مع القرآن الكريم
2020/10/02م
المقالات
1,411 زيارة
بسم الله الرحمن الرحيم
(وَإِن كُنتُمۡ عَلَىٰ سَفَرٖ وَلَمۡ تَجِدُواْ كَاتِبٗا فَرِهَٰنٞ مَّقۡبُوضَةٞۖ فَإِنۡ أَمِنَ بَعۡضُكُم بَعۡضٗا فَلۡيُؤَدِّ ٱلَّذِي ٱؤۡتُمِنَ أَمَٰنَتَهُۥ وَلۡيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥۗ وَلَا تَكۡتُمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَۚ وَمَن يَكۡتُمۡهَا فَإِنَّهُۥٓ ءَاثِمٞ قَلۡبُهُۥۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ عَلِيمٞ ٢٨٣).
جاء في كتاب التيسير في أصول التفسير لمؤلفه
عطاء بن خليل أبو الرشته أمير حزب التحرير حفظه الله ما يلي:
يبين الله سبحانه في هذه الآية الكريمة أن المتعاملين بالدَّين إن كانوا على سفر ولم يجدوا أثناء سفرهم من يكتب لهم دينهم، فإن الله سبحانه قد أبدلهم عن ذلك بأن يأخذ الدائن من المدين رهنًا يقبضه ضمانًا لدينه.
فإن ائـتـمـنـوا بعضهم فلا حاجة لكاتب أو شاهد أو رهن، وعلى المـديـن الذي ائـتـمـنـه صـاحـبـه أن يخشى الله في صاحبه الذي ائتمنه على ديـنـه، وأن يؤدي إليه حـقـه دون عـنـاء أن يضطره إلى كثرة مطالبته، بل يتذكر إحسان الدائن إليه فيؤدي إليه حقه بإحسان كذلك.
ثم يحضهم الله سبحانه على عدم كتمان الشهادة وأن في ذلك إثمًا عظيمًا، وفي ختام الآية يبين الله سبحانه أنه عليم بما يعملون ولا يمكنهم بكتمان الشهادة أن يخفوا عن الله شيئًا، فهو عـلَّام الغـيـوب لا يعزب عنه مـثـقـال ذرة في الأرض ولا في السماء (وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ عَلِيمٞ ٢٨٣) فيجازيكم به إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.
(وَإِن كُنتُمۡ عَلَىٰ سَفَرٖ ) أي مسافرين.
(فَرِهَٰنٞ) جمع رهن وهو في الأصل مصدر ثم أطلق على المرهون من باب إطلاق المصدر على الاسم المفعول.
و(مَّقۡبُوضَةٞۖ ) دليل على تسليم الرهن للدائن فيقبضه.
(وَلَمۡ تَجِدُواْ كَاتِبٗا فَرِهَٰنٞ مَّقۡبُوضَةٞۖ ) يعني أن الرهن لتوثيق الدَّين في السفر عند عدم وجود الكاتب فإنه يقوم مقام توثيق الدَّين عند وجود الكاتب، وبالتالي فحكم الرهن في هذه الحالة هو الندب مثل حكم الكتابة.
والسؤال الآن: إذا كانت كتابة الدَّين في الحضر مندوبةً، والرهن في السفر عند عدم وجود الكاتب مندوبةً، فهل يجوز الرهن في الحضر مع وجود الكاتب؟ وهل يجوز الرهن في السفر مع وجود الكاتب؟
والجواب على ذلك أنه يجوز، لكن حكم الرهن في هذه الحالة الإباحة وليس الندب.
والدليل على ذلك:
أ – في الحـضـر: لقـد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري عن عائشة – رضي الله عنها -: “أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعامًا إلى أجل ورهنه درعًا له من حديد“)1( وفي رواية أخرجها النسائي من حديث ابن عباس: “تُوُفِّيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعًا من شعير لأهله“)2(.
وفعـل الرسـول صلى الله عليه وسلم يفـيـد الطلب، وحيث أنْ لا قـرينة جازمة، وكذلك لا قرينة مرجِّحة، كما أن الرهن ليس قربى، عليه فإن الرهن في الحضر مباح، حتى وإن كان الكتَّاب متوفرين، فتندب الكتابة ويباح الرهن.
ب – في السفر: قوله تعالى: (وَإِن كُنتُمۡ عَلَىٰ سَفَرٖ وَلَمۡ تَجِدُواْ كَاتِبٗا فَرِهَٰنٞ مَّقۡبُوضَةٞۖ )، إن عدم وجود الكاتب في السفر قد خرج مخرج الغالب، فالغالب في السفر أنهم كانوا لا يجدون كاتبًا، لقلة المتعلمين في ذلك الزمان، لذلك فإنه لا يعمل بمفهوم المخالفة للقيد (الوصف)
(وَلَمۡ تَجِدُواْ كَاتِبٗا)، وإذن يجوز الرهن سواء أكان هناك كاتب أم لم يكن، فقط الحكم يخـتـلـف، فمع عدم وجود الكاتب في السفر فالرهن يقوم مقام الكتابة وبالتالي حكمه الندب، والرهن في السفر مع وجود الكاتب على الإباحة.
والخلاصة كما يلي:
في الحضر: الكتابة مندوبة والرهن مباح.
في السفر: الرهن إن لم يوجد كاتب حكمه الندب، والرهن إن وجد الكاتب حكمه الإباحة، والكتابة إن وجد الكاتب حكمها الندب.
(فَإِنۡ أَمِنَ بَعۡضُكُم بَعۡضٗا) أي فإن أمن بعض الدائنين بعض المدينين في السفر أو الحضر، فكان حسن الظن بالمدين وبأمانته وعدم مطله، أي أن الدائن يثق بالمدين فيسدد دينه له بأمانة ولا مطل، ففي هذه الحالة يمكن الاستغناء عن توثيق الدين بالكتابة والشـهـود والرهـن ويصـبـح ذلك مبـاحـًا – كما بيـنا – إن شاء استوثق وإن لم يشأ فلا يستوثق.
وليست (فَإِنۡ أَمِنَ بَعۡضُكُم بَعۡضٗا) خاصة في حالة السفر والرهن وكونها وردت في هذه الآية التي بدأت بالسفر؛ لأن المعنى قد اكتمل عند (فَرِهَٰنٞ مَّقۡبُوضَةٞۖ ) والتعـقـيـب بعدها هو على ما سبق من أحكام الدين بالكتابة والشهود والرهن في الحضر والسفر.
ويؤكد ذلك ذكر (وَلَا تَكۡتُمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَۚ ) في هذه الآية والشهادة ليست مذكورة في الرهن عند السفر بل هي متعلقة بالشهادة المذكورة في الآية السابقة عند الكتابة في الحضر، ومع ذلك ذكرت في هذه الآية التي بدأت بالسفر (۞وَإِن كُنتُمۡ عَلَىٰ سَفَرٖ) وعليه فالراجح أن ما جاء بعد (فَرِهَٰنٞ مَّقۡبُوضَةٞۖ ) متعلق بموضوع الدين السابق في السفر والحضر.
والمعنى يكون: فإن اطمأن الدائنون لأمانة المدين وكان عندهم ثقة به في السداد وعدم المماطلة فيمكن عندها الاستغناء عن وسائل توثيق الدين من كتابة وشهود ورهن في الحضر والسفر على وجهه، وبدل أن يكون التوثيق مندوبًا – كما بينا سابقًا – يصبح مباحًا مع هذه الحالة الجديدة المبينة في قوله تعالى: (فَإِنۡ أَمِنَ بَعۡضُكُم بَعۡضٗا).
(فَلۡيُؤَدِّ ٱلَّذِي ٱؤۡتُمِنَ أَمَٰنَتَهُۥ) أي ليؤد المدين الدائن، وسمي الدين أمانة في هذه الحالة لأنه استغنى عن التوثيق بأمانة المدين.
والطلب هنا للـوجـوب، أي أن أداء الـديـن على الـوجـوب وذلك بقرينة لفظ (أَمَٰنَتَهُۥ) وأداء الأمانة فرض “لا إيمان لمن لا أمانة له“)3( وأحاديث أخرى. فذكر الأمانة، وهي وصف مفهم وأداؤها فرض، وتشبيه الدَّين بالأمانة، وجعل أداء الأمانة هو موضوع الطلب، كلّ ذلك قرينة على أن الأمر هنا (فَلۡيُؤَدِّ) للفرض.
(وَلۡيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥۗ)تحذير له من إنكار الحق أو عدم أدائه.
(وَلَا تَكۡتُمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَۚ ) خطاب عام للشهود وللدائن والمدين، لا يخفونها أو يحرفونها أو يمنعونها عن وجهها الصحيح، والنهي هنا جازم أي للتحريم بدلالة قوله سبحانه (وَمَن يَكۡتُمۡهَا فَإِنَّهُۥٓ ءَاثِمٞ قَلۡبُهُۥۗ ).
وذكر (قَلۡبُهُۥۗ) بعد ذكر (ءَاثِمٞ) للدلالة على عظم الإثم فإن ذكر الحاسة بعد فعلها أقوى في الدلالة، فإن قول (هذا ما أبصرته عيني) أقوى وأبلغ في الدلالة من (هذا ما أبصرته) وكذلك (هذا ما سمعتـه أذنـاي) أقـوى من (هذا ما سمعـتـه) وهكذا (وَمَن يَكۡتُمۡهَا فَإِنَّهُۥٓ ءَاثِمٞ قَلۡبُهُۥۗ) أقوى من (ومن يكتمها فإنه آثم).
(وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ عَلِيمٞ ٢٨٣ ) أي يعلم ما تعملونه سرًا كان أو علانيةً، فإن الله لا تخفى عليه خافية، فهو سبحانه يعلم أعمالكم ويحصيها عليكم ويجزيكم بها إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.
(1) البخاري: 2700
(2) النسائي: 4572، البخاري: 2759، 4197، أحمد: 1/236، 361، ابن حبان: 13/262
(3) أحمد: 3/154، 210
2020-10-02