من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم الجامعة في خلق الإسلام
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يأخذ عني هؤلاء الكلمات فيعمل بهنّ أو يعلمهنّ من يعمل بهنّ؟» قال أبو هريرة: فقلت: أنا يا رسول الله، فأخذ بيدي، فعدّ خمسًا، قال: «اتّقِ المحارم تكُن أعبدَ النّاس، وارضَ بما قسَم الله لك تكُنْ أغنى النّاس، وأَحسن إلى جارك تكُن مؤمنًا، وأحِبّ للنّاس ما تحبّ لنفسك تكن مُسلمًا، ولا تُكثر الضّحك فإنّ كثرةَ الضّحك تُمِيتُ القلب» رواه أحمد، والتّرمذي، وحسّنه الألباني. في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم إشعار بالاهتمام وعظم الوصيّة، فعدّ خمسًا من خصال الخير:
الخَصلة الأولى: اتّقاء المحارم:
«اتّق المحارم تكُن أعبد الناس» والمحارم تشمل جميع المحرّمات من فعل المنهيّات وترك المأمورات التّي جاء ذكرها في كتاب الله تعالى، وفي سنّة نبيّه المصطفى صلى الله عليه وسلم، كالشّرك وقتل النّفس والسّرقة والزّنا والنّميمة والكذب والخيانة وقولِ الزور وأكل الربا وعقوق الوالدين وقطع الرحم وشرب الخمر والسّحر وغيرها، وللمسلم أن يعلم أن اتقاء الله يكون بفعل المأمورات وترك المنهيات. والمأمورات هي كل ما اتصل بعمل المسلم مما أمر الله به، والمنهيات هي كل ما نهى الله عنه، فالمسلم مأمور بالتقيد بأوامر الله، وهي كثيرة تتعدى ما يقوم به، وليس مأموراً بفعلها كلها، بل فقط بما تعلق بعمله؛ فلا يأتي به إلا على الوجه المأمور به شرعًا. والمسلم قد يكون تاجرًا فيجب عليه أن يأتي فعله بالتجارة متقيدًا بالشرع، وقد لا يكون ذلك بل قد يكون أجيرًا أو صاحب صناعة أو صاحب أرض… فعلى أي وضع كان فيه عليه أن يتقيد بالشرع فيه… فإذا كانت الصلاة والصيام على جميع المسلمين، فإن الزكاة هي فقط على من ملك النصاب، والحج على من ملك الاستطاعة، وهكذا. وهناك فرض إقامة الدين فهو على المسلمين كفايةً، ولكن الإثم يلحق جميع من لا يعمل له حتى يقام، فمن باب اتقاء المحارم قيام المسلمين بهذا الفرض وإلا فإن تركه هو من باب ترك المأمورات.
ولعلّ التعبير بالاتّقاء هو من باب الأمر بتقوى الله، التي تشمل القيام بكل المأمورات، فهذه تكون على الوجوب إذا كان الطلب فيها جازمًا، وتكون على الندب إذا كان الطلب فيها غير جازم، وهي عندما تكون على الوجوب يكون القيام بها اتقاء للمحارم، وانتهاكها يكون فيه انتهاك للمحارم. وعندما تكون للندب فإن القيام بها يكون فيه زيادة اتقاء، أما عدم القيام بها فلا يعد انتهاكًا للمحارم… وكذلك تشمل التقوى الانتهاء عن جميع المحارم دفعة واحدة، إذا كان طلب الترك جازمًا. أما في حال لم يكن جازمًا (مكروهًا) فإن في عدم القيام بها ففيه زيادة في التقوى، أما إذا قام بها فليس فيها انتهاك للمحارم. أما المباح فيستوي فعله وعدم فعله في عدم انتهاك المحارم أو في اتقائها.
واستعمال لفظ الاتقاء هو من باب الوقاية والاحتماء على قاعدة الحُكماء في معالجة الدّاء بالدواء.
فإذا اجتنب المرء جميع ما نهى الله عنه ارتقى إلى أعلى مراتب العبودية؛ لكونه جاهد نفسه على ترك الحرام، قالت أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها موضّحةً ذلك المعنى: «من سرّه أن يسبق الدّائب المجتهد فليكفَّ عن الذّنوب»، وقال الحسن البصريّ: “ما عَبد العابدون بشيء أفضلَ من ترك ما نهاهم الله عنه»، ولكن ينبغي أن يُعلم أن المقصود من تفضيل ترك المحرمات على فعل الطّاعات، إنما أُريد به نوافل الطّاعات، وإلا فجنس الأعمال الواجبات أفضل من جنس ترك المحرمات، لأن الأعمال مقصودةٌ لذاتها، والمحارم المطلوب عدمها؛ ولذلك لا تحتاج إلى نيّة بخلاف الأعمال، كما ذكر ذلك الإمام ابن رجب رحمه الله.
الخَصلة الثانية: الرّضا بما قسم الله:
«وارضَ بما قَسَم الله لك تكن أغنى النّاس» فالسّعيد الحقّ هو من رضي بما قسم الله له، وصبر لمواقع القضاء خيره وشره. والرّضا هو السّياج الذي يحمي المسلم من تقلّبات الزمن، وهو البستان الوارف الظّلال الذي يأوي إليه المُؤمن من هجير الحياة، وهو الغنى الحقيقي؛ لأن كثيرًا من النّاس لديهم حظّ من الدّنيا، لكنّهم فقراء النّفس ومساكين القلب، فقد أعمى الطّمع قلوبهم عن مصدر السّعادة والغنى الحقيقيّ الذي هو غنى القلب والرّضا وسكينة النّفس، فالقلب السّليم هو القلب المطمئن الذي رضي بما قَسَم الله له قال الله تعالى: (يَوۡمَ لَا يَنفَعُ مَالٞ وَلَا بَنُونَ ٨٨ إِلَّا مَنۡ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلۡبٖ سَلِيمٖ ٨٩) ، واطمأنّ بذكر الله عزّ وجلّ، قال تعالى: (ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطۡمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكۡرِ ٱللَّهِۗ أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَئِنُّ ٱلۡقُلُوبُ ٨)
ويقول الشّاعر في المعنى الحقيقيّ للغِنَى:
وغنى النّفوس هو الكفاف فإن أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها.
والحاصل أن من قنع بما قُسِمَ له، ولم يطمع فيما في أيدي النّاس، اسْتغنى عنهم، فالقناعة غِنى وعزٌّ بالله، وضدّها فقرٌ وذلٌّ للغير، ومن لم يقنع لم يشبع أبدًا، ففي القناعة العزّ والغنى والحرّية، وفي فقدها الذّل والتّعبّد للغير. وهذه منزلة تحتاج إلى مجاهدة النفس للوصول إليها، تمامًا كما يجاهد غني اليد نفسه ليصبح غنيًا في الدنيا.
الخَصلة الثّالثة: الإحسان إلى الجار:
«وأحسِن إلى جارك تكُن مؤمنًا» وعن أَبي هريرة رضي الله عنه أَن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«واللَّهِ لا يُؤْمِنُ، واللَّهِ لا يُؤْمِنُ، واللَّهِ لا يُؤْمِنُ، قِيلَ: مَنْ يا رسولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذي لا يأْمنُ جارُهُ بَوَائِقَهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيهِ. فالرسول صلى الله عليه وسلم جعل الإحسانَ إلى الجار من علامات الإيمان، ويكونُ الإحسان إلى الجار بأمورٍ كثيرةٍ، منها: ردّ السّلام عليه، وإجابةُ دعوته، وكفّ الأذَى عنه، وتحمّل أذاه، وتفقّده وقضاء حوائجه، وستره وصيانة عرضه، والنّصح له.
والجيران ثلاثة: جارٌ قريبٌ مسلمٌ؛ فله حق الجوار والقرابة والإسلام، وجارٌ مسلمٌ غريبٌ؛ فله حقّ الجوار والإسلام، وجارٌ كافرٌ؛ فله حقّ الجوار، وإن كان قريبًا فله حقّ القرابة أيضًا.
وقد ظلّ جبريل عليه السّلام يوصي النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالجار حتى ظنَّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّ الشّرعَ سيأتي بتوريث الجار، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِى بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» متّفقٌ عليه.
الخَصلة الرابعة: أحبّ للنّاس ما تُحبّ لنفسك:
«وأَحبّ للنّاس ما تحبّ لنفسك تكن مسلمًا» ومثله حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي رواه أنس بن مالكٍ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»؛ متفق عليه.
من كمال الإسلام وسموّه أن تُحبّ للنّاس حصولَ ما تُحبّه لنفسِك، وحُبّ الخير للنّاس خلقٌ إسلاميّ أصيلٌ ينبغي أن يتحلّى به كلّ مُسلمٍ، ولم ينصّ على أن يُبغض لأخيه ما يُبغض لنفسه؛ لأنّ حبّ الشيء مستلزِمٌ لبُغض نقِيضه. قال النووي رحمه الله: قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: وهذا قد يعد من الصعب الممتنع، وليس كذلك؛ إذ معناه: لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب لأخيه في الإسلام ما يحب لنفسه، والقيام بذلك يحصل بأن يحب له حصول مثل ذلك من جهة لا يزاحمه فيها، بحيث لا تنقص النعمة على أخيه شيئًا من النعمة عليه، وذلك سهل على القلب السليم، وإنما يعسُرُ على القلب الدغل.
الخَصلة الخامسة: لا تُكثرِ الضّحك:
«ولا تُكثر الضّحك، فإن كثرة الضّحك تُميتُ القلب» فالضّحك من خصائص الإنسان، فالحيوانات لا تضحك؛ لأنّ الضّحك يأتي بعد نوع من الفهم والمعرفة لقول يسمعه، أو موقفٍ يراه فيضحك منه. وكثرة الضّحك تورثُ ظلمةً في القلب وموتًا له. والإسلام – بوصفه دين الفطرة – لا يُتصوّر منه أن يُصادِر نُزوع الإنسان الفطريّ إلى الضّحك والانبساط، بل هو على العكس يرحّب بكل ما يجعل الحياة باسمةً طيّبةً، ويُحِبُّ للمُسلم أن تكون شخصيته متفائلة باشّة، ويكره الشّخصية المكتئبة المتطيّرة، التي لا تنظر إلى الحياة وإلى الناس إلا من خلال منظارٍ قاتمٍ أسود. وأسوةُ المسلمين في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان، برغم همومه الكثيرة والمتنوّعة، يحيا مع أصحابه حياة فطريّة عاديّة، يشاركهم في ضَحِكهم ومُزاحهم أحيانًا، كما يشاركهم في آلامهم وأحزانهم ومصائبهم؛ ولذا فإن المنهي عنه في هذا الحديث ليس مجرد الضّحك، بل كثرته، فليس الضّحك منهيٌّ عنه لذاته، ولكن لما يُمكن أن يؤدّي إليه من عواقب وأخلاق لا يرضاها الإسلام، وكلُّ شيءٍ خرج عن حدّه انقلب إلى ضده.