الاحتيال والتلاعب بالنظريات العلمية خدمة للأطماع الرأسمالية
2021/12/09م
المقالات
2,655 زيارة
د. أيمن صلاح
الأرض المباركة (فلسطين)
في بداية هذا المقال، لا بد من أن نبدأ ببيان واقع النظريات العلمية، وبيان إمكانية إخضاعها للتلاعب والتزوير واستغلال ذلك للأغراض الرأسمالية، ثم نبين مجالات التلاعب والاحتيال الرأسمالي باستخدام النظريات العلمية.
النظريات العلمية هي معارفُ يُتَوصلُ إليها بالبحث والتفكيرِ العلميِ المسمّى بالمنهج العلمي، والتفكير العلمي محصورٌ في الوقائع المادية الملموسة التي تخضع للتجربة، وهو يَستخدِمُ الطريقة العقلية نفسها التي تقوم على ربط الإحساسات بالوقائع مع المعلومات السابقة، ولكنّ ما يميّزه هو أن الوقائعَ هي تجاربُ علميةٌ أو ملاحظاتٌ علمية، أما المعلوماتُ السابقة فهي المعارفُ التراكميةُ الناتجةُ بهذه الطريقة. والنظرياتُ العلمية هي معارفُ ظنيةٌ غالبًا؛ إذ لا يشترط فيها القطع واليقين، ومن الخطأ التصورُ أن المنهجَ العلمي لا ينتج إلا المعلوماتِ الصحيحة، فكثيرٌ من المعلومات العلمية يتبينُ خطؤُها بعد فترة؛ ولذلك يمكن أن نجد نظريات علمية متناقضة؛ لأن تفسير الواقعِ أحيانًا يمكنُ أن ينتج وُجهاتِ نظرٍ مختلفة، وقد يصل الاختلافُ إلى حد التناقض. وكلُ وجهةِ نظرٍ أو رأيٍ علميٍ يُفسرُ الملاحظاتِ ونتائجَ التجارب يعتبر نظريةً علمية. وعندما تُبنى الإجراءاتُ والسياساتُ على أساس المعارفِ الناتجةِ بطريقِ المنهج العلمي فإنها تكونُ عرضةً للخطأ والفساد الُمبرر، ويتبينُ خطؤها عندما يتبينُ خطأُ المعارفِ التي بُنيت عليها.
إنه لا يخفى على أحد أن الرأسماليين تُسَيِرُهم مصالحُهم المادية، فهم يسعون لتحقيق الربح بغضِّ النظر عن أي اعتبار آخر، فلا اعتبار عندهم للقيم الإنسانية والخلقية، بل إن كثيرًا من المشاريع الرأسمالية هي ضررٌ محضٌ للبشرية، ولا مانع عندهم من تزوير المعارفِ العلمية التي تَصلُحُ لخدمتهم. والدولُ الرأسمالية تبني سياساتِها لتسهيل مصالح الشركات الرأسمالية، وتضعُ التشريعاتِ والقوانينَ في الداخل لتسهيل عمل هذه الشركات، وتفرضُ التشريعاتِ في القوانين الدولية، وتقيمُ العلاقاتِ الدوليةَ والاتفاقياتِ الدوليةَ لهذا الغرض. وفي كثيرٍ من الحالات يجبُ أن تُبنى هذه الإجراءات على أساس المعارف العلمية، فتلجأُ إلى العبثِ والخداعِ في النظريات العلمية. وكما أن الدوَل الرأسماليةَ الاستعمارية تتخذُ من المؤسسات الدولية أداةً لتنفيذ سياساتها الدولية، فكذلك هناك مؤسسات علمية عالمية عدة تهيمن على الساحة العلمية وتتخذُها الدولُ الرأسمالية كأدوات لهذه السياسات.
أساليب التلاعب والاحتيالِ الرأسماليِ بالنظريات العلمية
أولًا: التعاملُ مع بعض الفرضيات والنظريات كحقائق علمية
قلنا إن النظرياتِ العلمية ليست قطعية، بل هي في أحسن الأحوال ظنية، وأحيانًا تكون مجردَ أوهامٍ وخزعبلات؛ ولكن يمكنُ لهذه النظريات أن تخدمَ المصالح الرأسمالية، فيتمُ الترويجُ لها ورفعُها إلى مستوى الحقائق، وتُنسجُ القصصُ الخياليةُ الزائفةُ التي تزعم أن التيارَ السائد في المجتمع العلمي يقبلُ بها، ويُمارَسُ الإرهابُ العلمي ضد من لا يقول بها أو يقول بخلافها. وهناك أمثلة عدة: منها فرضُ القبولِ بنظرية الاحتباس الحراري والتغيُّر المناخي وتَسَببِها عن النشاطات البشرية لتحقيق أهدافٍ سياسية واقتصادية كما سيأتي، ومنها الخداعُ والمبالغةُ في التخويف من خطرِ بعض الأمراض لفتح المجال لشركات الأدوية لتسويق منتجاتِها.
ثانيًا: تحويل المسائل العلمية إلى قضايا سياسية عالمية
وهذا يبرز في مشاكل الطاقة والمناخ والاحتباس الحراري والتنوع الحيوي والغذاء، وهي مسائلُ يمكنُ بحثُها علميًا لمعرفة الحقيقة بشأنها؛ ولكن الدولَ الكبرى قررتْ أنها مشاكلُ عالميةٌ تهددُ كوكبَ الأرض، وقررتْ أنه إذا لم يتم علاجُها عالميًا فستتفاقمُ إلى كوارثَ عالمية، وقررت نوعَ العلاجِ لكلٍ من هذه القضايا. ولتنفيذِ ذلك عقدت لها مؤتمراتٍ عالمية، وكتبت بشأنها اتفاقياتٍ دولية، وطُلبَ من دول العالم في كافة القارات التوقيعُ عليها. وفي هذه الاتفاقيات تلتزمُ الدولُ بتطبيق سياساتٍ داخليةٍ متعلقةٍ بالصناعة والزراعة وتطويرِ المدن، وفي بعض الاتفاقيات بنودٌ تفتح المجال لتدخلٍ أجنبي في شؤون الدول في حال لم تنفذ بنودَ الاتفاقيات، وأحيانًا تجدُ بنودًا تفتح أبوابَ البلاد للشركات الأجنبية لاستباحة ثروات البلاد الطبيعية مثل التنوع الحيوي.
ولمزيد من التوضيح نضرب مثلًا نظرية الاحتباس الحراري والتغيُّر المناخي، فهي نظريةٌ علمية لا يمكن للعلم التجريبي القطعُ بصحتها، ورغم وجود عدد من الدراسات التي تعارضُها، إلا أن الأممَ المتحدة تبنتها كقضية عالمية، وعقدت الأمم المتحدة “معاهدة كيوتو” لحماية البيئة سنة 1997م واتفاق باريس للمناخ سنة 2015م، وهي خطواتٌ تنفيذيةٌ بشأن التغيُّر المناخي، وتلبي هذه الاتفاقياتُ متطلباتٍ سياسية واقتصادية للدول الكبرى والشركات الرأسمالية، فمن جهة تعتبر مدخلًا للدول الكبرى للتدخل في شؤون الدول الأخرى وسياساتها الصناعية، ومن جهة أخرى تدعو هذه الاتفاقات إلى زيادة الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والوقود الحيوي بدلًا من الاعتماد على الوقود الأحفوري بشكل أساسي، وهذا ما يخدم الشركات التي تستثمر في مجال الطاقة المتجددة.
ثالثًا: وضع تعريفات فضفاضة لاصطلاحات علمية واستخدامُها حسب الرغبة
ولتوضيح هذه الفكرة أُمَثّلُ لها بمصطلح الاستدامة والتنمية المستدامة – Sustainability and sustainable development. فهل للاستدامة والتنمية المستدامة مفهوم دقيق؟ وهل يمكن قياسها؟ التنمية المستدامةُ مصطلحٌ علميٌ ظهر على الساحةِ الدوليةِ في أواخر الثمانينات من القرن العشرين، ثم أصبح يُتداولُ وَسْطَ عدد من المصطلحات السياسية والثقافية مثل العولمة، صراع الحضارات، الحداثة، ما بعد الحداثة، التنمية البشرية، الجينوم، المعلوماتية… وغيرها. وقد تبنَّت منظمةُ الأغذية والزراعة (الفاو) تعريفًا لمصطلح التنمية المستدامة في عام ١٩٨٩م كما يلي: “التنمية المستدامة هي إدارةُ وحمايةُ قاعدةِ المواردِ الطبيعيةِ وتوجيهُ التغيُّرِ التقنيِ والمؤسسي بطريقةٍ تضمن تحقيقَ واستمرار إرضاءِ الحاجاتِ البشرية للأجيال الحالية والمستقبلية. إن تلك التنمية المستدامة (في الزراعة والغابات والمصادر السمكية) تحمي الأرضَ والمياهَ والمصادرَ الوراثية النباتية والحيوانية، ولا تضر بالبيئة، وتتسمُ بأنها ملائمةٌ من الناحية الفنية ومناسبة من الناحية الاقتصادية ومقبولةٌ من الناحية الاجتماعية”.
وفي الحقيقة إن هذا التعريفَ هو أقربُ إلى الشعارات، ويفتقدُ إلى الحديةِ والعمق العلمي والتحليلي. ولذلك دخلت الأمم المتحدة على خط التنمية المستدامة، واعتمدت في عام 2015م أهدافَ التنمية المستدامة (SDGs)، والتي سميت أيضًا باسم الأهداف العالمية، وأطلقت برنامجَ الأممِ المتحدة الإنمائيَّ ليطبق سياستَها في نحو 170 دولة. وأصبح التطبيقُ العمليُ للتنمية المستدامة يتأرجحُ بين رغباتِ القادةِ السياسيين والمتنفذين الرأسماليين. وإليكم بعض الأمثلة:
الاستدامة والسياسة الزراعية: تعتمد الزراعة الحديثة على استخدام سلالات زراعية عالية الإنتاجية في الزراعة لتلبية الطلب المتزايد على الغذاء. يتم إنتاج هذه السلالات بطرق التهجين الطبيعية وبعضها ينتج بطرق التعديل الوراثي. وهي عمليةٌ غيرُ مستدامةٍ من الناحية البيئية؛ حيثُ تؤدي إلى استهلاك كمياتٍ من الماء والموادِ الكيماوية كأسمدة ومبيدات بالإضافة لخطرها على البيئة والتنوع الحيوي. كما أن هناك جدلًا علميًّا حول خطرها على الصحة البشرية بسبب تلوثِ المحاصيل بالمبيدات وضعفِ القيمةِ الغذائية لكثير من هذه الأصناف والمخاطر المحتملة للمحاصيل المعدلة وراثيًّا. وهي أيضًا غيرُ مستدامةٍ من ناحيةِ السياسةِ الزراعية وخاصة فيما يسمى الدول النامية، حيث تجعلُ البلادَ تابعةً زراعيًّا لشركاتٍ أجنبيةٍ منتجةٍ لبذور أو درنات أو أبصال السلالات الزراعية والمبيداتِ المناسبة لمعالجة آفاتها؛ حيث لا يستطيعون إنتاج الأجزاء التكاثرية لها ولا يملكون المواد الكيماوية اللازمة لمعالجتها. ومع ذلك يستمرُ الترويجُ لها علميًّا والاعتمادُ عليها على اعتبار أنها الحل الأمثل في تأمين الغذاء للسكان بحسب وجهة النظر الرأسمالية في المشكلة الاقتصادية وطريقة معالجتها. وفي ذلك خدمةٌ عظيمةٌ للشركات الرأسمالية التي تحتكر إنتاج السلالات الزراعية عالية الإنتاجية والمواد الكيماوية اللازمة لها.
الاستدامة في صناعة واستخدام الورق: الطريقة التقليدية للتخلص من نفايات الورق هي الحرق، لكن وُصِفت هذه العمليةُ بعدم الاستدامة؛ لأنها تؤدي إلى انبعاث ثاني أوكسيد الكربون من جهة، ومن جهة أخرى تحتاجُ تصنيعَ مزيدٍ من الورق من المادة الخام له وهي سيليلوز الخشب وبالتالي يحصل استنزافه من مصادره الطبيعية. والحلُ المقترح بحسب التنمية المستدامة هو إعادة استخدام الورق بالتدوير؛ لكن التدويرَ يحتاج إلى جمعِ الورقِ المستخدمِ من كل مكان، وهذه العملية تُشَغّلُ كميةً كبيرةً من الشاحنات ووسائلِ الجمع والنقل، وكلُها عملياتٌ تستنفدُ مزيدًا من الطاقة وتؤدي إلى تلوث الهواء وانبعاث مزيد من ثاني أكسيد الكربون، ثم تحتاجُ إلى استخدام كمياتٍ هائلة من المواد الكيماوية والطاقةِ في عملية التنقية وإعادةِ التصنيع لإنتاج ورقٍ قليل الجودة مقارنة بالورق الأصلي. ثم تتكرر العملية حتى يعمَ التلوث. فأي الحالتين هي الاستدامة؟
الاستدامة في إنتاج الوقود الحيوي من بعض المحاصيل الغذائية، ومن الأمثلة على سيطرة الرأسماليين على تطبيقات نظرية التنمية المستدامة إنتاج الوقود الحيوي من بعض المحاصيل الغذائية التي تؤجج أزمة الغذاء: ففي البرازيل مثلًا كَشَفَ عددٌ من الباحثين عدمَ الاستدامة في استخدام الذرة وقصب السكر لإنتاج الوقود الحيوي بسبب آثارها الضارة على البيئة الطبيعية، والأمن الغذائي وكربونية التربة، وقالوا إن أفواه الجوعى الفقراء في القارة اللاتينية وفي أفريقيا أحقُّ بالذُّرة البرازيلية من خزانات وقود سيارات الأغنياء. ومع ذلك يعتبرُ السياسيون والأممُ المتحدة أن استخدام الذرة لإنتاج الوقود الحيوي أكثر استدامة.
رابعًا: العبث بالمعايير والمواصفات
لتوضيح هذه الفكرة أستخدم مثالين من المعايير والمواصفات: الأول: معاييرُ الصحة والمرض. والثاني: معايير ومواصفات المصادر البيئية.
في المجال الطبي توجدُ مواصفاتٌ للإنسان السليم، وهذه المواصفاتُ هي عبارةٌ عن قياساتٍ لعددٍ كبيرٍ من المتغيرات في جسمه، مثل عدد خلايا الدم وأنواعها، ضغط الدم، عدد النبضات في الدقيقة، تركيز الهرمونات في الدم، تركيز السكر في الدم، تركيز الكوليسترول، تركيز الدهون، تركيز حامض اليوريا، وغيرها الكثير. وعادة يكون لهذه القياساتِ حدودٌ دُنيا وحدودٌ عُليا في الإنسان السليم. والنظريةُ العلمية تقول إن تغيُّرَ قيمةِ أيٍ من هذه المتغيرات خارجَ مداها الطبيعيَ يعتبر مؤشرًا على حالةٍ مَرَضيةٍ معينة؛ لكن الواقعَ أنه ليس بالضرورة أن يكونَ مريضًا فعلًا؛ لأن أيَ قيمةٍ أصلًا هي معدلُ القراءات في عدد كبير من الأشخاص السليمين، فهناك حتمًا حالاتٌ سليمةٌ ولكن القراءات فيها لبعض المتغيرات تقع خارج المدى المعتمد للصحة، وكذلك يمكنُ أن تتغيرَ أي قراءة مؤقتًا استجابة لمؤثرات بيئية ونفسية. وتحرصُ الشركاتُ الرأسماليةُ على التوصية باعتماد قيمٍ ضيقةٍ للمدى الطبيعي وخاصة فيما يتعلق بالأمراض المزمنة التي تحتاج إلى علاج ورعاية طبية دائمة.
مثلًا مرض السكري: هناك عدة فحوصات وقراءات لتشخيص المصاب بالسكري ونوع المرض، وأحد أشهر هذه الفحوصات هو فحص السكر الصيامي (Fasting blood suger – FBS)؛ حيث يتم إجراءُ هذا الفحص بعد الامتناع عن تناول الطعام والصيامِ لمدة لا تقل عن 8 ساعات، ليعطيَ قيمًا تُشير إلى مستويات السكر في الدم، ففي حال كانت هذه القيمُ بين 70-99 ملغم لكل ١٠٠ ملل تعتبر قيمًا طبيعية، وفي حال تراوحت بين 100-125 ملغم لكل ١٠٠ ملل فإنها تُشير إلى مرحلة ما قبل السكري المعروفة بمقدمات الإصابة بالسكري (Prediabetes)، وتعتبر القيمة 126 ملغم لكل ١٠٠ ملل عتبةً للمرض، ففي حال بلغت القيمةُ 126 ملغم لكل ١٠٠ ملل أو زادت فإنها تُشير إلى الإصابة بمرض السكري.
والآن لنقف عند الرقم المعتمدِ كعتبة للمرض وهو 126، هذا الرقمُ وحده لا يعني سوى كونِه مؤشرَ خطر. قبل ثلاثين عامًا كان الرقمُ المعتمدُ هو ١٤٠ ملغم لكل ١٠٠ ملل. فماذا يعني تخفيضُ الرقم؟! بِلُغةِ الطبِ يعني البِدءَ بالعلاج أبكر والدوام على الفحوصات الدورية، انطلاقًا من مبدأ “كلما بدأنا العلاج أسرع كان أفضل”. هذا المبدأُ ليس صحيحًا دائمًا. فهو يعني أن نسبةً من الأشخاص الأصحاء سوف يخضعون للعلاج مع ما يرافقُ ذلك من المخاطر. وما ذكرتُه هنا عن مرض السكري ينطبقُ تمامًا على ضغط الدم ونسبة الكوليسترول وغيرهما.
مَنْ المستفيدُ من تخفيض العتباتِ التي يبدأ عندها العلاجُ والفحوصاتُ الدورية؟ المستفيدُ في المقام الأول هي شركاتُ الصناعات الدوائية. عندما يتم تخفيضُ أحد الأرقام من ١٤٠ إلى ١٢٦ يعني هذا أنه أصبح لدينا بجرة قلم ملايينُ المرضى الجدد. وبِلُغةِ المال يعني زيادةً في أرباح هذه الشركات بالمليارات.
فمن حيث أرقامُ المصابين، جاء في التقرير العالمي للسكري الذي أصدرته منظمةُ الصحة العالمية في 2016م أن عددَ المصابين بالسكري ارتفع من 108 مليون شخص في عام 1980 إلى 422 مليون شخص في عام 2014م (أي ارتفع أربعة أضعاف)، وارتفع معدلُ انتشارِ السكري على الصعيد العالمي لدى البالغين الذين تزيدُ أعمارُهم عن 18 عامًا من 4.7% في عام 1980م إلى 8.5% في عام 2014م. وبحسب التقرير فإن سبب تفشي المرض هو التغييراتُ التي طرأت عالميًا على الطرقِ التي يأكل ويتحرك ويعيش بها البشر، علمًا أن أحد الأسباب الرئيسة لزيادة أرقام المصابين هو تغيير عتبة المرض المعتمدة. وبلغة المال، جاء في البيان الذي أصدره الاتحاد الدولي للسكري 2017م أنّ حجمَ الإنفاق السنوي العالمي على السكري وصل إلى 727 مليار دولار.
وفي مجال معايير ومواصفات المصادر البيئية يُفرض على الدول والمصانع التي تطرحُ موادَّ إلى البيئة أن تكون بمواصفات معينة حتى لا تضرَ التوازنَ في النظام البيئي؛ ولكن أحيانًا يعتبرون المواصفات صحيحة عندما يتم تمريرها من خلال تقنيات أو أجهزة معينة معتمدةٍ لدى المنظمات الدولية المعنية بالبيئة، وفي هذا تسويقٌ لهذه الأجهزة والتقنيات وفتحُ المجال لشركاتٍ رأسمالية لتنفيذِ مشاريعَ في مختلف الدول، مثل اعتماد تقنيات معينة لمعالجة المياه العادمة والنفايات الصلبة، ومرشحاتٍ خاصة للغازات المنبعثةِ من المصانع، وفرضِ طرقٍ معينةٍ لإعادةِ تأهيلِ الأنظمةِ البيئية التي تتعرض للضرر، وفرض مناطق معينة كمحميات طبيعية، وغيرها.
خامسًا: تمويل أبحاثٍ تعطي نتائجَ زائفةً فيها خدمةٌ للشركات الصناعية، ومنعُ التمويلِ عن الأبحاثِ التي تعطي نتائجَ تخالفُ رغباتِهم
إن إمكانيةَ وجودِ الأبحاثِ العلميةِ الزائفةِ أمرٌ معروفٌ في الأوساط العلمية. ففي أيار 2018م، نشرت مجلةُ نيتشر (Nature) العالمية دراسةً مسحيةً[1] شملت 1500 بحثًا منشورًا، وكانت تركزُ على الأزمة في إمكانية إعادة إنتاج المعرفة العلمية التجريبية (reproducibility)، وقد ذكرتْ فيها أن 2% من الباحثين الذين شملتهم الدراسة اعترفوا بممارسة التزوير في النتائج العلمية.
والشركاتُ الرأسمالية تعتمد كثيرًا في دعايتها على منتجاتها على الأبحاث الزائفة، يظهر ذلك في عدد من المجالات أهمها التغذية والصحة؛ حيث تقوم الشركات الصناعية بتمويل أبحاثٍ علميةٍ لتعطي نتائجَ تتماشى في كثير من الأحيان مع مصالحها. فهناك المعهدُ الدولي لعلوم الحياة (ILSI) الذي يعرف عن نفسه بأنه منظمةٌ غيرُ ربحية تمولُها الشركاتُ ومقرُّها واشنطن العاصمة، ولها 17 فرعًا منتسبًا حول العالم، ويصفُ المعهدُ نفسَه كمجموعة تمارس “العلوم من أجل الصالح العام وتحسن صحة الإنسان ورفاهيته وتحمي البيئة”. ومع ذلك، تُظهر التحقيقاتُ التي أجراها أكاديميون وصحفيون وباحثو المصلحة العامة[2] أن هذا المعهد (ILSI) هو مجموعة ضغط تحمي مصالح صناعة الأغذية، وليس الصحة العامة. بما في ذلك الدفاع عن المكونات الغذائية المثيرة للجدل وقمع الآراء غير المواتية للصناعة. ولها تأثير كبير على الإرشادات الغذائية الأمريكية.
وفي السياق نفسه قامت مؤسسة أبحاث السكر (Sugar Research Foundation – SRF) قبل 50 عامًا (في 1965م) بتمويل علماء من جامعة هارفارد لإجراء أبحاثٍ عرفت بـ “مشروع 259” (Project 259) وكان الهدفُ من الأبحاث إخفاءَ علاقةِ تناول السكريات بأمراض القلب وإلقاءَ اللوم على الدهون المشبعة. وعندما بدأت النتائجُ الأوليةُ تَظهرُ بخلاف ما يريدون سحبت مؤسسةُ أبحاث السكر تمويلَ البحث وتم إنهاءُ الدراسة، ولم تُنشر النتائجُ أبدًا وَفقًا لدراسة[3] نُشرت في الدورية العلمية PLOS Biology.
وفي عام 2015م، ذكرت صحيفة نيويورك تايمز أن شركة كوكا كولا مَوَّلت بعضَ علماء التغذية الذين ينفون علاقةَ البدانةِ بالأنظمةِ الغذائية السيئة وتناولِ المشروبات الغازية والسكرية. وفي 2016م، كشفت وكالة أسوشيتد برس (Associated Press) أن صُناَّعَ المنتجاتِ السكرية يموِّلون أيضًا أبحاثًا زائفة؛ حيث أظهرت إحدى الدراسات الممولة أن الأطفال الذين يتناولون الحلويات، يقل وزنُهم مقارنةً بغيرهم ممن لا يأكلون الحلوى. وينطبق الأمرُ نفسُه على شركات الأدوية، التي تُعرَفُ بقمعها للبحوث المؤدية إلى إظهار نتائج غير مواتية.
سادسًا: خلط العلوم بالمعارف الثقافية للأغراض النفعية
الدورياتُ العلمية لا تنشرُ إلا الأبحاثَ العلميةَ المتعلقةَ بالمادياتِ والمبنيةِ على الحس والمشاهدة، ولا تنشر المقالات المبنية على أساس وجهة النظر في الحياة، سواء الإيمان بالخالق والأديان أم الأحكام الشرعية، ويرفضون أي تدخل للدين في المعارف العلمية؛ ولكن برزت للشركات الصناعية الرأسمالية مشكلة أن كثيرًا من المسلمين يرفضون المنتجات الغذائية إلا أخذ المنتج “شهادة حلال”، وبعض الدول في العالم الإسلامي أصبحت تشترط أن يأخذ المنتج “شهادة حلال” قبل أن يتم إدخاله إلى البلاد. وهذا أضعف تسويق كثير من المنتجات في البلاد الإسلامية وفي أوساط المسلمين في الغرب. ولمحاولة الخروج من هذه المشكلة طلبت الشركات المصنعة من علماء مسلمين أن يضعوا مواصفات للمنتج الحلال، فأصبح بعض العلماء يبحثون في واقع المواد التي يحرم تناولها في الطعام والشراب، ويبحثون في استخداماتها الأخرى في الأغذية المصنعة والمواد الدوائية والمستحضرات التجميلية وغيرها، ويبحثون في كيفية إنتاجها واستخدامها، ويذكرون حالات يحرم استخدامها وحالات يجوز استخدامها، ومن الموادِّ التي تدخل في هذه الأبحاث الكحول والمواد المخدرة وبعض المواد المستخلصة من مصادر حيوانية وغيرها. وسُمِح لهؤلاء بنشر أبحاثهم في الدوريات العلمية التي أصلًا ترفض نشر الأوراق العلمية التي يكون للدين أثر في مخرجاتها. وبالتدقيق يتبين أن ما يقبل نشره هي الأوراق العلمية التي تتبنى آراء يمكن تصنيفها بالاعتدال، أي التي تقول بجواز استخدامات لا يقرها علماء الشريعة عادة؛ لكنها تُنْشَرُ لأنها تصلح كمادة دعاية لتسويق المنتوجات في أوساط المسلمين سواء في الغرب أو في البلاد الإسلامية.
وفي ختام هذا المقال، أودُ أن أوضحَ أن معظم ما ورد فيه من أمثلة عن نظريات وفرضيات علمية ليس لإنكارها ولا لإقرارها، وإنما لبيان انعدام القيم الإنسانية والخلقية عند الدول الاستعمارية والشركات الرأسمالية حال استخدامهم لهذه النظريات كأساس للقرارات السياسية وأساس للتطبيقات الصناعية، ولإظهار حاجة البشرية للتخلص من التبعية للقوى العظمى وأدواتها من المنظمات الدولية والاتفاقيات الدولية، وللتأكيد على حاجة البشرية لمراكز بحث علمية مستقلة عن هيمنة الرأسمالية، بحيث تُجرى الأبحاثُ العلمية التي توضح الحقائق الصادقة عن أي مسألة علمية، وتعطي خدمةً للبشرية وليس خدمةً للجهة الداعمة. إن مثلَ هذه المراكز البحثية لا يمكن أن توجدَ إلا في دولة الخلافة القائمة قريبًا بإذن الله.
[1]– Monya Baker, «1500 scientists lift the lid on reproducibility», Nature, May 2018.
[2]– تقرير محاسبة الشركات لشهر أبريل 2020 Corporate Accountability, 2020, PARTNERSHIP FOR AN UNHEALTHY PLANET: How big business interferes with global health policy and science.
[3]– Kearns CE, Apollonio D, Glantz SA (2017) Sugar industry sponsorship of germ-free rodent studies linking sucrose to hyperlipidemia and cancer: An historical analysis of internal documents. PLoS Biol 15(11): e2003460. https://doi.org/10.1371/journal.pbio.2003460.
2021-12-09