المديونية وسياسة الغرب في الاستعمار
2020/04/29م
المقالات
2,346 زيارة
علي السعيدي-تونس
تزدحم خانة الديون في موازنات الدول العربية المعلنة سنويًا بعدة مليارات من الدولارات، وتزداد بشكل متسارع، كما تتفاقم معها أزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية تسببت في انهيار حكومات دول واندلاع ثورات خلال العقد الأخير نتيجة التردِّي الحادِّ في الأوضاع المعيشية للشعوب.
وارتفعت ديون 20 دولة عربية في نهاية العام 2019م لتصل إلى أكثر من تريليون دولار، صعودًا من 923.4 مليار دولار في 2016م، و878 مليارًا في 2015م، و891 مليارًا بسنة 2014م، وهي كانت 426.4 مليار دولار في العام 2000م، وتصاعدت إلى أرقام خيالية في 2020م.
وخلال العقد الأخير، تصاعدت أزمات اجتماعية وسياسية في معظم الدول العربية ربما يكون أحد أسبابها، إن لم يكن الأهم، أزمة تراكم الديون العامة وارتفاع تكلفة هذه الديون، وعدم القدرة على سَدادها، وما يتبع ذلك من أزمات اقتصادية خانقة ترتَّب عليها انعدام القدرة على اتخاذ القرارات التي تقود إلى استقرار أوضاع البلاد.
ويزداد تأثير أزمة الدين العام على الدول العربية النفطية وغير النفطية بسبب عدم سيطرتها على مواردها المنهوبة، واحتياطاتها النقدية الضعيفة مقارنة بنفقاتها العالية؛ ما جعلها أكثر عرضة للأزمات السياسية والاقتصادية بالسنوات الأخيرة.
نقدم لكم في سياق التقرير التالي واقع الديون العامة في 10 دول عربية ، ونقارن بين حجم هذه الديون والناتج المحلي الإجمالي، وقيمة الدين التي تترتب على كل مواطن بهذه الدول.
لبنان، المواطن يتحمل 4400 دولار من دين بلاده:
ينحدر الاقتصاد اللبناني المتأزم منذ سنوات مسرعًا نحو كارثة ستقوده حتمًا نحو «الإفلاس» فدينه العام وصل إلى أكثر من 86 مليار دولار مع نهاية 2019م، بعد أن كان يقتصر على ما يزيد على 40 مليار دولار في مطلع العام 2007م. ويعدّ لبنان من بين الدول الأكثر مديونية في العالم، وهو يحتلّ المرتبة الثالثة عالميًا من حيث نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، بحسب صندوق النقد الدولي. وبلغت نسبة حجم الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في لبنان نحو 152%، بعد أن كانت 131% في عام 2012م، و47% في عام 1992م. ويبلغ نصيب الفرد اللبناني من ديون بلاده 4444 دولارًا، وهذا الرقم يعادل قرابة الـ55% من متوسط الدخل السنوي للمواطن اللبناني.
الأردن، المواطن يتحمّل 4000 دولار من ديْن بلاده:
تصنف الأردن بين الدول الأعلى دينًا نسبة إلى ناتجها المحلي الإجمالي، فقد وصل مجموع ديونها في يناير الماضي، إلى 27.44 مليار دينار (38.69 مليار دولار)، أي ما نسبته 95.6% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. وهذا الرقم المرتفع يعني أن حصة كل مواطن أردني من ديون بلاده تبلغ نحو 4091 دولارًا، أي ما نسبته 99.7% من متوسط دخل الفرد السنوي، الذي قدَّره البنك الدولي، في العام 2017م، بـ 4100 دولار.
تونس، المواطن يتحمّل 2400 دولار من ديْن بلاده:
أعلنت وزارة المالية التونسية ارتفاع الدين العام التونسي بنهاية جوان/حزيران 2019م، إلى 82.6 مليار دينار (31.9 مليار دولار)، مقارنة بـ 55.92 مليار دينار (21.06 مليار دولار)، في نهاية العام 2016م. ويمثل الدَين العام التونسي في نهاية 2017م ما نسبته 69.49% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي، بعد أن كان 61.87% في نهاية 2016م، وتبلغ حصة كل مواطن تونسي من ديون بلاده نحو 2400 دولار، استنادًا للإحصائيات الرسمية لأعداد السكان للعام 2016م، وهذا الرقم يعادل 61.5% من متوسط دخل الفرد السنوي الذي يبلغ 3900 دولار.
المغرب، المواطن يتحمّل 2120 دولارًا من ديْن بلاده:
بلغت ديون الخزينة المغربية 1014 مليار درهم (106 مليار دولار) نهاية 2019م، صعودًا من 679 مليار درهم (71.4 مليار دولار) في 2013م، وفقًا لإحصاءات وزارة الاقتصاد والمال المغربية المنشورة في فبراير الماضي. ويمثل الدَين العام المغربي ما نسبته 64.4% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد في 2017م، هبوطًا من نسبة 78% من الناتج المحلي في العام 2013م. ويبلغ نصيب كل مواطن مغربي من ديون بلاده نحو 2125 دولارًا، بحسب إحصائيات السكان للعام 2016م، وتقدر حصة الفرد من الدين بـ73.3% من متوسط دخله السنوي.
السودان، المواطن يتحمّل 1360 دولارًا من ديْن بلاده:
تتصاعد قيمة الدين العام السوداني بشكل متواصل، وبحسب تقرير للبنك الدولي صدر في أبريل الماضي، فإن السودان ما يزال يعاني من ضغوط الديون الخارجية التي بلغت 54 مليار دولار، 85% منها متأخرات. وكشف البنك في تقريره المشترك مع وزارة المالية السودانية أن نسب الديون الخارجية للخرطوم بلغت 166% من إجمالي الناتج المحلي. وعند اقتسام قيمة الدين العام السوداني على مواطني البلاد، بحسب إحصائيات 2016م، فإن نصيب الفرد يكون 1364 دولارًا، أي ما يعادل 75.7% من متوسط دخل المواطن في العام الذي يبلغ 1800 دولار.
موريتانيا، المواطن يتحمّل 1150 دولارًا من دَيْن بلاده:
رغم أن الديون العامة لموريتانيا لا تصل قيمتها إلى 5 مليارات دولار، فإن نسبتها وصلت إلى ما يزيد على 100% من إجمالي ناتجها المحلي السنوي. وتعاني نواكشوط من أزمات اقتصادية ومعيشية قاسية منذ عقود، فمواطنوها يعتمدون على صيد الأسماك كمصدر دخل رئيسي لهم، في ظل غياب سياسة اقتصادية محكمة، وضعف بالأنشطة الفلاحية بشقيها الزراعي والرعوي. وبحسب إحصائية نشرتها صحيفة «السفير» الموريتانية العام الماضي، فإن ديون موريتانيا وصلت إلى 4.95 مليارات دولار، وهذا الرقم تبلغ نسبته 100% من إجمالي الناتج المحلي للبلاد للعام 2016م، بحسب بيانات البنك الدولي.
وسيحصل كل مواطن موريتاني على 1150 دولارًا من ديون بلاده، وهو ما يقدر بـ88.5% من دخل الفرد السنوي في البلاد الذي يبلغ 1300 دولار، وفق البيانات الرسمية للعام 2016م.
مصر ، المواطن يتحمّل 900 دولار من ديْن بلاده:
تتصاعد الأزمات المعيشية في مصر منذ إعلان البنك المركزي المصري تحرير العملة المحلية (الجنيه) عام 2016م، فبعد هذه الخطوة فقد الجنيه المصري أكثر من نصف قيمته، وشهدت البلاد ارتفاعًا جنونيًا بالأسعار أثَّر على القدرة الشرائية للمواطنين، ومن ثم تضررت معظم الشركات المحلية والأجنبية في البلاد.
وضمن حزمة الأزمات الاقتصادية التي تضرب مصر، بلغ إجمالي ديون القاهرة الخارجية مع الفوائد 109 مليار دولار في 2019م، بحسب ما أعلن البنك المركزي المصري. وبلغت نسبة الدين العام في مصر نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي 36.1%، فيما تقدر حصة كل مواطن مصري من دين بلاده بـ 880 دولارًا، أي ما نسبته 24.4% من متوسط حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي.
اليمن ، المواطن يتحمّل 700 دولار من ديْن بلاده:
منذ اندلاع الحرب في اليمن بين القوات الحكومية الموالية للإنجليز والحوثيين الموالين لأميركا قبل نحو خمسة أعوام، وكما نزيف الدماء، لم يتوقف نزيف الاقتصاد اليمني، فاحتياطي النقد الأجنبي تبخَّر، واتهمت الحكومة الحوثيين بـ»نهبه»، والعملة المحلية (الريال) انهارت إلى أقل من نصف قيمتها، والدَين العام لا يتوقف عن الارتفاع. وأظهر آخر تقرير رسمي للجهاز المركزي اليمني للرقابة والمحاسبة ارتفاع سقف الدين العام من 3.1 تريليونات ريال (12.7 مليار دولار)، في يناير 2015م، إلى 4.9 تريليونات ريال (19.7 مليار دولار)، في يناير 2017م. وأفاد التقرير أن نسبة الدين العام أصبحت 85% من إجمالي الناتج المحلي، بينما وصلت أعباء الدين (الفوائد) إلى 768.9 مليار ريال (3.07 مليار دولار). وعند قسمة قيمة الدين على عدد المواطنين اليمنيين فإن حصة كل مواطن تكون نحو 714 دولارًا، أي ما تعادل نسبته 147.2% من متوسط دخل الفرد السنوي، بحسب أحدث بيانات رسمية نشرت في فبراير 2018م.
الصومال، المواطن يتحمّل 350 دولارًا من ديْن بلاده:
لا تزيد ديون الصومال كثيرًا عن سابقتها موريتانيا، فقد وصلت إلى نحو 5 مليارات دولار في نهاية العام الماضي، وهي تشكل قرابة 68.4% من إجمالي الناتج المحلي للبلاد للعام 2017م، كما أفادت بيانات البنك الدولي منتصف العام الجاري. واستنادًا إلى إحصائيات السكان للعام 2016م، تبلغ حصة كل مواطن صومالي من ديون بلاده العامة نحو 357 دولارًا، وهو ما يعادل 66.7% من متوسط دخل الفرد السنوي.
سوريا، المواطن يتحمل 240 دولارا من دين بلاده:
كشف تقرير إحصائي أصدره البنك الدولي حول الديون الدولية، في يناير الماضي، عن أن حجم الدين العام السوري يبلغ 4.394 مليارات دولار، أي ما يعادل 9.7% من الناتج المحلي للبلاد البالغ 45 مليار دولار. وتبلغ حصة الفرد في سوريا من ديون بلاده 241 دولارًا، وهو ما يعادل نحو 20.2% من متوسط دخل الفرد السنوي البالغ 1188 دولارًا، استنادًا لإحصائيات الأمم المتحدة لعدد السكان في البلاد البالغ 18.2 مليون نسمة.
ثروات الحكام والمال المنهوب:
أمام هذه الوضعية الكارثية المتمثلة في إغراق البلاد في حزمة من الديون المهلكة، وتمكين الصناديق الاستعمارية من إحكام قبضتها على مقدراتها، تنضاف كارثة أخرى زادت في الطين بلة تمثلت في تولي حفنة من العملاء مقاليد الحكم بعد رضى الغرب عنهم وتوليتهم إدارة الشأن العام بما يضمن مصالحهم، وقد عمد هؤلاء الحكام إلى النهب والاختلاس من المال العام وجمعوا ثروات تعادل ميزانيات دول، وكدَّسوها خارج البلاد في بنوك الغرب الكافر ليلحقوا بها متى ما أحسوا بتعكر الأجواء وثورة الناس عليهم. ولم تعد الأخبار التي تتناول نقل أموال المسؤولين والحكام ورجال الأعمال العرب للبنوك الخارجية من الأخبار اللافتة للانتباه، وصار ذلك من بديهيات الحكم وتولي المناصب العليا في الدولة، وصار الرأي العام أن الحكام لصوص بامتياز.
وتحتل البنوك السويسرية والأميركية والبريطانية والفرنسية النصيب الأكبر من إيداع الأموال المهرَّبة من الدول العربية، وهكذا ينعم الغرب بنعمتين: نعمة الهيمنة على البلاد الإسلامية ونهب خيراتها عبر النفاذ غير المشروط لشركاته وصناديقه الاستعمارية، ونعمة تخزين المال المنهوب من قبل الحكام في المصارف الأجنبية واستعمالها في الدورة الاقتصادية لبلدانهم، فهل بقي لأهل البلد شيء بعد تكالب الغرب والعملاء على نهب كل ثروة فوق الأرض وتحت الأرض؟.
في تقرير مطول لـ «دويتشه فيله» تناول ملف الأموال العربية المهربة للخارج، نقل عن الغرفة العربية السويسرية للتجارة والصناعة في جنيف تقديرها لحجم الأموال العربية المنهوبة والمخفيَّة في البنوك السويسرية بنحو 200 مليار دولار، فيما قدرت إجمالي المبالغ العربية المودعة في الخارج بصفة عامة بحوالى عدة تريليونات من الدولارات. التقرير استعرض أبرز الوجهات التي تحتضن الأموال العربية إلى جانب سويسرا، منها على سبيل المثال جزر البحر الكاريبي البريطانية وليشتنشتاين وولايات نيفادا وجنوب داكوتا ووايومنغ وديلاوير، لافتًا إلى أن قسمًا كبيرًا من هذه الأموال يعود إلى حكام ورجال أعمال فاسدين حصلوا على ثرواتهم بطرق غير مشروعة على مدار عقود طويلة مضت، تحت بصر المسؤول الكبير الذي سمح لهم ببعض فتات مقارنة بما يجنيه عبر الهيمنة المباشرة ووضع اليد على ثروات الأمة.
صندوق النقد الدولي من أذرع الاستعمار:
أنهت الحرب العالمية الثانية حقبة من التاريخ كانت الدول الكبرى تعمد فيها إلى خوض الحروب واستعمار البلدان من أجل تلبية احتياجاتها الاقتصادية، من جمع الموارد وفتح الأسواق لمنتجاتها؛ ولكن هذه السياسية انتهت إلى حربين عالميتين مدمرتين؛ وهو ما دفع بالقوى المهيمنة بعد نهاية الحرب الثانية إلى إيجاد أشكال ووسائل جديدة لإدامة الهيمنة وضمان تحقيق مصالحها.
بريتون وودز… وإعادة تأسيس النظام الاقتصادي العالمي.
بينما كانت الحرب العالمية الثانية تتجه إلى نهايتها، استضافت الولايات المتحدة 730 ممثلًا عن 44 دولة، هم حضور المؤتمر المنعقد في منتجع «بريتون وودز» بين غابات ولاية نيوهامشاير، وذلك في تموز (يوليو) من العام 1944م، وخُصِّصَ المؤتمر لمناقشة قضايا النقد والمال في عالم ما بعد الحرب؛ بهدف تحقيق الاستقرار الاقتصادي في النظام العالمي الوليد؛ حيث تم تثبيت سعر الدولار فيه مقابل الذهب (35 دولارًا لكل أونصة)، وتثبيت نظام صرف العملات وربطها بعملة الدولار. ولتحقيق غايات المؤتمر انبثقت عنه مؤسستان دوليتان، وهما: صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، إضافة إلى التمهيد لتوقيع الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة (الجات) والتي وقعت لاحقًا في جنيف عام 1947م.
كان دور صندوق النقد هو ضبط السيولة النقدية وأسعار الصرف، بينما يُموّل البنك الدولي مشاريع إعادة الإعمار في المناطق المدمّرة ويهيئها للمشاركة في السوق العالمية، وأما اتفاقية التجارة فترعى حرية التجارة عالميًا بما يضمن مصالح المراكز الرأسمالية من خلال ضمان نفاذ المنتجات المصنَّعة فيها إلى أسواق الدول المستهلكة.
هيمنة غربية منذ التأسيس:
وقد هيمنت الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية على صندوق النقد منذ تأسيسه؛ حيث كانت عند التأسيس هي الأكثر استعدادًا للتعاون الاقتصادي، وكانت الولايات المتحدة تسيطر على ثلثي الاحتياطيات الذهبية في العالم، فحافظت هذه الدول على النسبة الكبرى من مدَّخرات الصندوق، ويرتبط نظام الصندوق والحقوق التصويتية للدول بحصتها في رأسمال الصندوق، وتسهم الولايات المتحدة بالنصيب الأكبر فتبلغ حصتها نحو 17%، بينما تصل مساهمة مجموعة الرأسماليات الغربية مجتمعة حوالى 45% من القوة التصويتية، وهي نسبة كبيرة بالنظر لحصتها السكانية التي لا تتجاوز 20% من إجمالي سكان العالم، ما يمنحها القدرة الحاسمة على توجيه قرارات الصندوق وسياساته، بما يجعل منه معبِّرًا عن مصالحها، ومكرِّسًا لهيمنتها وبسط نفوذها، وهو ما دفع بدول أخرى إلى محاولة إيجاد بنوك وصناديق إقراض أخرى بديلة؛ حيث تم تأسيس صناديق وبنوك على مستوى القارات، كبنك التنمية الآسيوي والأفريقي بحثًا عن الفكاك من الهيمنة الأميركية؛ لكن مثل هكذا بنوك وصناديق تبقى أدوات في أيدي من أنشأها لبسط الهيمنة والنفوذ ومص دماء الغير.
وصفة الإفقار ثم الهيمنة:
يقوم عمل الصندوق على منح القروض بالفوائد لحكومات الدول المحتاجة، فعندما تصل الحكومة إلى أزمة اقتصادية حادّة وتعلن حالة الإفلاس، مع عدم قدرتها على سدّ العجز في الموازنة اعتمادًا على الإيرادات المحلية ضمن المدى المنظور، تُقرر عدد من الحكومات اللجوء إلى الاستدانة من الصندوق الدولي كحلّ لمشكلاتها؛ وذلك على أمل أن تكون قادرة على سدّ الدَيْن خلال سنوات معدودة. ولكن ما يحصل هو أنّ الصندوق يشترط بدايةً أن تخضع الحكومات لتوصياته ووصفاته وشروطه التي يضعها فريق الخبراء عنده، وذلك كشرط من أجل استمرار منح القروض، وتسهيل سدادها من خلال إعادة الجدولة وتمديد الآجال، وهنا تبدأ سياسة الصندوق والغايات غير المعلنة بالانكشاف، حيث إن الصندوق يعتمد وصفة ثابتة موحّدة لا تتغير، يقوم بفرضها على جميع الدول، رغم ما بينها من تفاوت وتباينات شاسعة في الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وتقتصر توصيات الصندوق بشكل أساسي على فرض خطط التقشف وتخلي الدولة عن مسؤولياتها الاجتماعية بما في ذلك من رفع الدعم عن السلع الأساسية، وفرض الضرائب والرسوم، إضافة إلى خفض الإنفاق على خدمات الصحة والتعليم، والرعاية بشكل عام، بما يضمن توفير عوائد مالية سريعة يتم دفعها للصندوق ليقوم بالمقابل بمنح الحكومة قروضًا جديدة. ولا تمسّ هذه الخطط غالبًا مُخصصات الإنفاق العسكري والأمني لأنهما صماما حماية للنظام الرأسمالي يحفظانه من السقوط والتصدع والانهيار في حالة خروج الناس لإسقاطه.
وبالإضافة إلى خطط التقشف، يفرض صندوق النقد على الحكومات برامج تحت مسمى «إعادة الهيكلة» والإصلاح الاقتصادي، تفرض خصخصة مؤسسات القطاع العام، وترافقها توجيهات برفع الحواجز الجمركية والتعريفات عن السلع القادمة من الدول الكبرى المهيمنة على الصندوق، ويهدف الصندوق من ذلك إلى فتح السوق المحلية أمام الشركات المسجّلة في الدول الكبرى بحيث يتحول السوق المحلي إلى سوق مستهلك لمنتجاتها، ومُسيطر عليه من قبل هذه الشركات، وهو ما يؤدي إلى فقدان الدولة القدرة على توفير عائدات محلية تسدّ عجز الموازنات، وذلك بسبب فقدان الدولة الإيرادات العائدة من شركاتها التي تم بيعها، وبسبب تقلص القاعدة الضريبية نتيجة لتراجع الشركات المحلية أمام الأجنبية، وهكذا، وبسبب توصيات الصندوق ووصفاته تدخل الحكومات في حالة من العجز والإفلاس الدائم مع تفاقم حجم الدين الخارجي بما يحولها إلى زبون دائم للصندوق.
*انهيار اقتصادي واجتماعي:
تهدد وصفات الصندوق اقتصاد البلدان بالانهيار؛ إذ يؤدي عجز الميزانية واختلال الصادرات والواردات إلى ارتفاع مستويات التضخم وتراجع العملة المحلية، ويؤدي تخريب القطاعات المنتجة إلى ازدياد معدلات البطالة وانخفاض معدلات الأجور وتراجع حجم الناتج المحلي الإجمالي ومعدلات النمو الاقتصادي وينتهي كل ذلك إلى تدهور الأوضاع الاجتماعية، من انكماش الطبقة الوسطى مع نزول أفرادها إلى الطبقة الفقيرة، وتزداد نسب الفقر والفقر المدقع، وتصبح غالبية الناس تحت خط الفقر.
ويؤكد بروفسور الاقتصاد في جامعة كولومبيا، جوزيف ستيغليتز، أنّ وصفات الصندوق ليس هدفها مصالح البلدان المـَدينة، وإلا ما كانت وصفة الصندوق ثابتة بهذا الشكل، لا تراعي خصوصيات كل دولة على حدة، ولتنوعت الوصفات وتعددت بتنوع وتعدد أوضاع تلك البلدان.
الآثار السياسية لسياسات الصندوق.
وهكذا، فإنّ السياسات التي يفرضها الصندوق لا تأخذ بالاعتبار الجوانب الاجتماعية والأوضاع الاقتصادية قبل الانطلاق في تنفيذها، وتؤدي حالة الانهيار الاقتصادي والاجتماعي وما يرافقها من ترشيد النفقات ورفع الدعم والمعونات عن السلع الأساسية إلى إفقاد الدولة وظيفتها ومسؤوليتها الرعوية، وهو ما يحمل انعكاسات سياسية تتمثل في تراجع القاعدة الاجتماعية للدولة؛ ما يؤدي إلى ارتدادات سياسية تتمثل في تصاعد الحركات الاحتجاجية، مما يزيد من معدلات التوتر وعدم الاستقرار. هذا ولا تقتصر الآثار السياسية لسياسات الصندوق عند ذلك؛ حيث تدفع الحكومات أثمانًا سياسية عديدة، فيُطلب منها اتخاذ مواقف متفقة مع مواقف الدول الكبرى، كما في حالات التصويت على قرارات الأمم المتحدة المختلف عليها، أو إقامة قواعد عسكرية على أراضيها، أو تقديم مساعدات لوجستية أو التحكم المباشر وفرض الكوميسيون المالي، وبالتالي تصير تابعًا وحديقة خلفية للمستعمر الناهب.
هل إلى خلاص من سبيل؟
بكشف عورة النظام الرأسمالي القائم على عقيدة فصل الدين عن الحياة وإطلاق الحريات، وبيان طريقته في نشر مبدئه عبر الاستعمار الذي يمهد له بخطوات، من بينها إغراق البلاد بالديون عبر صناديقه، ثم بالإملاءات الصارمة لتنفيذ سياساته، انتهاء بفرض الهيمنة والوصاية والخضوع التام… لا يسعنا إلا أن ننعت هذا النظام بالإرهاب والإجرام، وأنه سبب شقاء البشرية وضنكها، سواء في البلدان التي تحتضنه عقيدة ونظامًا، أم في البلدان التي تعتقد عقيدة الإسلام ويطبق فيها النظام الرأسمالي بالإكراه والحديد والنار. الجميع مكتوٍ بنيران الرأسمالية وعقيدتها الديمقراطية العفنة التي ناقضت الفطرة البشرية وجعلت من الإنسان وحشًا يبحث عن المتع فقط بأي طريقة كانت طلبًا للسعادة، فلا هو سعدَ ولا أسعدَ غيره، بل كان نصيبه الضنك ثم الضنك. قال تعالى: ( أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِي فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةٗ ضَنكٗا وَنَحۡشُرُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ أَعۡمَىٰ).
كلام الله تعالى حقٌّ وصدقٌ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد؛ وكما قال تعالى: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا) وقال سبحانه: ( وَمَنۡ أَصۡدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِيلٗا) وقال سبحانه: (وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدۡقٗا وَعَدۡلٗاۚ لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ) وقد حكمَ الله سبحانه وتعالى بمعيشة الضَّنك على مَن أعرضَ عن ذِكْرِه وخالفَ أمرَه واهتدى بغير هُداه، يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: « ( فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةٗ ضَنكٗا ) أي: في الدنيا؛ فلا طمأنينة له، ولا انشراحًا لصدره؛ بل صدره ضيِّق حَرَج لضلاله، وإن تنعَّم ظاهرُه، ولَبِسَ ما شاء، وأكلَ ما شاء، وسكنَ حيث شاء؛ فإنَّ قلبه ما لم يَخْلُص إلى اليقين والهُدى فهو في قلق وحيرة وشَكّ، فلا يزال في ريبه يتردَّد، فهذا من ضَنَك المعيشة. فكان حريًّا بالناس والشعوب والأمم والمجتمعات والدول البحثُ عن مبدإٍ آخر يقوم على عقيدة عقلية صحيحة تقر ما في الإنسان من عجز واحتياج للخالق المدبر، ونظام حياة منبثق من هذه العقيدة يعالج مشاكل الإنسان من حيث هو إنسان، نظام من وحي رب العالمين لا من وضع بشر عاجزين. هذه العقيدة هي العقيدة الإسلامية بدون منازع. وهذا النظام هو نظام الإسلام الذي لا يمكن أن يطبق إلا حين تحمله دولة مبدئية هي دولة الخلافة الراشدة الثانية الآتية قريبًا بإذن الله، والتي ستقلب جميع الموازين وتؤسس لفترة مشرقة من تاريخ البشرية تعمُّها السعادة والرفاه والطمأنينة،كما عاشتها سابقًا لأكثر من 13 قرنًا كانت فيه الدولة الأولى في العالم، قال صلى الله عليه وسلم: «… ثم تكون خلافة على منهاج النبوة».
2020-04-29