(وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ )
( وَٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَۖ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِۦ مُلۡتَحَدٗا ٢٧ وَٱصۡبِرۡ نَفۡسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥۖ وَلَا تَعۡدُ عَيۡنَاكَ عَنۡهُمۡ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَا تُطِعۡ مَنۡ أَغۡفَلۡنَا قَلۡبَهُۥ عَن ذِكۡرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ
أَمۡرُهُۥ فُرُطٗا ٢٨ وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ إِنَّآ أَعۡتَدۡنَا لِلظَّٰلِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمۡ سُرَادِقُهَاۚ وَإِن يَسۡتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٖ كَٱلۡمُهۡلِ يَشۡوِي ٱلۡوُجُوهَۚ بِئۡسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتۡ مُرۡتَفَقًا ٢٩) [الكهف: 27- 28- 29].
وعن سبب نزول الآية الأولى فإنها نزلت في سلمان وأبي ذر وصهيب وعمار وحباب وغيرهم من فقراء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أن المؤلفة قلوبهم جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم عيينة بن الحصين والأقرع بن حابس وذووهم، فقالوا: يا رسول الله، إن جلستَ في صدر المجلس ونحَّيتَ عنا هؤلاء روائح صنانهم، وكانت عليهم جبات الصوف؛ جلسنا نحن إليك وأخذنا عنك؛ فلا يمنعنا من الدخول عليك إلا هؤلاء، فلما نزلت الآية قام النبي صلى الله عليه وسلم يلتمسهم، فأصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله عز وجل، فقال الحمد لله الذي لم يمتْني حتى أمرني أن أصبِّر نفسي مع رجال من أمتي، معكم المحيا ومعكم الممات.
جاء في تفسير الظلال لسيد قطب:
(وَٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَۖ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِۦ مُلۡتَحَدٗا ) وبتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تلاوة ما أوحاه ربه إليه، وفيه فصل الخطاب، وهو الحق الذي لا يأتيه الباطل، والاتجاه إلى الله وحده، فليس من حمى إلا حماه .وقد فر إليه أصحاب الكهف فشملهم برحمته (وَٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَۖ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِۦ مُلۡتَحَدٗا)وهكذا تنتهي القصة، تسبقها وتتخللها وتعقبها تلك التوجيهات التي من أجلها يساق القصص في القرآن، مع التناسق المطلق بين التوجيه الديني والعرض الفني في السياق.
(وَٱصۡبِرۡ نَفۡسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥۖ وَلَا تَعۡدُ عَيۡنَاكَ عَنۡهُمۡ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ) هذا الدرس كله تقرير للقيم في ميزان العقيدة. إن القيم الحقيقية ليست هي المال، وليست هي الجاه، وليست هي السلطان، كذلك ليست هي اللذائذ والمتاع في هذه الحياة… إن هذه كلها قيم زائفة وقيم زائلة. والإسلام لا يحرم الطيِّب منها؛ ولكنه لا يجعل منها غاية لحياة الإنسان. فمن شاء أن يتمتع بها فليتمتع، ولكن ليذكر الله الذي أنعم بها وليشكره على النعمة بالعمل الصالح، فالباقيات الصالحات خير وأبقى.
وهو يبدأ بتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصبر نفسه مع الذين يتجهون إلى الله، وأن يغفل ويهمل الذين يغفلون عن ذكر الله… يروى أنها نزلت في أشراف قريش، حين طلبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يطرد فقراء المؤمنين من أمثال بلال وصهيب وعمار وخباب وابن مسعود إذا كان يطمع في إيمان رؤوس قريش، أو أن يجعل لهم مجلسًا غير مجلس هؤلاء النفر؛ لأن عليهم جبابًا تفوح منها رائحة العرق، فتؤذي السادة من كبراء قريش! ويروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم طمع في إيمانهم فحدثته نفسه فيما طلبوا إليه. فأنزل الله عز وجل الآية، أنزلها تعلن عن القيم الحقيقية، وتقيم الميزان الذي لا يخطئ. وبعد ذلك (فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ) فالإسلام لا يتملق أحدًا، ولا يزن الناس بموازين الجاهلية الأولى، ولا أية جاهلية تقيم للناس ميزانًا غير ميزانه. (وَٱصۡبِرۡ نَفۡسَكَ) أي لا تمل ولا تستعجل (مَعَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥۖ) فالله غايتهم، يتجهون إليه بالغداة والعشي، لا يتحولون عنه، ولا يبتغون إلا رضاه. وما يبتغونه أجلُّ وأعلى من كل ما يبتغيه طلاب الحياة. اصبر نفسك مع هؤلاء، صاحبهم وجالسهم وعلِّمهم. ففيهم الخير، وعلى مثلهم تقوم الدعوات. فالدعوات لا تقوم على من يعتنقونها لأنها غالبة؛ ومن يعتنقونها ليقودوا بها الأتباع؛ ومن يعتنقونها ليحققوا بها الأطماع، وليتجروا بها في سوق الدعوات تشترى منهم وتباع! إنما تقوم الدعوات بهذه القلوب التي تتجه إلى الله خالصة له، لا تبغي جاهًا ولا متاعًا ولا انتفاعًا، إنما تبتغي وجهه وترجو رضاه. (وَلَا تَعۡدُ عَيۡنَاكَ عَنۡهُمۡ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ ) ولا يتحول اهتمامك عنهم إلى مظاهر الحياة التي يستمتع بها أصحاب الزينة. فهذه زينة الحياة (ٱلدُّنۡيَاۖ ) لا ترتفع إلى ذلك الأفق العالي الذي يتطلع إليه من يدعون ربهم بالغداوة والعشي يريدون وجهه. (وَلَا تُطِعۡ مَنۡ أَغۡفَلۡنَا قَلۡبَهُۥ عَن ذِكۡرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمۡرُهُۥ فُرُطٗا) لا تطعهم فيما يطلبون من تمييز بينهم وبين الفقراء. فلو ذكروا الله لطامنوا من كبريائهم، وخففوا من غلوائهم، وخفضوا من تلك الهامات المتشامخة، واستشعروا جلال الله الذي تتساوى في ظله الرؤوس؛ وأحسوا رابطة العقيدة التي يصبح بها الناس إخوة. ولكنهم إنما يتبعون أهواءهم. أهواء الجاهلية، ويحكمون مقاييسها في العباد. فهم وأقوالهم سفه ضائع لا يستحق إلا الإغفال جزاء ما غفلوا عن ذكر الله. لقد جاء الإسلام ليسوي بين الرؤوس أمام الله. فلا تفاضل بينها بمال ولا نسب ولا جاه. فهذه قيم زائفة، وقيم زائلة، إنما التفاضل بمكانها عند الله. ومكانها عند الله يوزن بقدر اتجاهها إليه وتجردها له. وما عدا هذا فهو الهوى والسفه والبطلان. (وَلَا تُطِعۡ مَنۡ أَغۡفَلۡنَا قَلۡبَهُۥ عَن ذِكۡرِنَا) أغفلنا قلبه حين اتجه إلى ذاته، وإلى ماله، وإلى أبنائه، وإلى متاعه ولذائذه وشهواته، فلم يعد في قلبه متسع لله. والقلب الذي يشتغل بهذه الشواغل، ويجعلها غاية حياته لا جرم يغفل عن ذكر الله، فيزيده الله غفلة، ويملي له فيما هو فيه، حتى تفلت الأيام من بين يديه، ويلقى ما أعده الله لأمثاله الذين يظلمون أنفسهم، ويظلمون غيرهم:
(وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ...) بهذه العزة، وبهذه الصراحة، وبهذه الصرامة، فالحق لا ينثني ولا ينحني، إنما يسير في طريقه قيِّمًا لا عِوج فيه، قويًّا لا ضعف فيه، صريحًا لا مداورة فيه. فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر .ومن لم يعجبه الحق فليذهب، ومن لم يجعل هواه تبعًا لما جاء من عند الله فلا مجاملة على حساب العقيدة؛ ومن لم يحنِ هامته ويطامن من كبريائه أمام جلال الله فلا حاجة بالعقيدة إليه. إن العقيدة ليست ملكًا لأحد حتى يجامل فيها، إنما هي ملك لله، والله غني عن العالمين. والعقيدة لا تعتزُّ ولا تنتصر بمن لا يريدونها لذاتها خالصة، ولا يأخذونها كما هي بلا تحوير. والذي يترفَّع عن المؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه لا يرجى منه خير للإسلام ولا المسلمين .ثم يعرض ما أعدَّ للكافرين ، وما أعدَّ للمؤمنين في مشهد من مشاهد القيامة: (إِنَّآ أَعۡتَدۡنَا لِلظَّٰلِمِينَ نَارًا..) أعددناها وأحضرناها، فهي لا تحتاج إلى جهد لإيقادها، ولا تستغرق زمنًا لإعدادها! ومع أن خلق أي شيء لا يقتضي إلا كلمة الإرادة: (كُن فَيَكُونُ)؛ إلا أن التعبير هنا بلفظ (أَعۡتَدۡنَا) يلقي ظل السرعة والتهيُّؤ والاستعداد، والأخذ المباشر إلى النار المعدَّة المهيَّأة للاستقبال! وهي نار ذات سرادق يحيط بالظالمين، فلا سبيل إلى الهرب، ولا أمل في النجاة والإفلات، ولا مطمع في منفذ تهب منه نسمة، أو يكون فيه استرواح! فإن استغاثوا من الحريق والظمأ أغيثوا، أغيثوا بماء كدردي الزيت المغلي في قول، وكالصديد الساخن في قول! يشوي الوجوه بالقرب منها، فكيف بالحلوق والبطون التي تتجرَّعه؟! (بِئۡسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتۡ مُرۡتَفَقًا) الذي يغاث به الملهوفون من الحريق! ويا لسوء النار وسرادقها مكانًا للارتفاق والاتِّكاء. وفي ذكر الارتفاق في سرادق النار تهكُّم مرير. فما هم هنالك للارتفاق، إنما هم للاشتواء!».