مع القرآن الكريم
2020/12/28م
المقالات
1,431 زيارة
آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه (1)
(ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّن رُّسُلِهِۦۚ وَقَالُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ غُفۡرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ ٢٨٥ لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ إِن نَّسِينَآ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَيۡنَآ إِصۡرٗا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَآۚ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ ٢٨٦ ).
(ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ ) أي صدَّق جازمًا وأيقن.
أخرج أبو عوانة في مسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت (ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مِن رَّبِّهِۦ ) قرأها رسـول الله صلى الله عليه وسلم فلما قـال: غفرانك ربنا، قال الله: قد غفرت لك.
( بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مِن رَّبِّهِۦ ) أي القرآن الكريم.
(وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ ) معطوف على الرسول صلى الله عليه وسلم.
( كُلٌّ ءَامَنَ ) أي كلّ واحد منهم، للدلالة على أن الإيمان لا يكون إيمانًا جماعيًا بل يتعـلـق بكل واحد على حدة، ولذلك لم يرد في الآية الكريمة (آمنوا) بجمع الضمير مع أنه يعود عليهم، ولكن قال سبحانه: (ءَامَنَ ) بتوحيد الضمير لأن الإيمان يتعلق بكلّ فرد منهم.
وعطف ( وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ ) على ( ٱلرَّسُولُ ) هو الراجح، فهو أرجح من القول بأن (وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ) مبتدأ أي (الواو) للاستئناف وذلك لأنها: بالعطف تعني أن إيمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أنزل – القرآن – هو الأصل والمؤمنون تابعون له، فهم قد آمنوا بالقرآن الكريم بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، فالوحي بالقرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق لإيمان المؤمنين بالقرآن الكريم، أما لو كانت (الواو) للاستئناف أي: (ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ ).
( وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ ) يكون الإخبار عن إيمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بجملة فعلية وعن إيمان المؤمنين بجملة اسمية والجملة الاسمية أقوى، وهذا لا يناسب نزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم أولًا، ثم إيمان المؤمنين بالقرآن بعد ذلك؛ ولذلك فالوقوف بعد ( وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ ) أرجح من الوقوف بعد (رَّبِّهِۦ).
( كُلٌّ ءَامَنَ ) جمـلـة مـستـأنفـة من مبتدأ وخـبر، ولا تكون (كُلٌّ) تأكيدًا لـ(ٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ ) لأن (كل) لا تكون تأكيدًا إلا إذا أضيفت لضمير المؤكد وهي هنا ليست كذلك، فتكون كما قلنا مستأنفة مبتدأ وخبر.
(سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ) أي سماع قبول واستجابة وتقديم السمع على الطاعة لأن التكليف طريقه السمع والطاعة بعده.
(غُفۡرَانَكَ رَبَّنَا) أي اغفر غفرانك، فغفران مصدر في مقام المفعول المطلق أي نائب عن فعله.
( وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ ٢٨٥ ) أي الرجوع بالموت والبعث.
-
وفي الآية الخاتمة لسورة البقرة ما سماه المؤمنون فرجًا، فقد جعل الله الحساب والعقاب على ما يظهر على الجوارح من أفعال وأقوال دون ما يبقى خافيًا في الصدور لا يظهر بقول أو فعل.
ثم ما أجراه الله على ألسنة الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن لا يؤاخذنا الله سبحانه بالنسيان والخطأ، وأن لا يأخذ علينا من العهود ما يثقل كاهلنا ولا يكلفنا بما لا نطيق، وأن يشملنا سبحانه بعفوه ومغفرته وينصرنا على القوم الكافرين، ثم البشرى باستجابة الله لرسوله والمؤمنين إنه سبحانه البرّ الغفور الرحيم.
(لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ) أي لا يكلف الله إلا بما في الوسع، والوسع ما تسعه قدرة الإنسان دون أن يبلغ مدى الطاقة أي أقصاها، فالله سبحانه كلفنا بالصلاة والصيام ولكنها أقل من مدى الطاقة، فنحن نستطيع الصلاة والصيام أكثر مما كلفنا به ولكن الله سبحانه كلفنا بالوسع فقط دون مدى الطاقة.
( لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ ) أي يحاسبها على ما ظهر على الجوارح من عمل أو قول مثوبة على الخير وعقوبة على الشر. أخرج ابن جرير عن ابن عباس – رضي الله عنهما –
( لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ ) قال: عمل اليد والرِّجل واللسان.
وكانت هذه الآية فرجًا على المسلمين؛ لأن الله سبحانه تجاوز بها عما دار في نفوسهم من شر لم يظهروه بقول أو فعل، فإنه سبحانه لم يكلفهم إلا بالوسع ولم يحاسبهم إلا على ما أظهروه من قول أو فعل دون ما بقي خافيًا في الصدور ما دام متعلقًا بالأحكام الشرعية، أما العقيدة فهي التصديق الجازم ومحلها الصدور، فالحساب والعقاب يتناول الشك والارتياب فيها – كما بيناه سابقًا – أما الأحكام الشرعية فيما سوى العقيدة فقد تجاوز الله فيها عما يدور في النفوس ما لم يظهر على الجوارح بقول أو فعل ( لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ ).
وهذه الآية ( لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ ) هي الناسخة لقوله تعالى: ( وَإِن تُبۡدُواْ مَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ أَوۡ تُخۡفُوهُ يُحَاسِبۡكُم بِهِ ٱللَّهُ) كما بينا سابقًا. (لَهَا مَا كَسَبَتۡ) أي لها ما عملت من خير.
(وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ ) أي عليها ما عملت من شرّ.
وفي الآية تخصيص الكسب بالخير والاكتساب بالشر ولهذا دلالة: فالاكتساب (افتعال) و(افتعل) أشدّ في الطلب من (فعل)، فكأنه لعلاقة الشر بالشهوات، وهو ما تستهويه النفوس؛ لذلك تجدُّ النفوس في طلبه أكثر من اهتمامها في الخير على نحو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حُفَّت الجنة بالمكاره والنار بالشهوات»[1].
( رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَيۡنَآ إِصۡرٗا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَآۚ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ ٢٨٦) هذا تكريم لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن علمنا دعاء نتضرع فيه إلى الله سبحانه بالمغفرة والرحمة والنصر، وهو ذو الجلال والإكرام سميع مجيب غفور رحيم.
أخرج الإمام أحمد من طريق أبي هريرة قَالَ: لَمَّا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ( لِّلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ وَإِن تُبۡدُواْ مَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ أَوۡ تُخۡفُوهُ يُحَاسِبۡكُم بِهِ ٱللَّهُۖ فَيَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ ٢٨٤) فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى صَحَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم … إلى أن يقول: فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِقَوْلِهِ: ( لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ ) الآية.
ورواه مسـلم ولفـظـه بعـد ذلك: «ولما فعـلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل الله عز وجل ( لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ إِن نَّسِينَآ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ) قال: نعم ( رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَيۡنَآ إِصۡرٗا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِنَاۚ ) قــــال: نـعــــم ( رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ) قــــال: نـعــــم ( وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَآۚ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ ٢٨٦) قـال: نعـم» وفي رواية قـال: «قد فعـلت»[2]. فهذا فضل من الله عظيم أن الله سبحانه علمنا ما ندعوه به وبشَّرنا بالإجابة «قال نعم أو قال فعلت» أي أجبت.
( رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ إِن نَّسِينَآ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ ) وهي ضراعة إلى الله سبحانه أن لا يؤاخذنا بالنسيان والخطأ. وهذا يعني أن النسيان والخطأ في الآية يترتب عليه ذنب بدلالة الدعاء إلى الله سبحانه ( رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ ) المؤاخذة العقوبة، أي أن النسيان والخطأ في هذه الآية ليس هو النسيان والخطأ في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» أخرجه ابن ماجه[3] فالحديث يعني أن لا مؤاخذة على هذه الأمور، فكيف يكون ذلك؟. (يتبع)
[1] مسلم: 5049، الترمذي: 2482، أحمد: 7216، 8587، 12101، 13177، 13519، الدارمي: 2720، ورواية البخاري «حجبت النار بالشهوات وحجبت الجنة بالمكاره» 6006
[2] مسلم: 179، أحمد: 1/332
[3] ابن حبان: 16/202، وصححه، الحاكم: 2/216، ابن ماجه: 2043
2020-12-28