هو أحد العشرة المبشَّرين بالجنة، وخامسُ السابقينَ الأوَّلين. وأحد السِّتة الذين تُوُفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ، وَثَالِثُ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، أمير المؤمنين، عثمان بن عفان .رضي الله عنه
وُلد هذا الصحابيُّ قبل عام الفيل بستِّ سنين على الصحيح، وأسلم في أول الإسلام قبل دخول الرسول صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، وكان عمره قد تجاوَز الثلاثين، دعاه أبو بكر الصِّديق إلى الإسلام قائلًا له: ويحك يا عثمان! واللهِ إنك لرجل حازم ما يخفى عليك الحقُّ من الباطل. هذه الأوثان التي يعبدها قومك، أليست حجارة صمَّاء لا تسمع ولا تُبصِر، ولا تضر ولا تنفع؟ فقال: بلى واللهِ، إنها كذلك، قال أبو بكر: هذا محمد بن عبد الله قد بعثه الله برسالته إلى جميع خلقه، فهل لك أن تأتيَه وتسمعَ منه؟ فقال: نعم. وفي الحال مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا عثمان، أجِب الله إلى جنته، فإني رسول الله إليك وإلى جميع خلقه»، قال: فواللهِ ما ملكتُ حين سمعتُ قوله أن أسلمتُ، وشهِدتُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبد الله ورسوله.
لقد كان ابنُ عفانَ هيِّنَ الطبع، سهلَ المعاشرةِ، تألَفُه القلوب، وترتاحُ له النفوس. وكان كثير القنوت، سليم الطوية، عظيم الخوف من الله تعالى، أوَّابًا لربه، جمع عثمان الحلم، والكرم، والحياء، والعِفَّة؛ فاجتمعت له القلوب، وبلغ من كرمه ما رُوي أنه كان لعثمان رضي الله عنه على طلحة بن عبيد الله خمسون ألف درهم، فقال طلحة لعثمان: «إن الذي لك عليَّ قد تهيَّأ فاقبضه. فقال له عثمان: هو لك يا أبا محمد معونة لك على مروءتك». وبلغ من حيائه ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أصدق أمتي حياءً عثمان بن عفان». روى مسلم في صحيحه من حديث عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعًا في بيتي، كاشفًا عن فخذيه، أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر فأذن له، وهو على تلك الحال، فتحدَّث، ثم استأذن عمر فأذن له، وهو كذلك، فتحدَّث، ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوَّى ثيابه، قال محمد: ولا أقول ذلك في يوم واحد، فدخل فتحدَّث، فلمَّا خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتش ولم تبالِه، ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تبالِه، ثم دخل عثمان فجلستَ وسوَّيتَ ثيابك؟! فقال: «ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟!» ولقد انتشر حبه بين الناس؛ حتى إنَّ المرأةَ من قريش كانت تُرَقِّص صبِيَّها الصغيرَ وتقولُ: أُحِبُّكَ والرَّحمنْ حُبَّ قُرَيشَ لِعُثْمانْ.
وقد كانت لهذا الصحابي مواقفُ عظيمةٌ تدلُّ على فضله ونُصرته لهذا الدين، لـمَّا آمن عثمان أوذي وعُذب في سبيل الله تعالى على يد عمه الحكم بن أبي العاص بن أمية الذي أخذه فأوثقه رباطًا، وقال: أترغب عن ملة آبائك إلى دين محدَث؟ واللهِ لا أحلُّك أبدًا حتى تدع ما أنت عليه من هذا الدين. فقال عثمان: واللهِ لا أدعه أبدًا، ولا أفارقه. فلمَّا رأى الحكم صلابته في دينه تركه… ثم إنه هاجَرَ الهجرتين: الأولى إلى الحبشة، والثانية إلى المدينة… وجهَّز جيش العُسرة، فعن عبد الرحمن بن خبَّاب السلمي قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم فحثَّ على جيش العسرة، فقال عثمان: عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها. ثم حثَّ، فقال عثمان: عليَّ مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها، قال: ثم نزل مرقاةً من المنبر ثم حثَّ، فقال عثمان: عليَّ مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها. روى الترمذي من حديث عبد الرحمن بن سمرة، قال: جاء عثمان رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار حين جهَّز جيش العسرة، فينثرها في حجره، قال عبد الرحمن: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقلِّبها في حجره ويقول: «ما ضرَّ عثمانَ ما عمل بعد اليوم، ما ضرَّ عثمانَ ما عمل بعد اليوم». روى البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من جهَّز جيش العسرة، فله الجنة» فجهَّزه عثمان». وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في حق عثمان لـمَّا جهز جيش العسرة: «اللهم أرضَ عن عثمان؛ فإني عنه راضٍ”.
وكذلك حفَرَ بئر رُومَة وتصدَّق بها على المسلمين. وفي صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من يشتري بئر رومة وله الجنة؟» فاشتراها عثمان بخمسة وثلاثين ألف درهم، وجعلها صدقةً للمسلمين رضي الله عنه… وكذلك لـمَّا ضاق المسجد النبويُّ بالمسلمين اشترى ما حوله ووسَّع به المسجد… وفي عهده جمع القرآن الكريم، وتوسَّعتْ فتوحات المسلمين، ووصلتْ إلى مشارق الأرض ومغاربها.
عبادته:
سمع عثمانُ القرآن غضًّا طريًّا من فم النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فكان أحدَ الصحابةِ القلائلِ الذين حفظوا القرآنَ كاملًا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي روى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلَّم القرآنَ وعلَّمه». وروى محمد بن سيرين رحمه الله، قال: «كان عثمان بن عفان رضي الله عنه يُحيي الليل كله بركعة يقرأ القرآن كله». وروي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال في قوله الله تعالى: (أَمَّنۡ هُوَ قَٰنِتٌ ءَانَآءَ ٱلَّيۡلِ سَاجِدٗا وَقَآئِمٗا يَحۡذَرُ ٱلۡأٓخِرَةَ وَيَرۡجُواْ رَحۡمَةَ رَبِّهِۦۗ) [الزمر: 9] قال: «ذاك عثمان بن عفان رضي الله عنه». وروي أن زوجته حين اقتحموا عليه ليقتلوه قالت: «تقتلوه أو لا تقتلوه؛ فوالله إنه ليُحيي الليل كله بركعة». ولم يَلْتَهِ ابنُ عفان بتجارتِه، ولا بخلافتِه عن كلام ربِّه، ومن أقواله المأثورة عنه: «لو طَهَرَتْ قلوبُكم ما شَبِعَتْ من كلامِ اللهِ عز وجل»، وقال أيضًا: «إني لأَكرَهُ أن يأتيَ عليَّ يومٌ لا أنظرُ فيه في المصحف»، وكذلك قال: «حُبِّبَ إليَّ من الدنيا ثلاث: إشباعُ الجياع، وكِسْوَةُ العَريان، وتلاوةُ القرآن». وروى ابن ماجه: «أن عثمان إذا وقف على قبر بكى حتى تبتلَّ لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي، وتبكي من هذا؟ قال: إنَّ القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينجُ منه؛ فما بعده أشد منه». رواه أحمد. وكان رضي الله عنه صوَّامًا، قوَّامًا، كثير الخوف من الله، مولَعًا بتلاوة القرآن. ومن أقواله التي تدلُّ على ورعه وتقواه، أنه كان يقول: ما زنيتُ ولا سرقتُ، لا في جاهلية ولا في إسلام.
جمعه للقرآن الكريم في مصحف واحد
في عهده انتشر الإسلام في بلاد كثيرة، وتفرَّق الصحابة مما أدى إلى ظهور قراءات متعددة وانتشرت لهجات مختلفة، فكان الخوف من اختلاف كتابة القرآن، وتغيُّر لهجته، فأمر بنسخ القرآن وكتابته، وجمعه في المصاحف على حرف واحد بلغة قريش، وكان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم متفرقًا في الرقاع واللخاف وفي الصدور؛ فجمعه أبو بكر في صحف، ثم جمعه عثمان في مصحف واحد، وسُمِّي (المصحف العثماني)، ثم نسخ منه مصاحف عديدة، فأرسل إلى كل بلد من بلدان المسلمين مصحفًا. روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك: «أن حذيفة بن اليمان قدِم على عثمان، وكان يُغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف، ننسخها في المصاحف ثم نردّها إليك، فأرسلت بها حفصةُ إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحفَ في المصاحف، ردَّ عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يُحرَق». فمن أجل ذا سُمِّي (المصحف الإمام).
الفتوحات في عهده رضي الله عنه:
لـمَّا تولَّى أمير المؤمنين عثمان الخلافة واصل الجهاد في سبيل الله كما كان في عهد الخليفتين قبله، فذكر أهل السِّيَر أنه فُتح في عهده من بلاد فارس: طبرستان، وتركيا وخراسان، ونيسابور، وكان فتحها في عهد عمر؛ إلا أن أهلها ثاروا يريدون استرداد ما أخذ منهم وتحرير أملاكهم؛ فأمر عثمان رضي الله عنه على الجيوش التي في البصرة والكوفة بالتوغل في بلاد فارس، ومحاربة من ثار منهم، فتواصل الجهاد في بلاد فارس، وفتحت عمورية وطرطوس وأنطاكية وشمال أفريقيا، وأمر عثمان عمرو بن العاص أن يتوجَّه بجيشه إلى طرابلس وطنجة حتى وصلوا إلى الجزائر. وقد أنشأ أول أسطول إسلامي لحماية الشواطئ الإسلامية من هجمات البيزنطيين، فافتتح بلاد قبرص وما يتبعها حتى توغَّل في بلاد الروم.
منزلة عثمان رضي الله عنه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من بعده
شهد عثمان المشاهد كلها إلا وقعة بدر؛ فإنه كان يُمرض زوجته رُقَية، وضرب له الرسول بأجره وسهمه. زوَّجه النبيُّ صلى الله عليه وسلم ابنته رقية ثم ماتت بعد وقعة بدر الكبرى، ثم تزوَّج أختها أم كلثوم ثم ماتت تحته، وكان لذلك يلقَّب بذي النورين، قال العلماء: ولا يُعرَف أحدٌ تزوَّج بنتَيْ نبيٍّ غيره، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو كانت لي ثالثة لزوجته إياها». وهو أوّل من هاجر إلى الحبشة و معه زوجته رقية، وتخلّف عن بيعة الرضوان؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان بعثه إلى مكة، فأُشيع أنهم قتلوه، فكان ذلك سبب البيعة، فضرب إحدى يديه على الأخرى، وقال: هذه عن عثمان، وسُمِّيت تلك البيعة ببيعة الرضوان. وفي تفاصيلها أنه في الحديبية، بعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأتِ لحربهم، وأنه إنما جاء زائرًا لهذا البيت ومعظَّمًا لحرمته. فخرج عثمان إلى مكة فلقيه أبان بن سعيد بن العاص فحمله بين يديه، ثم أجاره حتى بلَّغ رسالة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش فبلغهم عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما أرسله به، فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول اللَّه ـصلى الله عليه وسلم إليهم: إن شئتَ أن تطوف بالبيت فطُفْ، فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، واحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول اللَّه والمسلمين أن عثمان بن عفان قد قتل، ولـمًّا لم يكن قتل عثمان رضي الله عنه محققًا، بل كان بالإشاعة، بايع النبي صلى الله عليه وسلم عنه على تقدير حياته. وفي ذلك إشارة منه إلى أن عثمان لم يُقتل، فوضع يده اليمنى على يده اليسرى وقال: اللَّهم هذه عن عثمان في حاجتك وحاجة رسولك. وفي صحيح البخاري من حديث قتادة، أن أنسًا رضي الله عنه حدَّثهم قال: صعد النبي صلى الله عليه وسلم أُحُدًا ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف، وقال: «اسكن أُحد، أظنه ضرَبَه برِجْله، فليس عليك إلا نبيٌّ، وصِدِّيق، وشهيدان». وروى الترمذي من طريق الحرث بن عبد الرحمن عن طلحة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لكل نبي رفيق، ورفيقي في الجنة عثمان بن عفان». روى ابن عساكر في حديث صحيح عن أبي موسى الأشعري: «كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في بعضِ الحوائطِ ومعه عودٌ ينكُتُ بين الماءِ والطِينِ، فجاء رجلٌ فاستفتح فقال: افتَحْ له وبشِّرْه بالجنَّةِ؛ فإذا هو أبو بكرٍ فبشَّرتُه بالجنَّةِ. ثمَّ جاء رجلٌ فاستفتح فقال: افتَحْ له وبشِّرْه بالجنَّةِ ففتحتُ وبشَّرتُه بالجنَّةِ؛ فإذا هو عمرُ. ثمَّ جاء آخرُ فاستفتح فقال: افتَحْ وبشِّرْه بالجنَّةِ على بلوَى تكونُ ففتحتُ له وبشَّرتُه بالجنَّةِ على بلوَى تكونُ؛ فإذا هو عثمانُ، قال: اللهُ الـمُستعانُ وعليه التُّكلانُ».
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نَعدِل بأبي بكر أحدًا، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نُفاضِل بينهم».
وروي أن عليًا رضي الله عنه قال: «عثمان أوصلنا للرحم». وكذا قالت عائشة رضي الله عنها لما بلغها قتله: «قتلوه وإنه لأوصلهم للرحم، وأتقاهم للرب”. وروى أبو خيثمة من طريق الضحاك، عن النزال بن سبرة، قال: «قلنا لعلي بن أبي طالب: حدثنا عن عثمان! قال: ذاك امرؤ يدعى في الملأ الأعلى ذا النورين، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما جهَّز عثمان جيش العسرة: ما ضرَّ عثمان ما فعل بعد اليوم».