شيَّبَتْني هودٌ … فاستقمْ كما أُمِرْتَ (1)
2020/12/28م
المقالات
2,879 زيارة
الدكتور محمد الحوراني -الشام المباركة.
لقد مرت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بعدة أطوار ومراحل، فقد بدأت بالمرحلة السرية التي دامت قرابة ثلاث سنوات وكانت هذه مرحلة التعليم والتثقيف والإعداد الفكري والروحي لكتلة الصحابة رضي الله عنهم الذين هم أول من آمن به صلى الله عليه وسلم وبدعوته. ثم بعد السنة الثالثة للبعثة، بدأت مرحلة الجهر بالدعوة، والتي بدأها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوقوف على الصفا ودعوته أهل مكة، وذلك بعد ما نزل قوله تعالى: (فَٱصۡدَعۡ بِمَا تُؤۡمَرُ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡمُشۡرِكِينَ) وقد اتسمت هذه المرحلة بنشر الدعوة عن طريق الصراع الفكري والكفاح السياسي، الأمر الذي أغاظ أكابر قريش فانعكس ذلك بأن ازداد الأذى والتعذيب على النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام بالرغم من اعتصامه صلى الله عليه وسلم بعشيرته وحماية عمه أبو طالب له.
ولكنْ من أصعب الفترات التي مرت على النبي صلى الله عليه وسلم على الإطلاق كانت الفترة التي سميت بعام الحزن. ففي هذا العام، توفي أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم وتوفيت زوجته أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فقد كانا سند النبي صلى الله عليه وسلم الداخلي والخارجي.
وقد أُمر النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الفترة بطلب النصرة من القبائل، فقد ورد في فتح الباري شرح صحيح البخاري ما نصه: «أخرج الحاكم وأبو نعيم والبيهقي في الدلائل بإسناد حسن عن ابن عباس، حدثني علي بن أبي طالب قال: لما أمر الله نبيه أن يعرض نفسه على القبائل، خرج وأنا معه وأبو بكر إلى منى…» الحديث. ويذكر في هذا الحديث الطويل كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم وصاحباه يقصدون مجالس العرب بمنى بموسم الحج. ويقول المقريزي: «ثمَّ عرض صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل أيَّام المواسم، ودعاهم إلى الإسلام، وهم بنو عامر، وغسَّان، وبنو فَزَارة، وبنو مرَّة، وبنو حنيفة، وبنو سُليم، وبنو عبس، وبنو نصر، وثعلبة بن عكابة، وكندة، وكلب، وبنو الحارث بن كعب، وبنو عذرة، وقيس بن الخطيم، وأبو اليسر أنس بن أبي رافع» وقد استقصى الواقديُّ أخبار هذه القبائل قبيلةً قبيلةً، ويقال: إنَّه صلى الله عليه وسلم بدأ بكندة، فدعاهم إلى الإسلام، ثمَّ أتى كلبًا، ثمَّ بني حنيفة، ثمَّ بني عامر، وجعل يقول: «مَنْ رجلٌ يحملني إلى قومه فيمنعني حتَّى أبلغ رسالة ربِّي؛ فإنَّ قريشًا قد منعوني أن أبلِّغ رسالة ربِّي؟» هذا وأبو لهب وراءه يقول للنَّاس: لا تسمعوا منه؛ فإنَّه كذَّاب» (أحمد (3/492، 493) وابن هشام (2/64 – 65).
لقد كان طلب النصرة من القبائل أميزَ عملٍ أُمر به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الفترة الحرجة، وقد ذهب صلى الله عليه وسلم إلى الطائف بداية الأمر وخاطر بالخروج من مكة لما لهذا الخروج من تبعات، لكن أمله في العثور على من ينصره في الطائف جعله يقوم بذلك؛ لكن زعماء الطائف كانوا على درجة من السوء والحقد، فقد قاموا بفضح أمر النبي صلى الله عليه وسلم وسلَّطوا عليه وعلى مرافقه زيد بن الحارثة رضي الله عنه السفهاء والعبيد فرموهما بالحجارة حتى أدمَوا قدميه الشريفتين في موقف شديد الأسى والحزن في يوم كان من أشد أيام دعوته صلى الله عليه وسلم.
فطلب النصرة ليس بالأمر السهل، فهو طلبٌ من أصحاب القوة والملك بأن يتخلُّوا عن مفاهيمهم ومعتقداتهم بل وعن سلطانهم ويسلموك قيادتهم وينزلوا تحت سلطانك. وواقع حال النبي صلى الله عليه وسلم أنه مستضعفٌ في قومه لا يملك من الأمر شيئًا، هكذا ينظر من قَصُرَ نظره عن عِظمِ المبدأ الذي يحمله هذا النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك يفعل من ينتهج نفس التفكير للأسف من الذين يَعدُّون أنفسهم يعملون في الشأن الإسلامي في وقتنا الحاضر.
ولما رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة ودخلها بجوار المـُطعِم بن عَديّ بعد أن ساقه الله عز وجل لنبيه ليحميه ويدخله في جواره، لم تمضِ فترة قصيرة وهو في مكة حتى أرسل الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم في رحلة عظيمة يثبّت فيها نفس النبي صلى الله عليه وسلم وينسيه ما حل به بعد تجربة الطائف الشاقة، فكانت رحلة الإسراء والمعراج، التي رأى فيها النبي صلى الله عليه وسلم الآيات الكبرى، قال تعالى: (لَقَدۡ رَأَىٰ مِنۡ ءَايَٰتِ رَبِّهِ ٱلۡكُبۡرَىٰٓ) وأُنزلت بعد ذلك سورة الإسراء التي يقول فيها الله عز وجل: (وَلَوۡلَآ أَن ثَبَّتۡنَٰكَ لَقَدۡ كِدتَّ تَرۡكَنُ إِلَيۡهِمۡ شَيۡٔٗا قَلِيلًا).
لقد كان الأذى الذي لقيه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله عنهم فظيعًا، خصوصًا في هذه الفترة، فلم تنل قريش منه صلى الله عليه وسلم إلا في هذه الفترة؛ إذ إنها أدركت أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بتحييدها، فهو يتقصد القبائل من حيث هي كيانات، ويتقصد الرؤساء والسادة والأشراف ومن لهم مكانة، فهو لا يسمع بقادم يقدم مكة من العرب له اسم وشرف إلا وتصدَّى له ودعاه إلى الله وعرض عليه ما عنده. فقريش تعلم مدى خطورة دعوته صلى الله عليه وسلم، ويعلم أسيادها أن هذه الدعوة إن وجدت المنعة المطلوبة فستقلب الطاولة، ليس على جبابرة قريش فحسب بل على كل جبار عنيد.
فما وجدت قريش وأسيادها للحيلولة دون أن يحصل النبي صلى الله عليه وسلم على المنعة والنصرة المطلوبة إلا زيادة الضغط عليه وعلى أصحابه الكرام، ومحاولة منع اتصاله صلى الله عليه وسلم بالناس، وإذا حصل اللقاء، فمحاولة إفشاله بشتى الطرق، حتى إن عمه أبا لهب كان يسير وراءه وهو يقول للنَّاس: لا تسمعوا منه؛ فإنَّه كذاب. وقد كان أبو جهل، وأبو لهب – لعنهما الله – يتناوبان على أذيَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يدعو في الأسواق والمواسم، وكان يجد منهما عنتًا كبيرًا إضافةً إلى ما يلحقه من المدعوِّين أنفسهم.
وظلَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في تردُّده على القبائل يدعوهم، فيردُّون عليه أقبح الرَّدِّ، ويؤذونه، ويقولون: قومه أعلم به، وكيف يُصلحنا مَنْ أفسد قومه؟! فلفظوه، وكانت الشَّائعات الَّتي تنشرها قريشٌ في أوساط الحجَّاج تجد رواجًا، وقبولًا، مثل: الصابئ، وغلام بني هاشم الذي يزعم أنَّه رسول، وغير ذلك، ولا شكَّ: أنَّ هذا كان ممَّا يحزُّ في نفس الرَّسول صلى الله عليه وسلم، ويضاعف من ألم التَّكذيب وعدم الاستجابة.
في هذه الأثناء «في عام الحزن» أنزل الله سبحانه وتعالى ثلاث سور تحمل أسماء أنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهي سور يونس وهود ويوسف، هذه السور من جملة ما نزل من آيات القرآن التي حملت طابع هذه الفترة، وعكست معالمها مدى تحدِّي قريش وتعدِّيها، فهذه الفترة هي من أحرج الفترات وأشقها كما أسلفنا في تاريخ الدعوة، وخاصة بعد حادثة الإسراء والمعراج وغرابتها، واستهزاء المشركين به، وارتداد بعض من كانوا قد أسلموا قبلها – يضاف إلى ذلك وحشة رسول الله صلى الله عليه وسلم بفقد خديجة – رضي الله عنها – زد على ذلك تجرؤ قريش عليه وعلى دعوته حيث بلغت الحرب المعلنة عليه وعلى دعوته أقسى وأقصى مداها؛ وتجمَّدت حركة الدعوة حتى ما كاد يدخل في الإسلام أحد من مكة وما حولها.
فآثار هذه الفترة وجوّها واضحة في جو هذه السور وظلالها وموضوعاتها! وبخاصة ما يتعلق بتثبيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين معه على الحق؛ والتسرية عنه مما يساور قلبه من الوحشة والضيق والغربة في ذلك المجتمع الذي تحجَّر في وجه دعوته صلى الله عليه وسلم. والذي زاد في إضفاء الملامح العاصفة على جو هذه المرحلة ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: «شيبتني هود» فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم آية هي أشد عليه من هذه الآية (فَٱسۡتَقِمۡ كَمَآ أُمِرۡتَ). إنّ آيات هذه السور قد واكبت الأحداث في هذه الفترة وعالجتها، ورسمت وأكدت على ضرورة سير النبي صلى الله عليه وسلم وفق الطريقة التي أمره الله عز وجل أن ينتهجها، ليس هو فحسب، بل وكل من تاب معه، وكل من سار على دربه يبتغي التغيير وينشده، تغيير مجتمع الكفر والجاهلية إلى مجتمع يحتكم إلى شريعة الله وأحكامه (وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ ) فقد قال تعالى: (فَٱسۡتَقِمۡ كَمَآ أُمِرۡتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطۡغَوۡاْۚ إِنَّهُۥ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ) وسنجمل ما تحدثت به الآيات التي نزلت في هذه الفترة بشكل عام وهذه السور الثلاث بشكل خاص بالأمور التالية:
أولًا: الاستقامة على منهج الله سبب النصر
لقد كان ينقص دعوةَ النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الفترة قوةٌ تنصرها وتمنعها حتى تقيم دين الله عز وجل، فإن هذا الدين لا يمكن أن يؤثر في الحياة التأثير الحقيقي إلا إذا كان له سلطان ودولة تقوم على فكرته الأساسية التي هي «لا إله إلا الله، محمد رسول الله» وتطبِّق شريعته على الناس، وتنشر هذه الدعوة بالجهاد إلى جميع أصقاع المعمورة. وقد كان الأمر الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم بتحصيل هذه القوة من طريق العرض على القبائل وطلب النصرة منهم، وهذا ما دفع النبي صلى الله عليه وسلم للخروج من مكة إلى الطائف في بداية الأمر.
لكن ما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم في الطائف لم يكن بحسبانه صلى الله عليه وسلم، فقد كان وقعه على نفسه صلى الله عليه وسلم شديدًا جدًا، فقد أخرج البخاري ومسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهمومٌ على وجهي، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلَّتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك وما ردّوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. قال: فناداني ملك الجبال وسلم علي ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعا الله عز وجل بدعائه المشهور وقت ذلك حيث قالصلى الله عليه وسلم: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي. إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تُنزلَ بي غضبَك، أو تُحلَّ عليَّ سخطَك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك». فدعاؤه صلى الله عليه وسلم يكشف مدى الضيق ومدى الأذى النفسي الذي اعتراه، بعد هذه الحادثة. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل لقي الرسول صلى الله عليه وسلم من قومه أصنافًا من العذاب والأذى، فقد روى البخاريُّ في تاريخه، والطَّبرانيُّ في الكبير عن مدرك بن منيب أيضًا، عن أبيه عن جدِّه رضي الله عنه أنه قال: رأيت رسول صلى الله عليه وسلم في الجاهليَّة، وهو يقول: «يا أيها النَّاس! قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا» فمنهم من تفلَ في وجهه، ومنهم من حثا عليه التُّراب، ومنهم من سبَّه؛ حتَّى انتصف النَّهار، فأقبلت جاريةٌ بِعُسٍّ من ماءٍ، فغسل وجهه ويديه، وقال: «يا بنية! لا تَخْشَيْ على أبيك غلبةً، ولا ذلَّةً!» فقلت: من هذه؟ قالوا: زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي جاريةٌ وضيئةٌ. (البخاري في التاريخ الكبير (4/2/14) والطبراني في المعجم الكبير (20/342) ومجمع الزوائد (6/21)).
وبالرغم من شدة الأذى الذي أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الفترة إلا أننا نراه مستقيمًا ثابتًا على طريقته، متمسكًا بها لا يحيد عنها قدر أنملة، بينما حدثتنا آيات هذه السور التي نزلت في هذه الفترة عمّا قام به بعض النبيين عليهم السلام من قبله وذلك خلافًا للأولى، قال تعالى : (وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَآ إِنَّكَ ءَاتَيۡتَ فِرۡعَوۡنَ وَمَلَأَهُۥ زِينَةٗ وَأَمۡوَٰلٗا فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَۖ رَبَّنَا ٱطۡمِسۡ عَلَىٰٓ أَمۡوَٰلِهِمۡ وَٱشۡدُدۡ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ فَلَا يُؤۡمِنُواْ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلۡعَذَابَ ٱلۡأَلِيمَ ٨٨ قَالَ قَدۡ أُجِيبَت دَّعۡوَتُكُمَا فَٱسۡتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ ٨٩) فهذه الآيات تحدثنا عن استعجال رسولَي الله عليهما السلام بالنصر وطلب وقوع هلاك القوم الكافرين؛ لكن الله سبحانه عاتبهما وذكّرهما بضرورة الاستقامة على طريق الدعوة، مع أنه سبحانه وتعالى قد أخبرهما بأنه قد استجاب دعوتهما؛ لكن تحقيق ذلك لم يأتِ إلا بعد أربعين عامًا حسبما ذكر أغلب المفسرين. بينما نجد النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاءه جبريل مع ملك الجبال وعرض عليه إطباق الأخشبين على أهل الطائف الذين كذَّبوه وآذَوه، رفض ذلك وقال كلمته: «أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئًا» وصدق الله العظيم فقد وصف نبيه صلى الله عليه وسلم بالرؤوف الرحيم، قال تعالى: (لَقَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١٢٨).
كما وقد حدثتنا آيات هذه السور عن نبي الله يونس عليه السلام، حيث استعجل الخروج من قومه ظانًّا أن عذاب الله عز وجل قد وقع عليهم لا محالة، ولكن ما حدث مخالفٌ لما ظنَّه يونس عليه السلام، فقد سارع قوم يونس فآمنوا قبيل نزول العذاب عليهم بقليل، فرفع الله عنهم العذاب ومتعهم إلى حين، فقد استحق نبيُّ الله يونس عليه السلام اللوم على عمله هذا وعوقب بأن التقمه الحوت وهو مُليم، ولولا أنه كان من المسبِّحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون.
وكذلك حدثتنا آيات هذه السور عن نبي الله لوط عليه السلام لَمَّا رَأَى اسْتِمْرَارَ قومه فِي غَيِّهِمْ، وَضَعُفَ عَنْهُمْ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى دَفْعِهِمْ، تَمَنَّى لَوْ وَجَدَ عَوْنًا عَلَى رَدِّهِمْ، فَقَالَ عَلَى جِهَةِ التَّفَجُّعِ وَالِاسْتِكَانَةِ: (قَالَ لَوۡ أَنَّ لِي بِكُمۡ قُوَّةً أَوۡ ءَاوِيٓ إِلَىٰ رُكۡنٖ شَدِيدٖ)فقد تمنَّى أن تكون له قُوَّة أَيْ أنصارٌ وأعوانٌ، وَمُرَادُ لُوطٍ بِالرُّكْنِ الْعَشِيرَةُ، وَالْمَنَعَةُ بِالْكَثْرَةِ» كما ذكر القرطبي في تفسيره. وقد قال رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ…»
لم تكتفِ آيات هذه السور بالطلب من النبي صلى الله عليه وسلم الاستقامة على طريقة الدعوة للتمكين فحسب، بل وحذرته صلى الله عليه وسلم من أمور قد تخطر على بال حملة الدعوة، راسمةً له صلى الله عليه وسلم طريق دعوته بدقة متناهية، فقد قال تعالى: (فَٱسۡتَقِمۡ كَمَآ أُمِرۡتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطۡغَوۡاْۚ إِنَّهُۥ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ ١١٢ وَلَا تَرۡكَنُوٓاْ إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنۡ أَوۡلِيَآءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ). فذكرت هذه الآيات بعض موانع النصر ومنها الطغيان، والركون إلى الذين ظلموا، ولم تقل إلى الظالمين فحسب. كما أن بيان هذه الطريقة والإشارة إليها وطلب الاستقامة عليها لم يقتصر على السور والآيات التي نزلت في هذه الفترة «عام الحزن» بل بقيت تتنزَّل الإشارات والتوجيهات حتى قبيل إقامة دولة المدينة وقبيل هجرته صلى الله عليه وسلم فقد أنزل الله في سورة الشورى: (۞شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحٗا وَٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ وَمَا وَصَّيۡنَا بِهِۦٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰٓۖ أَنۡ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِۚ كَبُرَ عَلَى ٱلۡمُشۡرِكِينَ مَا تَدۡعُوهُمۡ إِلَيۡهِۚ ٱللَّهُ يَجۡتَبِيٓ إِلَيۡهِ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِيٓ إِلَيۡهِ مَن يُنِيبُ ١٣) وقال سبحانه: (فَلِذَٰلِكَ فَٱدۡعُۖ وَٱسۡتَقِمۡ كَمَآ أُمِرۡتَۖ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡۖ وَقُلۡ ءَامَنتُ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِن كِتَٰبٖۖ وَأُمِرۡتُ لِأَعۡدِلَ بَيۡنَكُمُۖ ٱللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمۡۖ لَنَآ أَعۡمَٰلُنَا وَلَكُمۡ أَعۡمَٰلُكُمۡۖ لَا حُجَّةَ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمُۖ ٱللَّهُ يَجۡمَعُ بَيۡنَنَاۖ وَإِلَيۡهِ ٱلۡمَصِيرُ١٥) ففي هذه الآية يبين الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم مهمته بدقة متناهية، وهي أن الله قد أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعدل بينهم، أي أن يقيم فيهم شرعه ويطبق عليكم أحكام شريعته التي هي عنوان العدل «وأُمرت لأعدل بينكم» ولن يكون ذلك إلا بإقامة سلطان الإسلام من خلال دولة تقيم أحكامه.
فمنهج الله سبحانه إنما أنزله لرفع الظلم والطغيان، وليس بهما ينتصر؛ ولهذا لم يستعِن النبي صلى الله عليه وسلم بالذين ظلموا على كفار قريش، فلم يستعن بالروم النصرانية، ولا بملك الحبشة النصراني بالرغم من وصف النبي صلى الله عليه وسلم له: «إنه لا يظلم جواره»، وهنا لا بد من التذكير بحال العاملين في الشأن السياسي الإسلامي، وخاصة من وقع في حبال الاستعانة والركون إلى الذين ظلموا، فتلقَّوا منهم المال السياسي القذِر، فإذا هم مكبَّلون به، الأمر الذي أدى بهم إلى الطغيان، فسفكوا الدم الحرام، ودخلوا في نفق التنازلات، فضاعوا وضيّعوا، فأصبحوا عبئًا كبيرًا على الأمة، وعقبةً في طريق استرجاعها لهويتها ولسلطانها.
وقد بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم مواظبًا على الطريقة مستقيمًا كما أمره الله عز وجل بالرغم من كل الأذى الذي لاقاه؛ لكننا قد رأيناه صلى الله عليه وسلم يتفنَّن في أساليب طلب النصرة، فقد كان يأتي القبائل في منازلهم محاولًا الوصول إليها بعيدًا عن أعين قريش، حتى لو اضطر لأن يأتيهم في الليل. هذا وقد خاض مع زعماء القبائل الذين التقى بهم، مفاوضات شاقة ونقاشات، وقد تعرض كذلك لمساومات وإغراءات، في الوقت الذي كان أشد ما يكون بحاجة لمن ينصره ويمنعه، في هذه الفترة الحرجة من الدعوة؛ لكنه صلى الله عليه وسلم رفض كل تنازل مهما كان بسيطًا، فقد رفض إعطاء وفد قبيلة عامر بن صعصعة أي امتيازات مقابل نصرة مؤزّرة! ولسان حاله يقول «لا بد أن الله ناصر دينه». وكذلك رفض صلى الله عليه وسلم نصرةً منقوصةً عرضها عليه مفاوضو وفد بني شيبان، مفصحين له عن وضعهم مع كسرى ملك الفرس؛ إذ قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: «وإنَّا إنما نزلنا على عهدٍ أخذه علينا كسرى، ألا نحدث حدثًا، ولا نُؤوِيَ مُحدِثًا، وإني أرى هذا الأمر الذي تدعونا إليه يا أخا قريش مما تكرهه الملوك، فإن أحببت أن نُؤويك وننصرك ممَّا يلي مياه العرب فعلنا».
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أسأتم في الردِّ إذ أفصحتم بالصِّدق، وإنَّ دين الله – عزَّ وجلَّ – لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلًا حتَّى يورِّثكم الله تعالى أرضهم وديارهم، ويفرشكم نساءهم، أتسبِّحون الله وتقدِّسونه؟» فقال النُّعمان بن شريك: «اللَّهمَّ فلك ذاك». (أبو نعيم في دلائل النبوة (214)).
فالنبي صلى الله عليه وسلم يحدثهم «وهم الكفار» حديث الواثق بنصر ربه عز وجل، ويصوِّر لهم أن أمر الله نافذ لا محالة، وأنها مسألة وقت ليس إلا، فما عليكم إن أردتم العزة إلا أن تنصروني وتمنعوني!!
فحريٌّ بالمسلمين، وخاصة حملة الدعوة في هذه الأيام، التزام هذه الطريقة التي أمر الله بها، وحريٌّ بالمسلمين نصرة هذا الدين وخاصة أهل القوة والمنعة، قادة جيوش المسلمين، فإنه لن يُمكَّن هذا الدين إلا وفق هذه الطريقة، ولن يَنصرَ دينَ الله إلا أبناؤه من أصحاب القوة، هذه هي طريقة إقامة الدين التي أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بها، وكذا هي طريقة إقامة دولته!.
ثانيًا: إفراغ الوسع في الدعوة:
عندما يأمر الله عباده بأمر ما، فليعلموا أن الخير كل الخير فيما أمر الله سبحانه وتعالى، فيجب عليهم أن يبذلوا الغالي والنفيس في سبيل تنفيذ ذلك الأمر وتحقيق الهدف الذي جعل الله عز وجل فيه سعادة الإنسان في الدنيا، وكذلك سعادته ونجاته في الآخرة؛ لهذا كان لزامًا على حامل الدعوة أن لا يكلَّ ولا يملَّ وأن يستمر مثابرًا في عمله، ماضيًا في طريقته التي اختارها الله له حتى يصل مبتغاه.
فحملة الدعوة ديدنهم دعوتهم، في الليل والنهار، في كدّهم وراحتهم، في حلّهم وترحالهم. فآيات القرآن تخبرنا عن يوسف عليه السلام بأن فترة السجن على الرغم من شدتها على النفس كانت توطئةً للتمكين، على عكس الفترة التي قضاها عليه السلام في بيت عزيز مصر، الذي واقعه أقرب للمُلك، ولكن كان مآل هذه الفترة هو السجن!! لهذا وجب على حملة الدعوة أن ينتبهوا لهذا الأمر، وأن الإنسان لن يصل بعقله إلى تمييز الخير من الشر، فما على المسلم إلا التزام أمر الله فحسب، فأمر الله أحق أن يتبع. وإفراغ الوسع في العمل هو السبيل لتحقيق الهدف، فلن يصل إلى الهدف متوانٍ ولا متكاسلٌ، وآياتُ القرآن تنطق بذلك وخصوصًا في هذه المرحلة التي نحن بصددها فهي تشير لذلك وتنبه إليه، وتعِد العاملين المؤمنين المحسنين إحدى الحسنيين.
فقد نزلت سورة الفرقان قبل سورة الإسراء، وفيها يقول الله عز وجل مخاطبًا رسوله صلى الله عليه وسلم: (وَلَوۡ شِئۡنَا لَبَعَثۡنَا فِي كُلِّ قَرۡيَةٖ نَّذِيرٗا ٥١ فَلَا تُطِعِ ٱلۡكَٰفِرِينَ وَجَٰهِدۡهُم بِهِۦ جِهَادٗا كَبِيرٗا ٥٢) فمقارعة الكفر تحتاج مجاهدةً بل وجهادًا كبيرًا، وهو عين إفراغ الوسع، وتحتاج إيمانًا قويًا ثابتًا، بل تحتاج الإحسان، وهو أعلى درجات الإيمان بالله. قال تعالى: (۞لِّلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ ٱلۡحُسۡنَىٰ وَزِيَادَةٞۖ وَلَا يَرۡهَقُ وُجُوهَهُمۡ قَتَرٞوَلَا ذِلَّةٌۚ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَنَّةِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ ٢٦ ).
فإحسان العمل أو الإحسان فيه يجب أن يكون صفة حامل الدعوة، فلا يكفي مجرد القيام بعملٍ ما لاستحقاق نصر الله عز وجل، بل لا بد من الإحسان في ذلك، بل يجب أن يكون الإحسان شيمة حامل الدعوة، مهما تعقَّد المشهد حوله، ومهما واجه من صعوبات، بل حتى لو تسيَّد وعلت مراتبه، فآيات الله تخبرنا بأن الإحسان كان ظاهرًا على نبي الله يوسف عليه السلام طيلة حياته التي شهدت تقلبات حادة، فقد كان من المحسنين وهو في بيت العزيز عبدًا مملوكًا، وكذلك كان الإحسان ظاهرًا عليه وهو في غياهب السجن، وهو سجينٌ مظلومٌ، بل أبعد من ذلك فقد كان ظاهرًا عليه الإحسان وهو عزيزٌ عند الملك. قال تعالى: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُۥٓ ءَاتَيۡنَٰهُ حُكۡمٗا وَعِلۡمٗاۚ وَكَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ ٢٢) وقال تعالى: ( وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجۡنَ فَتَيَانِۖ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيٓ أَرَىٰنِيٓ أَعۡصِرُ خَمۡرٗاۖ وَقَالَ ٱلۡأٓخَرُ إِنِّيٓ أَرَىٰنِيٓ أَحۡمِلُ فَوۡقَ رَأۡسِي خُبۡزٗا تَأۡكُلُ ٱلطَّيۡرُ مِنۡهُۖ نَبِّئۡنَا بِتَأۡوِيلِهِۦٓۖ إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ٣٦) وقال تعالى: ( قَالُواْ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡعَزِيزُ إِنَّ لَهُۥٓ أَبٗا شَيۡخٗا كَبِيرٗا فَخُذۡ أَحَدَنَا مَكَانَهُۥٓۖ إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ٧٨) .
فمن قام بأداء مهمته في حمل الدعوة ووصل إلى الإحسان في ذلك، فما بقي له إلا أن ينتظر إنجاز وعد الله سبحانه وتعالى، فقد وعد الله عز وجل ووعده الحق، وعد عباده المؤمنين بالتمكين والنصر، فضلًا عن أنه سبحانه لن يضيع عمل المحسنين في الآخرة،
قال الله تعالى: (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۚ كَذَٰلِكَ حَقًّا عَلَيۡنَا نُنجِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ١٠٣) وقال تعالى: (وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَتَبَوَّأُ مِنۡهَا حَيۡثُ يَشَآءُۚ نُصِيبُ بِرَحۡمَتِنَا مَن نَّشَآءُۖ وَلَا نُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ٥٦) وقال تعالى: (قَالُوٓاْ أَءِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُۖ قَالَ أَنَا۠ يُوسُفُ وَهَٰذَآ أَخِيۖ قَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡنَآۖ إِنَّهُۥ مَن يَتَّقِ وَيَصۡبِرۡ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ٩٠) فبذل الوسع في العمل والإحسان فيه يجب أن يكون سجية حامل الدعوة. كيف لا، وهو الداعي إلى منهج الحق، والحامل لمشعل النور الذي يهدي به الله طريق الناس، ويبدد به ظلماتهم.
روى البخاري عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: «دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ». (يتبع)
2020-12-28