بسم الله الرحمن الرحيم
عدالة الإسلام في توزيع الثروة (6):
الأحكام الشرعية التي عالجت موضوع التوزيع -2-
حمد طبيب – بيت المقدس
ذكرنا في الحلقة السابقة جزءاً من الأحكام الشرعية التي عالجت موضوع التوزيع، وسنكمل في هذه الحلقة باقي هذه الأحكام المتعلقة بهذا الموضوع:
الأمر الرابع في هذه الأحكام الشرعية هو (رعاية الدولة للملكيات العامة من حيث استغلالها وتنظيم الانتفاع منها لجميع أفراد الرعية) .
ففي تعريف الملكيات العامة يقول الإمام الماوردي في «الحاوي»: «هي ملكية جماعة المسلمين للأموال التي لا يجوز للأفراد ولا للدولة التصرف برقبتها، أو الاستفراد بمنفعتها، إذ المالك لهذه الأموال المجتمع ككل، يشترك فيها مجموع الناس شركة إباحة، ولا يجوز التصرف بها بيعاً ولا إقطاعاً ولا هبة، ولا يجوز للدولة هنا إلا تنظيم الاستفادة منها» وورد في كتاب «النظام الاقتصادي» للشيخ تقي الدين النبهاني قال: «الملكية العامة هي إذن الشارع للجماعة بالاشتراك في الانتفاع بالعين. والأعيان التي تتحقق فيها الملكية العامة هي الأعيان التي نص الشارع على أنها للجماعة مشتركة بينهم، ومنع من أن يحوزها الفرد وحده».
وتقسَّم الملكيات العامة إلى عدة أقسام هي: «ما هو من مرافق الجماعة، مثل الماء والكلأ والنار، والمعادن العد التي لا تنقطع، والأشياء التي طبيعة تكوينها تمنع من اختصاص الأفراد بحيازتها مثل الأنهار والبحار».
والدولة تقوم بواجب الرعاية تجاه هذه الملكيات العامة بما يحقق تمكين الأفراد من الانتفاع بها فرداً فرداً دون تمييز بين أحد من الرعية، مما يحقق توزيع هذه الملكيات إن كانت مما يملك أو يستهلك أو مما يحقق منافع للجميع…
والحقيقة أن الملكيات العامة ليس من السهل على الأفراد استخراجها وخاصة، إن كانت معادن داخل الأرض أو فوق الأرض مما ينطبق عليه وصف النار كالبترول، أو مما ينطبق عليه وصف الملح العدَ كالمعادن الكثيرة في باطن الأرض، وإذا ترك الأمر دون رعاية الدولة لهذه الثروة العظيمة، فإن أصحاب رؤوس الأموال والشركات الكبرى هم القادرون على الأمر، وبالتالي فإنهم يستحوذن على هذه الثروات كما هو حاصل هذه الأيام في البلاد الرأسمالية، وفي بلاد المسلمين التي تطبق الرأسمالية؛ حيث إن الدولة تمكن أصحاب رؤوس الأموال من السيطرة على استخراج هذه الثروات الطبيعية، وبالتالي يُحرم منها باقي الناس، فيزداد هؤلاء الرأسماليون غنىً على غناهم، ويزداد أولئك الفقراء فقراً فوق ما هم فيه من فقر.
فرعاية الدولة للملكيات العامة يساعد ويساهم في تفتيت الثروة بين أفراد المجتمع ويمنع تكدسها بين أيدي أناس معدودين محدودين، كما أنه يساهم في تحقيق منفعتها على أكبر قدر مستطاع من الناس. وهذا الأمر- رعاية الدولة- يفهم حكمه من أمرين؛ الأول: إن الإمام، وهو الراعي للمسلمين، قد أوجب الله عليه أمر الرعاية في كل أمر يجلب الخير للمسلمين عامة ويدفع عنهم الشر بشكل عام، فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: «… والإمام راع وهو مسؤول عن رعيته» أخرجه البخاري. والأمر الثاني: هو أن عملية استخراج هذه الثروات العظيمة يحتاج إلى طاقات ومعدات كبيرة لا يقدر عليها كل إنسان، وإذا ترك الأمر للناس فإن الأغنياء يستحوذون عليها ويحرمون منها باقي الفقراء، أو تبقى كامنة في الأرض ولا ينتفع منها أحد من رعايا الدولة. وفي كل الأمور تضيع المنفعة على الناس والأصل الشرعي هو أن هذه الثروة هي للجميع بدليل قوله عليه الصلاة والسلام «المسلمون شركاء في ثلاث…» أخرجه أحمد. وكلمة شركاء معناها أن المنفعة يجب أن تعم الجميع، وهذا لا يتأتى إلا بإشراف الدولة، ورعايتها في الأمور التي يصعب الانتفاع منها من قبل الأفراد مباشرة. يقول الإمام الدسوقي في (الحاشية على الشرح الكبير): «أما المعدن من حيث هو فيمكن استغلاله بإحدى طريقتين: إقطاعه لمن يستغله في نظير شيء لبيت المال، وهو إقطاع انتفاع لا إقطاع تمليك، وأن يجعل للمسلمين،بأن يقيم الوالي فيه من يعمل للمسلمين بأجرة»
ورعاية الدولة تكون بالاستخراج والإشراف على ذلك، وتوزيع الربح على جميع الأفراد، وتكون أيضاً بإنشاء محطات للحرارة والطاقة التي تولد الكهرباء، وتكون أيضاً بتسهيل وحراسة الأماكن العامة داخل الدولة بجميع أنواعها بحيث تمكن الناس من الانتفاع منها دون عائق مادي أو معنوي بسهولة ويسر كاستخدام الأنهار والبحار والطرق وغير ذلك من مرافق عامة.
الأمر الخامس من الأحكام الشرعية العملية هو ما يتعلق بموضوع النفقات؛ سواء أكانت نفقة الفرد على نفسه أم نفقته على غيره، أم نفقة الغير عليه، وما فرضه الله من نفقات الزكاة وغيرها من أموال توزع على الفقراء والمحتاجين.
فالفرد المسلم -من حيث أحكام النفقات- له حقوق وعليه واجبات فرضها الله سبحانه، ففرض عليه أن ينفق على نفسه ابتداء قال تعالى: ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ) وورد في تفسيرها في «أضواء البيان» للشنقيطي :»هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فيه امتنان من الله تعالى على خلقه مما يشعر أن في هذا الأمر مع الإباحة توجيهاً وحثاً للأمة على السعي والعمل والجد، والمشي في مناكب الأرض من كل جانب لتسخيرها وتذليلها ، مما يجعل الأمة أحق بها من غيرها . أخرج الترمذي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب العبد المؤمن المحترف». وقال عليه الصلاة والسلام «اِبدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل شيء فهكذا وهكذا، يقول: فبين يديك، وعين يمينك وعن شمالك» أخرجه مسلم، وفي رواية عند أبي داود « إذا كان أحدكم فقيراً فليبدأ بنفسه، فإن كان فيها فضل فعلى عياله» وقال عليه الصلاة والسلام: «أَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ أحبلَهُ، ثم يأتي الجبل، فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ من حَطَبِ عَلَى ظَهْرهِ، فَيَبِيعَهَا، فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَه، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ، أَعْطَوه أَوْ مَنَعُوه» أخرجه الترمذي، وأوجب كذلك عليه الصلاة والسلام أن ينفق على من تجب عليه نفقتهم، قال تعالى: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ). وقال: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ ) يقول ابن عاشور في «تفسير التحرير والتنوير»: «تذييل لما سبق من أحكام الإنفاق على المعتدات والمرضعات بما يعم ذلك، ويعم كل إنفاق يطالب به المسلم من مفروض ومندوب، أي الإنفاق على قدر السعة؛ والسعة: هي الجدة من المال أو الرزق، والإنفاق: كفاية مؤونة الحياة من طعام ولباس وغير ذلك مما يحتاج إليه”، وفرض على الولد الإنفاق على والده الفقير أو أمه. وعلى القريب الإنفاق على أقربائه ممن يرثونه. وأيضاً فرض الإسلام على المجتمع ككل الانفاق على المعسرين ممن لا يجدون قواماً أو سداد عيش قال عليه الصلاة والسلام : « مَنْ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَبَرِئَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ، وَأَيُّمَا أَهْلُ عَرْصَةٍ أَصْبَحَ فِيهِمْ امْرُؤٌ جَائِعاً، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ تَعَالَى» مسند أحمد ، كما فرض الإسلام إعطاء أصحاب الفقر والعوز من الزكاة قال تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ).
فهذه الأحكام الشرعية، سواء منها ما تعلق بنفقة الإنسان على نفسه، أم على من تجب عليه نفقتهم، أم نفقة الغير عليه، أم مساعدة المجتمع أم مساعدة أولي الأرحام، أم ما فرضه الله من أموال الأغنياء للفقراء كالزكاة، فكل هذه الأحكام يساعد ويساهم في تفتيت الثروة وتوزيعها لدى أكبر شريحة من أفراد المجتمع، ولا تبقى هذه الأموال محبوسة عند طائفة من الناس، لتتسع أبواب روافدها، وتقل أو تنعدم أبواب وصولها إلى باقي أفراد المجتمع من الفقراء كما هو حاصل في النظم الوضعية السقيمة كالنظام الرأسمالي السائد اليوم في معظم أنحاء المعمورة .
سادساً: رعاية الدولة للحاجات الأساسية، وسعيها لإيصال الحاجات الكمالية لدى أفراد المجتمع بأكبر قدر مستطاع. فالأصل في الدولة الراعية لشؤون الناس أن تضمن إشباع الحاجات الأساسية لكل من يحمل التابعية في الدولة بشكل فردي أي لكل فرد بعينه، إذا عجز عن ذلك بنفسه، أو حصل من الكوارث ما يمنعه، لا لمجموع الأشخاص بشكل جماعي. كذلك وتسعى الدولة الإسلامية في نفس الوقت لإشباع الحاجات الكمالية بأكبر قدر تستطيعه بحسب إمكاناتها.
وهذا الأمر هو من لوازم أحكام الرعاية ابتداء؛ لأن الرعاية تكون أولاً فيما يتعلق بمتطلبات العيش والاستمرارية، ومنع ما يهدد الحياة من الجوع والعطش والسكن والملبس، أي تكون من ضروريات العيش واستمرارية الحياة للفرد …فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول في الحديث: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسؤول عن رعيته، قال وحسبت أن قد قال والرجل راعٍ في مال أبيه ومسؤول عن رعيته، وكلكم راعٍ ومسؤول عن رعيته» أخرجه البخاري.
وإذا فقدت هذه الرعاية من الدولة فان الجرائم والأخلاق الرذيلة تنتشر في المجتمع بسبب الحاجات الأساسية؛ لأن الحاجات الأساسية تدفع صاحبها للإشباع الجبري ولا تنتظر لأنها ضرورية؛ لذلك يجب على الدولة أن تتدخل وترعاها لأنها تهدد تماسك المجتمع أولاً وتهدد حياة الناس بالموت.
وقد عمل الرسول عليه الصلاة والسلام على إيجاد المؤاخاة بين المسلمين في المدينة لتوفير ذوي الحاجات من باب الرعاية لتوفير الحاجات الأساسية أولاً، وتوطيد الأواصر بين المسلمين، وإيجاد الاستقرار الاقتصادي في المجتمع.
ذكر ابن هشام في سيرته «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين المهاجرين أنفسهم قائلاً: «تآخوا في الله أخوين أخوين، ثم أخذ بيد عليّ، فقال: هذا أخي…ثم آخى بين حمزة عمه ومولاه زيد بن حارثة، حتى أن حمزة أوصى لزيد يوم أحد إن حدث به حادث الموت، وآخى بين جعفر وبين معاذ بن جبل».
وقد طبق الخلفاء الراشدون هذا الحكم عملياً عندما تعرضت حاجات الناس الأساسية للخطر حيث بعث عمر G – وهو الراعي للناس- رسالة إلى والي مصر يطلب منه النجدة لأهل المدينة في عام الرمادة. فقد ذكر ابن كثير في التاريخ « أنه في عام الرمادة، والجوع والفقر يحاصر المسلمين، كتب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص في مصر « واغوثاه ..واغوثاه .. واغوثاه « فقال عمرو بن العاص: واللهِ لأرسلَنَّ له قافلة من الأرزاق أولها في المدينه وآخرها عندي في مصر”
وفعلاً أرسل عمرو بن العاص الغوث والإعانة لأهل المدينة، وكان عمر رضي الله عنه يشرف بنفسه على توزيعها!!..
وهذا الحكم المنوط بالدولة يحقق معنى توزيع الثروة بين الناس في الأمور الأساسية اللازمة لمتطلبات العيش واستمرارية الحياة حسب أوسط الناس في المجتمع ، وهذا أقل القليل في العيش الكريم للفرد. وأيضاً فإن الدولة تسعى _ حسب إمكاناتها وتوفر الأموال لديها _ لرفع مستوى الناس الاقتصادي في حاجاتهم الكمالية حسب إمكانات الدولة وطاقاتها، وهذا بعكس النظام الرأسمالي تماماً، حيث الدول فيه هي مؤسسات جباية لصالح جيوب الأغنياء على حساب جيوب الفقراء وحاجاتهم؛ لأن الغني حقيقة لا يدفع ضرائب حتى وإن دفعها بالفعل، والسبب أنه يضيف هذه الضرائب على الخدمات والسلع والاحتكارات التي يقدمها للفقراء، وإذا حصل خلل اقتصادي يسبب الأزمات، فإن هذه الضرائب ترجع مرة أخرى إلى جيوب الأغنياء، وإلى مؤسساتهم بحجة إنقاذها كما جرى في الأزمة الأخيرة في أميركا ودول أوروبا، وبالتالي فإن نظام الرعاية في الدول الرأسمالية يساعد ويدفع إلى تكدس الأموال وتركُّزها بأيدي فئة قليلة متنفذة في المشاريع والأموال، ويسلب الفقراء في نفس الوقت أموالهم، وهذا بعكس الإسلام تماماً _ كما ذكرنا _ حيث إن الدولة بما لديها من موارد اقتصادية تعمل على تمكين الفرد من إشباع حاجاته إن كان قادراً على الكسب، وتساعده مادياً إن كان عاجزاً عن ذلك، وترفع مستوى الناس حتى يحققوا الإشباع في الحاجات الكمالية فوق الحاجات الأساسية!!..
[يتبع]