الحضارة الرأسمالية وفساد نظرتها الداروينية للحياة (2)
2020/12/28م
المقالات
2,000 زيارة
الساريسي المقدسي – بيت المقدس
أساس الحضارة الرأسمالية:
قامت الحضارة الرأسمالية على قاعدة فكرية أساسية عن الكون والإنسان والحياة وهي فكرة العلمانية أو فصل الدين عن الحياة. وهذه القاعدة الفكرية شكَّلت وجهة النظر الرأسمالية عن الحياة – أو الأيدولوجية – وهي النفعية والبراغماتية، وانبثق عنها جميع الأنظمة الرأسمالية في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والعلاقات الدولية … إلخ. وحين ننظر إلى هذه القاعدة الأساسية في الحضارة الرأسمالية ألا وهي العلمانية، ونحاول فهم المرتكز الذي انطلقت منه، لا نجد لها تأسيسًا فكريًا رصينًا، بل نجدها انطلقت من زاوية غير فكرية، ولم تُبنَ على مبادئ العقل ومسلماته وبديهياته – على عكس ما يُتوقع من أي قاعدة فكرية أساسية في أي مبدأ – فنجد هذه القاعدة الفكرية للرأسمالية قد قامت على فكرة الحل الوسط بين أطراف متنازعة: الفلاسفة والمفكرين والعلماء من طرف، ثم القياصرة والملوك والكنيسة من طرف آخر، وتم حل هذا الصراع الأوروبي بين هذين الطرفين باعتماد العلمانية كأساس يفصل الدين عن الحياة.
إذًا، فالحل الذي اتفق عليه الفريقان بعد الصراع العنيف بينهما، كان مبنيًا على رد فعل لمشكلة أوروبية تاريخية خاصة، وكان لا بدَّ لهم من إيقاف هذا الصراع بأي ثمن، فلم تكن العلمانية حلًّا فكريًّا مؤصَّلًا مبنيًّا على العقل والتفكير في أساس الحياة وفي أصل الكون والإنسان، فلم تكن حلًّا نتج عن تفكير عميق في حل العقدة الكبرى حلَّا صحيحًا مقنعًا للعقل وموافقًا للفطرة. فقد تم القفز عن منهجية القاعدة العملية الطبيعية في التفكير بالانتقال من الإحساس إلى التفكير ثم القيام بالعمل من أجل غاية، فهذا لم يحدث؛ ولذلك كانت عقيدة الحل الوسط العلمانية مختلَّة الأسس والجذور حتمًا.
لقد كانت العلمانية رد فعل غريزي بعد الإحساس بالمشكلة العميقة التي مرت بها أوروبا، نتيجة تحكم القياصرة والملوك بشكل مطلَق فيهم، تحت شعار الحق الإلهي الذي كانت تعطي فيه الكنيسةُ الشرعيةَ للحكام، ونتيجة تعسُّف محاكم التفتيش التي أقامتها الكنيسة بالعلماء والمفكرين، أرادوا التخلص من هذا الظلم والاستبداد باعتماد حل عملي، وهو فصل الدين عن الحياة، أو فصل الكنيسة عن الدولة وعن التدخل في شؤون الحياة العامة؛ ومن أجل ذلك قاموا بتبني فكرة بديلة ومضادَّة لشرعية الحق الإلهي وهي الحق الطبيعي.
وبهذا نرى أن هذه العلمانية فقدت عنصرين من القاعدة العملية، وهما كل من عنصر التفكير والغاية، فلم يتمَّ الحلُّ بناء على محاكمة عقلية للمشكلة، ولم يكن العمل مقصودًا به غاية محقَّة حكم العقل بجعلها بوصلة توجِّه الفكر والعمل، وبالتالي انقطعت هذه القاعدة الفكرية الأساسية – أي العلمانية – عن الفكر السليم وعن الغائية السامية. وبالتالي كان هذا هو أول الفساد الفكري وجذره، وكان هو أصل كل الشرور التي نتجت عن هذه الحضارة كما سنرى لاحقًا.
الحق الطبيعي هو الركن الأول للعلمانية:
كان الملوك والقياصرة في أوروبا يحكمون الناس بها باسم الحق الإلهي، وهو ما يسمى بنظام الحكم الثيوقراطي، وتعود هذه النظرية إلى العصور الوسطى؛ إلا أنها تبلورت بشكلها المتميِّز في عهدي كل من (جيمس الأول) ملك إنكلترا (1603-1625)م و(لويس الرابع عشر) ملك فرنسا. وحسب نظرية الحق الإلهي كان من حقِّهم – حسب الكنيسة – أن يشرِّعوا ما يريدون من قوانين، وأن ينفِّذوا ما شاؤوا من أحكام دون حقِّ الاعتراض عليهم من الشعوب، وكان من أشهر المدافعين عن هذا المفهوم الفيلسوف روبيرت فيلمر.
ولما حدث الصراع العنيف في أوروبا بين الملوك والكنيسة من جهة والفلاسفة والمفكرين والعلماء الطبيعيين من جهة أخرى، تمَّ بعدها التوافق على فكرة فصل الدين عن الحياة أي العلمانية. وكانت ثورة كرومويل في إنجلترا سنة 1688م هي التي أنهت نظريًا وعمليًا فكرة حقّ الملوك الإلهي، كما أصبح البرلمان هو صاحب الكلمة العليا في شؤون الحكم، وقد صدر عنه ما يعرف بـ«إعلان الحقوق» عام 1689م، وكان من أهم ما تضمَّنه أن حق الملك في التاج مستمَدٌّ من الشعب الممثَّل في البرلمان وليس من الله.
وقد انتقد الفيلسوف جون لوك سنة 1689م آراء فيلمر حول الحق الإلهي في كتابه المعادي لاستبدادية الحكم «المعالجة الأولى عن الحكومة المدنية» الآراء الداعمة للحكم باسم الله أو الرب ونقضَها. وقد بنى لوك وغيره من الفلاسفة كهوبس وفولتير وبيفندورف نظريتهم حول العقد الاجتماعي على نظرية الحق الطبيعي لنقد النظرية التقليدية حول الحق الإلهي. وقد دعا المفكر الألماني صموئيل بيفندورف (1632-1694)م إلى إحلال القانون الطبيعي أو العقلاني المحض محل القانون الكنسي المقدَّس، ويجدر بالذكر أن جيفرسون قد اقتبس كثيرًا من آراء لوك عندما كتب أعلان استقلال أمريكا عام 1776م.
وكان لا بدَّ لأوروبا من نظرية بديلة تحلُّ محلَّ نظرية الحق الإلهي لسد الفراغ؛ لأن الحياة لا تقبل الفراغ؛ فابتدع المفكرون فكرة حق آخر مقابل الحق الإلهي، وهي فكرة الحق الطبيعي. وقد تأثر فلاسفة العقد الاجتماعي الأوروبيون بفلسفة وقواعد المذهب الطبيعي أو بنظرية الحق الطبيعي، فشكلت هذه الفكرة البديل النظري الذي يحتاجونه للأفكار والأنظمة التي تقوم عليها الدول الحديثة ويتم حكم الشعوب على أساسها.
ما هي نظرية الحق الطبيعي؟
نظرية الحق الطبيعي هي نظرية تقوم على مجموعة من الحقوق التي يكتسبها الفرد بالطبيعة. أي أنها هبة طبيعية لكل فرد من الجنس البشري، لا تنزع من الأشخاص والشعوب، ويجب على المجتمع وسلطاته أن تؤمِّن الشروط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية لجعل ممارستها وصيانتها أمرًا ممكنًا، ومحاربة الحواجز التي تحول دونها أو تنتهك حرمتها.
وتتضمن نظرية الحق الطبيعي فكرة جوهرية وهي أن الحياة والعالم مبنيَّان على قانون طبيعي، يقيم العلاقات بين الأفراد على أساس الحرية والمساواة والعدالة الطبيعية، ويمكن بموجب هذا القانون الطبيعي تحديد الخير من الشر، ومعرفة العدل من الظلم، أو تمييز الخطأ من الصواب. فالمرجعية لتحديد هذه المفاهيم هي قانون الطبيعة؛ وعليه يكون الحق الطبيعي هو مستند أو مرجعية فوق الجميع. وبالتالي نزعت نظريةُ الحق الطبيعي مرجعيةَ تحديد الحقوق من نسبتها إلى الإله والكنيسة، ونقلت هذه الحقوق الفردية إلى مرجعية جديدة هي قانون الطبيعة والوضع الطبيعي.
وفكرة القانون الطبيعي هذه لم تكن فكرة جديدة، فهي ترجع في أصولها إلى فلسفة الإغريق وانتقلت إلى القانون الروماني، وهي تقوم على أساس وجود قانون ثابت لا يتغير، وهو يُعتبر المثل الأعلى الذي يجب أن تنسج على منواله قوانين المجتمع… فهو مصدره الطبيعة ويكشفه العقل. ثم انتقلت فكرة القانون الطبيعي إلى إنجلترا عن طريق الآداب اليونانية والقانون الروماني، وأدت إلى ابتداع نظرية العقد الاجتماعي التي يمكن اعتبارها إعمالًا لقانون الطبيعة في المجال السياسي، وترجع نشأة الدولة إلى الإرادة العامة للجماعة، فتكون السيادة للشعب، وشرعية سلطة الدولة مصدرها من الإرادة العامة.
إذًا، يلاحظ الترابط بين فكرة الحقوق الطبيعية وفكرة الحرية الفردية التي جعلها الفكر الرأسمالي إحدى أصول الحكم الديمقراطي؛ لأن نشوء المجتمع والدولة يكون أساسًا من أجل صيانة وحماية الحريات الفردية، ولتكون الديمقراطية بديلًا رأسماليًا لنظام الحكم الثيوقراطي والملكي المستند إلى فكرة الحق الإلهي.
ويظهر من التدقيق في فكرة الحق الطبيعي بأنها تقوم على مفهوم ذهني مجرد للوضع الطبيعي، فهو مجرد وضع متخيَّل لا حقيقة له في الواقع، فلا يمكن للفرد أن يعيش وحده في وضع طبيعي؛ لأن الإنسان مدني بالطبع فلا ينفك عن مجتمعه ولا عن أسرته. ولكنَّهم استندوا إلى فكرة الحقوق الطبيعية كتنظير للحد من سلطة الحكام ولتأسيس وإقرار حريات الأفراد. وعلى الأخص حرية التملك وإباحة استخدام العنف لحماية الملكية الفردية من كل من يعتدي عليها وعلى أنفسهم.
القوانين الطبيعية هي مرجعية القيم الرأسمالية:
حين تجعل الرأسماليةُ المرجعيةَ للقوانين الطبيعية، فهذا يعني التخلي عن أية معايير أخلاقية أو إنسانية أو دينية؛ لأنه لا يوجد في الطبيعة ولا في قوانينها المسيرة للتطور تلك المعايير، فلا يوجد في الطبيعة مفاهيم الرحمة والعطف والمسامحة، بل الموجود فقط هو قوانين القوة المتغلبة والقدرة على الدفاع عن النفس والتأقلم مع الأوضاع. ومن يكون من الكائنات مناسبًا للظروف الطبيعية يكون هو الأصلح، فتغيب في الطبيعة جميع القيم والمعايير إلَّا قيم القوانين الطبيعية ومعاييرها فقط، ولا يسود إلا قانون الغاب وشريعته، وبالتالي فالقيمة الوحيدة في قانون الطبيعة هي القيمة المادية.
فكرة التطور الطبيعي الركن الثاني للعلمانية
كانت فكرة التطور لازمة لإكمال النظرة الداروينية للحياة من أجل سد ثغرة كبيرة تتعلق بوجود إشكالية في اتخاذ القوانين الطبيعية كمرجعية للتشريعات البشرية. والإشكالية التي واجهت الأوروبيين هي مسألة أزلية وثبات القوانين الطبيعية وعدم تغيُّرها. وهذا الأمر – أي الثبات في القوانين الطبيعية – هو أصل أخذوه عن الإغريق والرومان، وهذا الأمر أحدث مشكلة للرأسماليين الذين وجدوا بأن القوانين التي يشرعونها يضطرون إلى تغييرها وترقيعها وأقلمتها مع الواقع وما يحدث فيه من مشكلات بشكل مستمر؛ ولذلك كان لا بدَّ من تبرير لهذا الأمر بمحاولة الرجوع للطبيعة نفسها، والادعاء بأن الطبيعة متغيرة ومتطورة وليست ثابتة مع إقرارهم بثبات قوانينها، ولذلك ابتدعوا فكرة التطور كقانون في الطبيعة.
وقد نشأت مدرسة في فرنسا هي مدرسة التطور الطبيعي، على يد الفرنسي جورج دي بوفون، ونشر في عام 1780م كتابه (التاريخ الطبيعي)، وأيّد فيه فكرة تطور الكائنات الحية من أنواع أسلاف مشتركة. وأثّر فكر دي بوفون التطوري في العديد من الفلاسفة والعلماء الطبيعيين، من أبرزهم: بارون دولباخ، صاحب كتاب (نظام الطبيعة) الذي أُطلق عليه (إنجيل الإلحاد)، والذي ناقش فيه فكرة تنظيم المادة لنفسها لتنتج الحياة بفعل العوامل البيئية والزمنية فحسب. وكذلك دينيس ديدرو، الذي اقترح بأن المادة تتفاعل بشكل عشوائي ما يتسبب في نشوء الحياة عن طريق الصدفة.
وكان جون لامارك من العلماء البيولوجيين الطبيعيين المتأثرين بدي بوفون، التي سُميت نظرية التطور (اللاماركية) باسمه، وله كتاب (التاريخ الطبيعي للحيوانات اللافقارية) صدر في عام 1820م. ثم كان داروين في إنجلترا هو الذي دمج في نظريته بين أفكار مدرسة الوضع الطبيعي وأفكار مدرسة التطور الطبيعي، وخرج بنظرية التطور الطبيعي للأحياء سنة 1860 م.
أما الداعي لابتداع فكرة التطور، فهو التعارض الذي ظهر في أوروبا بين الإيمان بقوانين الطبيعة كقوانين ثابتة لا تتغير وبين القوانين التي يشرعها البشر، والتي تكون قوانين الطبيعة هي المرجعية لها بدل القوانين الإلهية. وبما أن القوانين البشرية متغيرة ومتبدلة حسب الديمقراطية، أي أهواء البشر ومصالحهم، فقد شكَّل هذا الأمر تعارضًا بين مرجعية قوانين الطبيعة الثابتة ومرجعية التشريع البشري المتغير، مع أنهم لو تفكروا عميقًا لوجدوا أن معيار صلاح ونجاح أي نظام أو قانون هو قدرته على حل المشكلات من خلال قواعده وأسسه التي قام عليها، دون الحاجة للخروج عنها وتأويلها بترقيعات وتأويلات فاسدة، وإذا استجدت قضايا ووقائع جديدة مع تغير الزمان والظروف، واستطاع هذا النظام والقانون علاجها دون الخروج عن هذه القواعد والأسس، فإنه يعتبر قانونًا ونظامًا ناجعًا وصالحًا، وإلا فلا.
ولكن عندما يضع الإنسان نظامًا أو قانونًا لحل مشكلات معينة ثم تتقلب عليه الظروف والأحوال، ويثبت عجز وفشل هذا النظام والقانون عن حل المشكلات، فيلجأ القائمون عليه إلى محاولات متعسفة لتغييره وتكييفه مع الظروف الجديدة، فيقومون بتأويلات فاسدة للقانون والنظام، ويخرجون عن أسسه وقواعده بشكل يؤدي إلى انحرافه عن أهدافه ومعاييره، فإن هذا الانحراف والترقيع يدل على فساد وفشل هذا النظام والقانون في حل المشكلات المستجدة.
لكن قد يحاول القائمون على هذا النظام والقانون أن يقوموا بالتغطية على الفشل والعجز عن وضع نظام صالح لمعالجة المشكلات، فيزعمون أن تطور القانون والنظام هو أمر طبيعي ليتلاءم هذا القانون مع ما يستجد من أحداث ووقائع؛ لأن هذا هو قانون الطبيعة في الأصل، فهي في تغير وتطور دائمين، وأن الأنظمة والأفكار التي لا تتطور مع مرور الزمن، يؤدي ذلك إلى تراكم المشكلات أمامها ثم يؤدي إلى عجزها عن مسايرة الواقع أي أنها فاشلة، وبالتالي تكون هناك حاجة مستمرة إلى استبدالها بقوانين عصرية متطورة ومتحضرة!!
وعليه، عندما يدعي واضعو الأنظمة الرأسمالية وكذلك الاشتراكية بأن التطور أو التقدم هو قانون من قوانين الطبيعة ولا بد منه، وهو الذي يبقي الأنظمة والأفكار حية وتنمو وتتطور، ومن لا يتطور فإنه سينقرض ويفنى حتمًا بناء على نظرية داروين… هذا الادعاء هو تعبير عن الفشل ولكن باستخدام ألفاظ ملتوية، فإذا كان القانون والنظام لا يصلح ولا يستطيع معالجة المشاكل والوقائع التي وجد من أجل حلها، فهو قانون ونظام فاشل وفاسد. وما قيام واضعيه بعمليات تغيير في أسسه وتفصيلاته تحت شعار التطور والتحديث إلا محاولات لإخفاء هذا الفساد والفشل تحت شعار التطور والحداثة.
وبالتالي فدعوى التطور هي محاولة للتهرب من نتائج الفساد والفشل في الأنظمة وفقًا للمعيار الذي يحدِّد بأن صلاحية الأنظمة والقوانين هو قدرتها على إيجاد حلول ناجعة للمشاكل، وليس بناء على قدرتها على التلوُّن والتمطط والترقيع تحت اسم التطور… إن الخلط بين مسألة تطور العلوم الطبيعية وما يسمى بتطور القوانين البشرية يؤدي إلى اللبس وقلب الأمور، ويؤدي إلى أن يتصور الناس بأنهما من جنس واحد، فما دامت العلوم تتطور، فلماذا لا تتطور القوانين؟! ولذلك وجب التفريق بينهما لكشف المغالطة والدس والفساد الرأسمالي.
معيار تطور القوانين والأنظمة:
وفقًا لما شرحناه أعلاه وذكرناه بأن دعوى التطور في القوانين يدل على الفشل والفساد في علاج المشكلات الإنسانية بقوانين غير صالحة، وعملية خلط تطور القوانين والتشريعات البشرية مع تطور العلوم، هو خطأ فاحش. أما تطور العلوم الطبيعية، فهذه مسألة مختلفة؛ لأن العلوم مبنية على قوانين الطبيعة الثابتة التي لا تتغيَّر ولا تتبدَّل. ودور البحث العلمي هو الكشف عن هذه القوانين وجعلها في خدمة الإنسان من خلال فهم وتقنين سلوك المواد الطبيعية، أي تسخير ما خلقه الله في الطبيعة لمنفعة الإنسان. وقوانين الطبيعة لا تتغير ولا تتطور مطلقًا، وإنما الذي يتغير ويتطور هو إدراك الإنسان لها وقدرته على تسخيرها لمصلحته بواسطة العلم والتكنولوجيا، فكلما بحث الإنسان ودرس وجرَّب توصل إلى علوم جديدة نافعة له. فهذا، وإن جاز أن نسميه مجازًا بالتطور؛ ولكنه يختلف تمامًا عما يسمى بتطور قوانين الطبيعة والتي هي – في حقيقتها – ثابتة لا تتطور، وثبات قوانين الطبيعة هو أكبر شاهد على كذب وافتراء هؤلاء الرأسماليين بشأن مفهوم التطور.
النظرة الداروينية للأخلاق:
كما اتضح أعلاه من شرح لأسس الحضارة الرأسمالية التي قامت على نظرية الحق الطبيعي والتطور، ونفي جميع القيم في الحياة إلا القيمة المادية النفعية الأنانية، كان تصوير الحياة -كما في نظرية داروين- بأنها صراع على البقاء وأن البقاء يكون للأصلح وللأقوى، وأن المرجع الوحيد للقوانين هو قانون الطبيعة، فبالتالي كان الهمُّ الرئيس للرأسماليين هو اكتشاف قوانين الطبيعة وتقديسها ثم تبنيها واستغلالها للانتفاع بالمنافع الطبيعية، وكسلاح للقضاء على الخصوم في خضم صراعات الحياة.
وإذا كان البعض قد يجادل بأن الأفكار الرأسمالية الأساسية قد نادت بقيم «أخلاقية» كالحريات والديمقراطية والعلمانية وحقوق الإنسان، وهذه – في تقديرهم – قيم أو أفكار حسنة ولها قبول عالميًا، فإننا نقول لهم بأن هذه قشور دعائية يغطي بها الرأسماليون عوراتهم الفاضحة، فعند الشدائد تظهر حقيقة النظرة والمعدن الذاتي للمبادئ وللأشخاص، وها نحن جميعًا شاهدنا تصرفات أهل هذه الحضارة، خلال ما يمر به العالم في أزمة وباء الكورونا، ورأى الناس بأم أعينهم الصراع والخصام بينهم حتى على ورق الحمام والمنظفات، ورأوا قرصنة أمريكا وغيرها من الدول الرأسمالية للكمامات الواقية والمعدات الطبية الأخرى من دول أخرى، ومنعها لشركاتها من تصدير هذه المعدات للخارج، وإيمانهم بسياسة «مناعة القطيع» الداروينية، وتركهم لكبار السن دون رعاية ليفترسهم فيروس الكورونا.
وقد تبيَّن للعالم – في خضم هذا الوباء وما سبقه من أزمات عالمية – فساد هذه الحضارة وفساد نظرتها الداروينية للحياة، تلك الحضارة التي تُعلي قيمة الأنانية والتطور العنصري والبقاء للأقوى، وأنها حضارة تحطُّ من القيم الروحية والإنسانية والأخلاقية كالرحمة وحسن الجوار وإغاثة الملهوف وإعانة الضعيف. فهي تؤمن بالقوة المادية وسلاح الدمار الشامل للتغلب في الصراع مع الخصوم، فيما تهمل الرعاية الصحية والتعليم وباقي الحاجيات المجتمعية التي لا تدرُّ ربحًا. إن كل هذا يثبت أن نظرتهم الحقيقة للحياة هي هذه النظرة الداروينية للحياة، وأنها نظرة فاسدة غير أخلاقية، مكمنها في مفاهيم الأعماق عندهم.
أثر النظرة الداروينية على مناهج التفكير
كان من أول الأفكار التي نشأت في أوروبا في بداية ما يسمى عصر النهضة، الطريقة العلمية التجريبية في البحث، وقد نشأت على أيدي بعض العلماء والفلاسفة، كان من أهمهم جاليليو (1564–1642)م في إيطاليا، وفرانسيس بيكون (1561-1626)م في بريطانيا. فـ«بيكون» يعتبر من أوائل الفلاسفة الذين دعوا إلى الحرية الفكرية والاصطباغ بالروح العلمية في أوروبا، وهو المؤسس للمنهج التجريبي الذي يقوم على التفكير العلمي. وأرجع بيكون انحطاط الفلسفة إلى عوامل منها اختلاط الدين بالفلسفة، واعتماد الناس في أحكامهم على الأدلة النقلية وأخذهم بأقوال السالفين دون النظر والتثبت من صحتها. وقد ثار ضد تراث أفلاطون وأرسطو الإغريقي بأسره واعتبره غير واقعي.
يعتبر الرأسماليون الطبيعة بأنها هي مصدر المنافع المادية، ولا بد من تسخير قوانينها الطبيعية لقهرها، وبالتالي حتى يتم التغلب عليها لا بد من فهم صفات الطبيعة وقوانينها، ثم إيجاد القوة المادية وما يلزمها من وسائل وأسباب لتذليل الطبيعة والحصول على منافعها بالقوة القاهرة؛ ولذلك تكون الطريقة العلمية هي أهم وسيلة عندهم لفهم واقع الطبيعة وقوانينها، وكذلك لتطوير ما يلزم من قوة وسلاح يساعد البشر لكي يستطيع الإنسان الحصول على المنافع الطبيعية.
إذًا، الحضارة الرأسمالية حددت أن همها الأول هو التفكير في واقع الطبيعة لاستنباط الأنظمة والقوانين التي في الطبيعة، وجعلها هي النموذج المسيِّر لأفعال الناس في الحياة في كافة المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وبالتالي فمنهجية التفكير الرأسمالية حصرت نفسها بالطبيعة وقوانينها لا غير، وترى أن الإنسان هو جزء من الطبيعة، وأن عليه الانسجام معها، وأنه – ككائن حي – نتاج تطور قوانين هذه الطبيعة ولا حاجة لأن يخلقه خالق، وبالتالي كان لا بد لهم من منهجية في التفكير تتناسب مع هذه الأمور تقوم على التفكير النفعي البراغماتي، وعلى استنباط علوم الطبيعة بواسطة حصر العقل في الماديات فقط، وملاحظة الطبيعة وما عليها من أحياء واكتشاف طرق عيشها وصراعها، ومحاولة تقليد الإنسان لهذه الطبيعة.
ويعتمد الرأسماليون على فهم المشكلات وإيجاد الحلول لها من خلال الطريقة أو المنهج العلمي في البحث؛ لأن هذا المنهج العلمي هو الذي يوصلهم إلى فهم واقع الأمور أو ماهية المشكلات الإنسانية، وهو المنهج الذي يجب أن يستخدم في حلها من خلال قوانين الطبيعة؛ لأن من أهم أهداف البحث العلمي هو اكتشاف القوانين العلمية التي تتحكم في سلوك المادة والطبيعة، فتكون الطريقة العلمية هي أهم أداة يعوَّل عليها في التفكير والفهم والسلوك لديهم.
النظرة الداروينية للحياة
عند إمعان النظر في الطريقة الداروينية في فهم الطبيعة والتعامل مع الحياة، نجد أنها تقوم على أسس محددة، تتمثل في:
اعتبار الطبيعة وقوانينها هي القيمة الأسمى، وهي المرجعية التي يجب اعتبارها وتقديسها، ثم اعتبار أن الحوادث تحركها العشوائية والصدفة دون توجيه أو تنظيم خارجي، وأنَّ التطور يحدث في الطبيعة تلقائيًا دون تدخل من أحد، وهو تطور ذاتي وفق قوانين الطبيعة، ويكون دائمًا نحو الأصلح.
وأما نظرتهم للحياة فتقوم على الصراع من أجل البقاء بين الكائنات والحصول على المنافع في الطبيعة وأن هذا هو الذي يوصل إلى التطور والارتقاء الاجتماعي، واعتبار أن معيار النجاح في الصراع الطبيعي هو امتلاك القوة والتناسب مع الظروف الطبيعية، ولا اعتبار لأي قيم أخلاقية أو إنسانية في هذا الصراع.
وبذلك نستطيع تفسير نظرة الرأسماليين لمفهوم حريات الأفراد؛ لأن الحرية تماثل مفهوم العشوائية في الطبيعة، وأن المنفعة المادية المحسوسة أو البراغماتية هي وحدها المعيار ولا اعتبار للقيم الروحية والأخلاقية؛ لأن الطبيعة وقوانينها لا تعترف بها، وأن المشاكل تأتي بسبب النقص في الموارد، وأن هذا سبب الصراع، وأن العلاج يكون بزيادة الثروات، وأن معالجة مشاكل الحياة تستفاد من أنظمة الطبيعة، وأن القوانين البشرية تتطور مع الزمن، وأن التطور يتجه دائمًا نحو الأفضل.
إن من أهم أسس الفساد في النظام الرأسمالي هو القول بأن الصراع أو الإشكاليات (النواقص والثغرات) تحَلُّ بشكل تلقائي آلي دون الحاجة لتدخل مقصود لأحد من خارج الطبيعة وقوانينها، وهي فكرة آتية من نظرتهم للطبيعة باعتبارها نظامًا سببيًا مغلقًا لا يحتاج إلى سبب من خارجه (إنكار الخالق)، وأن الصراع الطبيعي يؤدي إلى التطور، والتطور الطبيعي كفيل بارتقاء الأشياء. وهذا الأساس – أي عدم الحاجة للتدخل في الصراع الطبيعي – هو ركن في نظرية داروين حول تطور الكائنات الحية، وهو ركن عند مالثوس في مبدأ الكثافة السكانية، وكما هو ركن أيضًا عند ماركس في نظرية تطور حركة تاريخ المجتمعات، وكذلك هو ركن في الاقتصاد حيث منع آدم سميث تدخل الدولة، وجعل قانون العرض والطلب وميكانيكية الثمن كفيلة بحل مشكلات التوازن والتوزيع، وتؤديان إلى تقدم وازدهار الاقتصاد. والخلاصة أن الحياة صراع يجري وفق قانون الطبيعة أو شريعة الغاب.
الحقُّ الطبيعيُّ والتطوُّر هما أساسا الأنظمة الرأسمالية:
نتج عن رفض فكرة الحق الإلهي ما يعرف بالعلمانية السياسية، وتم استبدالها بفكرة الحق الطبيعي، والحق الطبيعي يقتضي بأن تكون قوانين الطبيعة هي المرجع الأساسي لقياس الحقوق والواجبات في المجتمع؛ فلا يكون للدين ولا للكنيسة أي دور في تنظيم الشؤون الاجتماعية والسياسية. وما دامت القوانين الدينية ليست هي المرجع، ولم تعد المصدر الأساس بعد فصل الدين عن الحياة وعن الدولة، فكان لا بد من أن يستبدلوا القوانين الدينية بقوانين من الطبيعة. فغدا الإنسان وإرادته وحرياته هي المصدر للحقوق في المجتمع، وعليها يتأسَّس ميثاق العقد الاجتماعي ودستور الدولة.
ونتج عن فكرة الحق الطبيعي لزوم الإقرار بفكرة الحريات الفردية، ونتج عنها كذلك المدرسة الاقتصادية الطبيعية التي كانت النواة لنشوء النظام الاقتصادي الرأسمالي، القائم على المبادرة الفردية وحرية التملك وعدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي للأفراد، والاعتماد على اليد الخفية للسوق – أو ميكانيكية الثمن – التي تحقق التوازن وتساهم في توزيع الثروات على المجتمع، وكان من أهم مؤسسي ومنظري هذه المدرسة الاقتصادية آدم سميث في بريطانيا (1723-1790)م.
ونتج أيضًا عن فكرتي الحق الطبيعي والتطور الطبيعي نظرية التطور في الكائنات الحية التي نادى بها تشارلز داروين (1860م)، ونادت بأن قوانين الطبيعة تشير إلى قانون صراع البقاء بين الأحياء على الموارد الطبيعية، وأن نتيجة هذا الصراع هي البقاء للأصلح، وأن القوانين الطبيعية هي التي تؤدي إلى تطوُّر وتنوُّع الأنواع الحية.
ثم انبثق عن فكرة التطور الداروينية هذه ما يسمى بالداروينية الاجتماعية، حيث ارتكزت على أساس علمي بزعمهم، وهي نظرية داروين؛ لتوجد لها شرعية علمية فتكون أمرًا مقبولًا في العلوم الاجتماعية. وهذه المدرسة أعطت التبرير اللازم من قوانين الطبيعة لما ذهبت إليه الكثير من الأفكار الخاصة بالعنصرية كالنازية والفاشية واليمين المتطرف. وظهرت بذور الداروينية كذلك في نظرية مالثوس في مبدأ الكثافة السكانية، والذي روَّج بأن الحروب والأوبئة والمجاعات وسوء الأحوال الصحية والاقتصادية، هي وسائل عملية تخفف من مشكلة التكاثر السكاني.
وعليه، فكل الأنظمة الرأسمالية في الاقتصاد الحكم والسياسة والاجتماع والقانون المدني والتعليم والصحة وغيرها، هي أنظمة مبنية على أساس الحضارة الرأسمالية، وهي العلمانية والنظرة الداروينية للحياة، وهذه النظرة الداروينية انبثقت من نظرية الحق الطبيعي بعد أن رًقِّعت بفكرة أخرى وهي التطور، فتمَّ دمجمها معًا لتشكيل النظرة الداروينية الرأسمالية للحياة.
2020-12-28