مع القرآن الكريم
2019/05/20م
المقالات
6,152 زيارة
مع القرآن الكريم
(لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّۚ فَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلطَّٰغُوتِ وَيُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَاۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ٢٥٦ ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَوۡلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّٰغُوتُ يُخۡرِجُونَهُم مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَٰتِۗ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ ٢٥٧ ).
جاء في كتاب التيسير في أصول التفسير لمؤلفه عطاء بن خليل أبو الرشتة أمير حزب التحرير حفظه الله في تفسيره لهذه الآيات ما يلي:
تستمر الآيات في السياق نفسه الذي بدئ بالآية الأولى (وَلَٰكِنِ ٱخۡتَلَفُواْ فَمِنۡهُم مَّنۡ ءَامَنَ وَمِنۡهُم مَّن كَفَرَۚ ).
ففي هذه الآية ( لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّۚ ) بيان من الله للناس أن من اختار الكفر منهم فقد ضل وغوى، ومن اختار الإيمان فقد هدي ورشد، والله سبحانه سميع لما يعلنون، عليم بما يسرون ( وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ٢٥٦ ).
( لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ ) نكرة في سياق النفي، فهي تفيد العموم، أي أنه لا يُكرَه أحد فيما يدين ويعتقد، وسبب نزولها يؤكد ذلك، فقد أخرج ابن جرير وأبو داود والبيـهـقي عن ابـن عباس قـال: “كانت المرأة تكون مقـلاتًا فتجعل على نفسها إن عـاش لها ولـد أن تهـوده، فلمـا أجليت بنـو النضـير كان فيهم من أبنـاء الأنصـار فقالوا: لا ندع أبناءنا. فأنزل الله – عز وجل – ( لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّۚ ) وفي رواية: إنما فعلنا ونحن نرى أن دينهم أفضل مما نحن عليه، وأما إذ جاءهم الله بالإسلام فنكرههم عليه فنزلت ( لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّۚ ) من شاء التحق بهم، ومن شاء دخل الإسلام” قال أبو داود المقلات التي لا يعيش لها ولد[1].
غير أن هذا العموم خصص في حالتين:
أ. الخضوع لأحكام الشرع دون الاعتقاد، فهذا يكره عليه أهل الذمة، فخضوعهم لأحكام الشرع على الوجوب شاءوا أم أبوا كما جاء في الآية الكريمة ( حَتَّىٰ يُعۡطُواْ ٱلۡجِزۡيَةَ عَن يَدٖ وَهُمۡ صَٰغِرُونَ) التوبة/آية29 أي خاضعون لأحكام الشرع. فيجوز لهم أن يبقوا على عقيدتهم، عقيدة الكفر في صلواتهم بكنائسهم ومشروباتهم ومطعـوماتهم التي أقرهم الرسـول صلى الله عليه وسلم عليها، ولا يكـرَهـون على تركها واعتـناق الإسلام؛ ولكن لا يجوز لهم أن يحتكموا لغير الإسلام في حياتهم العامة بل يكرهون على الاحتكام للشرع.
ب. مشــركـو الـعـرب، يكـرهـون عـلـى الإسلام أو القتل كما جاء في الآيـة الكـريـمـة (سَتُدۡعَوۡنَ إِلَىٰ قَوۡمٍ أُوْلِي بَأۡسٖ شَدِيدٖ تُقَٰتِلُونَهُمۡ أَوۡ يُسۡلِمُونَۖ ) الفـتـح/آيـة16 وهـي نـزلـت في مشـركـي العـرب.
وبذلك تكون الآية عامة في غير الحالتين السابقتين، أي أن مشركي العرب لا يقبل منهم إلا الإسلام أو القتل.
والكفار الآخرون يقبل منهم الإسلام أو الجزية، فإن لم يفعلوا قوتلوا. وإن قبلوا الجزية لا يكرهون على اعتناق الإسلام، ولكن يكرهون على الخضوع لأحكام الإسلام في الحياة العامة.
فالآية على هذا عامة مخصصة في الحالتين المذكورتين.
( قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّۚ ) أي قد تميز الإيمان من الكفر، والصواب من الخطأ، و(ٱلرُّشۡدُ) بضم الراء وسكون الشين مصدر رشد يرشد من باب نصر، وهو نقيض الغي وأصله سلوك طريق الهلاك.
( فَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلطَّٰغُوتِ ) (الطـاغـوت) كل ما عبد من دون الله وكلّ رأس ضلال. وهو مِن طَغِيَ يطغى[2] ( كَلَّآ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَيَطۡغَىٰٓ ) العـلق إذا جاوز الحد بزيادة عليه، وأصله (طغيوت) ثم قدمت اللام وأخرت العين كما قيل جذب وجبذ وصاعقة وصاقعة، فصار (طيغوت) فتحرك حرف العلة وانفتح ما قبله فقلبت ألفًا وأصبح وزنه (فلعوت).
( فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ ): ( ٱسۡتَمۡسَكَ ) أي بالغ في التمسك.
( بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ ) {العروة} ما يعتصم به ويتعلق به.
و(ٱلۡوُثۡقَىٰ) فُعلى من الوثاقة، يقال في الذكر الأوثق وفي الأنثى الوثقى، كما يقال فلان الأفضل وفلانة الفضلى.
وهي تشبيه لمن كفر بالطاغوت وآمن بالله كمن تَمسَّك بحبل محكم مأمون.
وتقديم الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله فيه دلالة على أنَّ مجاهدة الطاغوت تحتاج عناءً فوق ما يحتاجه الإيمان بالله، فالإيمان موافِق للفطرة ومقنع للعقل، والكفر طارئ على الفطرة، فمن تخلى عن عبادة الطواغيت وعاد إلى فطرته السليمة وجد الطـريـق ميسـرًا للإيمان، ومن حاول أن يبقي تمسكه بشيء من الطواغيت ثم يأخذ بشيء من الإيمان اختلطت عليه الأمور وضلّ وهلك.
وفي هذه الآية بيان وأي بيان لصلابة موقف الذي يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله، فهو متمسك بحبل الله المتين، كمن تمسك بعروة وثقى شديدة الإحكام لا يصيبها أدنى تشقق أو ضعف.
( لَا ٱنفِصَامَ لَهَاۗ ) أي لا كسر لها أو تشقق قبل أن تنقطع، فالنفي هنا ليس للانقطاع بل لما يحدث قبله من تشقق، وهذا نفي بليغ للانقطاع.
وفي اللغة تستعمل (قصم) للانكسار مع البينونة أي إذا تشقق الشيء ثم انقطع وانفصل يقال له (انقصم)؛ وإذا تشقق ولم ينقطع أو ينفصل يقال له (انفصم) فنفي الانفصام نفي للتشقق والانفصال فهو نفي بليغ للانفصال.
والمعنى أن الإيمان الذي يكون عليه من كفر بالطاغوت وآمن بالله، هو إيمان شـديـد كمـن تمسـك بعـروة محكمـة وثيقة وأصبح جزءًا منها لا ينفصل عنها ولا تنفك عنه.
ويختم الله سبحانه الآية بأنه سميع لما يعلنون عليم بما يسرون، لا تخفى عليه خافية، يعلم صدق المؤمنين ونفاق المنافقين وكفر الكافرين (وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ).
وتستمر الآيات في بيان حال المؤمنين بأن الله وليهم يخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى، ومن الباطل إلى الحق ويدخلهم الجنة خالدين فيها أبدًا.
وكذلك يبين حال الكفار، عبدة الطواغيت، بأن طواغيتهم يوردونهم إلى الهاوية، يخرجونهم من النور إلى الظلمات، ومن الهداية إلى الغواية، فتهوي بهم في نار جهنم خالدين فيها أبدًا.
( ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ) أي معينهم وناصرهم والمدافع عنهم على نحو قوله سبحانه: ( إِنَّ ٱللَّهَ يُدَٰفِعُ عَنِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْۗ ) الحج/آية38 فهو سبحانه الملجأ لهم من كل سوء.
(يُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۖ ) يهديهم سبيل الرشاد ويوفقهم إلى الخير والصلاح ويثبتهم على الإيمان فلا يقعوا في الكفر والضلال.
(وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَوۡلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّٰغُوتُ ) أي أن الذين يلجأ لهم الكفار هم الطواغيت، شياطين الإنس والجن، وهؤلاء لا يزيدونهم إلا غيًا وضلالًا. و( ٱلطَّٰغُوتُ ) في اللغة يجوز فيه الإفراد والجمع، فقد يدلّ على المفرد فيجمع على (طواغيت) وقد يدلّ على الجمع فلا جمع له كما في هذه الآية الكريمة، فطاغوت تفيد الجمع بدلالة ( يُخۡرِجُونَهُم ) للجمع.
(يُخۡرِجُونَهُم مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَٰتِۗ) أي يحرفونهم عن دين الفطرة السليمة إلى الكفر فإن المرء يولد على الفطرة، ولو خلي بينه وبينها لكان مسلمًا لله خاضعًا له: “يولد الإنسان على الفطرة، وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه“[3] وهذه الفطرة السليمة التي يولد الناس عليها هي ذاك النور الذي أخرج الطواغيت أولياءهم منه، فحرفوهم عن الفطرة السليمة، وأوردوهم موارد الغواية والهلاك، وزينوا لهم السوء فأطاعوهم فأوردوهم النار خالدين فيها، وبئس الورد المورود.
[1] أبو داوود: 2037، تفسير الطبري: 3/14، البيهقي: 9/186
[2] أو مِن طغا يطغو كما يقول الطبري، والمصدر في الأولى طَغِيَ يطغي هو (طغيًا، وطغيانًا بالضم والكسر)، والمصدر من الثانية هو (طُغْوًا وطُغوانًا بضمهما)، وأصله من الأول (طَغَـيُوت) ومن الثاني (طَغَوُوت) والوزن كما بيناه هو (فلعوت).
[3] البخاري: 1270، مسلم: 4803، الترمذي: 2064
2019-05-20