الخلافة المرتقبة والتحديات (5)
2006/11/30م
المقالات
2,311 زيارة
الخلافة المرتقبة والتحديات (5):
تشويه صورة الدولة الإسلامية لدى شعوب الغرب
ذكرنا في النقطة السابقة كيف ستحاول دول الكفر، مع عملائهم من الحكام وعملائهم من المفكّرين المضبوعين بالثقافة الغربيّة، كيف ستحاول تشويه صورة الدولة الإسلامية في نظر الشعوب المسلمة وذلك لإثارة الشعوب في وجه هذا التغيير الجديد.
ولن يقف الأمر عند حدّ الشعوب المسلمة في هذه الحرب القذرة الدنيئة، إنما سيمتدّ كذبها وتضليلها الفكري إلى شعوب الغرب لإثارتها ضد هذا الحدث العظيم، ولتحريضها للوقوف في وجهه خلف سياسات دولها الإجراميّة.
ولعلّ من أبرز الأفكار التضليليّة التي تستخدمها دول الكفر في هذا المضمار هي:
1- إثارة روح العداء والتحريض عن طريق إعادة بعض الصور المقلوبة في أذهان الغربيّين.
ومن جملة الأمور التي يعرضها الغربيون في إثارة روح العداء ضدّ الإسلام والمسلمين هو الطَرْق على مسألة العداء الديني؛ بمعنى أن الإسلام يريد القضاء على الديانة النصرانيّة الموجودة عند الشعوب الغربية، عن طريق إكراه الناس على تركها بالقوّة، واعتناق الدين الإسلامي.
فبدل أن تُعرض صورة الإسلام الحقيقية على اعتبار أنه الدين الناسخ للديانات السماوية، وأنه الدين الوحيد الصحيح في صلته بالله عزّ وجلّ، تُعرض الصورة المعاكسة تماماً في أن دين الإسلام يعادي الناس جميعاً، ومن أجل هذه الافتراءات، يَستعرض في أذهان الغرب الحرب الصليبيّة في بلاد المشرق، أو الحروب التي خاضها المسلمون على أبواب أوروبا الغربيّة، وفي وسط أوروبا الشرقية، ويزوّر جميع الحقائق المتصلة بهذه الأحداث.
2- إثارة الغرب ضدّ أفكار الإسلام وتصّوراته، وخاصّة نظرة الإسلام لفكرة الحريّات الأربعة. فمعلومٌ أن الحريّات عند الغربيين هي أغلى ما ينظر إليه الغرب من إنجازات، وإن أيّ شيء يمسّ هذه الحريات فإنه يمسّ شيئاً مقدّساً ومحترماً في حياتهم.
فالحكومات الغربيّة ستعرض صورة الدولة الإسلامية وأعمالها بصورة معكوسة ومبتورة، لترسخ في ذهن الغربيّ أنها دولة تحارب هذه الحريات، وتدعو إلى كبتها، والتضييق على أصحابها، فقط من أجل التضييق على الناس، وكبتهم، دون أيّ ذكرٍ للناحية الفكرية في نظر المسلمين لمسألة الحريّة ،ودون أيّ ذكرٍ لمسألة الخطأ والصواب في ذلك.
3- قلب الحقائق التاريخيّة، في رسم صورة قاتمةٍ عن الدولةِ الإسلامية على اعتبار أنها تمثّل صورة العصور الوسطى المظلمة في حياة الغرب.
فمعروف أن الغرب يمقت حقبة العصور الوسطى، لأنها مثّلت في حياته فترةً عصيبةً ومريرة بسبب الإساءات التي كان يفعلها رجال الكنيسة.
وهذا الأمر ستستغلّه الحكومات الكافرة بما لديها من مفكّرين مضلّلين في إثارة الغرب ضد الدولة الإسلاميّة الجديدة، على اعتبار أنها تمثّل تاريخاً أسود قاتماً وتمثّل فترةً من الظلم والظلام والتخلّف بكلّ صوره وأشكاله الماديّة والمعنوية.
4- قلب الحقائق عند الغرب في عرض صورٍ من الماضي ومن الحاضر تمثّل صورة الحكّام الضالّين، الخارجين على تعاليم الإسلام، و في نفس الوقت عرض صورة الفقر والحرمان الذي تعيشه مناطق عديدة من الشعوب الإسلامية في بلاد المسلمين، أو من الجاليات الإسلامية في أوروبا، وإلصاق ذلك كلّه بالإسلام كمبدأ.
والحقيقة أن التاريخ الإسلاميّ فيه بعض الثغرات والإساءات ولا تكاد تخلو منها فترة تاريخية سوى فترة الخلافة الراشدة، وفترة الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، سواء أكانت هذه الإساءات في الفتن والصراعات على الحكم، أم في غير ذلك. أما صورة الفقر، فإنها ظاهرة اليوم في كل بلاد العالم الإسلامي دون استثناء ولا تكاد تخلو منها أغنى البلاد في دول الخليج وذلك بسبب الاستعمار السياسي والعسكري لبلاد المسلمين.. وهذه من صور التضليل والتشويه المقصودة التي ستفعلها دول الكفر ضدّ الدولة الإسلامية، من أجل تحريض الغرب ضد هذه الدولة، وإثارتهم في حربها والوقوف في وجهها.
إن هذه الصور التضليلية المقلوبة ليس من الصعب على الدولة الإسلامية ودعاتها المخلصين الواعين تفنيدها واحدةً بعد الأخرى، وتثبيت الصورة الصحيحة في أذهان الغرب.
فالمسألة التضليلية الأولى وهي: إثارة روح العداء والتحريض ضد الدولة الإسلامية، يمكن صدّها وتفنيدها وذلك بإبراز الصورة الصحيحة للتاريخ الإسلامي تجاه الشعوب الكافرة.
فيُعرض أولاً أن الإسلام لا يحارب الشعوب من أجل مصالح دنيويّة رخيصة، كما هو عند الغرب، ولا يحاربها كذلك من أجل ذات الحرب؛ للقتل والدمار والخراب، وإنما يحارب من أجل حمل مبدئه للشعوب المضَللَّة لإخراجهم من ظلام الأفكار واعوجاجها، ومن ظلم العباد.
فالإسلام في كل فتوحاته الطويلة عبر تاريخه العريض الطويل لم يهدف ولو مرة واحدة لسلب شيء من الشعوب، بل على العكس كان يحافظ على أموالهم وأعراضهم ودمائهم بعد الفتح، وحتى أماكن عباداتهم، ولم يجبر أحداً من الناس على إتباع دينه بالإكراه والإجبار، وهذا بعكس الحروب الدينية التي كانت تحصل بين طوائف النصارى من كاثوليك وبروتستانت، حيث كانت تُزهقُ فيها الملايين من الأرواح، وتُسلب الثروات وتُنتهك الأعراض، ويُجبر الناس على ترك معتقداتهم، وأيضا بعكس الحروب الدينية التي شنها الغرب ضد المسلمين في الأندلس حيث أعملوا فيهم سيف القتل بسبب دينهم، وأجبروهم على التنصّر أو الموت، وبعكس الحرب الصليبية التي خاضها النصارى في بلاد الإسلام في المشرق، حيث قتلوا الناس وهم آمنون في بيوت العبادة كما حصل في مذبحة القدس في المسجد الأقصى المبارك.
فالإسلام دين يحمله أصحابه بالقناعة العقليّة، ولا يُجبر الناس على اعتناقه، وفي نفس الوقت يحافظ على أماكن العبادة الأخرى، ويوفّر لأصحابها الجوّ الآمن للأداء.
أما بالنسبة لمسألة الحريّات ووقوف الإسلام منها موقفاً شرعيّاً يقيّدها، فهذه المسألة تحتاج إلى شيءٍ من الحنكة والدراية في تفهيم الغرب أن نظام الحريّات نظامٌ باطل عقلاً، وهو نظام فاسدٌ أيضاً، وهو استعبادٌ لبني الإنسان أكثر من استعباد الكنيسة، وإن الإسلام هو دين الحريّة الصحيحة التي شرّعها الله تعالى، باعتاق الإنسان من عبودية الإنسان إلى عبودية الله تعالى.
فيجب أن تصحّح الصورة أولاً للغرب أن نظام الحريات جاء من فكرة باطلة لا تستند إلى عقلٍ هي فكرة الحلّ الوسط بين أمرين كلاهما خاطئ؛ وهما رجال الدين والمفكرين من أصحاب دعوات الإصلاح.
فالحل الوسط فكرةٌ لا يقبلها العقل، لأنّها لا تستند إلى الناحية العقلية الصحيحة، لأن الأمور إما أن تكون خطاً أو صواباً، والوسط بين الأمرين حتماً سيكون خطأ.
الأمر الثاني: أن فكرة الحريات فيها انتهاك للناحية الإنسانية الصحيحة (الفطريّة).
فالحرية الشخصية تبيح للإنسان أن يخرج إلى الشارع عارياً، وتبيح له أن يمارس اللواط، وتبيح له أن يشرب الأفيُون والحشيش، وتبيح له حتى قتل نفسه والتخلص من الحياة.
ولا يخفى على عاقلٍ ما جلبته الحريّة الشخـصيّة في بلاد الغرب من انتهاكاتٍ لكرامة الإنسان، وما جلبته من أمراض ومن جرائم لا تُحصى ولا تُعدّ.
أما مسألة الاستعباد في مفهوم الحريّات فهذا ظاهرٌ في مسألة الملكيّة، حيث جرّت حريّةُ الملكية على الغربيين الاحتكارات من قبل أصحاب الشركات العملاقة، وجرّت كذلك التحكّمات في أسعار السلع والأجور، مما جعل هذه الشركات في نهاية المطاف هي السيّد الذي يتحكم في أجور الناس وحياتهم، وأصبح الناس عبارة عن خدمٍ لأصحاب هذه الشركات يعملون في اللّيل والنهار فقط من أجل تحصيل لقمة العيش.
إذن هذه هي فكرة الحريات التي ينادي بها الغرب، ويخاف من الدولة الإسلاميّة عليها.
وبعد هذا العرض الواضح الصحيح تتبين الصورةُ الصحيحة في كيفية عتق الإسلام للإنسان، حيث وضع أحكاماً شرعيّةً تنظم حياته على أحسن وجه وأرقى هيئةٍ.
فوضع الأحكام الشرعيّة مثلاً في مسألة الزواج والتي تنظّم حياة الإنسان الجنسيّة تنظيماً صحيحاً يقضي على كل ألوان الفساد، فبدل أن يقيم الرجل عن طريق الحريّات الشخصية – علاقات مفتوحة مع النساء دون قيدٍ أوْ ارتباط أو تنظيم؛ علاقاتٍ تقوم على الناحية الشهوانية الحيوانية المجردة، وبالتالي وقوع الإنسان والمجتمع بأسره في ضنك المشاكل الاجتماعية، وضنك الأمراض الفتاكة التي لا ترحم، بدل ذلك جاء الإسلام ونظمّ هذه العلاقة تنظيماً يرفع كل ألوان هذا الفساد فجعل العلاقة الجنسيّة أولاً تقوم على أساس صحيح متين هو الزواج، الذي يقرن حياة الإنسان الجنسيّة والاجتماعية بامرأةٍ واحدةٍ أو اثنتين أو ثلاثة أو أربعة، بطريقةٍ منظّمةٍ، دقيقةٍ وفريدةٍ، تحفظ النسل أولاً، وتحفظ المودّة والقربى، وتحفظ الأنساب، وتحفظ الإنسان كذلك نظيفاً من الأمراض الفتاكة كالإيدز والزهري والفلس وغيرها من أمراض قاتلة!!
هذا من حيث العلاقة الجنسيّة بين الذكر والأنثى، أما من حيث الحريّة الشخصيّة في اللباس مثلاً، فلا يخفى على عاقلٍ مفكّرٍ ما جرّته الحياة الغربيّة على الناس من ويلاتٍ بسبب عرضها لكافّة ألوان وأنواع الّلباس الفاضح الخليع ، حتى أصبحت المرأة في هذا اللباس عبارة عن أداة للعرض، أو تحفة تجمّل من أجل النظر والاستمتاع بصورتها!!
فهذه الحريّة قد جلبت الويل على مجتمع الغرب، حيث أصبحت المرأة في ظلّ حريّة اللباس عبارة عن أداة عرض للرجال، وبالتالي أصبحت عرضة للاعتداء والاغتصاب والمزايدة عليها بسبب عرضها لمفاتنها في الشارع، وفي المؤسسة، وفي النادي، وعبر وسائل الإعلام المتنوعة والمتعددة.
أما الإسلام فقد وضع حدوداً وقيوداً لهذا اللباس يحفظ على المرأة أنوثتها، ويحفظ عليها عِرضها، ويحفظ كذلك نفسها من اعتداء المعتدين، ونفوسهم المريضة.
أما من حيث حفظ الأنساب، فإن الإنسان يعرف قيمة تقييد الحرية الشخصية بشكلٍ واضحٍ وجليّ عندما يرى الظلم الذي يقع على اللقطاء وهم بالآلاف الآلاف في مجتمعات الغرب. فمن الذي أوجد هؤلاء اللقطاء، أليست الحرية الشخصية في إقامة العلاقات الجنسيّة بصورة مفتوحة دون أية قيود؟!
هذا بعضٌ ممّا يتعلق بموضوع الحرية الشخصيّة، أما حرية التملّك فإنها جرّت على المجتمع الغربيّ الويلات العظيمة والمتعدّدة، حيث جعلت طبقةً معيّنةً في المجتمع تتحكم في مصير الناس، وفي حياتهم بسبب هذه الحرية.
فحريّة التملك فتحت الباب على مصراعيه في إنشاء البنوك الربوية التي تمتص دماء الناس، وتكدّس الأموال في أيدي طائفة منهم، وفي إنشاء الشركات العملاقة التي تمثل صورة الحوت في البحر والذي يلتهم كل الأسماك الصغيرة في طريقه، وهذا بالتالي جعل جميع طبقات المجتمع تحت رحمة الرأسماليّين الكبار أصحاب الشركات الكبرى. فهم الذين يتحكمون بالأسعار وبالأجور وهم الذين يتحكمون حتى في القرار السياسي في المجتمع، كما هو ظاهرٌ في انتخابات أميركا هذه الأيام.
هذه بعض النماذج التي يمكن عرضها لمجتمع الغرب أثناء الحديث عن فكرة الحريّة، وبالتالي وَضعْ الإنسان الغربي أمام الحقيقة الساطعة وهي: أن الإنسان إذا أطلق العنان لنفسه يصنع ما يشاء، ويضع القانون الذي يراه مناسباً بحريّة تامّة فإنه يدمّر حياته بيديه. فالحريّة دمارٌ للإنسان وبالتالي يحتاج هذا الإنسان لقيودٍ تضبط حياته في كلّ الأمور سواء أكانت الشخصيّة، أو الماليّة، أو العقليّة؛ بمعنىً آخر إن فكرة التقييد للحريّة التي ينتقدها الإنسان الغربي هي رحمةٌ لهذا الإنسان وليست شراً كما يتصور.
فالإسلام يضع قيوداً على حريّة الإنسان الشخصيّة من أجل الأعراض، وحفظ الأنساب ويضع قيوداً أيضاً على حريّة الإنسان في الملكية، لأن إطلاق يد الإنسان ليمتلك كيف يشاء دمار على قطاع عريض من أبناء المجتمع، وحتى على الإنسان نفسه، عندما يتّجر بالمخدرات والسموم.
هذا ما يتعلق بفكر الحريّات التي سيتخذها ساسة الحكومات في بلاد الغرب غرضاً تحريضيّاً ضد الإسلام بشكل عام ، وضد الدولة الإسلامية بشكل خاصْ. [يتبع]
أبو المعتصم – بيت المقدس
2006-11-30