الرأسمالية تترنح والإسلام هو البديل
2021/04/14م
المقالات
1,534 زيارة
مازن الدباغ – العراق
خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان وجعله خليفة في الأرض، قال تعالى: (وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ…) ولم يتركه حيران في هذا الاستخلاف لأنه تعالى خلقه فاقدًا لأهلية التدبير، فهو مخلوق عاجز محدود ناقص محتاج، بل أرسل الله تعالى رسله وأنزل عليهم شرائعه ليبلِّغوا الناس ما أنزل إليهم من ربهم بعد أن أقاموا البرهان والحجة على أنهم رسل ربهم، وأمرهم بتطبيقها، وتوعدهم بالعذاب الشديد إن هم حادوا عنها، قال تعالى: (يَٰدَاوُۥدُ إِنَّا جَعَلۡنَٰكَ خَلِيفَةٗ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱحۡكُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ ٱلۡهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمۡ عَذَابٞ شَدِيدُۢ بِمَا نَسُواْ يَوۡمَ ٱلۡحِسَابِ ٢٦). وختم رسله برسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه شريعته التي هي خاتمة الشرائع وجعلها مفصلة عامة شاملة لجميع نواحي الحياة، وكان عليه الصلاة والسلام من أول يوم بعث فيه وهو يسعى إلى جعل العبودية لله وحده والسيادة له سبحانه وتعالى، واعتبر أن ما سوى الله مهما كان شكله أو نوعه هو طاغوت يجب الكفر به، قال تعالى: (لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّۚ فَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلطَّٰغُوتِ وَيُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَاۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ٢٥٦).
نعم لقد كان عليه الصلاة والسلام يسعى لتأسيس دولة تطبِّق ما أنزل الله سبحانه وتعالى إليه، فلاقى ما لاقى من الصدِّ والإيذاء، واتَّهموه – حاشاه – بالسحر والجنون وهو متحمِّل كل ذلك وصابر عليه من قومه الذين كانوا يصفونه قبل البعثة بالصادق الأمين، فتوجَّه خارج مكة وأخذ يلتمس النصرة من أهل القوة من القبائل الأخرى لتمكِّنَه من تطبيق شرع الله. فمنهم من اشترط عليه، ومنهم من ردَّه بالحسنى، ومنهم من آذاه وسلَّط عليه الصبية ترميه بالحجارة كما فعلت الطائف، وهو في كل ذلك صابر وواثق بنصر الله، وكذلك تحمَّل صحابته والذين كانوا يمثِّلون كتلة المؤمنين، تحمَّلوا ألوان العذاب من المشركين فقد كان بلاؤُهم شديدًا، ومِحنتُهم عظيمةً، وكان خَبَّابُ بنُ الأرتِّ رضِي اللهُ عنه مِن أشدِّ الصَحابةِ تعرُّضًا لِلعذابِ في مكَّةَ في بدايةِ البعثةِ النَّبويَّةِ، فجاءَ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مع بعضِ أصحابِه فيما يرويه البخاري عن خباب بن الأرت حيث قال: «شَكَوْنا إلى رَسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له في ظِلِّ الكَعْبَةِ فَقُلْنا: ألا تَسْتَنْصِرُ لنا ألا تَدْعُو لَنا؟ فقالَ: قدْ كانَ مَن قَبْلَكُمْ، يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فيُحْفَرُ له في الأرْضِ، فيُجْعَلُ فيها، فيُجاءُ بالمِنْشارِ فيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، ويُمْشَطُ بأَمْشاطِ الحَدِيدِ، ما دُونَ لَحْمِهِ وعَظْمِهِ، فَما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، واللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هذا الأمْرُ، حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخافُ إلَّا اللَّهَ، والذِّئْبَ علَى غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ».
هكذا كان صلى الله عليه وسلم واثقًا بتمام الإسلام، يعني هذا الدين، وأن الله مُظهره على سائر الأديان، فيكون لأهله من القوة والمنعة والظهور ما ترتفع به هذه الغربة والأذى والعنَت الذي يلقونه من المشركين، فكان كما قال عليه الصلاة والسلام بعد أن بايعه أهل النصرة من المدينة المنورة، فقامت دولة الإسلام، وتحقَّق الاستخلاف في الأرض، وحمل المسلمون هذه الأمانة وفتحوا البلدان وهم يبذلون أرواحهم في سبيل الله ونشر دينه، وعاشت الأمة الإسلامية في ظل شرع الله بالسعادة والطمأنينة في الحياة الدنيا ساعين إلى رضا الله سبحانه وتعالى ونيل جزائه، فتحقَّق فيهم قوله تعالى: (مَنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَلَنُحۡيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةٗ طَيِّبَةٗۖ وَلَنَجۡزِيَنَّهُمۡ أَجۡرَهُم بِأَحۡسَنِ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ٩٧).
كانت هذه الدولة، الدولة المثال في الأرض في جميع نواحي الحياة؛ ففي جانب الحكم والسياسة الخارجية كانت الدولة الأولى في الموقف الدولي بلا منازع… وفي جانب الاقتصاد فقد ازدهرت وقضت على الفقر في غضون عقدين من الزمن، وفي عام 86 للهجرة فاض المال في دولة الخلافة عندما تسلمها الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وكانت خطبته عند تسلُّمه الحكم فيما يرويه ابن كثير في البداية والنهاية عن سلام بن سليم، قال: «لما وَلِيَ عمر بن عبد العزيز صعد المنبر، وكان أول خطبة خطبها، حمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: «أيها الناس، من صحبنا فليصحبْنا بخمس، وإلا فليفارقْنا، يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها، ويُعيننا على الخير بجهده، ويدلُّنا من الخير على ما لا نهتدي إليه، ولا يغتابنَّ عندنا الرعية، ولا يعرضنَّ فيما لا يعنيه» فانقشع عنه الشعراء والخطباء، وثبت معه الفقهاء والزهاد، وقالوا: ما يسعنا أن نفارق هذا الرجل حتى يخالف فعلُه قولَه. فعمَّ الرخاء في عهده، حتى إنه لم يبقَ للفقر وجود في دولته الممتدة الأطراف، وكان رحمه الله يخاف أن يكون له خصم من المظلومين أو الفقراء يوم يلقى ربه عز وجل، وقد دخلت عليه زوجته فاطمة يومًا فوجدته جالسًا في مُصلَّاه واضعًا خدَّه على يده ودموعه تنهمر على خديه، فقالت له: ما بك؟ فقال: ويحكِ يا فاطمة، قد وُلِّيتُ من أمر هذه الأمة ما وليت، فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهود، واليتيم المكسور، والأرملة الوحيدة، والمظلوم المقهور، والغريب الأسير، والشيخ الكبير، وذي العيال الكثير والمال القليل وأشباههم في أقطار الأرض وأطراف البلاد، فعلمت أن ربي عز وجل سيسألني عنهم يوم القيامة، وأن خصمي دونهم محمد صلى الله عليه وسلم وعلمت أن لا حجة عند خصومته فرحمت نفسي فبكيت». (البداية والنهاية)
وهذا لم يتحقَّق إلا في المجتمع المسلم، فلم يتحقَّق في مجتمع شيوعي يلغي الفرد في سبيل المجموع، أو رأسمالية تعظم الفرد ولو على حساب المجموع، بل إن الإسلام يراعي الفرد والجماعة معًا؛ لأنه يعتبر الفرد جزءًا من الجماعة. فيَترك للفرد أن يجني المال بعمله ويبيِّن له أسباب التملك وتنمية المال بأحكام شرعية، ويحرِّم الربا والغش والسرقة، وهنا يراعي الفرد، ثم يطلب منه فقط حق الزكاة وما تجود به نفسه من صدقات، ليتم توزيعها على فقراء الأمة ممن يعجز عمله عن سد احتياجاته، وهذه مراعاته للجماعة.
وفي الجانب الاجتماعي وعلاقة الرجل بالمرأة فقد كانت الدولة الإسلامية قمة في الطهر والعفاف والخلق الكريم والترابط الأسري.
وفي جانب التعليم والثقافة فقد كانت مشعلًا للحضارة والمدنية، أمة متميزة حتى كان الغرب يرسل أولاده وبناته ليتعلَّموا في دولة الخلافة، وما يوجد اليوم في البلاد الإسلامية من بنيان يعود لهذه الدولة خير شاهد على التطور الذي حقَّقته دولة الخلافة آنذاك.
وفي ظل هذه الدولة عاش المسلمون وغيرهم ممن يملك التابعية العيش الكريم، ليست لعلاقاتِ الدم، ولا علاقات الأرضِ، ولا علاقاتِ الجِنس، ولا علاقات التاريخ، ولا علاقات اللُّغة، ولا علاقات الاقتصاد، وليست هي القرابةَ، وليست هي المصالحَ الاقتصاديةَ، إنما هي علاقةُ العقيدة وما انبثق عنها من أحكام وما بني عليها من أفكار؛ وبذلك تجاوزت الإطار القوميَّ القائم على النَّظرة العِرْقية للأمة، وصهرت الأعراق في بوتقة الإسلام، عاش في ظلها أبو بكر العربي مع بلال الحبشي مع صهيب الرومي، هوية الإسلام والتي قاعدتها كما قال تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞ ١٣) وبيَّنها عليه الصلاة والسلام فيما يرويه الإمام أحمد في مسنده عن أبي نضرةَ قال: حدثني من سمع خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق فقال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى، أَبَلَّغْتُ؟ قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم».
وبقيت هذه الدولة شامخةً قرابة الثلاثة عشر قرنًا حتى أصابها داء الأمم السابقة كما قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة: «سَيُصِيبُ أُمَّتِي دَاءُ الْأُمَمِ» فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا دَاءُ الْأُمَمِ؟ قَالَ: «الْأَشَرُ» أي كفر النعمة «وَالْبَطَرُ» أي الطغيان عند النعمة «وَالتَّكَاثُرُ» من جمع المال «وَالتَّنَاجُشُ فِي الدُّنْيَا وَالتَّبَاغُضُ وَالتَّحَاسُدُ حَتَّى يَكُونَ الْبَغْيُ» أي مجاوزة الحد «ثُمَّ يَكُونَ الْهَرْجُ» أي القتل، وهذا تحذير شديد من التنافس في الدنيا والتحاسد عليها، فإن ذلك أصل الفتن وعنه تنشأ الشرور، وهكذا دبَّ الضعف على هذه الأمة واستطاع الغرب الكافر غزوها ثقافيًا وعسكريًا، وأثار النعرات القومية والطائفية وعمل على تفريقها، مع أن الشرع قد حذَّر من الفتنةِ المترتِّبة على انقسام المسلمين وموالاة الكفار لكونهم أولياء بعض؛ لأجل المحافظة على حقِّ وكِيان الأمَّةِ والدولة النَّاجمة عنها؛ قال تعالى: (۞يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ ٱلۡيَهُودَ وَٱلنَّصَٰرَىٰٓ أَوۡلِيَآءَۘ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ٥١) وقال سبحانه: (ٱلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ ٱلۡكَٰفِرِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۚ أَيَبۡتَغُونَ عِندَهُمُ ٱلۡعِزَّةَ فَإِنَّ ٱلۡعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعٗا ١٣٩)، وأمرهم بوحدة الصف والاعتصام بحبله، قال تعالى: (وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَآءٗ فَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦٓ إِخۡوَٰنٗا وَكُنتُمۡ عَلَىٰ شَفَا حُفۡرَةٖ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنۡهَاۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ ١٠)، ثم تمكن الغرب الكافر بقيادة رأس الكفر آنذاك بريطانيا من هدم دولة الخلافة وتمزيقها إلى كيانات هزيلة تابعة له، ومنذ ذلك التاريخ وإلى يومنا هذا تعيش الإنسانية الشقاء وضنك العيش بعد أن تفرد النظام الرأسمالي بصوغ طريقة العيش للعالم، فوضع العالم على بركان ملتهب.
فعندما جعل النظام الرأسمالي السيادة للإنسان وأخذ يشرِّع ويسنُّ القوانين للفرد والجماعة ومقياسه في ذلك النفعية، فليس هناك قيم روحية أو إنسانية أو أخلاقية، إنما هناك النفعية والنفعية فقط، فهذا النظام البشِع والخطِر على الإنسانية قد أدخل العالم والأُمم في الأزمات، فأزمات اقتصادية واحدة تلو الأخرى وتفقير للشعوب وتجويعها، وحروب شرَّدت الملايين من الأبرياء وقتلت الملايين، لا لشيء إلَّا للاستحواذ على البلدان ونهب ثرواتهم، وباتت شعوبهم في ظل هذا النظام تعيش التفكك الأسري وانتشار الرذيلة والفواحش والشذوذ والأوبئة والتي لم تسمعْ بها الأمم السابقة كالإيدز والجمرة الخبيثة وإنفلونزا الطيور وجنون البقر وفيروس كورونا، فأوقع الإنسانية في المشاكل والأزمات من غير أن يستطيع حلَّها مصداقًا لقوله تعالى: (وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِي فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةٗ ضَنكٗا وَنَحۡشُرُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ أَعۡمَىٰ ١٢٤).
واستمرَّ هذا النظام البشع يُذيق الأمم ومنها الأمة الإسلامية الويلات حتى برز على الساحة السياسية حزب سياسي درس الإسلام وجميع الحركات التي قامت لنهضة الأمة، وبيَّن سبب إخفاقها، وقدّم منظومة إسلامية متكاملة تبدأ بحل العقدة الكبرى وهي العقيدة، مرورًا بنظام الحكم والنظام الاقتصادي والنظام الاجتماعي والقضاء وسياسة التعليم، وصولًا إلى دستور الدولة المستنبَط من الكتاب والسنة، ودخل المجتمع متفاعلًا ومتقيِّدًا بطريقة الرسول صلى الله عليه وسلم بالصراع الفكري والكفاح السياسي، فلاقى ما لاقى من المطاردة والتعذيب والتشريد من قبل أزلام الأنظمة الحاكمة في بلاد المسلمين، كل ذلك وهو متمسِّكٌ بثوابته، واثقٌ بوعد الله بالاستخلاف في الأرض بقوله تعالى: (وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡٔٗاۚ وَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ٥٥). وعندما شعر الغرب الكافر بتطلُّع أمة الإسلام إلى إسلامها والعودة إلى سالف مجدها بعد أن قطع حزب التحرير أشواطًا كثيرة ودنا من تحقيق هدفه، واستطاع أن يوجد الرأي العام على الإسلام، وبات لديه رجال دولة، ولم يبقَ لديه إلا النصرة من أهل القوة والمنعة ليمكنوا الحزب من استئناف الحياة الإسلامية وقيام دولة الخلافة التي بشَّر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الحكم الجبري الذي بات يلفظ أنفاسه الأخيرة، فيما رواه الإمام أحمد عن النعمان بن بشير رضي الله عنه «تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًا، فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُون، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ الله أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيًّا، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، ثمَّ سَكَتَ»، نعم عندما شعر الغرب بذلك استشاط غضبًا وأعلن الحرب على الإسلام، حتى فقد توازنه وهو يحاول إجهاض هذا المولود، وركَّز على محاربة الإسلام السياسي بحجة محاربة الإرهاب، والعودة إلى تجديد الخطاب الديني إلى محاولة اللعب بنصوص الشرع بالدعوة إلى مهاجمة كتب السنة الصحاح كالبخاري، وهكذا وصل الصراع بين الحقِّ والباطل بحالته المثالية بين قطبين: بين دول الغرب التي تمثل الرأسمالية وبين الأمة وعلى رأسها حزب التحرير، وكلما تمرُّ الأيام على هذه المعركة يزداد الباطل ضعفًا وتزداد الرأسمالية ترنُّحًا، وفي المقابل يزداد الحقُّ صلابة وتزداد ثقة الحزب بتحقيق هدفه، وهذه ليست أماني بل واقع يشاهده السياسي العالِم بسياسة الدول والذي يعرف كيف تنهار الدول وكيف تنهض الأخرى.
وفي هذا الواقع، ومن هذا المقام، لا بُدَّ من توجيه رسالتين:
الأولى: للعلماء
هذه الشريحة من المجتمع التي رفعها الله سبحانه وتعالى بقوله: (يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٖۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ ١١)، وحمّلهم الأمانة فكانوا ورثة الأنبياء، عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» فهل كان عمل الأنبياء إلا توحيد الخالق وتحكيم ما أُنزل إليهم في أرض الواقع؟ وإن كنا نرى العلماء الربانيِّين يحاسبون الحكام وهم في ظل حكم الإسلام أمثال أحمد بن حنبل والعز بن عبد السلام رحمهما الله فإن الحاجة اليوم أشد والواجب آكد على العلماء بأن ينتشلوا الأمة وينيروا لها دربها، وأن يكونوا في مقدمة الناصحين والمحاسبين. ونحن نعيش الملك الجبري وقد كشَّر الكفر عن أنيابه بهجمته الشرسة على الإسلام والمسلمين، فلا بُدَّ من تأدية هذه الأمانة ونصح الأمة والأخذ بيدها لمرضاة الله، ومؤازرة العاملين المخلصين من الأمة لتحكيم شرع الله؛ فتنالون بذلك سعادة الدنيا ونوال رضوان الله في الآخرة، وإلا فقد أوقع من شرّفه الله بإتيان آياته ثم انسلخ عنها، فيما حذر الشرع منه أشد التحذير ووصفه بأشنع وصف، قال تعالى: (وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ ٱلَّذِيٓ ءَاتَيۡنَٰهُ ءَايَٰتِنَا فَٱنسَلَخَ مِنۡهَا فَأَتۡبَعَهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَكَانَ مِنَ ٱلۡغَاوِينَ ١٧٥ وَلَوۡ شِئۡنَالَرَفَعۡنَٰهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُۥٓ أَخۡلَدَ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُۚ فَمَثَلُهُۥ كَمَثَلِ ٱلۡكَلۡبِ إِن تَحۡمِلۡ عَلَيۡهِ يَلۡهَثۡ أَوۡ تَتۡرُكۡهُ يَلۡهَثۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَاۚ فَٱقۡصُصِ ٱلۡقَصَصَ لَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ ١٧٦).
الثانية: لأهل القوة والمنعة
فالنصرة من أعظم الأحكام الشرعية، بها تقام الدولة ويعود الحكم بما أنزل الله؛ فيُقضى على الظلم والظلمات التي تعيشها البشرية عامة والمسلمون خاصة من تسلُّط الرأسمالية العفِنة، فقد مدح الله سبحانه وتعالى هذه الشريحة التي نصرت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمَّاهم الأنصار وشهد لهم بالإيمان، قال تعالى: (وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوٓاْ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ حَقّٗاۚ لَّهُم مَّغۡفِرَةٞ وَرِزۡقٞ كَرِيمٞ ٧٤)، ولم ينسَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلهم، ففي غزوة حنين عندما وجد الأنصار في أنفسهم جدة بسبب توزيع الغنائم، وبعد أن ذكر فضل الله عليهم قال: «أَلَا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ؟ قَالُوا: وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ؟ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ؛ أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلًا فَأَغْنَيْنَاكَ»، بهذه العبارات الصادقة أجاب رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه وهو يذكر فضلهم، وما قاله صلى الله عليه وسلم في فضلهم ومدحهم دليل على أهمية وعظم ما قاموا به، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَوْ أَنَّ الْأَنْصَارَ سَلَكُوا وَادِيًا أَوْ شِعْبًا لَسَلَكْتُ فِي وَادِي الْأَنْصَارِ، وَلَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الْأَنْصَارِ» فقال أبو هريرة رضي الله عنه: «مَا ظَلَمَ بِأَبِي وَأُمِّي، آوَوْهُ وَنَصَرُوهُ» (رواه البخاري)، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم حبَّهم علامة على الإيمان، وبغضهم أمارة على النفاق، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آيَةُ الْإِيمَانِ حُبُّ الْأَنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الْأَنْصَارِ» (رواه البخاري)، وقبل وفاته صلى الله عليه وسلم بأيام أوصى بهم قائلًا: «أُوصِيكُمْ بِالْأَنْصَارِ، فَإِنَّهُمْ كَرِشِي وَعَيْبَتِي، وَقَدْ قَضَوْا الَّذِي عَلَيْهِمْ وَبَقِيَ الَّذِي لَهُمْ، فَاقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ» (رواه البخاري)، ويكفي في فضلهم وحب النبي صلى الله عليه وسلم لهم دعاؤه بالمغفرة لهم، ولأبنائهم، وأبناء أبنائهم، ونسائهم، فعن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ، وَلِأَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ، وَلِأَبْنَاءِ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ، وَلِنِسَاءِ الْأَنْصَارِ» (رواه البخاري).
فلهذا الفضل، ولهذا الشرف، ولهذه المنزلة، ندعوكم يا أهل القوة والمنعة لنصرة الإسلام وتحكيم شرع الله، فإخوانكم العاملون لتحكيم شرع الله من حزب التحرير قد قطعوا شوطًا كبيرًا في تحقيق هذا الفرض، وإتمام هذا الأمر يقع عاتقكم؛ فأنتم من يملك القوة والمنعة ونصرة الدعوة، فتتحقق على أيديكم إقامة الخلافة، وعندها تحقِّق الأمة ذاتها وكيانها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتطبِّق مجموعة المفاهيم والمقاييس والقناعات التي ترتكز على العقيدة الإسلامية، وتقومُ بعد ذلك بالجهاد في سبيل الله لنشر الإسلام وتبليغه.
وفي الختام، ومما تقدَّم نقول: لقد بات واضحًا اليوم ترنُّح الرأسمالية وقرب سقوطها، وإن ثمار الدعوة قد أينعت وحان قطافها، ووعد الله سبحانه وتعالى وبشرى رسوله صلى الله عليه وسلم بات قريبًا بإذن الله، نسأله تعالى تعجيل نصره والتمكين في ظل خلافة راشدة على منهاج النبوة، (وَيَوۡمَئِذٖ يَفۡرَحُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ بِنَصۡرِ ٱللَّهِۚ).
2021-04-14