فبهداهم اقتده: عبد الله بن أُنَيْس الجهني… صحابي المهمات الخاصة
2020/08/04م
المقالات
2,220 زيارة
نشأ عبد الله بن أُنَيْس في يثرب حليفًا لبني سلمة حتى غدا كأنه أحد أبنائها، وقد أكرمه الله بالسبَق في الإسلام، فكان ممن آمن على أيدي من بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الأولى، وسرعان ما انضم إلى صفوف الدعاة، فأخذ يدعو الناس وينصحهم؛ حتى إذا جاء موسم الحج، خرج مع قومه إلى مكة، وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة الثانية على نصرة الله ونصرة رسوله… وما إن عاد إلى يثرب حتى بدأ بالعمل… فخرج مع بعض أصحابه إلى أصنام بني سلمة وحطَّموها، وعندما رأى بنو سلمة أوثانهم محطَّمة خافوا أن تنتقم منهم؛ لكن الأيام مرَّت بسلام، فأدركوا أن هذه الأوثان لا تضر ولا تنفع، فأخذوا يدخلون في دين الله أفواجًا…
وفي شهر المحرم من السنة الرابعة للهجرة بلغ مسامعَ المسلمين أن خالد بن سفيان زعيم هُذيل يُعِدُّ العدّة لغزو المدينة المنورة، ويجمع الجموع في مكان قريب من المدينة يدعى “نخلة“، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذه القبائل تجتمع حول خالد بن سفيان، فإذا قُتل خالد تفرق الجمع وانتهى الأمر، وفكَّر فيمن ينتدبه لهذه المهمة، فاستدعى عبد الله بن أُنَيْس وأجلسه بجانبه وقال له: إنه قد بلغني أن ابن سفيان يجمع لي الناس ليغزوَني، وهو بنخلة، فأْتِهِ فاقتُلْه. قال: صِفْه لي يا رسول الله حتى أعرفه! فقال صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيته وجدتَ له قشعريرة». وأدرك الجندي أمر قائده، لكن كيف الوصول إلى خالد بن سفيان والاقتراب منه لقتله؟! قال عبد الله: يا رسول الله، لابد لي في مهمتي هذه أن أقول. [أي أن أخدع الرجل ببعض الكلام حتى أتمكّنَ منه] فأشار له رسول الله أن يقول ما بدا له، فالحرب خدعة.
وانطلق عبد الله إلى أداء مهمته حتى وصل “نخلة“ فوجد خالد بن سفيان مع بعض نسائه يختار لهن منزلًا. قال: فلما رأيته وجدت ما وصف لي رسول الله من القشعريرة، فأقبلت نحوه وخشيتُ أن يكون بيني وبينه مجاولة تشغلني عن الصّلاة، فصلّيت وأنا أمشي نحوه أُومِئُ برأسي للركوع والسجود، فلما انتهيت إليه قال: من الرجل؟. قلت: رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل فجاءك لذلك (أي جئت لأناصرك على الرسول) قال: أجلْ، أنا في ذلك، قال: فمشيت معه شيئًا، حتى إذا أمكنني حملتُ عليه السيف حتى قتلته، ثم خرجتُ وتركتُ ظعائنه مُكبّاتٍ عليه، فلما قدمتُ إلى رسول اللّه فرآني قال: «أفلح الوجه». قال: قلت: قتلتُه يا رسول الله. قال: ثم قام معي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فدخل في بيته، فأعطاني عصًا فقال: «أمسك هذه عندك يا عبد الله بن أُنيس». قال: فخرجت بها على الناس فقالوا: ما هذه العصا؟ قال: قلت: أعطانيها رسول اللّه، وأمرني أن أُمسكها، قالوا: أَوَلا ترجِع إلى رسول اللّه فتسأله عن ذلك. قال: فرجعت إلى رسول الله فقلت: يا رسول الله لم أعطيتني هذه العصا؟ قال: «آيةٌ بيني وبينك يوم القيامة، إنّ أقل الناس المتخصرون يومئذٍ». قال: فقَرَنَها عبد الله بسيفه فلم تزل معه، حتى إذا مات أمر بها فضُمَّت في كفنه، ثم دفنا جميعًا.
ومنذ هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، ووضع اللبنة الأولى للدولة الإسلامية، ما لبث اليهود أن كشّروا عن أنيابهم وأخذوا يكيدون للإسلام وأهله، وكان من أشد الناس عداوة لله ورسوله ملك يهود: أبو رافع سلاّم بن أبي الحُقيق أخو بني النضير، فقد أخذ يحرِّض على قتل النبي، ويحثّ الأعراب على غزو المدينة ونهبها، ويوفد الوفود للقبائل يدعوها للتحالف مع يهود للانقضاض على المسلمين… فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبا رافع يستحق الموت جزاء ما يفعل، فانتدب جماعة من أصحابه فيهم عبد الله بن أُنيس، وجعل عبد الله بن عَتيك رئيسًا لهم لأنه يتقن لغة اليهود…
وانطلقت المجموعة الفدائية إلى هدفها ليلة النصف من جمادى الآخرة سنة ست للهجرة، فكانوا يسيرون ليلًا ويكمنون نهارًا كي لا يُكتَشف أمرهم حتى وصلوا خيبر، فكمنوا حتى جنّ عليهم الليل، واستطاع ابن عَتيك أن يدبّر أمر دخولهم إلى حصن اليهود دون أن يشعر بهم أحد، فانتظروا حتى نام من في الحصن وهدأت الأصوات، ثم تقدَّموا حتى وصلوا غرفة سلاّم بن أبي الحُقيق، فانقضُّوا عليه في فراشه وتناوشوه بسيوفهم في الظلام، فأصابوه لكنه لم يمت، فما كان من عبد الله بن أُنيس إلا أن تقدَّم بثبات وأنفذ السيف في أحشائه حتى قتله، وأخذت زوجة ابن أبي الحُقيق تصرخ فهُرع مَن في الحصن إليها، وأسرع المجاهدون بالنزول، فانزلق ابن عَتيك وكُسرت رجله، فحمله عبد الله بن أُنيس فخرج به من الحصن، وافتقد عبد الله بن أُنيس قوسه، وظن أنها سقطت منه في الحصن، فعاد ودخل واختلط برجال الحصن وتظاهر أنه يبحث عن القاتل مثلهم حتى وجد قوسه فأخذها وانسلَّ خارجًا بسلام!.
وعاد الفدائيون إلى المدينة، فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتسم وقال: «أفْلَحَتِ الوجوه» فقالوا: أفلح وجهُك يا رسول الله. وتحلّق الصحابة حولهم يستمعون لما كان منهم، وتنازع الفدائيون فيمن قتل سلاّم بن أبي الحُقيق، فكلٌّ يقول: سيفي هو الذي قتله، فطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم سيوفهم فاستعرضها ثم قال: «لَسيفُ عبد الله بن أنيس هو الذي قتله! أرى فيه أثر الطعام»
واجتمع اليهود بعد قتل مليكهم، واختاروا لهم ملكًا جديدًا هو اليُسير بن رزام، وكان معروفًا بالخديعة والمكر، وسار اليُسير على خطى من سبقه يحرِّض الأعراب والقبائل المجاورة على إعداد العدة لقتال المسلمين ويبذل المال لهم لهذه الغاية حتى وصلت أخباره إلى المدينة، فشاور النبي أصحابه في أمره فقرروا أن يرسلوا إليه وفدًا لإقناعه بالكف عن التآمر على المسلمين ليجنّب قومه الحرب، فخرج عبد الله بن رواحة على رأس وفد، فيه عبد الله بن أنيس، حتى وصلوا خيبر، فتحدثوا إلى اليُسير بن رزام، وأقنعوه أن يأتي معهم إلى المدينة ليأخذ الأمان لقومه من رسول الله، فاختار اليُسير مجموعة من شباب يهود وخرج معهم بصحبة المسلمين إلى المدينة، وأركب كل واحد من المسلمين أحد اليهود معه على راحلته، فكان اليُسير رديف عبد الله بن أُنيس، وسار الركبُ نحو المدينة.
وفي الطريق أخذ اليُسير يفكر في أمره مع المسلمين، فحدّثته نفسه بالغدر، فقرر أن يقتُل عبد الله بن أُنَيْس، فيقوم مرافقوه بقتل من معهم من المسلمين، ثم يعودون إلى خيبر! فهجم بسرعة على سيف عبد الله بن أنيس يريد أن ينتزعه منه، وهو يصيح: يالثارات اليهود!؛ لكن عبد الله بن أنيس كان حذرًا فسلَّ سيفه وضرب به ساق عدو الله، فما كان من اليُسير إلا أن ضربه بعمود من خشب فشدخ رأسه، وتمالك ابن أنيس على نفسه وكرّ على الغادر فقتله، وبادر بقية اليهود، كلٌّ يريد أن يفتك بصاحبه من المسلمين، فأجهز المسلمون عليهم، ولم ينجُ منهم إلا رجل واحد فرَّ عائدًا إلى خيبر، وعاد المسلمون إلى مدينة رسول الله يحدثونه عن غدر اليهود بهم، وما ذاقوه نتيجة خداعهم…
إنها فراسة النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه، وتكليف كل منهم بما هو أهل له، وإن عبد الله بن أُنَيْس ليمثل نوعًا من الجندية العالية من صنوف الجهاد… وقد روى له البخاري في الأدب المفرد، والإمام مسلم وأصحاب السنن الأربعة، وقد روى عن النبي أربعة وعشرين حديثًا، قال ابن حجر مات بالشام في خلافة معاوية بن أبي سفيان سنة أربع وخمسين.
قال تعالى: (مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلٗا ٢٣).
2020-08-04