القوى الدافعة لدى الأمم والقوة الدافعة في الإسلام
2021/07/31م
المقالات
2,225 زيارة
عصام الشيخ غانم
هذا موضوع دقيق في الفكر وله تأثير سياسي مباشر. وحتى تتيسر الأمور نقول بأن هناك أممًا مندفعة إلى الواجهة وهناك أمم أخرى مختبئة في الظل وبعضها في الظلام، والسؤال عنوان موضوعنا: ما الذي جعل أممًا تندفع وتخرج من حجرها وأممًا أخرى تنتظر في الظل وأخرى غارقة في الظلام ليس لها نور تهتدي به؟ هذا سؤال كبير.
ولتقريب الأمور نقول بأن الله خلق البشر متفاوتين، فمنهم عالم وجاهل، ومنهم غني وفقير، ومنهم أمير ومأمور؛ ولكن هناك تغييرات تحصل في العلم والغنى والإمارة، وبعض هذه التغييرات تحطُّ من صاحبها وأخرى تدفعه إلى الأمام، فقد تجد شابًا فقيرًا يندفع لخطبة ابنة الأمير، وهو ممتلئ بالشعور بأنه يمتلك الأهلية لذلك، فقد يكون مندفعًا بعلمه أو بشجاعته أو بأي سبب آخر دفعه للشعور بأنه مؤهل للزواج من بنت الأمير. هذا في أفراد الناس، وأما في الأمم فهناك دوافع تدفع الأمم إلى الأمام أو إلى الوراء؛ فمثلًا الشعور العام بالظلم يدفع الأمة إلى القيام بما يرفعه عنها، والشعور بالأحقية يدفع بأمة ما إلى مزاحمة أمةٍ أخرى واقتعاد مكانها، وهذا الشعور لدى الأمم يمكن أن يقدر بالكمّ فنقول شعورًا جياشًا في أعلاه، أو شعورًا متوسطًا في أقل قوته الدافعة، ويمكن لهذا الشعور أن يكون صحيحًا ويمكن أن يكون خاطئًا.
فمثلًا بسبب طول فترة حكم القذافي لليبيا وسكوت الناس على ظلمه طويلًا ظُنَ بأنه أكبر من رئيس أو ملك، وعندما خرج الناس عليه خاطبهم بقوله: من أنتم؟ قبل أن يسقطوه عن الحكم ويطاردوه في مدينة سرت ويقتلوه، فكان شعوره بعلو الإمارة من النوع الخاطئ. وأما أمريكا فإن شعورها بالقوامة على الأمم في مسائل حقوق الإنسان كان شعورًا دجالًا لأنها لا تهتم بحقوق الإنسان، وعندما انكشف دجلها بسياساتها في أبو غريب وباغرام وقلعة جانغي خفت شعورها بالقوامة على الأمم في هذه المسألة، وقد صارت بعد ذلك أقرب إلى أعمال الفاسدين في مكافحة الفساد أو العاهر الذي ينظر للشرف، بمعنى أن الدجل قد انكشف ففقدت أمريكا ما يدفعها للمطالبة بالقوامة على الأمم، وهي في ذلك كالرجل المسقط، فالعميل الذي ينادي بالوطنية يكون نداؤه خافتًا ورموشه تهتز وهو ينظر إلى من يعلم عمالته من حوله، بمعنى أنه يعلم أنه غير صادق، ويعلم بأن آخرين يعلمون ذلك أيضًا، لذلك تكون نداءاته للوطنية لغرض في نفسه يقضيه، ولا تكون دعوة حقيقية للوطنية.
وبمزيد من الأمثلة يمكن توضيح الأمور، فعندما تطورت الدول الأوروبية بفعل الثورة الفرنسية التي أنتجت الثقافة الديمقراطية الحالية، وعندما أخذ التقدم العلمي يرفع من حياة الدول الأوروبية، وشعرت بأنها أفضل حالًا من المسلمين في الدولة العثمانية التي كان حالها ينزل مع السنين، وشعرت كذلك أنها بحاجة إلى حماية نفسها من غزوات المسلمين؛ فقد تولَّد شعور كبير في أوروبا بضرورة صناعة أدوات القوة التي تمكِّن من القضاء على الدولة العثمانية ووضع الأوروبيين في صدارة العالم، وكان هذا الشعور شعورًا حقيقيًا ولم يكن كاذبًا.
وعندما شعرت بريطانيا بأنها أكثر دهاءً من باقي الدول الأوروبية فقد اندفعت لتسييرها وفق المصلحة البريطانية؛ لكن تسييرها كان بحاجة أيضًا لأن تثبت بريطانيا بأنها أفضل من تلك الدول صناعيًا وعسكريًا، فبنت صناعتها وعسكريتها قبل أن تسيِّر الدول الأوروبية لصالحها. وأما في روسيا التي وقعت تحت الاحتلال المغولي-التتري، ثم غزوة نابليون، ويقينها بأن الدول الأوروبية تعامل الروس على أنهم أقل من الأوروبيين ولا تتقاسم معهم الاستعمار والغنائم كما تفعل فيما بينها، فقد تولَّد لدى الروس شعور بالمظلومية أنتج وطنية كبيرة لدى الروس وأخذ يدفع بروسيا إلى الأمام، ويحافظ على مكانة لها بين الدول الأوروبية الكبرى وإن ظلت رابعها، لكن عندما انتصر الحزب الشيوعي الروسي في روسيا وهو يعتبر نفسه المخلِّص من جحيم الرأسمالية فقد زاد شعور الروس بالارتقاء والارتفاع والريادة والقيادة والقوامة على الغير، وفعلًا اندفعت روسيا وسبقت غيرها من الدول الأوروبية.
ولـمَّا نما شعور ليس في محله، أو شعور كاذب لدى الألمان بأن العرق الألماني أفضل من غيره وأصبح ذلك شعورًا قوميًا جياشًا فقد اندفعت ألمانيا تناكف بريطانيا وفرنسا في السياسة الأوروبية والدولية حتى حصلت الحرب العالمية الأولى، ثم الثانية، أي أن الشعور القومي لدى الألمان كان متهوِّرًا وأكبر من طاقات ألمانيا، أو أنه لم يتمَّ توجيهه الوجهة الصحيحة. وبغضِّ النظر عن صدقه من كذبه لأنه كان موجودًا لدى الألمان؛ لكنه كان يتعارض وبقوة مع مشاعر الأمم الأخرى فلم يصمد وانهزمت ألمانيا. وإذا كنا نرى اليوم أمريكا يدفعها شعورها بأنها الأقوى والأغنى إلى الأمام وإلى الهيمنة والصدارة الدولية، وهي في قمة مجدها؛ إلا أن دولة أخرى اليوم يتطوَّر اقتصادها هي الصين، ويزيد بذلك شعورها بأنه يجب أن يكون لها مكانة أفضل، وفعلًا دفعها هذا الشعور لمغادرة المنطقة المظلمة إلى الظل محاولةً الاندفاع أكثر تحت الأضواء العالمية.
ومن كل هذه الأمثلة يظهر بوضوح بأن المشاعر الجيَّاشة لدى الأمم هي التي تدفع بها لبناء عناصر قوتها من قوة اقتصادية وعسكرية وسياسية وصناعية وغير ذلك، وعندما تظهر عناصر قوتها كقوة جيشها أو قوة اقتصادها فإنها تبدأ بالمزاحمة والمنافسة والصراع من أجل تغيير مكانتها.
وبمراقبة أحوال الأمم نجد بأن أمورًا متنوعة هي ما يقف خلف توليد تلك المشاعر الدافعة، فالأمة المظلومة يدفعها الشعور بالظلم لرفعه عنها فتبني لذلك أدواته. والأمة الرائدة التي أثبتت نجاحًا متميزًا في الجوانب العلمية والأبحاث والصناعة فإن ريادتها وسبقها وكونها في المقدمة، وبالتالي حاجة الأمم الأخرى إليها في هذه الجوانب، هي الحقائق التي تولِّد ذلك الشعور الدافع إلى الأمام. والأمة المنتصرة في حرب أمام عدو كبير كانتصار روسيا الاشتراكية على هتلر يدفعها شعور المنتصر إلى الأمام. والأمور المولِّدة للمشاعر متنوعة بشكل كبير، وقد يكون الأمر كبيرًا فيولِّد شعورًا كبيرًا، وقد يكون صغيرًا، وقد يكون خاصًا كالموقع المحصَّن خلف البحار لأمريكا الذي يدفعها للشعور بالأمان إن هي شاركت في الحروب خلف المحيطات، أي لا تصل الحرب لبلادها، فهذا شعور خاص ودافع للحرب.
لكن الكثير من تلك المشاعر ذات طابع مؤقت حتى لو دام لعقود، فمثلًا تختفي المشاعر المتولِّدة عن المظلومية إذا رفع الظلم، لكن هناك سبب دافع للمشاعر يكون له طابع الديمومة وهو الفكر والعقيدة، وبقدر علوِّ الفكر وعمق تلك العقيدة وما ينتج عنها من الارتقاء في الحياة يكون مقدار المشاعر المتولِّدة والتي تدفع بالأمة إلى الأمام. ويمكن أن يكون الفكر جزئيًا في بعض جوانب الحياة فيكون الدفع جزئيًا، ويمكن أن يكون الفكر والعقيدة شاملًا لكل المناحي، وهو المبدأ، وحينها ينتج عنه ارتقاء في كافة مناحي الحياة ويولد مشاعر شاملة تدفع بالأمة إلى الأمام؛ لكن المبدأ يمكن أن يكون خاطئًا ويتعارض مع الحقائق، مثل الاشتراكية وتعارضها مع حقيقة غريزة التملك، ومثل الرأسمالية التي أنتجت أنانية فوق العادة دفعت بتعداد السكان للتناقص، فإن هذا المبدأ ينتج مشاعر عالية في البداية لأنه جديد، ثم ما يلبث أن يخفت تأثيره جزئيًا كالرأسمالية أو كليًا كالاشتراكية.
والأمم التي ينتشر فيها فكر شامل، أي مبدأ يحلُّ مشكلاتها وَفقًا لما يقدِّمه من حلول، فتشعر الأمة بالأريحية وينطلق تفكيرها في البناء الفعال وتبني عناصر قوتها، وهذا يقودها إلى الشعور بالارتقاء والارتفاع فتندفع وتزيد من اندفاعها في الحياة، بمعنى أن المشاعر المصاحبة لتأثير المبدأ في الأمة تشكل قوةً دافعةً إلى الأمام، تكون قوتها بقدر قوة المبدأ وصحته وعدم تعارضه مع الحقائق؛ لأن التعارض مع الحقائق المحسوسة يفتك بقوة بمشاعر حملة ذلك المبدأ ويضعفهم من داخل أنفسهم، فينتقل الضعف إلى الأمة، فيتوقف اندفاعها فتلجأ إلى الظل وربما إلى الظلام.
وأما القوة الدافعة في الإسلام فهي قوة خارقة، ويكفي للإشارة إليها أنها تدفع بالعجوز البسيطة المؤمنة بأنها من أصحاب الجنة للشعور بالتعالي على رئيس أمريكا لأنه من أهل النار، وتدفع التلميذ المسلم في أوروبا للشعور بالتعالي على أستاذه في العلوم لأن أستاذه كافر نجس، هذا من حيث النظرة للغير. وأما النظرة للنفس ففيها استقرار وطمأنينة بأن المسلم على حق، وأن حياته امتحان معجَّل للقاء الله المؤجَّل إلى حين، وأن الله تعالى خالق كل شيء والعظيم الجبار الذي بيده إن أراد أن يقول لشيء كن فيكون هو معه ومؤيده وناصره، وما عليه إلا أن يبقي على صلته بالله وثيقة ليكون في أحسن حاله. ومن كان الله معه فهو غير محتاج لأي شيء آخر، فهو مستغنٍ عن الاستناد إلى أي قوة في الدنيا.
وبما أن عقيدة الإسلام كل متكامل، فهو مؤمن بالله العظيم وينشرح صدره، بمعنى ينتابه سرور عظيم وطمأنينة إذا ذكر الله تعالى، وكلما استحضر فكرة أن الله معه زاد يقينه في هذه الدنيا، وعنده من الله كتاب ينطق بالحق، لا يتعارض مع الحقائق، فقد تطوَّر الطب كثيرًا ولم يجد علاجًا للموت الذي قضاه الله تعالى، وتطوَّرت العلوم ولم تجد ماهية الروح التي جزم الإسلام قديمًا بأن علمها ليس للبشر، وفي الوقت الذي ينتاب العالم الهلع من الأمراض الناتجة عن العلاقات المحرمة فإن زوج الأربعة نساء لا يصاب بأي مرض، وغير ذلك كثير مما يرسخ إيمان المؤمن بالكتاب الذي بين يديه.
وليس هذا فحسب، بل إن الواعي لأفكار الدين لا يعيقه علم الله أو اللوح المحفوظ عن التخطيط للمستقبل، بل يريحه ذلك في القبول بالماضي الذي ما كان فيه بالإمكان إلا ما كان، ويؤمن المسلم بأن ما أصابه ما كان ليخطئه، وما أخطأه ما كان ليصيبه، ويؤمن المسلم بأن مانح الرزق هو واحد أحد هو الله تعالى فلا يذل نفسه في الأعمال والأسواق، ويؤمن بأن لا خطر على حياته إلا ما شاء الله فيقتحم الصعاب دون مهابة الموت، وكان علي بن أبي طالب حين سئل عن جرأته في المعارك يقول: تحمينا آجالنا. وكان خالد بن الوليد يقول للمتخوِّفين من نزول المعارك: «ما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربة بسيف، أو رمية بسهم، أو طعنة برمح، وها أنا ذا أموت على فراشي حتف أنفي، كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء». وهذه العقائد من الإيمان بالأجل، والإيمان بالرزق، والإيمان بالقضاء والقدر، والإيمان بالقدر وبيوم القيامة ولقاء الله، كلها فكر شامخ حاكم للنفس، ولا يدركها على حقيقتها إلا من يراها رأي العين، ويلمسها لمس الإصبع، فهي ليست كلامًا يقال، بل لها واقع يجعل من الضعيف قويًا، ويجعل الوضيع قائدًا. ومن الجدير ذكره بأن الكفار لا يفهمون معنى ما نقول بالعمق الذي يعرفه المؤمنون، ويعزون قوة المسلمين إلى المجهول، وإن كانوا يلمسون تلك القوة على حقيقتها، سواء في معارك المسلمين أم في بعض تصرفات أفراد المؤمنين.
وبالتدقيق في مجمل عقائد الإسلام يجد الواعي بأن هذه العقائد توجد الثقة بالنفس، وتوجد التعالي على الغير الكافر، وتزيل عقبات الخوف بقدر الإيمان، فإن كان الإيمان مكتملًا زال الخوف برمته، سواء على الحياة أم الأرزاق أم مصائب الدنيا أم تحمُّل الصعاب، أم غير ذلك. وبالتدقيق الفكري نجد أن من كان متيقِّنًا من عقيدته واثقًا بالمسار الذي يفرضه الدين، وقد أزالت العقيدة كافة العقبات من خوف من أمامه، تجده منطلقًا إلى الأمام. ولعل التذكير بقوة الربيع العربي لا بأس به حين قال كل المحلِّلين بأن الشعوب العربية قد كسرت حاجز الخوف، فإذا انكسر هذا الحاجز فقد تولَّدت مشاعر متدفِّقة ودائمة بشرط صحوة الإيمان ولا تذبل إلا بالغفلة. وهذه المشاعر قويَّة وجيَّاشة ومن طبيعتها أنها تدفع إلى الأمام، ومن طبيعتها في المجتمع أن القدوات يؤثرون في غيرهم من بسطاء الناس، فينطلق الجميع مشكِّلين تيارًا هادرًا وقادرًا على بناء الاقتصاد، وبناء الدولة، وبناء الجيش، وبناء الخطط، ومؤهَّلًا بالكامل للنجاح ووضع هذه الأمة في مكانة مرموقة بين الأمم.
وهذا ما كان عندما هزمت قبائل العرب البسيطة أمم فارس والروم وفتحت بلادها وقادت شعوبها وأصبح رعاة الأغنام قادة الدنيا بأسرها إذا وقفوا ارتجت الأرض لوقفتهم، وانهارت القوى من أمامهم. وهذا قادم قريبًا بإذن الله لأن القوة الدافعة في الإسلام قديمًا هي هي لم تتغير، وهي قادرة اليوم على وضع الأمة الإسلامية في مكانتها الطبيعية العالية بين الأمم بشرط أن تكون النخبة القائمة على التغيير في حالة صحوة وبعيدة عن الغفلة، وهذا مجمل حالها بإذن الله، أي إنها قادرة حين تحين ساعة النصر على شحن الأمة بعقائد الإسلام لتحيل من هذه الأمة التي بدت قبل عقود وكأنها ميتة، تحيلها خلقًا جديدًا، فتكون فيها مشاعر العظمة بعظمة الدين الذي تدين به فتندفع إلى الأمام، وهذه القوة الدافعة في الإسلام فريدة من نوعها من زاويتين؛ الأولى أنها تدفع بقوة جبَّارة لا حدود لها ولا تعرف الأمم الأخرى قوة شبيهة لها في مقدار قوة الدفع، والزاوية الثانية أن دفعها شامل لكل مناحي الحياة، فلا يقبل المسلمون أن يقاتلوا بأسلحة صنعتها أمم أخرى، اللهم إلا في البداية، بل يصنعون سلاحهم بأيديهم، ولا يقبلون بأن يكونوا ذيلًا لأمة أخرى في الصناعة والتكنولوجيا وغير ذلك، بل يصنعون ما يلزمهم وفي فترة قياسية.
نسأل الله تعالى أن نرى ذلك قريبًا في أمة الإسلام، لتريَ الله من نفسها شيئًا، وتريَ أعداءها من نفسها عجبًا، وما ذلك بإذن الله ببعيد. قال تعالى: (كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ َتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ وَلَوۡ ءَامَنَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۚ مِّنۡهُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَأَكۡثَرُهُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ١١٠).
2021-07-31