حمد طبيب – بيت المقدس
الاستعمار بكافة أشكاله هو الوجه الحقيقي للمبدأ الرأسمالي، وهو الطريقة الهابطة الشريرة لنشره في العالم، وهو أداة السيطرة على مقدرات الشعوب وثرواتها. وهذا الاستعمار، ونتيجة قبحه وسوء فعاله في العالم، يحاول التستّر والتخفّي وراء أساليب متعددة ومتجددة كلما ظهر للشعوب سوء أعماله وكراهيتهم له…
وقبل أن نذكر الأساليب التي يبتكرها هذا الاستعمار في السيطرة على الشعوب وكسب الولاء السياسي لدى الدول نقول: بأن الطريقة الصحيحة الراسخة المتينة في كسب ودّ الشعوب وأخذ ولائها السياسي تقوم على القناعة الفكرية والمحبة، والوضوح والصفاء والنقاء، ولا تقوم أبدًا على الإكراه والأكاذيب، واللفّ والدوران، ورسم الخطط والمكائد السياسية، والفخاخ الدولية هنا وهناك… وهذا الأمر – أي الطريقة الصحيحة – لا يوجد إلا في مبدأ واحد في الأرض، مبدأ لا يقوم على المنافع والقيم المادية الهابطة، بل يقوم على فكرٍ راقٍ سامٍ متصلٍ بخالق السماوات والأرض. وهذا المبدأ هو الإسلام الذي يرسم خططه وأساليبه لإسعاد الشعوب، ورفع الظلم عنها، وتحريرِها من ظلم البشر ومبادئهم الهابطة الشريرة… لا لإسقاطهم في حبائله وفخاخه؛ وبالتالي الإيقاعُ بهم في ولائه السياسي، المنفعي والمصلحي…
إن أساليب الدول الاستعمارية في أخذ الولاء السياسي وإيجاد التبعية والارتهان لها، سياسيًّا وعسكريًّا، تتعدّد وتتجدد في كل زمان… وهي ترسم الخطط المدروسة الماكرة لجرّ الدول ووضعها في ظروف قاهرة؛ مستغلين حاجتها الاقتصادية، وبالتهديدات المصطنعة للشعوب الضعيفة، وبالإغراءات المالية أحيانًا، وبالإيعاز للعملاء أحيانًا أخرى؛ لجرها والإيقاع بها؛ عندما يظهرون بمظهر المنقذ والمخلِّص!!..
وأبرز هذه الأساليب في كسب الولاء والتبعية السياسية هي:
1- الظهور بمظهر الحرص على إنقاذ الشعوب بعد وضعها في ظروف عصيبة: إما بإشعال الحروب المصطنعة، وإما بفرض الحصار عليها وإفقارها وجعلها بحاجة للمساعدة المالية والغذائية… وهذا الأمر ليس جديدًا، وإنما هو أسلوب قديم يتمثل بمحاولات الإنقاذ؛ كما يحصل في مسألة مساعدات اللاجئين المشردين في الشام واليمن وفلسطين، علمًا أن هذه الحروب والأوضاع السيئة والتشرّد هي بفعل المستعمر نفسه الذي يظهر بمظهر المخلِّص والمنقذ… وبعد هذه المرحلة يفرض المستعمر أساليبه وشروطه في الولاء السياسي والتبعية، مقابل ما يقدمه من خدمات يسميها إنسانية، أو تحت مسمى كاذب اسمه حقوق الإنسان، أو غير ذلك من مسميات مُخادعة كاذبة…
2- ادعاؤه الدفاع عن الديمقراطيات لدى الشعوب المضطهدة، والظهور بمظهر المنقذ لهذه الشعوب من الدكتاتورية والتسلط الذي يمارسه حكامها… وهذا جرى في عهد الثورات، وقبل ذلك في العراق والشام ومصر وتونس وغيرها من بلاد… فعندما جاء جورج بوش الأب إلى العراق قال في أحد خطاباته سنة 1990م: «إننا جئنا لتخليص الشعب في العراق من دكتاتورية حاكمها، وتخليص البشرية من أسلحة الدمار الشامل…». ثم كرر نفس المقولة ابنه جورج بوش الابن فقال: سنة 2003م :«إن بلاده جاهزة ومستعدة للتحرك عسكريًا إذا رفض العراق نزع أسلحة الدمار الشامل التي يملكها» وأضاف أن بلاده لا تريد غزو العراق؛ وإنما تحرير الشعب العراقي من الدكتاتورية…
وقد كانت أفعال أمريكا العدوانية في العراق مقدمات لنزع النفوذ والوسط السياسي البريطاني القديم؛ وزرع عملاء جدد مكانهم، ولم تكن أبدًا لتخليص الشعب العراقي من الظلم والدكتاتورية كما ادَّعوا، ولا غير ذلك من أكاذيب، وقد أثبتت سنوات الحصار العشرة التي أعقبت الحرب الأولى 1990م، وسنوات الاحتلال التي أعقبت الحرب الثانية 2003م؛ أن أمريكا إنما جاءت من أجل ثروات العراق، وكسب الولاءات السياسية؛ عن طريق زرع أوساط جديدة بدل القديمة، وليس من أجل ديمقراطيات ولا حريات، ولا حقوق إنسان… وحتى ولا أسلحة دمار شامل؛ لأنه لا توجد أسلحة دمار؛ كما زعموا وأثبتت لجان التفتيش فيما بعد هذه الحقيقة، والذي حصل هو الدمار والخراب والقتل بشكل همجي على أيدي القوات الأمريكية؛ دون هوادة ولا رحمة في هذه الحروب، وأثناء سنوات الحصار والاحتلال. وقد مات بسبب هذا الحصار أكثر من مليون إنسان أغلبهم من الأطفال!!.. وحسب إحصائية منظمة اليونيسيف: فقد بلغ عدد اليتامى في صفوف أطفال العراق منذ الاحتلال الأمريكي سنة 1990م حوالى 5 مليون يتيم. وبلغ عدد من قتلوا في الحرب سنة 2003م حوالى 800 ألف قتيل حسب إحصائية مجلة (لانسيت) البريطانية سنة 2006م.
3- أسلوب ادعاء محاربة الإرهاب والجماعات المتطرفة، حسب أكاذيبهم الإعلامية، وهذا الأسلوب قديم متجدّد، واستخدمته الدول الاستعمارية قديمًا في محاربة الإسلام السياسي، ثم استخدمته حديثًا لضرب فكرة الدولة الإسلامية وتشويه صورتها، وضرب الجماعات العاملة لذلك. وقد أُنشئت لهذه الغاية الماكرة الهابطة جماعات تقوم هي بالإرهاب والقتل، مثل دولة العراق والشام، وتحاول تشويه بعض الأحكام الشرعية في مفهوم الدولة في الإسلام وركائزها ومقوماتها، وتشويه طريقة التعامل مع الأسرى في موضوع القتل الجماعي للأسرى، أو غير ذلك من الأفعال التي ليس لها أي علاقة بالإسلام؛ إما أن تقوم هذه التنظيمات بفعلها هي مباشرة، أو يفعلها الاستعمار وعملاؤه ويلصقونها باسم هذه الجماعات…
4- القروض المالية عن طريق المؤسسات الدولية مثل البنك الدولي، أو صندوق النقد الدولي… ولا يخفى على المتابع السياسي ما تفعله الدول الاستعمارية – وخاصة أمريكا هذه الأيام – من فرض سياساتها، واستغلال حاجة الدول؛ حتى تصبح هذه الدول رهينة المخططات السياسية. ومثال ذلك القروض التي تقدمها أمريكا لمصر سنويَّا ويبلغ متوسطها حوالى (مليار دولار) أغلبها في المجال العسكري. ومثال آخر ما فعلته أمريكا من فرض شروط صارمة على الأردن سنة 1989م؛ ما أدى إلى انهيار العملة إلى أكثر من النصف، فأصبح الدينار حوالى 1.4 دولار، ومن ثم تدخل أمريكا بعد ذلك في فرض شروط اقتصادية على الأردن. ومن الأمثلة على ذلك أيضًا ما حصل مع تونس خلال السنوات العشرة الماضية حيث انخفض الدينار التونسي إلى أكثر من 40% بسبب سياسات صندوق النقد الدولي وشروطه في تعويم الدينار، وغير ذلك من شروط مقابل القروض!!. وزاد هذا الانخفاض أيضًا قبل أيام قليلة بسبب ما فعلته أمريكا مع تونس عندما منعت المساعدات الدولية عن طريق المؤسسات الدولية، وتذرعت بعدم تطبيق الديمقراطية في البرلمان وعدم تطبيق الدستور؛ وذلك كمقدمات للتدخل السياسي وزرع العملاء…
5- المكائد ونصب الفخاخ عن طريق العملاء الإقليميين. وهذا الأسلوب استخدمته أمريكا مع حركة حماس في الحروب المتكررة والحصار الاقتصادي من قبل يهود على غزة، في دفعها للارتماء في مخططات الحلول الاستسلامية؛ وذلك عندما جعلت مصر وتركيا وإيران؛ تقوم بدور المنقذ والوسيط؛ بتقديم المساعدة لحركة حماس أمام هجمة يهود الإجرامية، وبالتالي الرضوخ للمخططات الاستعمارية، والارتهان للدول الكافرة، والرضا بما تمليه من حلول استسلامية. وقد اتُّبِع نفس الأسلوب من قبلُ مع منظمة التحرير عن طريق الدول الداعمة، وعن طريق الإيواء والدعم بعد خروج بيروت سنة 1982م، ويُستخدم هذا الأسلوب في مناطق أخرى في العالم بنفس الطريقة والأسلوب…
6- المؤسسات الدولية، وأساليبها في إيجاد السلام والوئام بين الشعوب، أو التهديد والوعيد ووضع القرارات الدولية التي تخدم الاستعمار. وأشهر هذه المؤسسات هيئة الأمم المتحدة؛ حيث تظهر هذه المؤسسة بأنها الوسيط أو المخلِّص لحل النزاعات الدولية، مع أنها – في الحقيقة – تقوم بخدمة الدول الكافرة، وعلى رأسها أمريكا، في كسب الولاء السياسي وإرغام الدول على الارتماء في أحضانها، ومثالٌ على ذلك ما فعلته هذه المؤسسة الاستعمارية على مدار نصف قرن أو يزيد بخصوص قضية فلسطين، وقضية لبنان، وقضايا أخرى متعددة في العالم…
7- زرع الأوساط السياسية والعملاء الفكريين، والترويج لسياسات الاستعمار وبرامجه ومخططاته السياسية، وزرع الوهْن والخوف في نفوس الناس، وزرع فكرة عدم القدرة على مجاراة الغرب وتقدمه العلمي والصناعي، وبالتالي حتمية الارتباط به وبسياساته ومخططاته في بلاد المسلمين… هذا الأمر واضح في كل العالم الإسلامي؛ حيث تقوم الأوساط السياسية بالترويج لسياسات الاستعمار في كسب الولاء السياسي عن طريق الإغراءات حينًا، وعن طريق التهديد والوعيد حينًا آخر…
هذه أبرز الأساليب التي يتبعها قادة الكفر وسياسيوه – خاصة الغرب – في بلاد المسلمين، في سياسات الاحتواء والتبعية السياسية والعمالة.. والحقيقة أن الشعوب لم تعد تنطلي عليها – في الغالبية العظمى – مثل هذه الأساليب الوضيعة الهابطة، وخاصة بعد عهد الاحتلال العسكري لبلاد المسلمين، ومعايشة الغرب وأفكاره عن قرب، وظهور أعماله المادية النفعية، وأن الشعوب في بلاد المسلمين قد كرهت هذا المستعمر، وكرهت حتى عملاءه من الحكام المضبوعين بثقافته، وقد أثبتت أحداث الثورات الأولى ضد الاستعمار كراهية الشعوب للكافر المستعمر، وأثبتت أحداث ثورات الشعوب الحديثة 2010م ضد عملائه السياسيين أيضًا وعي الشعوب العام، وكراهيتها للاستعمار ولعملائه في بلاد المسلمين… هذا وما زال الغرب يتشبث ببعض الأفكار المضلِّلة التي تنطلي على البعض من أبناء المسلمين، مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان ومحاربة الإرهاب… وهي آخر خنادق الغرب التي يتترس خلفها في أساليب الاحتواء، وكسب الولاء والتبعية السياسية، وهي تتكشف شيئًا فشيئًا في بلاد المسلمين..
وفي الختام نقول: إن الإسلام وحده هو من يقوم على القناعة الفكرية والحجة والبرهان، ولا يستخدم أساليب اللفّ والدوران، ونصب الحيل، واستخدام المكر والدهاء السياسي؛ للإيقاع بالشعوب الضعيفة… فالإسلام مبني على العقل ويوافق الفطرة، ويحرص على إنقاذ الشعوب من الظلم والتسلط بشكل حقيقي، لا خداع فيه ولا تلبيس.. ولا يطمع في أموال الشعوب ولا ثرواتها، بل على العكس يعطي الشعوب من الأموال ما يمكنها من العيش الكريم، إن كانت تحت سلطانه… وإن في حادثة حمص مع – أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه فيها من الدليل على أن هذا الدين دين رحمة وهداية للشعوب، يعمل على تحريرها من عبودية البشر إلى عبودية خالق البشر تعالى… وقد ذكر المؤرخون أن أهالي حمص قد حزنوا حزنًا شديدًا على ترك المسلمين لبلادهم، وقالوا مقالة يجب أن تحفر في ذاكرة الأمة إلى يوم الدين؛ حيث قال قساوستهم ورهبانهم لأبي عبيدة: «لا نحب أن تغادرونا.. ابقوا عندنا.. والله إنكم لأحب إلينا من الروم – وهم على ديننا – فقد أخذوا أموالنا، وجلدوا ظهورنا… وأنتم أعدتم إلينا المال»!!.
إن سياسة الإسلام وأساليبه التي لا تخالف عقيدته، ولا تطمع في ثروات الشعوب وأموالهم؛ لتبرهن على أن هذا الدين وحده القادر على قيادة البشرية، وتعريفها بإنسانيتها وكرامتها، ورفع قدرها ومكانتها، ووضعها على جادة الحق والاستقامة…
نسأله تعالى أن يكرم أمة الإسلام عما قريب بتطبيق دين الله في بلادها، وحمله رسالة خير وهداية لإنقاذ الناس جميعًا.