إقامة أحزاب سياسية مبدؤها الإسلام فرض من الله تعالى على المسلمين (2)
سليمان المهاجري – اليمن
في العدد السابق، تم تناول موضوع فرضية «إقامة أحزاب سياسية مبدؤها الإسلام»من كتاب الله، وسنكمل بالتعرف على المعنى نفسه من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف طبق هذه الآية مع تكتل الصحابة الكرام، ومن ثم سنُعرّض لتأسي حزب التحرير بطريقة الرسول صلى الله عليه وسلم في عمله لإقامة الدولة الإسلامية.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم منذ بدء نبوته وتكليفه جاءه الأمر بإنذار الناس، قال تعالى: (قُمۡ فَأَنذِرۡ) وبما أن الإنذار سيواجه بالصد والرد والرفض والاستكبار… قال بعدها سبحانه:
(وَلِرَبِّكَ فَٱصۡبِرۡ) أي: اجعل صبرك على أذاهم لوجه ربك عزَّ وجلَّ، وهذا ما جرى فعلًا، فقد دعا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربه وأنذر، وحدث تفاعل مع إنذاره، صدًا وردًا ورفضًا واستكبارًا، تطلَّب معه الصبر. ثم ذكر القرآن الكريم ما حدث من صدِّ الوليد بن المغيرة المخزومي أحد رؤساء قريش لعنه الله، وموقفه من دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد ذكرت الآيات: (ذَرۡنِي وَمَنۡ خَلَقۡتُ وَحِيدٗا ١١ وَجَعَلۡتُ لَهُۥ مَالٗا مَّمۡدُودٗا ١٢ وَبَنِينَ شُهُودٗا ١٣ وَمَهَّدتُّ لَهُۥ تَمۡهِيدٗا ١٤ ثُمَّ يَطۡمَعُ أَنۡ أَزِيدَ ١٥ كَلَّآۖ إِنَّهُۥ كَانَ لِأٓيَٰتِنَا عَنِيدٗا ١٦ سَأُرۡهِقُهُۥ صَعُودًا ١٧ إِنَّهُۥ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ١٨ فَقُتِلَ كَيۡفَ قَدَّرَ ١٩ ثُمَّ قُتِلَ كَيۡفَ قَدَّرَ ٢٠ ثُمَّ نَظَرَ ٢١ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ٢٢ ثُمَّ أَدۡبَرَ وَٱسۡتَكۡبَرَ ٢٣ فَقَالَ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا سِحۡرٞ يُؤۡثَرُ ٢٤ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا قَوۡلُ ٱلۡبَشَرِ ٢٥ سَأُصۡلِيهِ سَقَرَ ٢٦ وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا سَقَرُ ٢٧ لَا تُبۡقِي وَلَا تَذَرُ٢٨ )هذه الآيات التي تعتبر من أول ما نزل من القرآن تسجل صورة من أولى صور مواجهة الكفار لهذه الدعوة؛ حيث إنها شغلت وجهاء قريش على أعلى مستواهم (أبي جهل والوليد بن المغيرة) ومن ثَم راحت الأحداث تتتالى وآيات الله تتلى موجهة الرسول صلى الله عليه وسلم، فسار في سبيل الله على بصيرة من الله هو ومن اتبعه من المؤمنين، وهذا ما أكده الله تعالى من أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان سيره في مكة على بصيرة الوحي، أي هو بالنسبة لنا قائم على الالتزام بالأحكام الشرعية، وليس من عنده، أي ليس أسلوبًا، وهي تشير إلى أن الدعوة كانت تضم إلى جانب الرسول صلى الله عليه وسلم من اتبعه من المؤمنين الذين تكتلوا معه صلى الله عليه وسلم في سبيل الدعوة إلى الله؛ وهذا واضح في قوله تعالى: (قُلۡ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيٓ أَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِيۖ وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ١٠٨)هذا وقد حدثتنا السيرة النبوية عن أول من آمن به صلى الله عليه وسلم(خديجة بنت خويلد، أبو بكر، وعثمان، وعلي، وزيد بن حارثة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان). وحدثتنا السيرة كذلك أن من يؤمن به كان يعيش أجواء الدعوة الحارة ذاتها التي كان يعيشها الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانوا يشكلون معه حالة واحدة، واختلفت هذه الحالة بين مرحلة الدعوة الأولى وهي مرحلة التثقيف حيث كان الرسول يشكِّل تكتلًا يتميز أفراده المؤمنون به بعمق واستنارة الإيمان، وتزكية النفوس، وتوطيد النفس على العيش بطاعة الله، والتطلع إلى نشر هذا الخير الذي هم فيه إلى الناس، والصبر على أذاهم مما قد يواجههم إذا أعلنوا به… ومرحلة الدعوة الثانية التي كان فيها الإعلان والمواجهة والصبر على الإيذاء والتكذيب والتعذيب والإشاعة… فكان هؤلاء الصحابة يشكلون تكتل الرسول صلى الله عليه وسلم وحزبه، فهم معه على هم واحد، وحزبهم أمر واحد، وواجههم الكفار مواجهة الرجل الواحد، وكان الكفار ينظرون إليهم نظرة واحدة: محمد والمؤمنون معه... وقد نقلت لنا السيرة في ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم واجه ضغوطًا هائلة لجعله يميل عن دعوته ويتخلى عنها؛ ولكنه أصرَّ على عدم الحيد عما يأمره الله تعالى به قيد شعرة، فبادأ الكفار بما هم عليه من عقائد مختلفة وأفكار باطلة ومفاهيم خاطئة وعادات موروثة… فكشف زيفها وصرعها، وواجه الملأ الذين كانوا يتحكمون بالناس ويفرضون عليهم الالتزام بها؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم يطوف على النّاس في أول أمره في منازلهم، جهرًا امتثالًا لأمر الله تعالى:
(قُمۡ فَأَنذِرۡ) وكان يعرض عليهم دينه ويكتل حوله من يؤمن معه على أساس هذا الدين سرًا (في الشعاب، وفي بيوت بعضهم بعضًا وفي دار الأرقم بن أبي الأرقم)… ومكث على ذلك ثلاث سنين وهو يثقف هؤلاء المسلمين، ويبعث فيهم الروحانية بالصلاة والتلاوة، ويثير فيهم الفكر بالتأمل في آيات الله والتدبر في مخلوقاته، ويثقف عقولهم بمعاني القرآن وألفاظه، ومفاهيم الإسلام وأفكاره، ويأخذهم بالصبر على الأذى، ويروِّضهم على الطاعة والانقياد، حتى خلصوا لله العلي القدير.
وظل النبي صلى الله عليه وسلم مستخفيًا هو ومن آمن معه في دار الأرقم بن أبي الأرقم حتى نزل قوله تعالى:(فَٱصۡدَعۡ بِمَا تُؤۡمَرُ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ٩٤) وقد بلغ عددهم منذ بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى أمر بـإظهار أمره نيفًا وأربعين شخصًا، وقد آمنوا به صلى الله عليه وسلم ولازموه ودأبوا على الدعوة معه. وقد نزلت آية الصدع هذه بعد أن نضج هؤلاء الصحابة في ثقافتهم، وتكونت عقليتهم عقليةً إسلامية، وأصبحت نفسيتهم نفسية إسلامية في مدّة ثلاث سـنوات، وأصبح إدراكهم لصلتهم بالله بارزة آثاره في أعمالهم، فارتاحت نفس الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك كثيرًا، إذ صارت كتلة المسلمين قوية قادرة على مجابهة المجتمع كله فأظهرها حين أمره الله.
وكذلك نزلت هذه الآية بعد أن أصبح النّاس في مكة يحسون بالدعوة الجديدة، ويحسون بوجود مؤمنين بها، وإن كانوا لا يعرفون أين يجتمعون، ومن هم هؤلاء الذين يجتمعون من المؤمنين… ولكن بعد ما أسلم حمزة بن عبد المطلب ثمّ أسلم عمر بن الخطاب بعد إسلام حمزة بثلاثة أيام فاشتد ساعد المسلمين ونزل على الرسول صلى الله عليه وسلم آية الصدع؛ فصدع صلى الله عليه وسلم بأمر الله، وأظهر أمر التكتل علنًا للناس جميعًا، وانتقل الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك في أصحابه من دوْر الاستخفاء إلى دوْر الإعلان، ومن دور الاتصال بمن يأنس فيهم الاستعداد لقبول الدعوة إلى دور مخاطبة النّاس جميعًا؛ فبدأ الاصطدام بين الإيمان والكفر في المجتمع، وبدأ الاحتكاك بين الأفكار الصحيحة والأفكار الفاسدة، وبدأت المرحلة الثانية وهي مرحلة التفاعل والكفاح، وبدأ الكفّار يقاومون الدعوة ويؤذون الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بجميع أنواع الأذى؛ فقد كان المسلمون يهدَّدون ويؤذَوْن، فقد وثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم، فكانوا يصبرون على كل ذلك ابتغاء رضوان الله تعالى. فقد أحسَّ الكفار بخطورة هذه الدعوة فأجمعوا على خلافه صلى الله عليه وسلم، وعلى عداوته ومحاربته، وقد رأَوا باديَ الرأي أن يحاربوه بالحط من شأنه وبتكذيبه فيما يزعم من نبوته، وصاروا يهاجمونه ودعوته بأسلوب تهكمي لاذع، وطال بهم اللجاج، ولكن ذلك لم يثنِه صلى الله عليه وسلم عن دعوته، بل استمر يدعو النّاس إلى دين الله، ويذكر الأصنام ويعيبها ويطعن فيها، ويسفِّه عقول عبدتها وحلوم مقدسيها، فعظم الأمر عليهم فاسـتعملوا جميع الوسـائل لإرجـاعه عن دعوته فلم يفلحوا، وكان من أهم الوسائل التي اتخذوها لمقاومة هذه الدعوة وسائل ثلاث: التعذيب، والدعاوة الداخلية والخارجية، والمقاطعة والتجويع في الشعب. غير أنه ظل يهاجمهم، واستمر على كفاح الآراء الخاطئة، وهدم العقائد الفاسدة، وظل يجاهد في سبيل نشر الدعوة. وكان يدعو للإسلام بكل صراحة، ولا يلين، ولا يداهن، رغم ما لاقاه من قريش من صنوف الأذى… وكان أعزل لا معين له ولا نصير، ولا عدة معه ولا سلاح، فقد كان سافرًا متحديًا، يدعو لدين الله بقوة وإيمان لا يتطرق إليه أي ضعف عن احتمال تكاليف الدعوة، والقيام بالأعباء الجسام من أجلها؛ فكان لذلك كله الأثر في التغلب على الصعوبات التي كانت تضعها قريش في وجهه واسـتطاع الرسـول صلى الله عليه وسلم أن يصـل إلى النّاس ويبلغهم، فاقبلوا على دين الله، وأخذ نور الإسلام يزداد كل يوم انتشارًا بين العرب.
بعد أن انتشرت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة، زادت قريش من أذى أصحابه، وأخذت تزيد في إيذائه، حتى ضاق بهم ذرعًا. فخرج إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصرة والمنعة ويرجو إسلامهم، لكنهم ردوه بشرِّ جواب… واشتد الكرب عليه فرفع رأسه إلى السماء يشكو إلى الله في أشد حالة من الألم، وأعظم حال من الثقة بالله وطلب رضاه، وأخذ يدعو بهذا الدعاء «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على النّاس. يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنـزل بي غضبك، أو يحلّ علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلاّ بك». ثمّ عاد إلى مكة في حماية المطعم بن عدي، وعرفت قريش ماذا حصل لمحمد صلى الله عليه وسلم في الطائف، فازدادت أذًى له وأخذت تمنع النّاس من الاستماع إليه، فلم يصرفه ذلك عن الدعوة لدين الله، وجعل يعرض نفسه في المواسم على قبائل العرب يدعوهم إلى الإسلام، ويخبرهم أنه نبي مرسل، ويسألهم أن يصدقوه. وهكذا أعرضت مكة عن الإسلام، وأعرض أهل الطائف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وردت القبائل دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأعرضت القبائل التي تجيء حاجّة إلى مكة لما رأت ما صار إليه محمد صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه من عزلة، وما أحاطته قريش من عداوة، تجعل كل نصير له عدوًا لها وعونًا عليها… وظهر المجتمع المكي في صلابة الكفر والعناد، مما يجعل الأمل ضعيفًا فيه. ومن كل ذلك يتبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم سار في مكة في دورين متتاليين:
–دور التعليم والتثقيف والإعداد الفكري والروحي، وهو دور فهم الأفكار وتجسيدها في أشخاص وتكتلهم حولها، دور التكتل السري في الدعوة.
–ودور نشر الدعوة والكفاح، وهو دور نقل هذه الأفكار إلى قوة دافعة في المجتمع تدفعه لأنّ يطبقها في معترك الحياة.
وقد نجح الرسول صلى الله عليه وسلم في كلا الدورين، فقد أصبحت معه كتلة مؤمنة صابرة ناضجة يستطيع بها مواجهة ما ستلاقيه من صد ورد وتكذيب وتعذيب وتشريد… ثم لما انتقل إلى الدور الثاني بالصدع بأمر الله استطاع الرسول الكريم أن يصمد بهذه الكتلة أمام كل هذا الذي واجهه حتى أصبحت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم هي الموضوع الأول في مكة وخارجها. ونجاحه هذا دفع زعماء قريش لأن يشددوا أكثر وأكثر حتى يخنقوا هذه الدعوة تمامًا. ولما وجد الرسول صلى الله عليه وسلم من قريش ذلك، وأيس من زعمائها وليس من ناسها، طلب النصرة من خارجها بغية الوصول بها إلى الغاية التي كانت الدعوة في مكة من أجل تحقيقها وهي إقامة دولة إسلامية، وخاصة بعد أن أمن نجاح دعوته بإيجاد الثلة المؤمنة معه، وبعد أن أثرت دعوته في مكة وخارجها، وأصبح المانع لها هم الزعماء وما يمتلكون من قوة وقدرة على المنع.
وهكذا وجدنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قام بأعمال مقصودة يطلب بها نصرة الدعوة وإقامة الدولة، وكانت نهايتها نصرة زعماء يثرب (أسعد بن زرارة، وأسيد بن حضير، وسعد بن معاذ، وسعد بن عبادة) وكان من نتيجة هذه النصرة أن أصبح فيها رأي عام على الإسلام لإيمان الناس بما آمن به زعماؤهم، وأصبحت القوة المادية الغالبة هي بيد هؤلاء المؤمنين؛ فتحقق له في المدينة ما لم يتحقق له في مكة، ولا في غيرها، وأقيمت الدولة على هذه الأمور التي حققها الرسول صلى الله عليه وسلم مجتمعة، وكان هو قائدها ورئيسها، وتغير وجه الدعوة بعدها، وكذلك كان لهذه النصرة فيما بعد أثرها في توطيد أركان الدولة وحمايتها من أعدائها من اليهود والمنافقين والمشركين؛ والجدير ذكره مما يتعلق بموضوعنا أن نصرة أهل المدينة تمت عن طريق أحد كبار الصحابة ممن هو من كتلة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو مصعب بن عمير صلى الله عليه وسلم، وكذلك نرى سعد بن معاذ بعدما انضم لكتلة الرسول صلى الله عليه وسلم كان له دوره الأكبر في إقامة الدولة بإعطائه النصرة للرسول صلى الله عليه وسلم لإقامة الدولة الإسلامية، وكذلك كان له دوره في حمايتها فيما بعد، وفي نشرر الدعوة بالجهاد مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت مواقفه لها عند ربه إكرام كبير، ويكفيه فخرًا ما قاله الرسول في حقه يوم موته استشهادًا: «اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ»، ولا ننسى موقف الصحابي أسعد بن زرارة وأسيد بن حضير وغيرهم الكثير من الصحابة الذين شكلوا كتلة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانوا معه على أمر جامع.
هكذا كانت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، قام خلالها بأعمال مقصودة، وأنشأ معه كتلة الصحابة، رضوان الله عليهم أجمعين، وراح يشق معها طريق الدعوة حتى أقام دولة الإسلام، لتستمر الدعوة بعدها من خلالها بقيادة الراشدين فيها.
هذا ما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم من إقامة تكتل الصحابة ليقوم معه بهذا العمل العظيم، وكان فيه متقيدًا بأمر ربه، وأوامر الله هي التي كانت توجهه، وما كان يسير خطوة من عنده. وهنا يبرز أهمية وجود تكتل شبيه بالتكتل الذي أنشأه الرسول في مكة ليأخذ الدور نفسه الذي أخذه التكتل الأول؛ وليحقق الذي حققه: دولة الخلافة الراشدة الثانية لتكون على غرار دولة الخلافة الراشدة الأولى التي تركها لنا الرسول صلى الله عليه وسلم، والتي أوصانا بالسمع والطاعة لخلفائها، عَنْ أَبِي نَجِيحٍ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: «وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم مَوْعِظَةً وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأَوْصِنَا، قَالَ: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ. «رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَاَلتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
على هذا الأساس من التقيد المنضبط بالشرع والتأسي بطريقة الرسول صلى الله عليه وسلم في عملية التغيير قام تكتل «حزب التحرير» وفي واقع يشبه واقع مكة من ناحية عدم وجود دولة للمسلمين، ليعمل على إقامتها على الطريقة نفسها التي أقامها بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وقسم عمله إلى دورين، أو سار في مرحلتين تمامًا كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم:
– مرحلة التثقيف والتأسيس: تبنى فيها كل ما يلزمه من أفكار وأحكام وطريقة عمل، وجعلها عماد ثقافته، وعمل على تكوين الشخصية الإسلامية في شبابه؛ وذلك ببناء عقلياتهم ونفسياتهم بناء يجعلهم يفكرون على نفس طريقة التفكير التي كان عليها الصحابة، والتي يجب أن يكون عليها المسلمون في كل زمان ومكان، وأشرب نفوسهم بحب الالتزام بأمر الله والعمل على إرضائه والموت في سبيله، وتبنى نظام الحلقات الدراسية التي يتم فيها تزويد الشباب بثقافته التي تبناها بشكل مركز وإنضاجهم عليها، ودعا فيها من كان يأنس منه الاستعداد لحمل الدعوة بغض النظر عن سنه ومكانته ومركزه وأصله وعِرقه، وكتلهم سرًا… ثم لما رأى الحزب أن شبابه قد نضجوا في ثقافتهم، وتكونت عقلياتهم ونفسياتهم على طريقة الإسلام في التفكير وفي إشباع الميول، وأصبح لديهم الاستعداد لمواجهة الواقع ومجابهته… وكذلك لما رأى أن المجتمع قد أحس بوجود هذا الفكر وبوجود من يحمله انتقل الحزب إلى المرحلة الثانية، نعم، لما وجدت هذه الأمور الثلاثة سار الحزب بهذا التكتل نحو إعلان الدعوة. وبهذا يظهر لنا دقة التأسي بطريقة الرسول، ووجوب وجود التكتل وضرورته في عملية التغيير.
– مرحلة التفاعل والجهر بالدعوة، وذلك كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي تقوم على التصدي للأفكار والمفاهيم والأنظمة السائدة والمفروضة والغريبة عن أفكار ومفاهيم وأنظمة الحياة الإسلامية، وهو قام وما زال يدعو، ويكشف ويفضح بكل صراحة وجرأة وقوة، وبدون أي حساب لأي اعتبار، إلا لسيادة المبدأ الإسلامي. وقد تناول كل ذلك من زاوية علاقة الحاكم بالمحكوم ووجوب خضوع الجميع، حاكمًا ومحكومًا، لأمر الله. وقد واجهه الحكام لأنه يكشف طغيانهم ويفضح عمالاتهم للغرب، وعملوا على الحيلولة بينه وبين الناس. ومع ذلك استمر في دعوته رغم كل المحاربة، واستطاع بفضل الله وحده أن يجعل فكرة الخلاقة تطبق الآفاق، وتجعل الغرب يعيش في هاجس الخوف والقلق من عودة فكرة الخلافة إلى مسرح الحياة. فالحزب كتبنٍّ للثقافة الإسلامية اللازمة لعمله وتحقيق غايته، وكبناءٍ لشبابه وإعدادٍ لقياداتٍ منهم، وكإيجاد رأي عام منبثق عن الوعي العام على دولة الخلافة… استطاع أن يحقق فيها نصيبًا وافرًا مطمئنًا للنجاح، ولا شك أنه سيكون مضاعفًا أضعافًا كثيرة في حال قيام دولة الخلافة، جعله الله قريبًا. وهذا النجاح يلمسه الغرب ويخاف منه كثيرًا ويعمل بإصرار على منعه، ولكن الله غالب على أمره. ولم يعد الآن يحتاج سوى إلى أن يستجيب أهل النصرة لهذه الدعوة، فيسقطون دولة من الدول العميلة القائمة بأمر الغرب، ويسلمون الحكم فيها للحزب ليقيم فيها الحكم بما أنزل الله عن طريق إقامة دولة الخلافة، لتسقط بعدها سائر أنظمة الحكم العميلة للغرب الواحدة تلو الأخرى. وهنا تظهر أهمية وجود تكتلات أو أحزاب للعمل لإقامة دولة الخلافة الإسلامية.
وبعد كل هذا العرض يتبين، شرعًا وواقعًا، أن وجود دولة إسلامية في حياة المسلمين فرض، ولا يمكن أن يطبق الإسلام كمبدأ وعقيدة إلا من خلالها. وأنه في حال عدم وجودها يجب شرعًا على المسلمين العمل على إيجادها، ويكون الجميع آثمين ولا يسقط الإثم إلا عمن يتلبس بالعمل لإقامتها، ويبقى الإثم عليهم حتى تقوم هذه الدولة. ويتبين أنه لا يمكن إيجاد دولة إسلامية من غير تكتل، وأن الواجب على هذا التكتل أن يسير بحسب طريقة العمل الشرعية التي سار عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الواجب على هذا التكتل أن يهيئ رجال دعوة ورجال دولة يكونون أهلًا للحكم بما أنزل الله، وهذا الإعداد لا يمكن أن يتحقق إلا عبر ما يواجهه أفراد هذا التكتل فيخرج من صلب المعاناة هؤلاء القادة الرجال الصادقين. وأن الواجب على هذا التكتل أن يوجد رأيًا عامًا منتشرًا بين المسلمين في مختلف بلدانهم؛ إذ من دون وجود تكتل شبابه نزَّاع قبائل موزعون في بلاد العالم يدعون إلى أمر الله لا يمكن أن يوجد الوعي العام على إسلام الحكم في كل بلاد المسلمين… هذا كله يظهر وجوب قيام أحزاب أو تكتلات إسلامية ليقوم أمر الله بها.
ومن هنا يتبين أن محاولة زرع فكرة (قاتل الله الأحزاب) أو (لا أحزاب في الإسلام) أو التفسير الخاطئ لقوله تعالى ( كُلُّ حِزۡبِۢ بِمَا لَدَيۡهِمۡ فَرِحُونَ ) هي محاولة خادعة من الغرب لمنع أن تقوم للمسلمين دولة، وحتى يبقوا تحت وصايتهم. وهي ليست من الإسلام في شيء. وكل من يسير مع هذه الفكرة هو يسير مع الغرب، سواء عن علم وهذا حسابه عند ربه، أو عن غير علم وهو لا يعذر بجهله. فإلى قوله تعالى ندعو المسلمين: ( وَلۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةٞ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَيۡرِ وَيَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٠٤ ).