار العالم بهذه الممارسات كازينو قمار كبيرًا، تتحرك فيه الأموال بمئات المليارات، وليس ثمة مال وإنما هي أرقام؛ ولذلك سُمِّيت هذه العمليات المشتقات المالية، وسُمِّي هذا الاقتصاد الاقتصاد الطفيلي، وهو الأعمال التي تنشأ وتنمو بجانب الاقتصاد الحقيقي. إلا أن ما أنتجه النظام الرأسمالي من ألاعيب وحيل جعل هذا الاقتصاد الطفيلي ينمو ليصبح أكبر من الاقتصاد الحقيقي في العالم بكثير، وغزا فساده وضرره كل جوانب الحياة في كل زوايا العالم؛ ليأكل أموال الناس بالباطل ولينهب الثروات، وينشر القلق والفزع والاضطراب عند كل الناس، ويضيع الحقوق ويقضي على كل مكرمة وفضيلة، وإن ما بلغه هذا النظام من ظلم وجور وقضاء على الحياة وإنسانية الإنسان لينذر بكوارث لا قِبل للبشر بها، ولا ينقذ منها إلا العودة إلى الله سبحانه، وإلى أمره ونهيه وما أنزله ليحيا عليه الناس. قال تعالى في سورة الروم: (وَإِذَآ أَذَقۡنَا ٱلنَّاسَ رَحۡمَةٗ فَرِحُواْ بِهَاۖ وَإِن تُصِبۡهُمۡ سَيِّئَةُۢ بِمَا قَدَّمَتۡ أَيۡدِيهِمۡ إِذَا هُمۡ يَقۡنَطُونَ ٣٦ أَوَ لَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقۡدِرُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ ٣٧ فََٔاتِ ذَا ٱلۡقُرۡبَىٰ حَقَّهُۥ وَٱلۡمِسۡكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجۡهَ ٱللَّهِۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ٣٨ وَمَآ ءَاتَيۡتُم مِّن رِّبٗا لِّيَرۡبُوَاْ فِيٓ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ فَلَا يَرۡبُواْ عِندَ ٱللَّهِۖ وَمَآ ءَاتَيۡتُم مِّن زَكَوٰةٖ تُرِيدُونَ وَجۡهَ ٱللَّهِ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُضۡعِفُونَ ٣٩ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ ثُمَّ رَزَقَكُمۡ ثُمَّ يُمِيتُكُمۡ ثُمَّ يُحۡيِيكُمۡۖ هَلۡ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَفۡعَلُ مِن ذَٰلِكُم مِّن شَيۡءٖۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ ٤٠ ظَهَرَ ٱلۡفَسَادُ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ بِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِي ٱلنَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعۡضَ ٱلَّذِي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ ٤١ قُلۡ سِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلُۚ كَانَ أَكۡثَرُهُم مُّشۡرِكِينَ٤٢).
النظام الاقتصادي الإسلامي نظام الهدى الرباني المنقذ للبشرية:
إن الرأسمالية نظام منبثق من عقيدة كفر هي عقيدة فصل الدين عن الحياة والدولة؛ لذلك فهي وكل ما انبثق عنها من أفكار ونظم وقوانين نظام كفر يحرم أخذها أو تطبيقها أو الدعوة إليها. فشركاتها المساهمة محرمة شرعًا لأنها مخالفة لأحكام الشركات في الإسلام، فالشركة في الإسلام «هي عقد بين اثنين أو أكثر يتفقان فيه على القيام بعمل مالي بقصد الربح»، والعقد فيها يجب أن يكون منصبًا على العمل الذي يقوم به طرفا العقد أو أحدهما، ولا يصح العقد بغير طرف يقوم بالعمل وهو ما يمثل البدن في العقد. أما الشركة المساهمة «فهي عقد بمقتضاه يلتزم شخصان أو أكثر بأن يساهم كل منهم في مشروع مالي، بتقديم حصة من مال لاقتسام ما قد ينشأ من هذا المشروع من ربح أو خسارة»، وبحسب هذا التعريف لا يوجد عقد شرعي أصلًا فالشركة من أساسها باطلة، لأن العقد الشرعي يجب أن يكون فيه إيجاب وقبول، وهنا لا يوجد إلا قبول من الطرفين ولا يوجد إيجاب، وكذلك من شروط الشركة شرعًا وجود البدن أي الذي عليه العمل، فهذا يجب أن يكون موجودًا كطرف في العقد، بينما أطراف العقد في الشركة المساهمة يمثلان المال فقط ولا يوجد البدن الذي يمثل الإيجاب ويقوم بالعمل، وعليه فالشركات المساهمة باطلة شرعًا من أساسها وتفتقد لركن الإيجاب. وبذلك فقد قضى الإٍسلام على كل هذه الشرور ومتفرعاتها واستأصلها من أساسها، وحرَّم هذه الشركات وحرَّم التعامل بأسهمها، وبما تفرَّع عنها من عقود خيار.
وكذلك استأصل الإسلام بنظامه وأحكامه رأس البلاء وأس الشرور في كل هذه العقود والمعاملات وهو الربا، فقد حرَّمه الإسلام تحريمًا باتًّا مهما كانت نسبته قليلةً أو كثيرةً. ومال الربا مال حرام قطعًا، ولا حقَّ لأحد في ملكيته، ويردُّ لأهله إن كانوا معروفين. ولفظاعة الربا وصف الله آكليه بالذين يتخبطهم الشيطان من الـمسِّ حيث قال جل من قائل في سورة البقرة: (ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ ٱلرِّبَوٰاْ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مِنَ ٱلۡمَسِّۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡبَيۡعُ مِثۡلُ ٱلرِّبَوٰاْۗ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْۚ فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمۡرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِۖ وَمَنۡ عَادَ فَأُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ٢٧٥). ولشدة حرمة الربا أعلن الله الحرب على آكليه حيث قال: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَوٰٓاْ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ٢٧٨ فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ فَأۡذَنُواْ بِحَرۡبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَإِن تُبۡتُمۡ فَلَكُمۡ رُءُوسُ أَمۡوَٰلِكُمۡ لَا تَظۡلِمُونَ وَلَا تُظۡلَمُونَ٢٧٩). وكذلك ما في الشركة المساهمة من كونها محدودة المسؤولية، ويضاف إلى ذلك قوانين الإفلاس التي تحمي أصحاب رؤوس الأموال الذين يبدعون في نهب أموال الناس ويعلنون خسارة مؤسساتهم وإفلاس شركاتهم بحيث تضيع أموال المقرضين وسائر ذوي الحقوق، هذه كلها قوانين محرَّمة ومناقضة لأحكام الشرع كل المناقضة. فقد أوجب الشرع أداء الحقوق كاملة لأصحابها غير منقوصة، ولا يجوز اقتطاع شيء منها. فقد روى البخاري من طريق أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أخذ من أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله»، وروى أحمد من طريق أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتؤدُّنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يُقتصَّ للشاة الجماء من القرناء تنطحها». فأكد الرسول صلى الله عليه وسلم على وجوب أداء الحق كاملًا في الدنيا وأن من لم يؤده في الدنيا فإنه سيؤديه يوم القيامة. وهذا وعيد لمن يأكل الحق. وقد جعل مطلَ الغني وتأخيره سداد الدين ظلمًا، فقد روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مطل الغني ظلم»، فإذا كان تأخير الأداء ظلمًا فكيف يكون أكل الحق وعدم سداد الدين، إنه أكثر ظلمًا وأشدُّ عقوبةً؛ لذلك يحرم الاقتصار على إعطاء أصحاب الحقوق والدائنين ما تبقَّى في الشركة المساهمة بعد خسارتها، ويجب أن يُعطَوا جميع حقوقهم وديونهم كاملةً غير منقوصة.
وكذلك ما بيناه بالنسبة لنظام النقد الورقي الإلزامي فقد حرمه الإسلام، وأقر النظام المعدني؛ حيث جعل الذهب والفضة هما المقياس النقدي الذي تقاس به أثمان السلع وأجرة الجهود والخدمات.
إن الذي يخلِّص المسلمين والعالم من فساد هذا النظام الرأسمالي الاقتصادي وشروره هو نظام الإسلام ومنه النظام الاقتصادي الإسلامي الذي ينقذ الناس جميعًا على السواء، مسلمين وغير مسلمين، فقراء وأغنياء، وبذلك يُقضى على الجشع والظلم والقهر والفقر، وتقطع أيدي حيتان المال ووحوشه وخططهم وابتكاراتهم الشيطانية التي جعلت الحياة جحيمًا وفنونًا في قتل الشعوب وقضت على المجتمعات وقيمها الإنسانية.
وهم يدركون بيقين أنهم لا خيار لهم إلا أحد اثنين: إما الاستعمار وإما الموت، وهذا ما يحفزُّهم للتداعي من كل جهات الأرض ليمنعوا عودة حكم الإسلام ودولته؛ لأنه سيكفُّ يد هيمنتهم واستعمارهم، وفي هذا نهاية مبدئهم وسقوط أنظمتهم، بل إن بداية قطع أذرع هذا الأخطبوط الاستعماري سيؤدي إلى تفكك أنظمتهم من داخلها وسقوطها تحت وطأة أنظمتهم وعلى رأسها النظام الاقتصادي الاستعماري والاستغلالي نفسه.
ولذلك كان من أهم مضامين الصراع الفكري مع الكفر المهيمن وأجداها، بيان النظام الاقتصادي الاسلامي وأحكامه الربانية المعجزة في معالجة شؤون الملكية وعلاقات الاقتصاد، وفضح النظام الرأسمالي الفاشل والفاسد ورموزه والمروِّجين له، وإزالة الجهل الذي وقعت فيه الأمة بسبب الغزو الفكري الغربي وحكام عملاء ومفتين جهالًا يفتون في هذه القضايا وينظِّرون بغير علم ولا فقه. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. [يتبع]
2022-10-07