محمد مهذب حفاف شاب من حزب التحرير… صورة حية من صور التضحية لأجيال اليوم
(مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ )
حجري سعيد – اليمن
قال الله تعالى في كتابه العزيز: ( أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا يَعۡلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ مِنكُمۡ وَيَعۡلَمَ ٱلصَّٰبِرِينَ ١٤٢) وقال سبحانه: ( مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ عَلَىٰ مَآ أَنتُمۡ عَلَيۡهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلۡخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِۗ) وقال جل شأنه: ( الٓمٓ ١ أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتۡرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا يُفۡتَنُونَ ٢ وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَلَيَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَٰذِبِينَ ٣). إن هذه الآيات الكريمات تحدثنا أن الله عز وجل سيمتحننا حتى يعلم من سيدخله الجنة لأنه صدق اللهَ، ومن سيحرمه من الجنة لأنه كذب اللهَ، والعياذ بالله. وإنما يكون التمحيص بالمواقف التي يقفها العبد المؤمن مع الحق وضد الباطل، وقد مدح المولى سبحانه من يقف مواقف الحق هذه فقال: ( مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلٗا ٢٣ لِّيَجۡزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّٰدِقِينَ بِصِدۡقِهِمۡ وَيُعَذِّبَ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ إِن شَآءَ أَوۡ يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٢٤ ) قال أنس بن مالك: «إن هذه الآية نزلت في عمه الذي سُمّي باسمه- وهو أنس بن النضر- فعندما لم يشهد بدرًا مع رسول الله كبر عليه ذلك، فقال إن أشهدني الله مشهدًا ليَرَيَنَّ اللهُ ما أصنع، فلما كان يوم أحد وخالف الرماةُ؛ اندفع نحو المشركين وقابلهم فاستشهد، ولم يعرف من كثرة جراحه، وإنما عرفته أخته بأصابعه».
هذا وقد ذكر لنا القرآن الكريم مواقف عظيمة وقفها المؤمنون لتكون لنا عبرة ومحل تأسي، كموقف مؤمن آل فرعون في سورة غافر التي يسميها بعض العلماء بسورة المؤمن، الذي كان قد قال لآل فرعون عندما وقفوا أمام دعوة الله على لسان رسول الله موسى عليه السلام وهمُّوا بقتله: ( أَتَقۡتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ وَقَدۡ جَآءَكُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ مِن رَّبِّكُمۡۖ وَإِن يَكُ كَٰذِبٗا فَعَلَيۡهِ كَذِبُهُۥۖ وَإِن يَكُ صَادِقٗا يُصِبۡكُم بَعۡضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي مَنۡ هُوَ مُسۡرِفٞ كَذَّابٞ ٢٨ ).
وكذلك قصَّ علينا القرآن عن مؤمن يس حبيب النجار وموقفه العظيم؛ حيث دعا قومه لاتباع المرسلين وعدم تكذيبهم، فوقف موقف الحق، وقال عنه تعالى: ( وَجَآءَ مِنۡ أَقۡصَا ٱلۡمَدِينَةِ رَجُلٞ يَسۡعَىٰ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱتَّبِعُواْ ٱلۡمُرۡسَلِينَ ٢٠ ٱتَّبِعُواْ مَن لَّا يَسَۡٔلُكُمۡ أَجۡرٗا وَهُم مُّهۡتَدُونَ ٢١ وَمَا لِيَ لَآ أَعۡبُدُ ٱلَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ ٢٢ ءَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةً إِن يُرِدۡنِ ٱلرَّحۡمَٰنُ بِضُرّٖ لَّا تُغۡنِ عَنِّي شَفَٰعَتُهُمۡ شَيۡٔٗا وَلَا يُنقِذُونِ ٢٣) فهو في هذه الآيات بيَّن لقومه أن الباطل وأعوانه لا ينفعونكم ولا ينفعوني إن أرادني الله بضر وإن شفعوا لي، ولن ينقذوني. ولكن القوم رفضوا وقاموا بقتل العبد الصالح الذي قال الله تعالى عنه: ( قِيلَ ٱدۡخُلِ ٱلۡجَنَّةَۖ قَالَ يَٰلَيۡتَ قَوۡمِي يَعۡلَمُونَ ٢٦ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلۡمُكۡرَمِينَ ٢٧). وقد كان لهذا الرجل وقفات، فقد قيل عن طريقة قتله أنه قتل رجمًا، وقيل إنهم وثبوا عليه وثبة رجل واحد فقتلوه. وحكى ابن إسحاق عن بعض أصحابه، عن ابن مسعود قال: وطئوه بأرجلهم حتى أخرجوا قصبته من دبره؛ وهذا إن كان يشير فإنما يشير إلى أن حامل الدعوة الحق قد يكون في قتله أذًى كبيرًا له؛ ولكن فيه إكرام له كبير من الله؛ حيث ذكر الله تعالى قوله بعد مماته: ( قَالَ يَٰلَيۡتَ قَوۡمِي يَعۡلَمُونَ ٢٦ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلۡمُكۡرَمِينَ ٢٧) فقد تمنى أن يعلم قومه بما عاين من كرامة الله له، وما هو عليه. أما قومه فقد كانت عاقبة أمرهم خسرًا، قال تعالى: (وَمَآ أَنزَلۡنَا عَلَىٰ قَوۡمِهِۦ مِنۢ بَعۡدِهِۦ مِن جُندٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ ٢٨ إِن كَانَتۡ إِلَّا صَيۡحَةٗ وَٰحِدَةٗ فَإِذَا هُمۡ خَٰمِدُونَ ٢٩ ).
هذه الصور من الابتلاء الذي يصيب حملة الدعوة، تتكرر في كل زمان ومكان طالما أن هناك دعوة حقة ولها أهلها الذين لا تطيب نفوسهم إلا أن يقفوا الموقف الذي يشعرهم برضى الله عليهم، هي كانت قبل الرسول صلى الله عليه وسلم ممن ذكرهم القرآن في الأقوام السابقة، وكانت في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم مع صحابته الكرام، وهي تتجدد بعده في صور لا تقل روعة ولا صدقًا عن سابقاتها، ونحن هنا لنا، في صورة التضحية والشهادة التي جسدها الشهيد محمد مهذب حفاف في عصرنا الحاضر، وهو أحد شباب حزب التحرير في ليبيا مع طاغية تلك البلاد وفرعونها القذافي، أروع صورة.
ولد الشهيد في قرية القواسم بغريان عام1947م، والتحق بكلية الهندسة، قسم الهندسة الميكانيكية، بالجامعة الليبية بطرابلس. وهناك، وبعد أن تعرف على أغلب أطياف التيار الإسلامي انضم إلى حزب التحرير. وكان على علاقة طيبة مع جميع التيارات الفكرية والسياسية، كما كان على علاقة طيبة مع جميع القيادات الإسلامية داخل وخارج السجن.
وفي خضم الصراع الفكري وتزاحم الساحات بمختلف الأفكار، اصطدم الشهيد مع الرائد «بشير هوادي» والرائد «عمر المحيشي» عضوي مجلس قيادة الثورة، في الندوة التي عُرفت بـ «ندوة الفكر الثوري» التي عُقدت في مايو 1970م، كما اصطدم أيضًا بمعمر القذافي. وكانت وجهة نظره في تلك الحوارات أكثر عمقًا وموضوعية مما طرحه معمر القذافي ومما طرحه عضوي مجلس قيادة الثورة، بل كانت وجهة نظره تنمُّ على ذكاء وبعد نظر وفهم دقيق للساحة السياسية في ليبيا والعالم الإسلامي؛ ليبدأ الحقد والحسد يدبَّان إلى النفوس ضد الشهيد منذ تلك اللحظات.
وجراء نشاطه الدائب الذي لا يهدأ، وأسلوبه الطيب المؤثر، وخوفًا من انتشار ذكره وفكره، اعتقل الشهيد في إبريل/نيسان 1973م، وهو في السنة النهائية (أي السنة الخامسة)، عقب الهذرمة التي عُرفت بـ «خطاب زوارة» والذي تمخض عنها موجة الاعتقالات التي طالت المثقفين والسياسيين والمتعلمين بصفة عامة، وتمخَّض عنها أيضًا الإنجاز الثقافي النادر الذي سُمي بـ «الثورة الثقافية» والتي تجسَّدت في منع ومصادرة الكتب والمكتبات وإحراقها، ومنع الفكر والتفكير والإبداع، بالإضافة إلى إعلان الأحكام العرفية ونشر حالة من الفوضوية التي باتت تعيشها ليبيا آنذاك.
اعتقل، واعتقل معه أخواه «أحمد» و«فرج» أيضًا. فسجن «فرج» لمدة خمس سنوات ثم توفي (رحمه الله) إثر مرض ألمَّ به، بينما أطلق سراح «أحمد» بعد أن سجن لمدة عامين ونصف تقريبًا. وتوفيت السيدة الوالدة (رحمها الله) بعد يوم واحد من إعدام ابنها «محمد»، كما توفي رب الأسرة (رحمه الله) في أواخر التسعينات، ولم يتزوج الشهيد، ولم تسلم جثته إلى أهله، ولم يعرف مكان دفنه حتى الآن، بل أنكر النظام في البداية وجود سجين بهذا الاسم أصلًا؛ حيث خاطب أهل الشهيد بقولته المعتادة: «ليس لديكم ولد في السجن»، ثم عاد النظام بعد ذلك فاعترف بجريمته ولكن دون أن يسلم الجثة إلى أهلها.
اعتقل الشهيد، كما ذكرنا، عقب ذلك الخطاب، وأودع السجن، وعُذِّب هو وزملاؤه الذين اعتقلوا معه، عذابًا شديدًا، ثم حُوِّلوا إلى غرفة الاتهام التي أطلقت سراحهم لعدم وجود تهمة أصلًا؛ لكن هذا الحكم لم يرُق لمعمر القذافي الهالك الذي شتم القضاء قائلًا: «لابد ان تُرجعوهم»، فأُعيدوا إلى السجن في نفس اليوم الذي أطلق فيه سراحهم، وحُوِّلوا إلى «محكمة الشعب» التي نظرت في القضية بعد عشرة أشهر، وحكمت على الشهيد بالسجن لمدة خمسة عشر عامًا؛ ولكن هذا الحكم لم يرضِ أيضًا غرور «السيد» الذي قال ما معناه: إن من يُدان لابد أن يقضي حياته في السجن إلى أن يموت، فتغير الحكم السابق من (15عامًا) إلى السجن المؤبَّد. ثم ولحكمة «لا يعلمها إلا الثوريون» تغير الحكم من «المؤبَّد» إلى «الإعدام». وسرُّ هذا التحول في الحكم تذكره مجلة «العودة» التي كانت تصدرها وحدة «الشهيد» التابعة لفرع الاتحاد العام لطلبة ليبيا، فتقول:
(… والشهيد محمد حفاف كان في إمكانه الخروج من السجن عندما عُرض عليه بيع كرامته؛ ولكنه اختار طريق الشهداء والصالحين. ولعل بعضكم يذكر ذلك الموقف الذي يسجله التاريخ للشهيد حفاف يوم أن وقف ناصبًا عوده الرقيق، في عزة وكبرياء وشموخ، عندما هدده الطاغية معمر بأنه سيبقيه في السجن مدى الحياة، فما كان من الشهيد إلا أن ردد قائلًا بقوة وصدق وإيمان: «إن ذلك في حد ذاته هو فخر وشرف لي»). وربما كان هذا الموقف الذي تحدثت عنه المجلة في الفقرة السابقة، هو السبب الذي تغيرت الأحكام بعده إلى الإعدام. وقد كرم الاتحاد العام لطلبة ليبيا الشهيد، فنظم مؤتمره الطلابي الثالث الذي انعقد في ذي القعدة 1403هـ (أغسطس 1983م)، تحت اسم «مؤتمر الشهيد محمد مهذب حفاف… من أجل غد أفضل».
أما طريقة إعدامه فكانت عبارة عن مشهد دموي يعكس ما كان يكنُّه ذاك النظام السادي من كره للشعب والبلاد ورسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. ففي يوم إعدامه جاؤوا به لمقابلة القذافي قبل السابعة صباحًا في مكان معروف في مكتب الطاغية، والتقى به وجهًا لوجه، فقال له الطاغية: ألم تتُبْ بعد؟ فرد عليه: من منا يخالف كتاب الله كي يتوب؟ فقال لهم: خذوه.
فقد أرغم النظام الليبي طلبة وأساتذة وعمال الجامعة الليبية وطلبة المدارس الثانوية والإعدادية على التجمع في ساحة كلية الهندسة بطرابلس، دون الإعلان عن المناسبة. وهناك انطلق خيال الطلبة في محاولة للتنبؤ بما ينتظرهم من مفاجآت، وأخذوا يتساءلون فيما بينهم: لماذا يا ترى هذا التجمع؟ أمن أجل تكريم أساتذة الجامعة وطلبتها؟! أم من أجل تدشين كليات ومعامل ومكتبات جديدة؟! أم لتكريم زائر من الأوساط الثقافية العالمية؟، أم تراه احتفالًا بفوز فطحل من فطاحل «الثورة» بجائزة علمية ما؟! أو ربما لمجرد المنِّ على هذا الجمع الكريم بخطاب يلقيه الأخ «القائد»، يتحدث فيه عن الإنجازات العلمية الضخمة التي حققها نظامنا الجماهيري البديع؟!… في خضم هذه التوقعات البريئة التي لم يستوعب أصحابها مكنونات أصحاب هذه الدعوة إلى التجمع، نُصبت مشنقة وسط الساحة، وتوقفت سيارة قريبًا من ساحة كلية الهندسة، أُنزل منها أحد الشباب وهو محاط بشلة من الكلاب المكلوبة، كانت تمارس عليه ما تيسر من ركل ونباح وصفع، فتراجعت، أمام هذه المفاجأة التربوية، جميع التنبؤات، وذُهل الجميع، إلا الكلاب المكلوبة، التي كانت تجر الضحية إلى المشنقة، بمتعة وحماس وإخلاص لسيدها الهالك الذي أذن الله بقتله شرَّ قِتلة. ثم قامت نفس الشلة، بشنق الشاب «محمد مهذب حفاف» أمام ذلك الحشد العلمي العظيم. ليس ذلك فحسب، بل أخذ أحد فقهاء الثورة الثقافية الخضراء، يتأرجح بجثة الضحية وهو يصيح قائلًا: «هذا عميل. هذا عميل”.
وفي نفس اليوم 7 أبريل/نيسان 1983م، تم شنق أربعة مدرسين من أرض فلسطين المباركة، وهم (نمر خالد خميس، وناصر محمد سريس، وعلي أحمد عوض الله، وبديع حسن بدر) في ساحات المدارس التي كانوا يدرسون بها في مدينة أجدابيا، وعلى مرأى من تلاميذ هؤلاء المدرسين.
لقد كان الشهيد، وبشهادة الجميع، رجلًا صالحًا، طيب المعشر، دمث الأخلاق، ملتزمًا بكتاب الله وسنة نبينا الكريم، وملتزمًا بقيم الإسلام فكرًا وعقيدة وأخلاقًا، وكان كريمًا عفيفًا نشيطًا، وكان يلقي المحاضرات وينظم الحلقات والندوات، ويساهم في جوانب ثقافية واجتماعية وفكرية عديدة. وكان بجانب كل هذه الصفات الحميدة، متفوقًا في دراسته. لقد كان الشاب «محمد مهذب حفاف»، وبكل اختصار أمة في حد ذاته.
أعدم شهيدنا بعد عشر سنوات من الترهيب والاعتقال والترغيب، من أجل أن يتخلى عن مبادئه، لكن إيمان وعزم وإرادة الشهيد فاقت توقعات الطغاة وتصوراتهم، فلم يثنِ العذاب، ولم تثنِ الإغراءات والتهديدات من عزم «محمد»، ولم تحيِّدْه عن مبدئه قيد أنملة، فضرب بذلك مثلًا رائعًا في الثبات على القيم والمبادئ التي آمن بها وعاش من أجلها، ودفع حياته ثمنًا لها.
نعم، إن الامتحان قائم، وقد شرطه الله تعالى لدخول الجنة حتى يميز الخبيث من الطيب: من الذي يكون مع الحق، ومن هم أهل الحق، ومن الذي يجاهد في سبيل الله ويصبر على الحق، ومن الذي يكون من أهل الباطل ويقف معهم، ومن لا يجاهد في سبيل الله، ولا يسعى لإرضاء الله.
ونحن نجد اليوم أن الناس أصناف، صنف يبحث عن الحق ليكون من أهله ويقف معهم وفي صفهم، والشهيد محمد مهذب حفاف من هؤلاء، وصنف يقف مع كل ناعق ولو كان باطلًا يناصب الحق العداء، وصنف غريب وهم الكثرة، لا تهتم بالحق ولا بالباطل، بل تريد أن تعيش بأي كيفية حتى لو كان الله عز وجل لا يرضى عنها، بل ويأمر بإزالتها وإقامة الحق مكانها، وصنف آخر يعرف الحق ويعرف الباطل ولا يخالط الباطل ولا يقف معه؛ ولكنه لا يقف موقفًا يرضي الله سبحانه وتعالى…
انتقل محمد مهذب حفاف للقاء ربه وقد واجه الظلمة وقال الحق ومات في سبيل الله، وبعد حوالى 28 سنة هلك القاتل المجرم معمر القذافي وقُتل بذلة جعلت من مصيره عبرة للحكام الطغاة، قُتل بعدما حكم بالكفر البواح، وبلغ غيُّه واستهتاره بأحكام الإسلام الآفاق؛ ليلقى الله بسوء أعماله، فشتان ما بين الشخصين… إن في ذلك لعبرة لأولي النُهى.
إننا نجد أن الصنف الأول من هذه الأصناف هم الناجون وهم الفائزون في هذا الابتلاء والتمحيص، وهم الذين يبحثون عن الحق ابتداءً فيعرفونه، ثم يلتزمون به ويقفون معه ويدعون إليه ويعملون مع العاملين له، ولا يتبعون أهواءهم بل يلتزمون كل ما يرضي الله سبحانه في ذلك… أما الصنف الآخر الهالك الخاسر الذين وقفوا موقف المحايد، فهؤلاء قد جهلوا طبيعة الصراع، وجهلوا سبب وجودهم في الحياة، فهؤلاء سترفع صحفهم السوداء إلى ربهم وسيسأل الواحد منهم: «مَا مَنَعَكَ أَنْ تَقُولَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا الحق، فيقولَ: يَا رَبِّ إِنِّي خَشِيتُ النَّاسَ. قَالَ: إِيَّايَ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَى» هؤلاء بيَّن لهم الرسول صلى الله عليه وسلم الموقف الذي يجب أن يقفوه بقوله: «أَلاَ وَإِنَّ رَحَا الإِيمَانِ دَائِرَةٌ، فَدُورُوا مَعَ الْكِتَابِ حَيْثُ يَدُورُ، أَلاَ وَإِنَّ السُّلْطَانَ وَالْكِتَابَ سَيَفْتَرِقَانِ، أَلاَ فَلاَ تُفَارِقُوا الْكِتَابَ، أَلاَ إِنَّهُ سَيَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ، إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ أَضَلُّوكُمْ، وَإِنْ عَصَيْتُمُوهُمْ قَتَلُوكُمْ قَالُوا: كَيْفَ نَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: كَمَا صَنَعَ أَصْحَابُ عيسى بن مريم، حُمِلُوا عَلَى الْخَشَبِ، وَنُشِرُوا بِالْمَنَاشِيرِ، مَوْتٌ فِي طَاعَةِ اللهِ خَيرٌ مِنْ حَيَاةٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ». فهذا الحديث يلزم الأمة الوقوف مع الحق واجتناب الباطل ولو بذلت فيه الأرواح ثباتًا على الحق. أما الصنف الأخير، الذين يقفون مع الحاكم الفاجر الظالم الفاسق… ويفتي له ويصدقه ويعذره وينصره على حملة الدعوة فأولئك شركاء هذا الحاكم في كل لون من ألوان العذاب يوم القيامة، وهؤلاء باعوا دينهم بدنيا الحكام… فبئس البيع، وبئس المصير.
مثل هذه المواقف التي وقفها محمد مهذب حفَّاف هي التي ترضي الله سبحانه… نسأل الله تعالى أن نكون على دربهم، ونسأله سبحانه أن يهدينا لأرشد أمرنا، وأن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.