هل انهيار أميركا حقيقة أم خيال؟ (3)
2015/01/05م
المقالات
2,143 زيارة
بسم الله الرحمن الرحيم
هل انهيار أميركا حقيقة أم خيال؟ (3)
عابد مصطفى
في الجزء الثالث والأخير من السلسلة يناقش الكاتب بإيجاز ما إذا كانت مكانة أميركا في العالم قد تراجعت خلال العقد الماضي أو نحو ذلك، ويركّز على الجانب السياسي من قدرتها على حل مشاكل العالم.
في الجزء السابق تم تحديد مقياس يُقاس به تراجع الدول، والسمات الرئيسية لهذا المقياس، وهي ثلاثة أنواع من التفكير: السياسي، والفكري، والتشريعي، وتأثيرات كل منها على مكانة الأمة نسبياً مقارنة بالأمم الأخرى. وقد تبيّن أن أهم نوع من التفكير هو التفكير السياسي، الذي له تأثير عظيم على الأنواع الأخرى. وللإيجاز فإن الفكر السياسي فقط هو الذي سيتم اعتماده لتقييم التراجع الأميركي، والشرح المفصّل لأنواع التفكير الأخرى فيما يتعلق بتراجع أميركا هو خارج نطاق هذا المقال.
يجب على دراسة التراجع السياسي الأميركي أن تشمل الشؤون الداخلية والخارجية على حد سواء، ولكن لأن هذه المادة تقتصر على عدد معين من الكلمات سوف يتم التركيز على الشؤون الخارجية فقط. ومع ذلك، لا بد من القول بأن الفكر السياسي في الشؤون الداخلية والخارجية يرتبطان ارتباطاً وثيقاً في الدول التي تتبنى عقيدة، فإذا ما انخفض التفكير السياسي الداخلي فسوف يعيق ذلك أداء الدولة في الخارج، وإذا ما وجدت أخطاء جسيمة في الخارج فسوف تكلف باهظاً على الجبهة الداخلية. وعلى سبيل المثال، فشل الحكومة الأميركية في منع الأزمة الاقتصادية عام 2008م أثّر على مسائل سياسية داخلية وخارجية على حد سواء. من ناحية أخرى، فالحروب الخارجية في العراق وأفغانستان جعلت الأميركيين أكثر تردداً تجاه المشاريع الخارجية، وهذا تسبب في الاستفاضة من البحث الروحي حول ما ينبغي أن يكون دور أميركا في العالم.
في 28 مايو 2014م، تحدث رئيس الولايات المتحدة أوباما أمام خريجي الأكاديمية العسكرية الأميركية في “ويست بوينت” معبّراً عن المأزق الذي تواجهه أميركا في الساحة الدولية، قائلاً: “أميركا يجب أن تكون دائماً القائدة على الساحة الدولية، إذا لم نفعل سوف يفعل غيرنا، الجيش الذي تنتمون إليه كان وسوف يكون دائماً العمود الفقري لتلك القيادة، ولكن العمل العسكري للولايات المتحدة لا يجب أن يكون المكون الوحيد أو حتى الرئيسي في قيادتنا في كل حال من الأحوال، إذا كانت لدينا أفضل مطرقة فهذا لا يعني أن كل مشكلة هي مسمار” (ملاحظات أوباما في حفل تخرج “ويست بوينت”، والـ “ستريت جورنال” 28 مايو 2014م). إنّ قوله هذا يشير بوضوح إلى أن أميركا قد اعتمدت كثيراً على القوة العسكرية بدلاً من الحلول الديبلوماسية والسياسية للحفاظ على مكانتها فقط باعتبارها الدولة الرائدة في العالم. وعلى مدى العقد الماضي وأكثر، لجأت أميركا بشكل متزايد إلى القوة العسكرية لحل المشاكل العسكرية المعقدة، وهذا بدوره أدى إلى تقلص النفوذ السياسي الأميركي حول العالم، وإشارة أوباما في خطابه إلى استخدام القوة العسكرية بأنها “عنصر أساسي” تؤكد حقيقة أن أميركا تواجه للمرة الأولى – ومنذ سنوات عديدة- أزمة في القدرة على استخدام نفوذها السياسي في حل المشاكل الدولية. إنّ النفوذ السياسي لإيجاد حلول سياسية مجدية هو المقياس الحقيقي في التفكير السياسي في الشؤون الدولية، فالنفوذ السياسي ضروري ليس فقط لاستخلاص حلول سياسية بل وأيضاً لتطبيقها.
والمقصود بالنفوذ السياسي الأميركي هو القدرة الأميركية على تغيير سلوك الدول الأخرى لقبول الحلول السياسية التي تنتجها وتنفيذها. عمليّاً النفوذ السياسي يترجم إلى قدرة أميركا على السيطرة على بلد معيّن: الحاكم، والحكومة، والوسط السياسي، ومؤسسات الدولة (مثل القضاء، والخدمة المدنية… وغيرها)، والجيش، مع الهدف الأساسي وهو ضمان عدم معارضة الشعب للحلول السياسية التي تمليها عليه. وكلما زاد النفوذ السياسي على بلد قلَّت الحاجة لاستخدام القوة العسكرية، والعكس صحيح؛ فإذا قل النفوذ السياسي على بلد تزداد بذلك الحاجة إلى القوة العسكرية (والقوة العسكرية هنا تعني إزالة الحواجز المادية مقابل نجاح قبول الحلول السياسية وتنفيذها).
ولشرح كيفية تراجع النفوذ السياسي الأميركي دولياً، ننظر في الأمثلة التالية:
كلنا نتذكر المتعجرف جورج بوش الابن واقفاً وراء شعار “تم إنجاز المهمة” على حاملة الطائرات “إبراهام لنكولن” يدلي بخطابه “انتصار العراق”، قائلاً: “في هذه المعركة، لقد قاتلنا من أجل قضية الحرية، ومن أجل السلام في العالم، أمتنا وحلفاؤنا فخورون بهذا الإنجاز… في معركة العراق، انتصرت الولايات المتحدة وحلفاؤها فقط.” (نص خطاب بوش، سي بي سي 1، مايو 2003م). إن خطاب النصر كذّبه الواقع السافر من حرب العصابات التي اجتاحت القوات الأميركية وحلفاءها، فأميركا سرعان ما وجدت نفسها غارقة في المستنقع العراقي الذي وجدت صعوبة في تخليص نفسها منه، فتم التخلي بسرعة عن إرساء الديمقراطية في العراق (دفع سعر النفط الخام إلى أدنى مستوياتها، وإنشاء القواعد العسكرية لإرساء النظام في البلدان المجاورة … الخ)، بدلاً من ذلك، كانت أميركا متورطة في حرب عصابات طويلة، تصارع من أجل حل المشكلة الأساسية في العراق وهي إيجاد حكومة فاعلة.
عندما انقشع الغبار أخيراً، وكانت أميركا قادرة على تسليم الرجال الذين اختارتهم لتسيير الحكومة المضطربة والمؤسسات الهشة والجيش غير المجهز، انسحبت أميركا من العراق تاركة وراءها الفوضى وعدم الاستقرار، وعلى الرغم من السيطرة على كل مقاليد الدولة في العراق، كان النفوذ السياسي الأميركي ضئيلاً عند الحديث عن حل أكبر مشاكل العراق، وهو عدم الاستقرار! العراق هو المثال الكلاسيكي حيث استخدمت الولايات المتحدة أقصى قوتها العسكرية، في حين فشلت سياسياً. اليوم، ذهب العراق من سيئ إلى أسوأ، وهو على شفا التفكك، ومرة أخرى، تستخدم أميركا أساليب الجيش السرّي لتقطيع أوصال العراق وتأمل بذلك تحقيق الاستقرار في أجزائه.
وتعثر أميركا في أفغانستان أكثر إيلاماً، والصورة أسوأ من العراق، فمن الناحية العسكرية فشلت أميركا في هزيمة طالبان، وفشلها على الجبهة السياسية كان أكبر بكثير. منذ أيام مؤتمر “بون” عام 2001م وأميركا تكافح من أجل تشكيل حكومة أفغانية يمكن أن يمتد حكمها إلى خارج كابول، والاتفاق الحالي بوساطة وزيرة الخارجية الأميركية لحل خلافات “عبد الله” و”غني” هو أحدث مثال في هذه الملحمة، وليس مستغرباً قيام أميركا بعد ذلك بتغيير استراتيجيتها وتأجيل موعد الخروج من أفغانستان عدة مرات. وأخيراً في يونيو 2012م، وخلال قمة حلف شمال الأطلسي في شيكاغو، قبلت أميركا وحلفاؤها الهزيمة، وجاء في البيان المشترك الصادر عن الرغبة الجماعية لجميع دول حلف الناتو بإسدال الستار على مغامراتهم السيئة في أفغانستان: “بعد عشر سنوات من الحرب، ومع الاقتصاد العالمي المترنح، فإن الدول الغربية لم تعد تريد أن تخسر، سواء في المال أو في الأرواح، ولا أن تدفع مزيداً من تكاليف جهودها في مكان قاوم لقرون أية محاولة خارجية لترويضه.” (يقول أوباما: نحن الآن موحدون لإنهاء الحرب في أفغانستان، ستار توربيون، 21 مايو 2012م).
إن الإخفاقات السياسية الأميركية لا تقتصر فقط على منطقة الشرق الأوسط وأوراسيا، فأداء أميركا في أفريقيا في النفوذ السياسي على نفس القدر من السوء. ففي يوليو 2011م صوّت جنوب السودان تحت الرعاية الأميركية بالأغلبية الساحقة للانفصال عن السودان، لتتمكن أميركا من السيطرة أكثر على موارد النفط في الجنوب، وللحدّ من نفوذ الصين المتنامي، لكن البلاد بعد عامين شهدت حرباً أهلية واسعة النطاق، والانهيار المذهل لجنوب السودان يدعو إلى السؤال عن تفاؤل الولايات المتحدة في وقت سابق بشأن مستقبل البلاد، وكان لصحيفة نيويورك تايمز هذا القول: “جنوب السودان هو صناعة أميركية بطرق عديدة، اقتطعته من السودان الذي مزقته الحرب في استفتاء مدبر بشكل واسع من قبلها هي ومؤسساتها الحساسة، وغذته ملايين الدولارات من المساعدات الأميركية. ولكن الصراع العكر والمشعب هناك جعل إدارة أوباما تسعى جاهدة لمنع تفكك إنجاز أميركا في أفريقيا.” (الولايات المتحدة تواجه خيارات صعبة في جنوب السودان، نيويورك تايمز، 3 يناير 2014م). وجنوب السودان ليس وحده، فهناك دول أخرى في أفريقيا تسيطر فيها أميركا على الحكومة والمؤسسات المدنية والجيش، ولكنها غير قادرة على إيجاد حلول سياسية دائمة توفر الأمن والحكم.
أما علاقة أميركا مع روسيا فقد اتخذت منعرجاً للأسوأ عندما كانت أميركا القوة الراجحة في أوروبا الشرقية ونفوذها السياسي فقد وصل القاصي والداني. ومع الوتيرة السريعة لتوسع الناتو والاتحاد الأوروبي، كانت روسيا الطرف المتلقي، خصوصاً في عهد كلنتون. مع ذلك، في السنوات الست الماضية، أخذت الأمور منحى خاطئاً بالنسبة للولايات المتحدة؛ فمن تقسيم جورجيا إلى مناطق أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية المحتلة إلى ضم شبه جزيرة القرم، وروسيا تتحدى بشكل متزايد سيادة أميركا ونفوذها، وليس فقط في القوقاز، بل وأيضاً في دول آسيا الوسطى مثل أوزبكستان وقرغيزستان. وقد نقل وزير الخارجية الأسبق (روبرت غيتس) في صحيفة “وول ستريت جورنال” هذا القول عن بوتين: “نريد لروسيا أن تكون شريكاً، ولكن الواضح الآن أن الأمر غير ممكن تحت إدارة السيد بوتين، الذي أظهر طمعه الكبير غير المقتصر على شبه جزيرة القرم أو حتى أوكرانيا. إنّ أفعاله تتحدى نظام ما بعد الحرب الباردة بأكمله، بما في ذلك حق الدول المستقلة في التحالف والقيام بالأعمال التجارية مع من تختاره”. لقد عملت أميركا جاهدة منذ أوائل التسعينات لكسب النفوذ السياسي في منطقة ما بعد الاتحاد السوفياتي، لكنّ أغلب محاولاتها تم إفشالها من قبل بوتين في الآونة الأخيرة، وأميركا الآن تواجه حزما ًكبيراً من روسيا، مما يشكل تحديات جديدة لم توجد من قبل، لذا فمن الواضح أن هذا يعتبر فشلاً أساسياً للسياسة الأميركية.
وأخيراً، نتناول أعداء أميركا الآخرين (الصين)، حيث الصورة البارزة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ هي صورة فشل أميركا في احتواء صعود الصين النيزكي كقوة إقليمية. لسنوات عديدة، كانت الدعامة الأساسية للسياسة الأميركية في آسيا والمحيط الهادئ لبناء بنية أمنية قوية مع الدول المجاورة للصين هي منع بكين من التوسع نحو الخارج، لكن انتهاك الصين للأمن في عدد من المناسبات من خلال مزيج من النزاعات الإقليمية مع جيرانها والمناورات العسكرية العدوانية، أجبر الولايات المتحدة على دعم دفاعاتها، وعلى حد تعبير صحيفة نيويورك تايمز، يبدو أن الإجراءات الصينية كانت متعمدة، حيث تقول الجريدة: “إنّ الصين تضغط لتفكيك تحالفات أميركا في جميع أنحاء آسيا، في محاولة لفك الروابط التي جعلت هذه الدول قريبة من واشنطن وسمحت للولايات المتحدة أن تكون قوة بارزة في المنطقة منذ الحرب العالمية الثانية. (التململ الأميركي في آسيا مهدد بتحدي الصين للحلفاء، نيويورك تايمز، 30 مايو 2014م).
وللتحقق من الجرأة الجديدة التي اكتسبتها الصين، تخطط أميركا لإعادة 60% من أسطولها البحري في أوروبا إلى آسيا والمحيط الهادئ كجزء من «استراتيجية الولايات المتحدة المحورية في آسيا» المرغوبة، كما صرح بذلك أوباما. وتشمل التدابير الأخرى، تجديد أميركا للاتفاقات العسكرية وتوسيعها مع الدول المطلة على الجزء الآسيوي من المحيط الهادئ، فضلاً عن دعم بلدان أخرى، مثل تشجيع اليابان على تعديل دستورها لكي يتسنى لطوكيو لعب دور أكبر. لكن على الرغم من كل هذا، تقول الولايات المتحدة إن حلفاءها لا يشعرون بالارتياح تجاه الصين ويشككون في التزام واشنطن على المدى البعيد، ذكرت وكالة رويترز: «هناك أيضاً شكوك بين بعض الحلفاء الآسيويين أنهم إذا تعرضوا لتهديد من الصين فإن الولايات المتحدة على الرغم من التزامات المعاهدة، لن تأتي لمساعدتهم. ربما قد تصوغ مشروع رد يهدف إلى التحكم أكثر في تضرر علاقتها الحيوية الخاصة مع الصين (ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم).» (أوباما يسعى لإنقاذ محور “آسيا” بسبب حنق الحلفاء على الصين، رويترز، 18 أبريل 2014م).
هذه ليست سوى حالات قليلة تُظهر تلاشي حظوظ السياسة الأميركية على مدى العقد الماضي وأكثر، وهناك دلائل مماثلة من بلدان في قارات أخرى. وهنا يجب علينا ذكر بعض الملاحظات:
أولاً: زوال النفوذ السياسي الأميركي في الخارج تسارع بعد غزو بوش للعراق عام 2003م، وبكل المقاييس، فقد حملت القرارات السياسية الضعيفة آثاراً هائلة على السياسة الخارجية الأميركية. وإذا كان العراق خطأ استراتيجياً للرئيس بوش، فإن الفشل في إيجاد حل في سوريا هو خطأ أوباما الاستراتيجي في الوقت الحاضر، ليس بنفس الحجم كالعراق، لكن قد يكون.
ثانياً: انحسار النفوذ الأميركي يأتي في وقت كانت فيه القوة العسكرية الأميركية في ذروتها، وعلى الرغم من هذا فإن أميركا عاجزة عن تحويل نجاحها العسكري إلى مكاسب سياسية. أميركا جيدة جداً في تدمير الدول، ولكن سيئة للغاية في بناء الأمم، فهذا الأمر يتطلب مستوى عالياً من الفكر السياسي في رعاية شؤون الناس، على الرغم من أن أميركا تعمل على تأمين حقها في إدارة شؤون الناس.
ثالثاً: في الأماكن التي يتضاءل فيها النفوذ السياسي الأميركي، تواجه أميركا إما تحدياً سياسياً من قوى كبرى، مثل الوضع في أوكرانيا، أو من السكان الأصليين، في شكل وعي سياسي بقيادة حركات سياسية، وغالبية العالم الإسلامي تندرج ضمن هذه الفئة.
رابعاً: ليس من قبيل المبالغة القول إنه بالمقارنة مع الثمانينات والتسعينات، أميركا لم تتمتع بأي نجاح سياسي ذي سمعة منذ 2003م، والنجاحات السياسية القليلة التي حققتها أميركا تحولت بسرعة إلى فشل، بل وأصبح بعضها كوابيس ذات أبعاد هائلة.
خامساً: التراجع الحاد للنفوذ السياسي الأميركي يكمن في العالم الإسلامي، على الرغم من سيطرة أميركا على مقاليد الحكم في العديد من البلدان مثل باكستان وسوريا ومصر… الخ، وهذا يعني أن شعوب هذه البلدان ليست فقط معادية للولايات المتحدة، ولكن أصبحت أيضاً منفصلة عن الاشتراك في الأفكار والثقافة الغربية، هذا يجعل الأمر أكثر صعوبة على أميركا في إيجاد حلول سياسية وفرضها من دون استخدام القوة العسكرية مباشرة أو غير مباشرة من خلال القوات المحلية.
نأمل أن القارئ قد أصبح قادراً على أخذ الأفكار الواردة في المقالات الثلاث وتطبيقها في محاولة فهم طبيعة الأمم، نهضتها وانحطاطها.
2015-01-05