«لاَ يَزَالُ اللَّهُ يَغْرِسُ فِي هَذَا الدِّينِ غَرْسًا يَسْتَعْمِلُهُمْ فِي طَاعَتِهِ».
2022/08/01م
المقالات
2,392 زيارة
– أخرج ابن ماجة في سننه بسند حسن أن أَبَا عِنَبَةَ الْخَوْلاَنِيَّ، وَكَانَ قَدْ صَلَّى الْقِبْلَتَيْنِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لاَ يَزَالُ اللَّهُ يَغْرِسُ فِي هَذَا الدِّينِ غَرْسًا يَسْتَعْمِلُهُمْ فِي طَاعَتِهِ«.
يؤيد هذا الحديث أحاديث أخرى تؤكد هذا المعنى، من مثل ما رواه أبو داود عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا« ومن مثل ما رواه ابن ماجة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى قَوَّامَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ لاَ يَضُرُّهَا مَنْ خَالَفَهَا«… وهذا الحديث هو من مبشرات الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة أنه لن يزال لها مؤيد من الله ينصرها ويحفظ لها دينها إلى قيام الساعة؛ وذلك بقوله: «لاَ يَزَالُ« ويدلُّ كذلك على أنه تمر على الأمة فترات متقطعة من البعد والضعف والتفرق، وأنه متى حدث مثل هذا فلن يزال الله يبعث من هذه الأمة من يقوِّم الاعوجاج ويصحح الأفهام، ويستأنف لها ما انقطع من حبل شرعها، ويعيده إلى نصابه ويهديها إلى الصراط المستقيم. ويشير إلى أن استمرار هذا الدين على ما نزل عليه هو الحالة الأصلية له، أما ما يطرأ عليه من محاولات داخلية وخارجية تريد تغييره أو تبديله أو تحويله، أو تحريفه إنما هو طارئ سرعان ما يزول…
وهو يدل على أنه هناك دائمًا من أمة محمد من يوفقه الله لأن يأخذ مهمة التجديد والإصلاح، فالخير في هذه الأمة إلى يوم القيامة… وهو سبحانه وتعالى عندما ينسب الغرس إلى نفسه، فإنما يدل على تعاهده ورعايته وهدايته والتأييد له والتوفيق به حتى يؤتيَ أكله وتطيبَ ثمرته، ويعمَّ خيره. وأكثر من ذلك حتى يستعيدَ الدين دوره في إقامة أمر الله واستقامة الحياة عليه، وحتى يعمَّ أهله وغير أهله… وهو يشمل أنه، من حيث الخلق سيوجد بقدرته تعالى، ومن حيث الهداية سيمكِّن الله له من أهل الإيمان وفقه الواقع والقدرة على الاستنباط وحسن القيادة والتبصُّر بالواقع السياسي من يقوم بهذا الأمر… وهو يشير إلى أن الأمة عندما تصل إلى أوضاع من السوء والفرقة والضعف، كما نحن عليه اليوم، فعليها أن تفتش عن المخرج من دينها لا من خارجه، أي عليها أن تفتش عن الغرس الذي غرسه الله لهذا الزمان، وهذا الغرس عليه أن يفتش عن أتباع الهدى، وعلى الأمة أن تفتش على هؤلاء ليكونوا معًا في إحياء الدين وتجديد مفاهيمه على ما كان عليه أول نزوله.
إن هذا الغرس، لا شك أنه سيأخذ مهمة أن يحافظ على إرث النبوة علمًا وعملًا، وتطبيقًا ونشرًا… وأن يكون أفرادًا أو جماعات، يعملون على إعادة الإسلام إلى ما كان عليه يوم نزل، ويزيلون عنه كل ما علق به مما ليس منه، ويعيدونه إلى مضائه وصفائه ونقائه، نعم قد يكون التجديد بأفراد حينما يكون الأمر لا يحتاج إلا إلى أفراد، ويكون بجماعات حينما يكون السوء والضعف قد كبر وطمَّ وعمَّ حتى لا يقدر على التغيير أفرادٌ وإنما جماعات، كما هو في واقعنا اليوم. وهذا يذكرنا بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الإسلام بدأ غريبًا، وسيعودُ كما بدأ، فطُوبَى للغُرَبَاءِ. قيل: ومن الغُرَباءُ؟ قال: «النُزّاعُ من القبائلِ» وجاء في الدرر السنية في الموسوعة الحديثية عند شرح هذا الحديث: «واجَهَ الإسلامُ في بِداياتِه صُعوباتٍ وشَدائدَ، وهذا شأنُ الدِّينِ الحَقِّ. وفي هذا الحَديثِ يقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «إنَّ الإسلامَ بدَأَ غريبًا» حيثُ خرَجَ وَسْطَ الجَهلِ، وطرَحَ عاداتِ الجاهليَّةِ، فاسْتَغرَبَه النَّاسُ، «وسيَعودُ كما بدَأَ»؛ حيثُ انتِشارُ الجَهلِ، ورُجوعُ النَّاسِ إلى عاداتِ الجاهليَّةِ؛ وابتعادُ الناسِ عَنِ الدَّينِ؛ «فطُوبى للغُرباءِ»، أي: فالجنَّةُ لأولئك المسلِمين الَّذين قَلُّوا في أوَّلِ الإسلامِ، وسيَقِلُّون في آخرِهِ، وإنَّما خصَّهم؛ لِصَبْرِهم على أذِيَّةِ الكُفَّارِ وأهْلِ الابتداعِ، «قيل : ومَنِ الغرباء؟» أي: عرِّفْنا بِهم وبِصِفاتِهم قال: «النُّزَّاعُ مِنَ القَبائلِ»، أراد بذلك المهاجرين الَّذين هَجَروا أوطانَهم إلى اللهِ، ويَكونونُ على الدِّينِ الحَقِّ والسُّنَّةِ الصَّحيحةِ، ويَسيرون على ذلك بعدَ أنْ أفسَدَ النَّاسُ السُّننَ والشَّرائعَ وبدَّلوها، وسُمِّيَ الغريبُ نازعًا ونَزيعًا؛ لأنَّه نزَعَ عن أهْلِه وعَشيرَتِه وبَعُدَ عنهم، وفي رواية: «قالوا: يا رسولَ اللهِ، ومَن الغُرباءُ؟ قال: الَّذين يصلِحون عندَ فَسادِ النَّاسِ»، أي: يكونونَ على الدِّينِ الحقِّ والسُّنَّةِ الصَّحيحةِ، ويَسيرون على ذلك بعدَ أنْ أفسَدَ النَّاسُ السُّننَ والشَّرائعَ وبدَّلُوها، وهذا مِن دَلائلِ نُبوَّتِه صلَّى الله عليه وسلَّمَ؛ فإنَّ الدِّينَ قدْ رَقَّ في قُلوبِ النَّاسِ ويَبتعِدون عنه كلَّما مَرَّ الزَّمانُ. وفي الحديث: بيانُ حُسنِ جَزاءِ مَن صَبرَ عند الابتلاءِ والشِّدةِ، والفتنةِ في الدِّينِ. وفيه أنَّ على المؤمنِ أنْ يُوطِّنَ نفْسَه على الصَّلاحِ إذا انتشرَ الفسادُ ولا يَضيرُه فسادُ الناسِ».
وأما ما يستفاد من هذا الحديث ليومنا هذا فمن أصدق ما كتب في موضوع تجديد الدين هو ما ذكره المودودي رحمه الله حين ذكر مواصفات المجدِّد لزماننا هذا،
عرّف أبو الأعلى المودودي في كتابه (موجز تاريخ تجديد الدين وإحيائه، واقع المسلمين وسبيل النهوض بهم) التجديد بأنه: «إعادة أمر الدين كما كان عليه، يوم جاء من عند الله لم تعكره البدع والأهواء». والمجدِّد بأنه «كل من أحيا معالم الدِّين بعد طمسها، وجدَّد حبله بعد انتقاضه» وذكر الحاجة إلى المجددين وبأنه لا يكفي لتجديد الدين في زمن من الأزمان إحياء العلوم الدينية فحسب، بل يلزم لذلك إنشاء حركة شاملة جامعة تشمل بتأثيرها جميع العلوم والفنون. وأشار إلى أن الدين الإسلامي كان ولايزال في كل عصر بحاجة إلى رجال أقوياء يأتون ويسدِّدون خطى الزمان ويوجهون مسيره إلى الإسلام، سواء أكان عملهم في ذلك محيطًا شاملًا أم كان على بعض نواحي الأمر مقتصرًا، وهؤلاء هم الذين يُدعَون بـ «المجدِّدين».
وشرح المودودي الصفات التي يجب أن يكون عليها المجدِّد. فالمجدِّد لا يكون نبيًّا، ولكنه يكون في طبعه ومزاجه أقرب إلى مزاج النبوة. ومن الخصائص التي لابد أن يتصف بها المجدِّد: الذهن الصافي، والبصر النفاذ، والفكر المستقيم بلا عوج، والقدرة النادرة على تبيُّن سبيل القصد بين الإفراط والتفريط ومراعاة الاعتدال بينهما، والقوة على التفكير المجرَّد من تأثير الأوضاع الراهنة والعصبيات القديمة الراسخة على طول القرون، والشجاعة والجرأة على مزاحمة سير الزمان المنحرف، والأهلية الموهوبة للقيادة والزعامة، والكفاءة الفذَّة للاجتهاد ولأعمال البناء والإنشاء، ثم كونه – مع ذلك كله – مطمئنًا قلبه بتعاليم الإسلام وكونه حقًا في وجهة نظره وفهمه وشعوره، يميِّز بين الإسلام والجاهلية حتى في جزئيات الأمور ويبيِّن الحق، ويفصله عن ركام المعضلات التي أتت عليها القرون… فهذه هي الخصائص التي لا يمكن أن يكون أحد مجدِّدًا بدونها، وهي هي الصفات التي تكون في الأنبياء والمرسلين مكبرة مضاعفة!
هذا وقد حدد المودودي خطوات يجب على المجدد أن يقوم بها منها: تعيين مواضع الفساد التي يجب أن تعالج… السعي لإحداث الانقلاب الفكري والنظري، أي تغيير أفكار الناس وطبع عقائدهم ومشاعرهم ووجهة نظرهم الخلقية بطابع الإسلام… بعث العقلية الإسلامية الخالصة من جديد… ترشيح رجال يصلحون أن يكونوا زعماء من الطراز الإسلامي… الاجتهاد في الدين… الكفاح والدفاع، ومعناه مناضلة القوة السياسية الناهضة لاستئصال الإسلام وكبته، وكسر شوكتها تمهيدًا لسبيل لنهوض الإسلام وانبعاثه… إحياء النظام الإسلامي، وذلك بأن تنتزع من أيدي الجاهلية مقاليد السلطة، وتعاد إقامة الحكم فعلًا على النظام الذي سماه الشارع عليه الصلاة والسلام بالخلافة على منهاج النبوة… السعي لإحداث الانقلاب العالمي ومعناه أن لا يكتفي بإقامة النظام الإسلامي في قطر واحد أو في الأقطار التي يقطنها المسلمون فحسب، بل تبعث حركة عالمية قوية تكفل انتشار الدعوة الإسلامية الإصلاحية والانقلابية في عامة سكان هذه الأرض، فتكون حضارة الإسلام هي الحضارة الغالبة في الأرض…
هذا الكلام الرائع من المودودي هو كالوصفة الطبية، فأين المداوي؟! وهل يوجد على أرض الواقع من يتمثَّل التجديد فيه، أم أن الأرض خلو، نعم هناك والحمد لله من تمثَّلت فيه، بتوفيق الله ورعايته، المواصفات الشرعية التي تؤهله لهذه المهمة التي لا تعلو عليها مهمة أخرى، والتي عليها قيام الدين كله، وعلى ما كان عليه يوم نزل، وهو «حزب التحرير» الذي قام عندما قام يريد أن يقيم خلافة راشدة على منهاج النبوة. وهي الفرض الجامع الأول الذي يأثم المسلمون كلهم لعدم إقامتها في حياتهم، والتي بها وحدها تستقيم حياتهم كلها على دينهم… والذي سار على الطريق نفسه الذي سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقام هذا الأمر،؛ وهذا ما مكَّنه من إعداد شبابه على الطريقة نفسها التي أعد بها الرسول صلى الله عليه وسلم صحابته، وتبنَّى طريقة الاجتهاد والاستنباط لأحكام عمله على نفس طريقة الإسلام في الاجتهاد، ولم يتأثَّر أبدًا بالواقع بل عمل هو على التأثير بالواقع وتغييره بحسب الحكم الشرعي، وتابع الأوضاع السياسية داخليًّا وخارجيًّا حتى صار ملمًّا بها ماهرًا في كشف ألاعيبها، جاعلًا الأمة الإسلامية كلها مجال دعوته، مبعدًا عن نفسه أي نوع من الخضوع للقطرية أو العصبية طارحًا للدعوة عالميًّا بحيث أنها تكمِّل فعلًا ما جاء به الرسول وثبَّته القرآن له من أن دعوته عالمية إنسانية شاملًا الأمة كلها بعمله، حتى إنه استطاع أن يوصل دعوته إلى المسلمين في كل بلاد العالم، وتجاوز ذلك إلى من يدخل الدين على يديه، والذي سيكون دخولَ أفواجٍ بعد إقامة الأمر… وإن الأمر المطمئن كثيرًا هو أنك تجد هذه الجماعة قد مرَّت بأصعب الأوقات وبأعسر الظرف وأوذيت وقلَّ نصيرها وصبرت وتحمَّلت كما تحمله سابقو هذه الأمة، ومن قبلهم الأنبياء… تسأل الله أن يعينها على المضي على العزيمة والثبات على الرشد. وهي دعوة، لولا إعانة الله لها وتأييدها لما استمرت، فهي بفضل الله وتيسيره وتوفيقه قد وجدت واستمرت وهي كما تسأله النصر والظهور تنتظر منه سبحانه بمنِّه وكرمه أن يجيب دعوتها ويجعلها من خلائف الأرض وأن يمكِّن لها في الأرض ويجعلها سببًا في إقامة الدين. وتستغفر ربها بكلمات مضيئة نزلت من تحت العرش: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ إِن نَّسِينَآ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَيۡنَآ إِصۡرٗا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَآۚ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ.. )
نعم، إن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يقول: «لاَ يَزَالُ اللَّهُ يَغْرِسُ فِي هَذَا الدِّينِ غَرْسًا يَسْتَعْمِلُهُمْ فِي طَاعَتِهِ«. فهذا معناه أن الله يطلب أن يبادر المسلمون، كل المسلمين، كل بحسب طاقته وإمكاناته ومؤهلاته لأن يكون من هذا الغرس… وكم يكون هذا الأمر مطمئنًا عندما يطلب الله من المسلمين أمرًا جللًا، ومن ثم يجدون أن هذا الأمر قد يسره الله عليهم بوجوده وبرعاية الله له، وأنه قد نما وتجذَّر، وأنه قد دخل في نسيج الأمة ورصيدها بشكل ينبئ بالظهور والتجديد، مصداقًا لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم عَنْ أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «بَشِّرْ هَذِهِ الأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الآخِرَةِ لِلدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الآخِرَةِ نَصِيبٌ«.
نعم إن إرهاصات النصر تبدو قريبة، يحس بها عامة المسلمين بشكل عام، ويحسها أصحاب الدعوة الحقة، أبناء هذه المهمة التجديدية، قرب وقوعها من غير قدرة على التحديد؛ لأن موعد النصر وصورته العجائبية لا يعلمها إلا الله، بيد أننا إذا كنا لا نعلم متى يكون النصر ولكننا نعلم أننا على الطريق الموصل إليه… وإذا أراد الله نصر دينه هيَّأ له أسبابه، وكلنا يرى بأم عينه كيف تتحرك الأحداث على المسرح الدولي بهذا الاتجاه.
2022-08-01