مخطّطات الغرب لتحريف الإسلام:
«الإسلام الأميركي» و«الإسلام الفرنسي» نموذجاً (1)
الأستاذ بسّام فرحات
ما فتئ الصّراع بين الشّرق الإسلامي والغرب النّصراني منذ مواجهاته الأولى (مؤتة – تبوك – أجنادين – اليرموك…) في سيرورة صداميّة محمومة تخبو نارها حينًا وتستعر أحيانًا؛ لكن لا تبرد ولا تستكين ولا تنطفئ، وقد كان للحقّ فيها صولاته كما كان للباطل أيضًا جولاته ﴿وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾… ولئن مُنيت أوروبا النّصرانيّة في الجولة الصّليبيّة الأولى بهزيمة نكراء وارتدّت خاسئة وهي حسيرة، فإنّها في الجولة الصّليبية الاستعماريّة مطلع القرن الـ19 الميلادي بدت أكثر تصميمًا وعزمًا على إخضاع المسلمين، وأكثر تمكّنًا من الوسائل الماديّة، وأكثر استنارةً ووعيًا من حيث الخطط والأساليب، متّخذةً من الانكسار الذي مُنيت به في القرون الوسطى تجربةً ميدانيّة للوقوف على نقاط قوّة الخصم وضعفه، وامتحانًا استخلصت منه أثمن الدّروس وأبلغ العبر نوجزها في ثلاثة:
أوّلًا: إنّ هزم المسلمين في حرب دينيّة سافرة هو ضربٌ من المستحيل ومطمح بعيد المنال.
ثانيًا: إنّ الغزو العسكري لا يمكن أن يُثمر ما لم يكن مصحوبًا بغزوٍ فكريٍّ حضاريٍّ.
ثالثًا: إنّ قوّة المسلمين تكمن في عقيدتهم وما يبنى عليها من أفكار بصفتها عقيدةً سياسيّةً روحيّة قادرة على بعث المسلمين من رمادهم.
وتبعًا لذلك فإنّ الهجمة الاستعماريّة الأخيرة لم ترفع الصّليب شعارًا مستفزًّا، ولا اتخذت من القدس وجهةً معلنة، ولم تكتفِ بإسقاط دولة الخلافة وتمزيق المسلمين، بل تستّرت عن استهداف الإسلام عقيدة وأنظمةً وثقافةً بالحماية والتّعمير والتّمدين والتّطبيب، وفتحت على المسلمين ثلاث واجهات متوازية متكاملة: الأولى عسكريّة لاحتلال الأرض وتفكيك الدّولة وإقصاء الشّريعة، والثّانية فكريّة لغزو العقول ونشر الثّقافة الغربيّة نظريًّا وتطبيقيًّا، أمّا الثّالثةُ فعقائديّة لفرض عقيدة فصل الدّين عن الحياة والقضاء على الإسلام بالإجهاز على عقيدته السّياسيّة الرّوحية الكفيلة ببعث الرّوح مجدّدًا في الأمّة الإسلاميّة… وقد استتبع هذا الانقلاب في الأساليب تحوّلات جذريّة على مستوى الخطط المعتمدة في الغزو بحيث اتّخذت شكلًا جديدًا غايةً في الخبث والدّهاء والمكر: فبما أنّ الحصون المنيعة لا تؤخذ إلاّ من الدّاخل، انعقد عزم الكافر المستعمر على ركوب العقيدة الإسلاميّة ذاتها في محاولة لاختراقها ونسفها وتدجينها وتوظيفها، ومن مأمَنِهِ يُؤتى الحَذِرُ… من هذا المنطلق شهد الصّراع بين المعسكرين تطوُّرًا نوعيًّا تحَوّلت حَلَبَتُه بمقتضاه، من خارج العقيدة الإسلاميّة بوصفها عقيدةً شيطانيّة منحرفة، معاداة مرفوضة ابتداءً بالجملة: (يجب محوها من الوجود)، إلى داخل العقيدة الإسلاميّة باعتبارها مادّةً خامًا جَمُوحًا عصيّةً على التّرويض تحتاج إلى بعض التّشذيب والتّنقيح والتّعديل حتّى تتأقلم مع الحضارة الغربيّة وقيمها، وتستجيب للمواصفات الرّأسماليّة، وتُكرّس لتحقيق مصالح الكافر المستعمر؛ فيتيسّر بالتّالي التّعايش معها – ولو على مضض – إلى حين تركُّز الثّقافة الغربيّة ومفاهيمها الحضاريّة ووجهة نظَرها في الحياة…
صليبيّة تبشيريّة أم رأسماليّة مصلحيّة؟
ورغم أنّ وجه الصّراع في نسخته الحاليّة رأسمالي صرف، تحرّكه المصالح والمنافع الماديّة، وتَضمُر فيه النّاحية الصّليبيّة التّبشيريّة الكنسيّة، ويأخذ شكل الاستعمار والسّيطرة على مقدّرات الشّعوب وثرواتها؛ إلاّ أن ذلك لا يعني البتّة أنّ هذا الصّراع لا يستهدف القضاء على الإسلام، وأنّه مجرّد حرب مصالح وليس حرْبًا دينيّة عقائديّة يقودها الغرب النصراني الرّأسمالي ضدّ الإسلام والمسلمين، فالهدفان يتقاطعان ويتكاملان بحيث إنّ الدّافع الرّئيسي للحملة الاستعماريّة، هو بالأساس، الخطر الكامن في الأمّة الإسلاميّة على مصالح هذا الغرب ونفوذه الدّولي، بل وعلى وجوده ذاته… فيجب التّفريق بين مشغل التّبشير والتّنصير الذي فشل فيه الكافر المستعمر مع المسلمين واقتنع بفشله إلى درجة أنّه تخلّى عنه، ومشغل القضاء على الإسلام الذي يحول دونهم ونشر مبدئهم بين المسلمين، ووضع اليد على مقدّراتهم وثرواتهم… فالصّراع من وجهة نظر الغرب تخلّى عن مظهره التّبشيري الكنسي الذي تميّز به في العصور الوسطى، واتّخذ شكل الصّراع المبدئي العقائدي، وما الدّيانة إلاّ جزء لا يتجزّأ من العقيدة والمبدأ… فالغرب ينظر إلى الإسلام بوصفه خصْمًا حضاريًّا مبدئيًّا لا خصمًا دينيًّا فحسب، إنّهم ينظرون إلى قيم الإسلام باعتبارها بيئة معادية لقيمهم ومشاريعهم، وأرضيّةً خصبةً لنموّ المقاومة ضدّهم ورفض هيمنتهم وسيطرتهم، بينما هم يريدون شعوبًا هادئة مستكينة منقادة للاستعمار لا تحمل أيّ دوافع أو مشاريع للمواجهة والرّفض… يريدون تضليل المسلمين لتسهيل السّيطرة عليهم والاستفراد بخيراتهم، يريدون لهم ردّةً بالتّفصيل فيظلّون يسلبونهم عقيدتهم شيئًا فشيئًا، وحُكمًا إثر حُكمٍ، إلى أن يستحيلوا نسخةً مشوّهةً من منظومتهم وزرًّا صدِئًا في ماكنة مصالحهم… وإنّ السّلوك الاستعماري الحالي، من حيث منطقه وخططه وأساليبه وبرامجه، إنّما هو ثمرة مُراكمة عبر سيرورة تاريخيّةٍ انطلقت من النّسخة الصّليبيّة، وما فتئت تطوّر نفسها وتجوّد عطاءها وتشذّب أخطاءها عبر التّجربة والممارسة الميدانيّة للصّراع ضدّ المسلمين، جيلًا بعد جيل، إلى أن تحقّق حلمها بعد الحرب العالميّة الأولى: فهُدمت دولة الخلافة، وأُزيل الإسلام من الوجود، ومُزّقت بلاد المسلمين إلى أكثر من 50 مزقة فُرضت عليها العمالة والتّبعيّة وتطبيق أحكام الكفر… إلاّ أنّ العقيدة الإسلاميّة السّياسيّة الرّوحية ظلّت تنبض بالحياة: فالمبادئ لا تنتهي بسقوط الدّول التي تطبّقها، ولكن تنتهي إذا تخلّت عنها الشّعوب التي تحملها وتعتنقها – وهذا ما حصل مع الاشتراكيّة الماركسيّة – أمّا المبدأ الإسلامي فقد تواصل وجوده حيويًّا متّقدًا؛ لأنّ الأمّة الإسلاميّة بمختلف شعوبها ظلّت تعتنقه رغم أنّه غير مطبّق عليها وغير موجود دوليًّا، بل لقد دبّت في أبنائها المخلصين الواعين منذ خمسينات القرن المنصرم أحاسيس النّهضة والتحرّر والقيادة وإنقاذ البشريّة على أساس تلك العقيدة؛ ممّا دقّ عند الغرب ناقوس الخطر وحتّم الانتقال إلى الخطوة الثالثة من الحرب على الإسلام ألا وهي استهداف العقيدة ذاتها… وكانت أميركا قد تولّت كبر نشر المبدأ الرّأسمالي بعد الحرب العالميّة الثّانية، ثمّ وبعد سقوط جدار برلين صارت تعمل لتفرُّد هذا المبدأ عالميًّا، وقد نجحت بمساعدة العالم الحرّ في جعل الرّأسمالية أساس العلاقات والأعراف الدّولية، وهي تريد الآن جعلها دين أمم وشعوب الأرض كلّها بحيث لا يكتفون بتطبيقها قَسْرًا، بل يعتنقونها ويُكيّفون مقاييسهم وقناعاتهم على أساس أفكارها ومفاهيمها… هذه الحملة الأميركية لعولمة المبدأ الرّأسمالي – وإن نجحت في سائر أنحاء العالم – إلاّ أنّها تعثّرت في العالم الإسلامي وفشلت فشَلًا ذريعًا؛ ممّا حَدَا بالغرب الاستعماري عمومًا إلى تطوير خططه وأساليبه بحيث تتولّى دُولهُ بأجهزتها الرسميّة وعملائها من الحكّام والمفكّرين مهمّة الإجهاز على العقيدة الإسلاميّة ذاتها، واستبدال عقيدة فصل الدّين عن الحياة بها… وقد انعقد عزمهم على اختراق تلك العقيدة وفرقعتها من الدّاخل للسّيطرة عليها وعلى أتباعها وتوظيفهم لصالحهم… وقد أفرز هذا الحراك السّياسي مشروعين متوازيين متكاملين، يتّفقان في الهدف – احتواء مشروع الأمّة – ويختلفان في الطّرح وزاوية النّظر والوسائل والأساليب، أحدهما سياسي عسكري، والآخر فكري حضاري… وإنّهم وإن تبادلوا الأدوار والمواقع والخبرات وانخرطوا بكليّتهم في إرساء المشروعين، إلاّ أنّ الأوّل تولّت كِبْرَ قيادته ميدانيًّا أميركا، أمّا الثّاني فقد تزعّمت التّنظير لهُ (رائدة الحريّات وحقوق الإنسان) فرنسا.
الإسلام الأميركي
المشروع الأول المنسوب إلى العمّ سام هو مشروع سياسي عسكري أكثر منه فكري، وهو عَمَليّ تطبيقيّ ميدانيّ آنيّ قصير المدى يستهدف المسلمين قبل الإسلام، عبر دراسة واقعهم اليوم ودراسة الحركات والمنظّمات والجماعات الإسلاميّة دراسةً واقعيّة ميدانيّة بغية فهمها واختراقها والسّيطرة عليها وتوظيفها في تدجين الإسلام وأتباعه… فبعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر بدأت التّقارير الأميركية تتحدّث عن الإسلام وعن المواصفات التي تخوّل له التّواجد والنّشاط، وقد نُعت هذا الإسلام المنشود بأوصاف عدّة (الإسلام المعتدل – الوسطي – الحداثي – المدني – الدّيمقراطي…) وبما أنّ الأمور بأضدادها تُعرف، فإنّ هذه المواصفات تحيل ضمنيًّا على الإسلام (المتطرّف – الأصولي – الإرهابي – الرّاديكالي – المتشدّد…) المرفوض أميركيًا. وإذا تأمّلنا في الأسس والمعايير التي تفصل بين (الإسلامَيْن) نجد أنّ المصالح الأميركية هي الفيصل: فالإسلام المتطرّف هو الذي يهدّد مصالح أميركا، والإسلام المعتدل هو من يحقّق مصالحها ويَضمنها ويتوافق ويتعايش معها… هذا إجمالًا، أمّا تفصيلًا: فإنّ الغرب الاستعماري المغرق في البراغماتيّة والميكيافلية ليس له ابتداءً أيّ مشكلة مع الأديان ما دامت مفصولةً عن الحياة ولا تُهدّد مصالحهُ، بل قد يركبها ويوظّفها لتخدير الشّعوب والتحكّم فيها وفي مقدّراتها (الهند نموذجًا)… إلاّ أنّ الإشكال مع الإسلام أنّه يملك من المقوّمات ما يمكن أن يجعله بديلًا حضاريًّا ومنافسًا مستقبليًّا خطيرًا يثير مخاوفهم ويهدّد مصالحهم بل وجودهم… ومن هذه المقوّمات:
1- الشّمول والكمال: أي الاكتفاء الذاتي القيمي والتشريعي، فالإسلام ليس مجرّد ديانة روحيّة كهنوتيّة بل هو عقيدة ومبدأ وفكرة كليّة ومنظومة حياة متكاملة لم تترك كبيرة ولا صغيرة إلاّ فصّلت فيها القول ]وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ [… هذا الاكتمال يُكسِب المسلمين استقلاليّةً وصلابةً فكريّة ومناعةً ذاتيّةً أمام الغزو الحضاري والاختراق الثّقافي، وهو لا يروق للأعداء لأنّه يسدُّ الفراغات التي يتسلّلُ من خلالها بأفكاره وتشريعاته، ويحول دون مصالحهم ومشاريعهم الهدّامة المستهدفة للإسلام والمسلمين.
2- النّزعة الجهاديّة: فالإسلام عقيدة قتاليّة مُزوّدة بمخالب توقظ روح العزّة في معتنقيها، وتزرع بذور المقاومة في أتباعها، وتصوغ في قلوبهم منظومة من القيم تجعل من الموت في سبيل الله شهادةً وبدايةً للحياة الحقيقيّة، قال تعالى: ]وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ[… وهي عقيدة تجعل من الجهاد أي القتال طريقةً واجبة هجوميّة لا دفاعيّة لحمل الدّعوة الإسلاميّة، بما يحوّل المسلمين إلى قنابل موقوتة توشك أن تنفجر عليهم في أيّ لحظة.
3- الانتشار: فالإسلام عقيدة حيّة نامية فيها قابليّة التوسّع وتحمل في ذاتها عوامل التمدّد والانتشار، لأنّه دين الفطرة والجِبِلّة، ترتاح له نفوس الشّعوب وتُقبِلُ عليه ]فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيۡهَاۚ [ ولأنّه يخاطب البشريّة جمعاء ]وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِين[ ويزرع في أتباعه عقليّة الانتشار والتوسّع ويجعل منها عبادة، فيوجب عليهم تبليغ الدّعوة بالقول والفعل والقتال والفتوحات ]وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِۖ [ممّا أثار فزع الكافر المستعمر وهلعه، لا سيما وهو ينتشر بين ظهرانيه…
4- القدرة على صهر الشّعوب: العقيدة الإسلاميّة بوتقة تصهر الشّعوب والأجناس وتوحّد بينهم على قدم المساواة عبر رابطة الأُخوّة الإسلاميّة التي تجعل منهم كالجسد الواحد وكالبُنيان المرصوص ] لَوۡ أَنفَقۡتَ مَا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا مَّآ أَلَّفۡتَ بَيۡنَ قُلُوبِهِمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيۡنَهُمۡۚ[، وهذا مخالف للقاعدة الاستعماريّة الذّهبيّة (فرّق تَسُد). فوحدة الشّعوب وتَكَتُّلُها في أخطر وأهمّ وأغنى منطقة في العالم من حيث الموقع الاستراتيجي والثّروات يمثّل تهديدًا مباشرًا للمصالح الأميركية.
هذا هو جماع المخاوف الأميركية والغربيّة عمومًا من الإسلام، وعلى ضوئها انخرطت الماكنة السّياسيّة الأميركية في تشذيب العقيدة الإسلاميّة وإصلاح الإسلام وصياغة مواصفات الإسلام الأميركي؛ فشنّت حربًا على الشّريعة للتشكيك في كمالها وتشويهها في أذهان المسلمين، واتّخذت من تفصيلاتها الجزئيّة البسيطة مادّةً للاستهزاء والسّخرية عَسَاهَا تُكرّس مناطق الفراغ الكفيلة بتسلُّل الثّقافة الغربيّة… وشنّت حرْبًا عسكريّة ميدانيّة وأخرى إعلاميّة فكريّة على الجهاد وحركاته أثخنت فيهم، ووصفتهم بمصطلحات مُنفّرة تقف حاجزًا بينهم وبين المسلمين (همجيّة – بربريّة – وحشيّة – أصوليّة – تطرّف – دعوة للعنف – تكريس للكراهية…) ووسّعت من مفهوم (الإرهاب) ليشمل كلّ مسلم يقف حائلًا دون تحقيق مصالحها ومطامعها… كما سعت إلى تجريد الإسلام من أحد أهمّ عوامل قوّته (الدّعوة وقوّة الحجّة) عبر عقد مؤتمرات (حوار الحضارات والأديان وأبناء إبراهيم) التي تؤسّس للبحث عن المشترَكات بدل الحقائق، وتكرّس حوار المجاملات المتبادلة بدل مقارعة الحجّة بالحجّة؛ وبذلك تضرب فكرة الدّعوة إلى الإسلام، وتفرض فكرة التّعايش المشترك، وتحصر انتشار الإسلام في سياقات سهلة الاحتواء (صوفيّة – سلفيّة علميّة – تبليغ – هرطقات…) وعملت في الأثناء جاهدةً على تكريس تقسيم العالم الإسلامي عبر زرع الألغام الحدوديّة بين الكيانات، وتغذية بذور الفرقة والاختلاف لتأييد التشتّت والضّعف، ووظّفت مفهوم (الأقليّات) العرقيّة والإثنيّة لمزيد تقسيم المقسّم وتفتيت المفتّت… إن أميركا تعلم جيّدًا أنّ محو الإسلام تمامًا من كيان الشّعوب وإخراجهم منه بالكليّة مطمح بعيد المنال؛ لذلك لجأت إلى محاولة احتوائه وإفراغه من مبادئه التي تهدّد مصالحها عبر قصقصَة أجنحته ونزع مخالبه وتقليم أظافره وجعله مُخفّفًا منزوع الدّسم ليتحوّل إلى جثّة هامدة وجسد بلا روح… وليتيسّر لها ذلك، لا مفرّ من توظيف أطراف منتسبة إلى الإسلام والمسلمين تدعمهم إمّا مباشرةً أو عبر الأنظمة التّابعة؛ ليتولّوا عمليّة التّوجيه الفكري للأمّة، وتركيز الحضارة الغربيّة والعقيدة الرّأسماليّة في أذهان المسلمين باسم الاعتدال والوسطيّة واليسر والاجتهاد والمقاصد والتّجديد والتّطوّر والحداثة… مع محاربة الإسلام من الدّاخل بمعاول الهدم الكامنة فيه والمتمثّلة خاصّةً في الهرطقات والمذاهب المنحرفة (نصيريّة – يزيديّة – إباضيّة – صفويّة – بهائيّة – قاديانيّة – أحمديّة…) وإذكاء الفتن المذهبيّة والطّائفيّة والعرقيّة. وكلّ هذا الخضم هو من قبيل الفوضى الخلاّقة التي تفرز عبر آليّة العرض والطّلب الإسلام المنشود بمواصفاته الأميركية: يدعم العمل الدّيمقراطي، وينبذ العنف، ولا يُضمرُ العداء للغرب، ويتشكّل وفق أهواء ومصالح العمّ سام.
مراكز البحث
إنّ خطورة مشروع الإسلام الأميركي وفعاليّتهُ ونجاعتُه وتداعياته الكارثيّة على الأمّة الإسلاميّة تكمن في كونه ثمرة دراسة واقعيّة ميدانيّة تمتاز بالعمق السّياسي وبعد النّظر الاستراتيجي، أجريت من طرف مراكز البحث والفكر والمنظّمات البحثيّة، على يد كبار المفكّرين والخبراء والباحثين على غرار برنارد لويس صاحب أطروحة الشّرق الأوسط الكبير، وميلتون فريدمان الملقّب بكارل ماركس الرّأسماليّة وصاحب النّظريّات الاقتصاديّة المتطرّفة، وفرانسيس فوكوياما صاحب أطروحة نهاية التّاريخ، وصامويل هنتنجتون صاحب أطروحة صراع الحضارات، وهي كلّها أطروحات تبنّتها الإدارة الأميركية… فقد أصبحت مراكز البحث هذه جزءًا لا يتجزّأ من السّياسة الأميركية، وأضحى خبراؤها وباحثوها يلعبون دورًا خطيرًا في توجيه السّياسات وتشكيل الرّأي العامّ وتكوين أفكار القادة والرّؤساء بصفتهم مستشاريهم… أخطر هذه المؤسّسات البحثيّة على الإطلاق هو (مركز راند) وهو أبرز مركز أبحاث في العالم، وقد أُسِّسَ تحت إشراف البنتاغون. وتكمن خطورته في قربه من مراكز اتّخاذ القرار في الإدارة الأميركية وشدّة تأثيرهِ فيها: فتقاريره هي التي تشكّل ملامح استراتيجيّة الأمن القومي الأميركي وتصوغ النّظرة الأميركية للإسلام والمسلمين والسياسة العمليّة تجاه منطقة الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا… هذه المراكز اتّخذت من الإسلام بكلّ أفكاره وتيّاراته وجماعاته مادّة بحثٍ رئيسيّةً، وتناولت صورة الإسلام الذي يمكن اعتباره معتدلًا، وسُبُل توجيه المسلمين نحوهُ… ودعت إلى فهم طبيعة الإسلام وتصنيف المسلمين إلى متشدّدين ومعتدلين، وحثّت على دعم توجّهات محدّدة داخل الطّيف الإسلامي (إسلام مدني ديمقراطي طُرُقي…) وبناء شبكات التيّار العلماني واللّيبرالي لمواجهة الأفكار الإسلاميّة المتشدّدة… كما نوّهت بأهمّية جعل تركيا نموذجًا يُحتذى به للتّغيير في باقي دول الشّرق الأوسط إن هي استمرّت على نفس الخطّ المعتدل… وغير خافٍ على المتابعين أنّ هذه (التّوصيات) قد التزمت بها الإدارة الأميركية بصفتها مشاريع حكومة، وهي تسير فيها هذه الأيّام بحذافيرها… أمّا آخر هذه التّقارير فيتمثّل في الوثيقة المسرّبة سنة 2018م، عن مركز بحث في وزارة الخارجيّة الأميركية، والتي تنصّ صراحةً على الدّفع باتّجاه (الإصلاح الإسلامي) وتدعو إلى إيجاد (شخصيّة مارتن لوثر مسلم لتحديث الإسلام) على أن يستهدف هذا الإصلاح بالأساس (جماعتين مهمّتين هما: المرأة والشّباب؛ لإيصال رسائل إلى الإسلاميّين بأنّ الولايات المتّحدة تسعى إلى نشر الأخلاق الأميركية ورؤيتها الليّبراليّة)…
الحكومات الملتحية
لقد اشتركت تقارير هذه المراكز منذ تسعينات القرن المنصرم في نبوءة مبكّرة ما فتئت تؤكّد عليها وتغذّيها، مفادها أنّ جماعات الإسلام السّياسي سوف يواجهون فشَلًا ذريعًا وسقوطًا مدوّيًا بمجرّد وصولهم إلى السّلطة، وسيصبح من السّهل تشويهُهم وعزلهم عن الجماهير، ولن يعودوا بعدها مطلَبًا جماهيريًّا كما كانوا… فتلك الجماعات لا تملك مشاريع سياسيّة بل مجرّد شعاراتٍ جوفاء، فإذا أُوصلوا إلى السّلطة فسيذوبون فيها ويستسلمون لها ويتخلّون عن شعاراتهم الإسلاميّة، أو سيفشلون ويتّضح أنّهم لا يمتلكون أيّة رؤية لتحقيق نهضة ما، ولا بديلًا للتنفيذ على أرض الواقع، وسَيُنسَبُ فشلُهم إلى الإسلام كَكُلّ… من ناحية أخرى فإنّ وصول الإسلاميّين المعتدلين المتصالحين مع قيم العلمانيّة من شأنه إقصاء أصوات الرّاديكاليّين المتشدّدين والجهاديّين بحكم وجود منفذ سهل ومُغرٍ وقانوني للتّغيير؛ وبذلك تُمتصُّ العواطف الدّينيّة عند الشّباب ويقع احتواؤها فلا تخرج عن السّيطرة… وقد عبّر رجل المخابرات الأميركية جرهام فولّلر عن هذه الفكرة في كتابه «مستقبل الإسلام الأميركي 2003» بقوله: «لا شيء يمكن أن يُظهِر الأسْلَمَةَ في صورةٍ غير جذّابة أكثر من تجربة فاشلة في السّلطة»، وأضاف «إنّ مسألة حبّ الشّعوب لأميركا قضيّةٌ فرعيّة، أمّا الأهمّ فهو كره الشّعوب للأفكار التي تخافها أميركا» في إشارة إلى تشويه الإسلام بإفشاله في تجربة الحكم… على هذا الأساس ومنذ سنة 2003م، تواترت التّقارير والتّوصيات للإدارة الأميركية بضرورة دعم العمليّة الدّيمقراطيّة، واستدراج تيّار الإسلام السّياسي إلى السّلطة بما يساعد على احتواء التطرّف، وتلطيخ سمعة تلك الجماعات بمشاريع العمالة، وجعلهم يتنازلون عن الكثير من أفكارهم، ثمّ إفشالهم وتعميم الفشل على الإسلام السّياسي كَكُلّ… ومنذ سنة 2006م، بدأت هذه التّوصيات تجد طريقها للتّجربة والتّطبيق الميداني مع الإخوان في مصر الذين حازوا على 88 مقعدًا في مجلس الشّعب، وفي الفترة نفسها وصلت حماس إلى السّلطة بضوء أخضر من أميركا وكيان يهود. ثمّ أصبحت الخطّة قيد التّنفيذ بعد ثورات الرّبيع العربي مع الحكومات الملتحية، حيث أُوصِل التيّار الإسلامي إلى السّلطة في تونس ومصر لاحتوائه واستخدامه في امتصاص النّفس الثّوري وتمرير المشاريع الاستعماريّة قبل أن يقع إفشالهم والانقلاب عليهم أو إذابتهم في نسيج الدّولة العلمانيّة الحديثة… لقد تعاملت أميركا مع الحركات الإسلاميّة بمنتهى الميكيافليّة والبراغماتية بحيث تستعمل المتطرّفين لتحقيق أغراضها السّياسيّة، ثمّ تستعمل المعتدلين لتحجيم نفوذ المتطرّفين، وإذا انتهى تقاطع المصالح معهم توكل بالجميع، العلمانيّين والحكومات، لمحاربتهم واستئصالهم، والقاعدة المشهورة في ذلك ذكرها مركز مكافحة الإرهاب في تقريره لسنة 2004م، تحت عنوان (سرقة دفتر خطط القاعدة) بقوله: «يجب أن تعلم الإدارة الأميركية أنّ أصدقاء اليوم هم أعداء الغد… فليس هناك أصدقاء دائمون أو أعداء دائمون، هناك فقط مصالح دائمة».
الإسلام الفرنسي
المشروع الثاني والمنسوب إلى فرنسا هو مشروع فكري نظري أكثر منه سياسي عمَلي، أمّا ثماره فليست آنيّة بل هي بعيدة المدى، فهو مشروع تأسيسي يستهدف الإسلام قبل المسلمين عبر وضع اليد على نصوصه ومصادره وآليّات فهْمِهِ واستنباط أحكامه؛ لِمَسخِه وتحريفِه وقولبته ونسخ تشاريعه وتطويعها لخدمة أغراض الكافر المستعمر الدّنيئة ومشاريعه المسمومة في تمييع المسلمين وتكريس انحطاطهم وتبعيّتهم واستبعاد نهضتهم، وهو بذلك يكون قد أسّسَ لتقاليد جديدة وخطِرة في التّعامل مع النّصوص الشّرعيّة – حدًّا وفهمًا واجتهادًا واستنباطًا وتفسيرًا وتأويلًا – تقطع كُليًّا مع المنظومة الفقهيّة الاجتهاديّة الإسلاميّة، استنطقت تلك النّصوص بما يتناقض كليًّا مع الشّرع الحنيف، ورامت بكلّ وقاحة وصفاقة إلى سحب – لا البساط فحسب – بل الإسلام برُمّته من بين أيدي المسلمين… وقد تولّت رسم ملامح هذا الإسلام المختلَق والمــُدَّعى والمتوهَّم المدرسةُ اليعقوبيّة اليساريّة الفرنسيّة التي تنكر الدّين وتفصله عن الحياة، وتُقصيه بالكليّة عن أنظمة المجتمع، وتقصُرُه على الطّقوس التعبّدية، وتزجّ به في غياهب المعابد والمقابر… ومن أبرز أعلام ومنظّري هذه المدرسة – المتطرّفة حتّى بالمفاهيم العلمانيّة – نذكر المستشرق الفرنسي ذا الأصول اليهوديّة مكسيم رودنسن وتلامذته من أمثال أوريانا فاوتشي وبرنار لويس وأندريه قلوكسمان وبرنار هنري ليفي وروبار مينار والطّاهر بن جلّون، هذه الجوقة الصّهيونيّة المكشوفة التي احترفت الطّعن في الإسلام والتّشكيك في ثوابته، وأوقفت عليه نفسها وتكوينها وإنتاجها الفكري، واتّخذت من ذلك هدفًا وعقيدةً ومنهج حياة، هالها في العقيدة الإسلاميّة أمران: أوّلًا وحدة الإسلام والنّاحية الأمميّة فيه، وثانيًا وضوح الإسلام ومصداقيّة النّاحية التّشريعيّة فيه… فخطاب الشّارع موجّه للبشريّة جمعاء على قدم المساواة، والشّريعة تعالج مشاكل جنس الإنسان بما يوافق الفطرة ويقنع العقل ويملأ القلب طمأنينةً، والنّصوص الشّرعية بيّنة بليغة فصيحة مُزوّدة بآليّات عمليّة مضبوطة دقيقة لفهمها وتفعيلها واستنباط أحكامها، ممّا جعل من العقيدة الإسلامية بمثابة الإسمنت المسلّح الذي شدّ وما زال لبِنات العالم الإسلامي، والبوتقة التي انصهرت فيها تلك الفسيفساء من الأعراق والإثنيّات واللّغات… وأمام استحالة انتزاع تلك العقيدة الفطريّة الجبليّة من قلوب المسلمين، فلا أقلّ من تحويلها من عامل قوّة وتوحيد ونهضة ورقيّ إلى عامل ضعف وتفرقة وتفكُّك وانحطاط وتخلّف، وذلك بفرقعتها من الدّاخل إلى إسلامات (إقليميّة – وطنيّة – عرقيّة – مذهبيّة – طُرُقيّة…) متباينة، عقيدةً وشريعةً وطقوسًا ومقدّسات ومواصفات، متناحرة متقاتلة فيما بينها، وهو مطلب عسير المنال ما دام القرآن (النصّ المرجعي المؤسّس للدّيانة) موحّدًا واضحًا بيّنًا في أذهان المسلمين مفعّلًا منزّلًا على الوقائع الجارية… فلا مفرّ إذًا من المبادرة بضرب وحدته ووضوحه وتكريس عقمه التّشريعي وضبابيّة أحكامه وميوعتها بما يُفضي إلى خلق تعدّدية مرجعيّة تؤدّي بدورها إلى شكل من التعدّدية الدّينيّة ثمّ السياسيّة من خلال اعتماد قرآن وإسلام وشريعة وأحكام خاصّة بكلّ وطن وشعب وعرق ومذهب… وقد عبّر الرّئيس الفرنسي السّابق ساركوزي عن هذا المنزع في (التعدّدية الإسلاميّة) بقوله: (نحن ضدّ إسلام في فرنسا، مع إسلام فرنسي). [يتبع]