أمين مصطفى – الأردن
العملات الرقمية، ومسمَّياتها الأخرى مثل: النقود الرقمية، أو النقود الإلكترونية، أو العملات الإلكترونية أو العملات المشفَّرة… هي نوع من العملات المتاحة فقط على شكل رقمي، وليس لها وجود مادي. لها بعض الخصائص المماثلة للعملات الأخرى مثل استخدامها لشراء السلع وتبادلها، وتتَّصف العملات الرقمية بالأمان واللامركزية، أي يمكن تبادلها دون الرجوع إلى جهة مركزية.
وهي تختلف عن البنوك الإلكترونية القائمة على فكرة تحويل العمليات والإجراءات المكتبية إلى شكل إلكتروني وعن طريق الإنترنت…
إن إصدار العملات الرقمية يختلف عن إصدار العملة التقليدية. فإصدار العملة التقليدية عن طريق الصك أو طباعتها على ورق خاص وبطريقة خاصة ليتمَّ التفريق بينها وبين تلك المزوَّرة. أما العملة الرقمية فهي بحاجة إلى عملية تُسمَّى التنقيب أو التعدين minning.
فكيف أمكن تطبيق كل هذه الميزات؟ وهل هي بالفعل موثوقة يمكن الاعتماد عليها؟ ومن يقف وراءها؟ وما هو مستقبلها؟ وما رأي الشرع بهذه العملات؟
إن العملات الرقمية تعتمد على تقنية تسمى البلوكشين. ولنفهم آلية عملها، يجب فهم البلوكشين، والترجمة الحرفية للبلوكشين هو سلسة البلوكات أو سلسلة الكتل، وهي طريقة تخزين البيانات بشكل آمن ولا مركزي، فعند القيام بأي تعديل يتم إجراء عمليات التحقق والتوثيق بشكل آمن وبدون وجود سلطة مركزية. العملية الواحدة تسمى بلوك، وهذه البلوكات مرتبطة مع بعضها البعض بشكل يشبه السلسلة؛ ومن هنا جاء اسم سلسلة البلوكات.
ولتبسيط العملية، يمكن ضرب مثال تحويل مبلغ من المال من حساب بنكي إلى حساب آخر. فيجب أولًا التوجُّه إلى البنك؛ ليتأكد من صاحب الحساب ويضمن تحويل المبلغ إلى الحساب الآخر. أما في البلوكشين والعملات الرقمية، فيمكن تحويل المبلغ المراد من حساب إلى حساب من دون الرجوع إلى جهة مركزية أو طرف ثالث. يمكن التأكد من صاحب الحساب عن طريق مفتاح إلكتروني يمتلكه صاحب الحساب، وهذا المفتاح هو الطريقة الوحيدة للوصول إلى حسابه.
إن فكرة تحويل الأموال من دون معرفة هوية المرسل أو المستقبِل، ومن دون وجود طرف أو جهة مركزية تتحكم في هذه التحويلات ساعد في سهولة تحويل الأموال من دون رقابة قانونية ومن دون رسوم التحويل، وهذا من أهم أسباب انتشارها؛ فأصبحت الكثير من العمليات غير القانونية تطلب الدفع بالعملات الرقمية؛ حتى لا تتمكن الدول وأجهزتها الأمنية من ملاحقة الأشخاص، وأشهرها فيروسات دفع الفدية، التي تقوم بتشفير الملفات الموجودة على جهاز الحاسوب، ومن ثم المطالبة بدفع فدية بالعملات الرقمية. كما تنشط تبادل هذه العملات في الإنترنت العميق أو المظلم / deep web/ dark web.
ويمكن إنتاج العملة الرقمية باستخدام عملية التنقيب، وهي عملية حسابية معقدة وبطيئة تتم على أجهزة الحاسوب، وبعد ذلك يمكن الاحتفاظ بها عن طريق «محفظة إلكترونية» يمكن أن تكون على شبكة الإنترنت أو تخزينها على الجهاز الشخصي أو بطاقات الذاكرة. أيُّ عملية على هذه المحفظة بحاجة إلى المفتاح الذي يمتلكه صاحب الحساب.
واستحدثت منصات لتداول العملات الرقمية. فلو نظرنا إلى سعر عملة البتكوين، ففي عام 2011م، كان سعر البتكوين الواحد 31$. وفي 2016م مايقارب 600$. وفي 2017م وصل سعرها إلى 19,000$. وكان أعلى سعر لها ما يقارب 64000$ في عام ٢٠٢١م، ومازالت ترتفع وتنخفض بشكل كبير؛ ولهذا السبب أصبحت تغري من يحلم بالربح السريع، أو من أجل الادِّخار.
إن البتكوين هو أول عملة رقمية وأشهرها، ومع هذا لا يعرف من أسَّسها؛ حيث تمَّ الإعلان عنها تحت الاسم المستعار ساتوشي ناكاموتو، ولا يعرف هل هو شخص أم دولة أو ربما جهاز استخباراتي، ولا يعرف إن كان ياباني كما يوحي اسمه. ومع هذا فهناك الكثير من العملات الكثيرة الأخرى والتي يتم إعلان عن مؤسسها، أو من يقف خلفها. فهناك عملات مثل: الإيثيريوم Ethereum والربيل Ripple XRP واللايتكوين Litecoin. والدوج كوين Doge Coin
ومن ناحية تقنية، يمكن بسهولة إنشاء عملات جديدة؛ لكن من ناحية عملية إنشاء عملة جديدة يحتاج إلى بعض الإجراءات غير المعقدة وإلى بعض الموثوقية – إذا افترضنا وجودها – ليتمَّ إدراجها في منصات التداول. وهذه العملات الناشئة في كثير من الأحيان هي من أجل النصب والخداع، والجاذب فيها هو الربح السريع. فلو افترضنا أنها تم شراؤها بسعر 0.1$ عند الإعلان عنها، ومن ثم ارتفعت إلى 2$ فهذا يعني أن رأس المال تضاعف ٢٠ ضعفًا!. بهذا التفكير يغامر الشخص مع كل المخاوف المبرَّرة والحقيقية ويقوم بشراء تلك العملات الناشئة.
وهناك أيضًا مجال للغرر المعروف للجميع في منصات التداول، وهذا يتم عن طريق كبار المتداولين أو المؤثرين. فقصة عملة الدوج كوين معروفة عندما قام الملياردير الشهير إيلون ماسك بالتحدث عدة مرات عن تلك العملة والتغريد عنها مما أدى إلى زيادة سعرها بشكل صاروخي.
وهناك أيضًا مخاطر أمنية كبيرة مثل ما إذا تمَّ إضافة المفتاح الخاص في المحفظة، فلا يمكن إرجاع الأموال الموجودة فيها، أو إذا تمَّت سرقته فيمكن تحويل كل ما يوجد في تلك المحفظة، ويمكن معرفة كل العمليات التي تمت على المحفظة، فإذا تم معرفة صاحب المحفظة فيمكن معرفة جميع الحركات التي قام بها.
ولأنها مرتع للعمليات غير القانونية وعدم وجود آلية لمراقبتها، قامت الكثير من الدول بمنع تلك العملات. كما جاء على لسان محافظ البنك المركزي للأردن عادل شركس: «عدم وجود إطار قانوني يضمن حق اللجوء للطعن في المعاملات لدى الجهات القضائية، وعدم قدرة المتعاملين على توريثها في حال الوفاة أو فقدان الأهلية، فضلًا عن الخوف من عمليات غسيل الأموال وتمويل المنظمات الإرهابية».
ولهذا كانت بعض المحاولات لإنشاء عملة يكون سعرها ثابت، ولديها موثوقية عالية، كان أشهر تلك المحاولات عملة «ليبرا» التي تم الإعلان عنها بقيادة شركة الفيسبوك في عام 2019م لمجموعة كبيرة من الشركات العالمية مثل “فيزا» و»ماستركارد» و»إي باي». وكان من المتوقع طرحها في منتصف عام ٢٠٢٠م؛ لكن تلك المحاولة فشلت فشلًا ذريعًا؛ حيث أعلنت أغلب شركات مجموعة «ليبرا» انسحابها من المشروع. وربما سبب ذلك المشروع هو عدم نضوج الفكرة من ناحية قانونية وأمنية، فلم يكن واضحًا كيف ستمنع تمويل نشاطات إجرامية أو مدى تأثيرها على النظام المالي العالمي.
العملات الرقمية في حقيقتها هي مجرد سلعة غير مفيدة بحد ذاتها، فهي مجرد بيانات مخزَّنة على جهاز الحاسوب، ولا يوجد لها قيمة بذاتها؛ لكن تهافت الناس عليها هو من أعطى لها قيمة وسعر. فهي سلعة لا يمكن تحديد سعرها. ولا ضامن لها، وهي عرضة لعمليات النصب والاحتيال، وفيها غرر كبير؛ ولذلك فلا يجوز شراؤها للأدلة الشرعية التي تنهى عن شراء وبيع كل سلعة مجهولة، ومن الأدلة على ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ، وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ».
وفي الحقيقية فإن ابتكار خوارزميات البلوكشين من الإنجازات العظيمة والتي لها فائدة كبيرة، ولها الكثير من التطبيقات المفيدة للإنسان؛ لكن عقلية الغرب الرأسمالية القائمة على استغلال وبيع أي شيء، حتى لو لم يكن له أي قيمة تذكر. ففكرة العملات الرقمية وسهولة تحويل الأموال والأمان لا يمكن أن تمر عليها العقلية الرأسمالية مرور الكرام.
إن العالم الغربي الرأسمالي همُّه الربح المادي، وهو يعتبر الشيء نافعًا لمجرد وجود من يرغب بشرائه بغض النظر عن فائدتها أو ضررها. وهذا معلوم للكل حيث يقوم بالترويج للكثير من السلع التي لا فائدة لها تذكر، أو ربما فيها ضرر أو أذية، سواء للشخص أم للمجتمع، ويعتبرون الشخص الناجح هو من يستطيع كسب الكثير من الأموال، بغض النظر عن الطريقة مادامت لا تخالف القانون، وحتى لو فيها ضرر للمجتمع.
أما في الإسلام، فقد حرَّم الله سبحانه كل ما يضرُّ في المجتمع، فقد حرَّم الخبائث، وحرَّم ما فيه ضرر، وحرَّم ما يهدم الأسرة ويقطع الرحم، وأيضًا حرَّم الإسلام المعاملات التي فيها غَرر، كما حرَّم بيع ما لا يملك، وحرَّم الربا، وحرَّم القمار.
فالأصل فينا، نحن المسلمين، أن نطرح الإسلام السياسي والاقتصادي بقوة، و أن لا ننجرَّ وراء الغرب، وأن نفرق بين الأشكال المدنية التي لا بأس علينا إن أخذناها، وبين الحضارة الغربية التي لا يجوز أبدًا الانقياد لها. وعن أبي سعيد رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُم شِبْرًا بشبْر، وذراعًا بذراع، حتَّى لو سَلَكُوا جُحْر ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ».