الْعُقْدَةُ الْكُبْرَى… والانتماء الحقيقي للحضارة الإسلامية!
ثائر سلامة
أرأيت إلى إنسانٍ فتح عينيه بعد نوم طويل، وبدلًا من أن يجد نفسه يتقلب على فراشه في غرفة نومه، رآى نفسه داخل مقصورةِ طائرةٍ تحلِّقُ بسرعاتٍ مخيفةٍ إلى حيث لا يدري، تخترقُ آفاقًا تحتها جبالٌ ووهادٌ، لم يرَها من قبل ولا علم له بها، ما الذي أتى به إلى هنا؟ ولماذا؟ من الذي زجَّه فأقعده في هذه الطائرة؟ ومتى كان ذلك؟ ومن الذي يقودها؟ وإلى أين تتجه؟ وماذا يراد به هو شخصيًا من بعد؟ وهل الطائرة مزودة بوقود كاف لوصولها لمرفئها بسلام؟ تُرى أيمكن لهذا الإنسان أن يطوي فكره عن التساؤل عن هذا كله، وأن يريح أعصابه عن الهياج وعن ملاحقة ما يجهل1؟
ولو أنعمنا النظر في التحولات الخطرة التي أسبغتها هيمنة الحضارة الغربية وتسلطها اليوم في العالم وعلى البشرية، والتي أعادت هيكلة الإنسان في هذا العصر وَفق رؤية علمانية ميكانيكية، أرخت العنان لنسج حياته وفق ماكينة مادية بحتة، فَصَلَتْهُ عن ذاته، وسحقت كينونته، ليتمظهر إنسانًا غريبًا عن إنسانيته، معرِضًا عن إله السموات خالق الكون والإنسان والحياة، وعن فردوس السماء الموعود جزاءً على إحسان العمل في هذه الحياة، مقبلًا على عبادة آلهة أرضية جديدة، محجوبة بغطاء العلمانية والحداثة حينًا، وستار التقدم التقني حينًا آخر، تعده بفردوس أرضي تسوسه الرغبات والشهوات الهائجة وتعظيم اللذات؛ فأورثته هذه النظرة الأرضية ضنك المعيشة، وشقوة2 الروح ، وخواء الفكر، وحيرة ولا أدرية تسربل بها، ولم يعد يبالي!
لو أنعمنا النظر أكثر لوجدنا انقلابًا كاملًا على مفاهيم الثقافة والحضارة بتفريغها التام من كل قيمة ومعنى، ومن كل بعد إنساني يمثل سلَّم القيم الاجتماعيّة والمعارف والمعتقدات والفنون والأخلاق والتقاليد والفلسفة وباقي المواهب والقابليّات والعادات المميزة للمجتمعات، وتحويلها إلى القيمة المادية والمنفعة الآنية، واختزالها في زيادة الإنتاج والتسويق والربح فقط، ومراكمة الكم على الكم، من سلع ومعدلات إنتاج واستهلاك، حتى غدا الاختراع هو أبو الحاجة، وتحول الإنسان نفسه ليكون سلعة، أو مادة دعائية لترويج سلعة لا يزيد ثمنها عن ربع دينار! وتحولت المجتمعات من أن تكون كيانات ثقافية تتجسد قيمها في نمط عيشها إلى مجموعات استهلاكية، لم تلبث طويلًا بعد خوائها الفكري الثقافي الحضاري ذلك، والذي صاحبه إذكاء لنار العنصرية والتفرقة والتناحر والإفناء حتى دارت فيما بينها رحى حروب ودماء تسفك لها أول وما لها آخر، وانبهر الناس بالتقدم التكنولوجي على حساب التراجع الشديد في مجال القيم الإنسانية، ولم تتمكن العلوم والتقنية من حل مشكلات العالم، ولا أفضت لتفسير معنى الوجود، ولم تزد اللاأدريين إلا مزيدًا من الشك والتيه والوحشة والصدود، وكما كتب الفيلسوف الفرنسي مالرو: Malraux “حضارتنا هى الأولى في التاريخ، التى إذا طرح السؤال الأهم “ما معنى الحياة؟”، أجابت: “لا أعرف” على مدى القرن، فشلت كل محاولات الإجابة”! على الرغم من أن هذا السؤال لصيق بالفكر الإنساني، وشرط أساسي لإدراك كينونة الإنسان، كي لا يقع في الخواء الفكري، والفراغ الأخلاقي، والشذوذ السلوكي.
في برنامج على راديو السي بي سي الكندي، استضاف الفيلسوف لي ماكنتاير Lee McIntyre والذي كانت له تجربة فريدة، حيث نصب في محطة لقطار الأنفاق في نيويورك طاولة وضع عليها لوحة كتب عليها: اسأل الفيلسوف!، وبعد مضي بعض الوقت توقفت امرأة في عقدها السادس وعلى وجهها كل ملامح الجدية، وخلعت معطفها، والشال الذي يغطي رقبتها، وقالت في حزم: أنا امرأة في العقد السادس من عمري، متقاعدة عن العمل براتب مريح، لدي درجة علمية هي الماجستير، لا يوجد عندي أسرة، فأنا مطلقة، وقد نهضت مؤخرًا من سرير الشفاء بعد عملية خطيرة بقيت ندوبها في رقبتي، وأريد أن أعرف ماذا علي أن أفعله باقي عمري؟ أريد سببًا أعيش لأجله!
ألا يذكرك سؤال هذه المرأة بحياتك أنت؟ هل تعرف سببًا تعيش لأجله؟ ماذا عليك أن تفعل باقي عمرك ليكون لعمرك ولحياتك معنى حقيقي؟ أوليس واقع الحال أن حيواتنا مغطاة “بطبقات رقيقة” ما أسهل أن تزول لتنكشف حقيقة أننا غارقون في هذه الحياة دون هدف أو وعي أو طرح تساؤلات حقيقية، ننتظر أن نتقاعد كي نكتشف أن حياتنا العملية التي غطت غالبية الوقت، وأخذت شبابنا وزهرة أعمارنا، واندمجنا فيها بصناعة المسار المهني، والارتقاء الوظيفي، والرخاء الاقتصادي، والتسوق والرحلات وعطل نهاية الأسبوع، ومشاهدة آخر الأفلام ومتابعة البطولات الرياضية، أو حتى السعي لأجل التغلب على الضنك والمشقة، كي نكتشف أن هذه كلها -مع المتعة المصاحبة لكل شيء فيها، أو العناء، ومع أهميتها في حياتنا- ليست السبب الحقيقي الذي ينبغي أن نعيش لأجله، أو الذي وُجدنا في هذا الكون الذي تم تصميمه وتعييره تعييرًا دقيقًا منضبطًا محكمًا خارقًا لتوجد فيه الحياة ويكون مضيافًا لها، وليوجد فيه هذا المخلوق الذكي القادر على التساؤل والاستكشاف والفهم والإدراك، فإذا ما ارتفعت تلك “الغلالات الرقيقة” وما عاد لها وهجها الذي صاحبها في رحلة الشباب وبناء المستقبل والنظر بتفاؤل لمعيشة مريحة هانئة، أَلَحَّ وقتها، وبكل قوة، ذلك السؤال الذي سألته هذه المرأة، ماذا علي أن أفعله فيما تبقى لي من عمر! ما هو السبب الذي سأعيش من أجله! فتعود الذاكرة وقتها للوراء لتسأل: هل كنت أعيش للسبب الذي كان علي أن أعيش له فيما مضى من عمر؟ هل عشت حياتي بشكل صحيح؟
فماذا عنك وأنت في رحلة كهذه في هذه الحياة الدنيا؟ ألا ترى أهمية الإجابة على نظائر هذه الأسئلة لتفسر لك سبب وجودك في الحياة، ومن أتى بك؟ وماذا بعدها؟ وماذا يراد منك؟ لماذا جئت إلى هذه الحياة؟ هل للكون من إله؟ هل ما يحيط بك من سهول وجبال ووهاد، وأرض وشمس ومجرة وحياة تعج بأنظمة بالغة الانتظام والدقة، وبعضها بالغ التعقيد، هل هي مخلوقة لخالق أم أزلية؟ أم وُجِدْتَ من غير شيء؟ هل لما تفعله في هذه الحياة من علاقة بما بعدها؟ ما علاقة هذا الخالق بالكون؟ لماذا خلقه؟ ما علاقة هذا الخالق بي؟ ماذا يريد مني؟ كيف أتواصل معه؟ كيف أعرفه على الحقيقة؟ كيف نشأت الحياة؟
العدم والوجود، الموت والحياة، الفناء والخلود… يمثل القلقُ الذي يستدعي إجاباتٍ على هذه الأسئلةِ وماهيتها، قيمةً فكرية تعبر للإنسان عن ذاته وسبب وجوده، يعطي للحياة معنى وأبعادًا رائعة، وتعطي للإنسان قيمة تتناسب مع كونه: صاحب الحضور المركزي في هذه الحياة، لأجله صممت أنظمة كونية بالغة التعقيد، وصمم هو ليعيش فيها، فلا معنى للإنسان إن لم يفهم معنى حياته، ووظيفته ودوره فيها، وإلى أين المصير! وأن يحل العقدة الكبرى!
تشكل هذه الأسئلة ما يسمى بالعقدة الكبرى، وتشكل الإجابات عليها حلًا لهذه العقدة الكبرى، ينشأ عنها الإيمان، وينشأ عنها أن يتحرر الإنسان من اللاأدرية، ومن الانحطاط؛ ليرقى في معارج النهوض والارتقاء للمكانة السامقة التي كُرِّم لأجلها!
الانتماء الحقيقي للحضارة الإسلامية
من المعلوم أن الإسلام إلى جانب اشتماله على منظومة العقائد والعبادات والمطعومات والأخلاق والعقوبات والمعاملات التي تضبط علاقة العبد بربه وبنفسه وبغيره، وإلى جانب مجموع الأحكام الشرعية التي تشكل نظام الحياة لديه، وتتفرع عنها أنظمة الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقضاء وغيرها، تلك التي ضبطت سلوك الفرد وسادت علاقات المجتمع، حتى غدت طريقة عيش، وحضارة متميزة، فأفرزت الثقافة الإسلامية عشرات العلوم بالغة الدقة والضبط كالتفسير والقرآن والحديث والفقه والأصول واللغة، بتفريعاتها التي تشرح الإسلام وتضبطه، وأن الإسلام يشكل هوية ثقافية ومزاجًا نفسيًا، وانتماء حضاريًا وتاريخيًا صاغ المقومات الخاصة والعامة للشعوب والأعراق التي دانت به أو خضعت له فصهرتها بعملية صهرية فريدة ليس لها نظير في التاريخ، في بوتقة العقيدة الإسلامية والشريعة السمحة لتكون قوام أمة واحدة من دون الأمم، هي خير أمة أخرجت للناس، بل ولقد أثرت الحضارة الإسلامية حتى في الأمم التي بارزتها العداء أحيانًا! ولقد امتلك الإسلام القدرات الجبارة على تحريك المنتمين للأمة في معارك الوجود الفاصلة، وكان بمثابة خط الصمود الأول والدفاع المستميت عن كرامة الأمة وهويتها، وعن سلطان الأمة وسيادة أحكامه في معترك الحياة – عقيدة تتحرك في الجوانح، ونظامًا سياسيًا يشكل الدرع الواقية التي يقاتل من ورائها ويتقى بها، وشخصيات فذة، وقادة، وعلماء، ومدارس فقهية، ومراكز علمية – فانتقل الإسلام بالأمة نقلة نوعية ليكون مسوغ وحدتها، ومصدر قوتها، وتميزها، وقوامتها على البشرية، وخيريتها، وليكون بعدها النفسي والفكري المحرك لمجتمعها في ميدان صلاحها وفق أحكام شريعتها.
ولقد كان الإسلام منهجًا لصياغة حركات المجتمعات المتعاقبة وتدافعها عبر التاريخ مع غيرها من الأمم، ومقياسا لنهوضها وانحطاطها، ووازعًا لها للنهوض بعد كل كبوة، من خلال منظومة دقيقة للفهم، محكومة بنواميس وسنن كونية ربانية يكون اكتشافها وتدبرها وفهمها وتنزيلها على الواقع طريقًا من طرق العبادة والتقرب إلى الله، ودافعًا للعمل دومًا لاقتعاد مقعد السيادة والريادة والقوامة على البشرية، والقيام على الأمانة التي أنيطت بالأمة، ذلك النهج وتلك المقاييس رفضت رفضًا تامًا أي نوع من التهويم والعشوائية والارتجالية وأن تخضع حركة المجتمع لضرب من التجارب، بل عوضًا عن ذلك تسلحت الفكرة الإسلامية بالعلم وأدواته الدقيقة المنضبطة بالوحي، فقدم للعقل البشري فرصته الاستثنائية لكي يتحرك حرًا في الفهم والإبداع والاستنتاج، بعد أن قدمت له الفكرة الإسلامية منظومة متكاملة من القيم والشرائع والمقاييس التي يستنبط منها الأحكام اللازمة لعمارة الأرض وتحقيق قيمة الاستخلاف فيها.
ولقد تجلى الإسلام منبرًا ومدرسة معرفية، وتجلى هوية حضارية للأمة على عظيم دورها وضخامة قيمتها، وإلى جانب ذلك كان حامل منظومة قيمية ومفاهيم للإنسانية ترتقي على حدود العرق واللون والطبقية؛ ليكون نظام حياة للإنسان الذي يخضع لأحكامه، مسلمًا كان أم ذميًا، يقيم الإسلام في المجتمع ميزان الحق والعدل، على اعتبار أنه رحمة للعالمين، ويقيم على البشرية وما لديها من نظم وثقافةٍ الحجةَ بقيمه ورحمته وأنظمته.