بشر هذه الأمة بالرفعة، والسنا، والتمكين في الأرض
2019/05/19م
المقالات
6,624 زيارة
بشر هذه الأمة بالرفعة، والسنا، والتمكين في الأرض
حمد طبيب – بيت المقدس
ينظر البعض من أبناء المسلمين هذه الأيام في أحوال المسلمين، وما وصلوا إليه من تأخر وضعف وذل وهوان، وما وصل إليه حكامهم من تبعية وعمالة، وجريٍ وراء الدول الكافرة جري العبيد الأذلاء… وينظرون في المقابل إلى دول الكفر، وقوتها وسطوتها، وجبروتها وتقدمها العلمي في كل المجالات… فيصيبهم اليأس والقنوط. اليأس من تغيّر الحال نحو الرفعة والسموّ، ومن التحرر والانعتاق من ربقة العبودية للدول الكافرة، واليأس من الوحدة، وعودة الأمة المسلمة دولة واحدة؛ كما كانت في ظل حاكم واحد، ورايةٍ واحدة، وجيشٍ واحد…
إن هذا الصنف من المسلمين المهزومين داخليًا، المضبوعين بهالة الكفر وجبروته، اليائسين من حالة الأمة وما وصلت إليه… هذا الصنف، لم ينظر إلى الحقيقة من جميع جوانبها، ولم يعرف حجم الحرب التي أُعلنت على أمة الإسلام منذ مائتي عام وحتى اليوم، ولم يدرك أن هذه الحرب، بكافة أشكالها الفكرية والمعنوية والنفسية، والعسكرية والتضليلية، وفي كل المجالات، لم تستطع أن تطمس فكر هذه الأمة (عقيدتها وشريعتها)، ولم تستطع أن تبعد الأمة عنها رغم قسوة الحرب وشدّتها وضراوتها… ولم يدرك كذلك أن أمة أخرى لو مورس عليها معشار ما مورس على أمة الإسلام من ألوان الحرب لزالت عن الوجود كأمة، ولزال فكرها، ولأصبحت أثرًا بعدة عين!!
فما هي مقومات الرفعة والشموخ والصمود والثبات لهذه الأمة العظيمة الكريمة؟ وكيف وقفت أمام كل هذه العواصف العاتية والتحديات؟ وهل ستعود هذه الأمة مرة أخرى كما كانت (خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ) تتبوأ مقعد الصدارة والريادة والقيادة في الأرض، تحمل رايتها عالية خفاقة كما كانت تحملها، وتنشر دينها وفكرها بين الشعوب كما كانت تصنع من قبل؟ هل ستعود هذه الأمة العظيمة السامية مرة أخرى، في ظل خلافة راشدة على منهاج النبوة، وفي ظلّ حكام أتقياء، وعلماء أجلاّء يخافون الله عز وجلّ، ولا يخشون فيه لومه لائم؟؟.
وللإجابة عن هذه الأسئلة؛ سنقف عند بعض الحقائق المتعلقة بهذه الأمة، وفكرها وتاريخها وواقعها، وواقع الكفر ومبادئه ودوله؛ لنصل إلى الحقيقة الساطعة، وهي أن بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفعة والسنا والتمكين عائدة لا محالة، وأن الكفر ودوله ومبادئه إلى زوال واندثار وانهدام.
الحقيقة الأولى: تميُّز هذه الأمة عن غيرها من أمم وشعوب في فكرها، وحفظ الله تعالى لها.
الحقيقة الثانية: تميز هذه الأمة بنهوضها من كبواتها؛ عبر تاريخها الطويل.
الحقيقة الثالثة: ارتقاء الأمة اليوم وصمودها والتفافها حول المخلصين من أبنائها، رغم شدة الحرب وقسوتها.
الحقيقة الرابعة: واقع الكفر، وواقع دوله ومبادئه، وما وصل إليه من انحدار، وواقع نظرة الشعوب في الأرض إلى مخلّصٍ لها من الشقاء والانحدار، والتردي والانحطاط الحيواني.
أما ما يتعلق (بالحقيقة الأولى)؛ وهي تميز هذه الأمة عن غيرها، فإن هذه الأمة هي صاحبة رسالة سماوية سامية صحيحة تتصل بخالق الكون، وقد تكفَّل الله عز وجل بحفظ الأمة ودينها من الاندثار والزوال، قال تعالى بشأن دينها ورسالتها: (إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ)، وقال سبحانه: (يُرِيدُونَ أَن يُطۡفُِٔواْ نُورَ ٱللَّهِ ِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَيَأۡبَى ٱللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُۥ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَٰفِرُونَ)، وقال عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ؛ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا، وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي؛ أَنْ لَا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ، وَإِنَّ رَبِّي قَالَ يَا مُحَمَّدُ: إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ، وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ؛ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ، وَلَوْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا أَوْ قَالَ مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا؛ حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا، وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعضا» رواه الإمام مسلم.
وهذا بعكس اليهود والنصارى حيث أضاعوا دينهم، واختلفوا وتفرقوا وكانوا شيعًا وفرقًا متعددة؛ تختلف في صلب عقيدتها؛ كاختلافها في حقيقة المسيح عليه السلام، وكاختلافها في الربوبية، وحقيقة الخالق جل جلاله، قال تعالى: (إِنّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمۡ وَكَانُواْ شِيَعٗالّ َسۡتَ مِنۡهُمۡ فِي شَيۡءٍۚ إِنَّمَآ أَمۡرُهُمۡ إِلَى ٱللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ١٥٩)، وقال سبحانه: (وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ عُزَيۡرٌ ٱبۡنُ ٱللَّهِ
وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَى ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ ٱللَّهِۖ ذَٰلِكَ قَوۡلُهُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡۖ يُضَٰهُِٔونَ قَوۡلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبۡلُۚ
قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُون ٣٠ ٱتَّخَذُوٓاْ أَحۡبَارَهُمۡ وَرُهۡبَٰنَهُمۡ أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَٱلۡمَسِيحَ ٱبۡنَ مَرۡيَمَ وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعۡبُدُوٓاْ إِلَٰهٗا وَٰحِدٗاۖ لَّآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ سُبۡحَٰنَهُۥ عَمَّا يُشۡرِكُونَ ٣١).
إنه برغم كل ما لاقته هذه الأمة، عبر أربعة عشر قرنًا من الزمان، بقيت محافظة على دينها بحفظ الله عز وجل، وبقيت أمةً واحدةً لم تتفرّق كما حصل مع غيرها. فرغم الحروب الصليبية المتكررة وحروب الاستعمار، وحروب التبشير الفكرية… لم تترك هذه الأمة دينها، وبقيت تتمسك به، وظلت عقيدتها نقية صافية، علمًا أن هناك حضارات كثيرة، على وجه الأرض، أصابها أقل مما أصاب أمة الإسلام، وزالت عن الوجود نهائيًا، وأصبحت أثرًا بعد عين؛ مثل الفراعنة والرومان واليونان وغيرهم… وهذا كله بفضل من الله تعالى ورعايته.
وأما (الحقيقة الثانية)؛ (وهي مدار حديثنا في هذا الموضوع): فهي نهوض هذه الأمة أكثر من مرة من كبواتها عبر تاريخها الطويل؛ وذلك بفضل الله تعالى أولًا، ثم بفضل القادة العظام، والعلماء الأجلّاء الأتقياء؛ الملازمين لهؤلاء القادة، ومواقفهم النبيلة، وهممهم العالية في تحريك الأمة ضد الكفر والكافرين، وفي دفع الأمة للالتفاف حول القادة المخلصين الأفذاذ من أبنائها. وسنتحدث عن ثلاث مراحل من تاريخ المسلمين، انتكست فيها الأمة انتكاسة شديدة لدرجة أنها غُزيت في عقر دارها من الكافرين، وأذاقوها ألوان العذاب والقتل والتشريد والاستعباد؛ حتى مَنَّ الله عز وجل عليها بقادة عظام، وعلماء أفذاذ أنقذوها من هذا الواقع البئيس… وهنا سنتحدث عن (مرحلة الغزو الصليبي) في ظل الخلافة العباسية، وما اعتراها من تعدد الممالك، والتحالفات والخيانات من بعض الممالك مع الصليبيين، ومرحلة (الغزو التتاري المغولي)، وما سبقه من وهن وتشرذم وخيانات الحكام، وعن مرحلة الغزو الصليبي فيما يسمى بـ (حروب الاسترداد في بلاد الأندلس) في ظل ممالك الطوائف، وما واكبها من فرقة وتمزق وتناحر، في الشمال الأفريقي (بوابة الفتح للأندلس)، وداخل بلاد الأندلس نفسها، من مؤامرات وتحالفات مع الصليبيين ضد إخوانهم من ملوك الطوائف.
والحقيقة أن المراحل الثلاث؛ تشترك في الحالة نفسها التي سبقت الغزو الخارجي الكافر، مع اختلاف بسيط في الأماكن والأشخاص والقوى الخارجية الغازية؛ حيث ساد، في المراحل الثلاث، الاقتتال والتمزق والفرقة والتنافس على حطام الدنيا وبهارجها وزينتها، ومخالفة بعض الحكام لأحكام الله عز وجل في اختيار الحاكم، وولاية العهد للأقارب والأبناء، وفي تعدد الحكام، وفي ترك فريضة الجهاد في سبيل الله عز وجل، وترك العدل بين الناس، وإثقالهم بالضرائب والإتاوات لمصالح خاصة، أو لدفعها كجزية للنصارى الصليبيين، وانتشر الزنا والخمور والفجور والغواني والجواري في بلاد الأندلس والشمال الأفريقي، كما انتشر اللهو وحب الدنيا في قصور بني العباس في بغداد… وزاد على هذا وذاك ما حصل من بعض الممالك، وخاصة الفاطميين في الشام ومصر وشمال أفريقيا، من تحالفات مع الصليبيين والمغول؛ ضد أبناء دينهم وجلدتهم… لقد بلغ الضعف والهوان مبلغًا عظيمًا، وانشغل المسلمون في جسم الدولة بالحروب الداخلية والنزاعات المتتالية والانقسامات عن جسم الدولة الأم (الخلافة) ما أطمع الصليبيين والمغول على التوالي بحاضرة الإسلام وعرينها.
ذكر (الحافظ ابن كثير)؛ في البداية والنهاية في وصف الحالة الإسلامية التي سبقت الغزو الصليبي والمغولي، قال: «… لم تكن أيدي بني العباس حاكمة على جميع البلاد؛ كما كان بنو أمية؛ فإنه خرجت عن بني العباس بلاد المغرب، وكذلك أُخذت من أيديهم بلاد خراسان، وما وراء النهر، وتداولتها الملوك دولًا بعد دول؛ حتى لم يبقَ مع الخليفة إلا بغداد، وبعض بلاد العراق؛ وذلك لضعف خلافتهم وانشغالهم بالشهوات والملذات وجمع الأموال من أيدي الناس في أكثر الأوقات…». ولم يقف الأمر عند حد الضعف والهوان؛ بل إن بعض الممالك الإسلامية – مثل الدولة الفاطمية، قد تحالف وتعاون مع عبَّاد الصليب، كما ذكرنا، ضد المسلمين، وأخذ يحارب بني دينه وجلدته؛ من جند الخلافة.
ويقول الدكتور راغب السرجاني في كتاب «قصة التتار» في وصف الحالة التي وصلت إليها بلاد المسلمين قبل الغزو التتاري: «…إن التتار كانوا يدخلون المدينة؛ يقتلون كل من فيها بدون أي مقاومة، ووصل الهوان أن المسلمين عاونوا التتار على إخوانهم خوفًا منهم، فكان ملخص الوضع في ذلك الوقت انقسامًا شديدًا بين حكام المسلمين، وشعبًا وصل لقمة الضعف والخوار، فحصل اكتساحٌ للتتار لكل أرض المسلمين، دون مقاومة تذكر…».
ويقول الدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور في كتاب «الحركة الصليبية» عن خيانة بعض الممالك مثل الفاطميين، وتآمرهم على الخلافة، وعلى الممالك الإسلامية الأخرى مع الصليبيين: «… لقد أرسل حاكم مصر الفاطمي سفارة (سفراء) إلى الصليبيين، وهم يحاصرون أنطاكيا، يعرض عليهم عقد تحالف بينهما، وكان ذلك في ربيع الأول/شباط من عام 491هـ/1098م، بأن يتم التعاون بينهما للقضاء على السلاجقة، على أن يتم تقسيم الغنيمة بعد ذلك بينهما؛ بحيث يكون القسم الشمالي (سوريا) من الشام للصليبيين؛ في حين يحتفظ الفاطميون بالقسم الجنوبي (فلسطين)».
ويقول الدكتور سفر الحوالي تحت عنوان: «عوامل نجاح الحروب الصليبية»: (لقد أصبحت دولة السلاجقة ممالك موزعة ممزقة، وكل أمير فيها يحسد أخاه، والإخوة أبناء السلطان الواحد يتقاتلون على الملك؛ حتى بلغ الحال أن أي مدينة من المدن – ولا سيما المدن الكبرى في بلاد الشام أو العراق – أصبحت دولة أو سلطنة: فـحلب دولة، ودمشق دولة، والموصل دولة، وطرابلس دولة… وهكذا أصبحت كل منطقة أو مدينة دولة، مع أن بعض السلاطين كانوا أبناء رجل واحد… وكان هؤلاء السلاطين على تحاسد وتباغض وشحناء، وعلى انغماس في الشهوات والملذات، وكانت آثار ذلك كله واضحة عندما قدم الصليبيون).
لقد تهاون غالبية المسلمين في أمر الجهاد في سبيل الله، وركنوا إلى الدنيا، وسكتوا على ظلم الحكام وفرقتهم زمنًا طويلًا؛ فأصابهم ما أصابهم مما ذكرنا، وصدق في المسلمين وأحوالهم قول الحق تبارك وتعالى: ( يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَا لَكُمۡ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلۡتُمۡ إِلَى ٱلۡأَرۡضِۚ أَرَضِيتُم بِٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا مِنَ ٱلۡأٓخِرَةِۚ فَمَا مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ٣٨ إِلَّا تَنفِرُواْ يُعَذِّبۡكُمۡ عَذَابًا أَلِيمٗا وَيَسۡتَبۡدِلۡ قَوۡمًا غَيۡرَكُمۡ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيۡٔٗاۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ ٣٩ )، وصدق فيهم كذلك حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ» رواه الإمام أحمد في مسنده.
لهذه الأسباب وغيرها طمع الكفار الصليبيون في بلاد المسلمين، فحصلت الحملات الصليبية واحدة تلو الأخرى؛ وذاقت الأمة مرارة الهزيمة والقتل والتشريد والأسر، واستبيحت مقدساتها، خاصة في بيت المقدس ومدينة القدس، فبقي الأقصى تحت سطوة الصليبيين وتدنيسهم واحدًا وتسعين عامًا، لم تقم فيه صلاة ولم يرفع فيه أذان، واستخدمه عباد الصليب اصطبلًا لخيولهم الغازية. وتبع حملات الصليب بعد فترة من الزمن حملات المغول التي دمرت وخربت معظم حواضر المسلمين؛ ابتداء من بلاد ما وراء النهر وخراسان، مرورًا ببغداد وحلب، وانتهاء ببيت المقدس… وواكب هذا وذاك حروب الصليبيين في الأندلس؛ فيما سمي بحروب الاسترداد؛ حيث أخذت حملات الاسترداد تنزع المدن والحواضر في الأندلس؛ واحدة بعد الأخرى؛ في قرطبة وإشبيلية وبلنسيا وطليطلة، وانتهاء بغرناطة.
فهل بقيت الأمة على حالها وصمتها وذلها وانكسارها ورضاها بالهزيمة؟ وماذا فعل العلماء الأبرار؛ خلال هذه الفترة العصيبة؟ وماذا كان دور المخلصين من قادة هذه الأمة في إعادة الأمة إلى جادة الحق والصواب، وتوحيدها في وجه الغزاة المعتدين، وإعادة العزة والمهابة والقوة إلى أمة الإسلام، وتحرير ما سلب من أرضها وديارها؟؟
إن أمة الإسلام هي كالغيث لا يُدرى أوله خيرٌ أم آخره؛ كما وصفها رسولها الأكرم صلى الله عليه وسلم فقال في الحديث: «مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ، لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَوْ آخِرُهُ» رواه الإمام الترمذي، وهي أمة الخير والعطاء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ حيث قال الحق تعالى في وصفها: (كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِوَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ وَلَوۡ ءَامَنَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۚ مِّنۡهُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَأَكۡثَرُهُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ١١٠)… فإذا ما كبت مرة؛ فسرعان ما تعود إلى أصالتها ومعدنها الأصيل. وإذا ما هُزمت في موقعة لملمت جراحها، ووقفت ثانية تُنازل عدوها فتنتصر عليه…
وفعلًا هذا ما حصل بعد كل مرحلة كانت تنتكس فيها الأمة، وقد كان الفضل للمخلصين من القادة الأبرار، والعلماء الأتقياء… فقد تضافرت جهود العلماء الأتقياء الأجلاء، والقادة الأبرار العظام؛ في نهضة الأمة من كبوتها؛ عبر التاريخ في كل مرة… وقد تركّز دور العلماء – خاصة – على أمور عدة منها:
1- تقدم صفوف الأمة الإسلامية لإحياء فريضة الجهاد.
2- النصح للحكام، ومحاسبتهم على تقصيرهم، وحثهم واستنهاض هممهم نحو الجهاد.
3- إثارة النخوة في صفوف الأمة عبر الخطب والحركة الاستنهاضية، وإثارة النخوة والحماس الديني.
4- كشف المؤامرات والخيانات التي كانت تحصل من بعض ملوك الطوائف أو الإمارات المشرذمة، في عهد الصليبيين والمغول…
فقد ذكر المؤرخون المواقف المشرفة لعلماء المسلمين في تقدم صفوف الأمة الإسلامية، في ساحات الجهاد ضد الصليبيين والمغول على السواء؛ أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية، وسلطان العلماء العز بن عبد السلام، والعلماء الأجلاء أمثال ابن قدامة المقدسي، وأبو القاسم الأنصاري، وعز الدين الحنبلي، وابن الجوزي، وابن جعفر اليونيني، وابن شرف الحنبلي، وعبد الله بن ياسين… وغيرهم الكثير.
جاء في «كتاب الروضتين» لأبي شامة المقدسي، قال: «…خلال المرحلة الأيوبية، يمكن أن نلتمس ملامح الدور الجهادي للفقهاء والعلماء المشاركين في المقاومة الشعبية في تراجم أعلام الفقهاء والعلماء، مثل الفقيه عز الدين عبد الهادي بن شرف الإسلام الحنبلي؛ المتوفى سنة 586هـ، وأحمد بن محمد بن قدامة المقدسي 528هـ، والمتوفى سنة 607هـ، ودوره الجهادي في مقاومة الاحتلال الصليبي؛ في عهد صلاح الدين؛ بحيث كان مسارعًا إلى الخروج في الغزوات، وقلما يتخلف عن غزوة، وقدمت بعض المصادر بعض التفاصيل عن تلك الأنشطة الجهادية؛ حيث ذكرت أنه اشترك في المعارك التي سبقت دخول المسلمين للقدس، وكذلك معارك الساحل الشامي، والشيخ أبو محمد عبد الله بن عثمان بن جعفر اليونيني؛ المتوفى سنة 617هـ وقد قيل عنه إنه لم تفُتْه غزوة من الغزوات بين المسلمين والصليبيين إلا اشترك فيها…».
ذكر المؤرخ ابن الأثير؛ في كتاب «الكامل في التاريخ»؛ حول تصدي علماء المسلمين في عصر الحروب الصليبية لخيانات الحكام، وتحالفاتهم مع الصليبيين قال: «…لقد واصل الفقهاء ورجال الحركة الفكرية تزعمهم لردود الأفعال الشعبية ضد أيِّ تخاذلٍ أو تفريط يلمسونه من جانب زعمائهم السياسيين، مثل معاهدة السلام التي عقدها السلطان الأيوبي الكامل مع الإمبراطور فريدريك الثاني؛ في السابع والعشرين من جمادى الأولى عام 626هـ، والتي تقضي بتسليم القدس للصليبيين، واعتبروها كارثة حقيقية، وكان رد فعل العلماء عنيفًا ضد السلطان…».
ومن المواقف المشهورة للعلماء المجاهدين، والتي أثارت النخوة والحمية في نفوس المسلمين للجهاد ضد الغزاة، الخطبة المشهورة لابن الجوزي… وجاء فيها: «أيها الناس… ما لكم نسيتم دينكم، وتركتم عزتكم، وقعدتم عن نصر الله، فلم ينصركم، حسبتم أن العزة للمشرك، وقد جعل الله العزة لله ولرسوله وللمؤمنين. يا ويحكم! أما يؤلمكم ويشجي نفوسكم؛ مرأى عدو الله وعدوكم؛ يخطر على أرضكم التي سقاها بالدماء آباؤكم، يذلكم ويستعبدكم؛ وأنتم كنتم سادة الدنيا؟! أما يهز نفوسكم وينمي حماستكم مرأى إخوان لكم؛ قد أحاط بهم العدو، وسامهم ألوان الخسف؟!أفتأكلون وتشربون، وتتنعمون بلذائذ الحياة، وإخوانكم هناك يتسربلون اللهب، ويخوضون النار وينامون على الجمر…؟». أما المجاهد الكبير والعالم التقي عبد الله بن ياسين الذي كان له الفضل في توحيد بلاد المغرب في دولة المرابطين، والتي تولى إمارتها من بعده الأمير التقي الورع أبو بكر بن عمر، ثم القائد العظيم يوسف بن تاشفين، فإن هذه الدولة كان لها فضل كبير؛ في توحيد بلاد المغرب؛ تحت راية الإسلام؛ بعدما كانت على شاكلة بلاد المشرق ممزقة ومتفرقة، يقتل بعض الأمراء البعض الآخر… ثم انطلقت الفتوحات من دولة المرابطين ضد حروب الاسترداد في الأندلس؛ فهزمت الصليبيين شر هزيمة؛ في معركة الزلاقة المشهورة، وحافظت على الأندلس سنوات طويلة؛ من شرور حروب الاسترداد. يقول الدكتور زين العابدين كامل تحت عنوان: «تربية الأجيال وصناعة الأمم»: (عبد الله بن ياسين أنموذجًا): «…في صفحات التاريخ المشرقة، نلمح نموذجًا قاد حركة تغيير وإصلاح سجلها له التاريخ، هو عبد الله بن ياسين. ولد في بداية القرن الخامس، وتوفي في جمادى الأولى 451هـ، هو داعية ومجاهد ومُرَبٍّ وفقيه وقائد، من زعماء الإصلاح الإسلامي، جدد الإسلام بأفريقيا، وهو الذي وضع اللبنة الأولى؛ لدولة المرابطين في المغرب الأقصى، ويلقبه البعض بالزعيم الديني لدولة المرابطين، قال عنه الذهبي: «كان عالمــًا قوي النفس، ذا رأي وتدبير»…».
لقد كان لهذه الانطلاقة العلمية الجهادية العظيمة في بلاد المسلمين (في المشرق والمغرب) أثر عظيم في استنهاض همم الأمة الإسلامية؛ تحت شعار محاربة الكفر، والتصدي لهجمته الكافرة على حاضرة العالم الإسلامي ومقدساته، وتخليص المسلمين من الذل والهوان وتبعية الكفر، والعيش تحت سلطانه الذليل… وتقدم هؤلاء العلماء في مقدمة الصفوف في الحركة الجهادية، سواء ما كان منها مع جموع المسلمين، في التصدي للغزاة، أم في الحروب المنظمة تحت راية الأمراء… وكان لكل ذلك الأثر الكبير في انطلاق القادة المخلصين، والتفاف الأمة حولهم في الجهاد والاستشهاد، دفاعًا عن مقدرات الأمة وكرامتها ودينها… فكانت انطلاقة القائد العظيم نور الدين آل زنكي، وقائده صلاح الدين الأيوبي لتحرير الشام ومصر، وتوحيدها في كيان واحد، وتحت راية واحدة، هي راية الإسلام، ونبذ كل أسباب الفرقة التي كانت سببًا في اغتصاب بلاد المسلمين من الصليبيين، ثم هزموا عبَّاد الصليب في موقعة حطين الفاصلة، وواصلوا الفتح نحو القدس والمسجد الأقصى المبارك؛ في السابع والعشرين من رجب الفرد سنة 583هـ. وكانت انطلاقة المجاهد موسى بن نصير، وقائده طارق بن زياد؛ لتوحيد بلاد المغرب، وإخماد ثورات الانفصال عن جسم الدولة، ثم الانطلاق نحو الأندلس… وكانت انطلاقة السلطان العظيم الظاهر بيبرس، وقائده المظفر سيف الدين قطز؛ بالطريقة نفسها في عهد المغول؛ فحرّروا البلاد من رجس المغول، ووثنيتهم وشرورهم الطاغية الكبيرة، وكسروا شوكتهم في معركة عين جالوت الشهيرة، في الخامس والعشرين من رمضان سنة 658هـ، ووحدوا بلاد الإسلام في مصر والشام تحت راية واحدة… فدفع هذا إلى تحول كبير عند المغول؛ فاتبعوا الدين الإسلامي، ورجعوا إلى بلادهم مبشرين بالإسلام… والأمر نفسه حصل في بلاد المغرب والأندلس عندما حصل ما حصل من فرقة وتمزق وحروب بين الطوائف… فجاء العالم الجليل عبد الله بن ياسين؛ وعمل على توحيد بلاد المغرب، وأكمل المشوار القائد العظيم أبو بكر بن عمر، وقائده المظفر يوسف بن تاشفين، فأنقذ أولًا بلاد المغرب من الانهيار والفرقة والتطاحن، ووحدها تحت راية الإسلام، ثم انطلق بن تاشفين إلى الأندلس؛ فأنقذ البلاد والعباد من سطوة النصارى، واعتداءاتهم وإذلالهم لأهل الأندلس، ثم وحد بلاد الأندلس جميعًا مع بلاد المغرب في إمارة المرابطين، والتي بقيت شوكة في حلق النصارى سنوات طويلة وحامية لبلاد الإسلام في الأندلس والمغرب.
إن بلاد المسلمين هذه الأيام تعيش في الظروف نفسها التي عاشها المسلمون في تلك الحقب المظلمة من فرقة وتمزق وتناحر، وتحالف مع الكفار ضد بلاد المسلمين… ضاعت القدس والمسجد الأقصى بيد شر الخلق وأبغضهم إلى الله تعالى يهود… واستبيحت معظم بلاد المسلمين من قبل النصارى الصليبيين الأميركان والأوروبيين والروس… وفرضوا على حكام المسلمين الجزية والإتاوات تدفع بالمليارات في كل عام، وأسسوا القواعد العسكرية في أرض الإسلام يصولون فيها ويجولون، وفرَّقوا بلاد المسلمين إلى أكثر من خمسين مزقة، على كل مزقة منها (تابع ببغاء) يخدم مصالحها وينطق باسمها وينفذ مخططاتها، وتسلط المشركون على أبناء المسلمين في الصين، وفي بورما، وفي كشمير، وفي أفريقيا الوسطى؛ فبطشوا وفعلوا ما لم يفعله أصحاب الأخدود الذين ضرب الله بهم مثلًا في كتابه العزيز.
لقد بدأت الأمة اليوم تتحسس سبب تمزقها وترديها إلى أسفل، وساعد في ذلك ما حصل في السنوات الأخيرة من انكشاف أوراق الاستعمار السياسي، وعملائه في بلاد المسلمين، وخاصة بعد ضياع فلسطين وانفتاح حكام البلاد الإسلامية على الكفار، يهود ونصارى، في كل اتجاه، وخاصة ما جرى من معاهدات تآمرية مع يهود، مثل كامب ديفيد، وأوسلو، ووادي عربة وغيرها، وانفتاحهم كذلك في فتح بلادهم جوًا وبرًا وبحرًا لتستخدمها أميركا وحلف الناتو؛ في حربها على بلاد المسلمين؛ في العراق وأفغانستان والشام؛ فاهتدت الأمة بمجموعها أن سبب ترديها هو خيانة حكامها، وبعدها عن تحكيم مبدئها في حياتها، وجري البعض منها خلف سراب خادع، ووعود موهومة من الكفار المستعمرين… لقد أصبحت الأمة بمجموعها اليوم تنادي بتحكيم كتاب ربها عز وجل في حياتها حتى أصبح هذا الأمر رأيًا عامًا في كل بلاد المسلمين، ثم جاءت المرحلة الحالية بعد الثورات فازداد طلب الأمة لتحكيم دينها لدرجة أن معظم الثورات التي حصلت كان شعارها تحكيم كتاب الله عز وجل، وانعكس هذا الأمر في فوز الجماعات الإسلامية التي تحمل شعار الإسلام، ففازت بالأغلبية الكاسحة في كل البلاد التي حصلت فيها انتخابات.
إن المشكلة الكبيرة؛ التي تعاني منها الأمة الإسلامية اليوم في غالبيتها هي عدم الوعي وعيًا كافيًا على فكرها، وعدم وعيها على مخططات الكفار، وخاصة في موضوع التضليل ببعض من يتلبسون الإسلام من بعض الجماعات الإسلامية أو بعض الشخصيات التي تدعي الإسلام نظريًا؛ أمثال أردوغان والغنوشي والبشير، وحكام إيران وباكستان وأفغانستان… وهنا يكمن واجب العلماء المخلصين الواعين؛ تمامًا كما كان واجبهم في عهد الصليبيين والمغول وحروب الاسترداد… فإذا بقيت الأمة على هذه الشاكلة؛ فإنها تبقى في تضليل حتى وهي تريد الإسلام في غالبيتها؛ لأن القضية ليست الرأي العام فقط دون وعي، وفهم مخططات الكفار وعملائهم… بل القضية هي الرأي العام والوعي العام معًا؛ غير منفصلة الواحدة عن الأخرى.
وهنا نريد أن نقف عند الدور الريادي والقيادي الواعي في الأمة الذي قام وما زال يقوم به حزب التحرير؛ منذ سنوات طويلة. وقبل أن نذكر هذا الدور، نقول بأن الحزب قد قام على أساس الوحي؛ فنظر إلى الواقع بالطريقة نفسها التي نظر بها العلماء في عصور التردي والتمزق والضعف… ولم تكن طريقته ردة فعل مرتجلة، ولا استنباطًا من الواقع مباشرة دون الرجوع إلى الفكر، ولا أخذًا لطرق الغرب الديمقراطية، أو بالمشاركة والوسطية مع الأنظمة الإجرامية في العالم الإسلامي… لقد كان المؤسس الشيخ تقي الدين النبهاني رحمه الله؛ عالمــًا جليلًا من علماء الأمة؛ مشهودًا له بالعلم والورع والتقوى حتى من مخالفيه؛ عزّ عليه ما أصابها ويصيبها؛ فنظر وتدبر ودرس الواقع دراسة واعية مستنيرة متفحصة، من جميع الجوانب… فحدد المشكلة التي تعاني منها الأمة وطريقة الحل الشرعي الصحيح… لقد حدد الحزب للأمة مشكلتها الرئيسة التي نتجت عنها كل المشاكل الفرعية؛ فأرشد الأمة أن مشكلتها هي (غياب حكم الإسلام من حياتها)؛ أي غياب الراعي الذي يرعاها بالإسلام، وهي دولة الإسلام (الخلافة)… فربط الحزب كل مشاكل المسلمين بهذه المشكلة الرئيسة، سواء منها ما تعلق بالفقر ونهب الثروات، أو اغتصاب يهود لمقدساتها في الأرض المباركة فلسطين، أو تسلط الحكام على رقابها وإيداع أبنائها في السجون، أو استباحة الدول الكافرة على رأسها أميركا لبلادها، أو التنازع والاقتتال الداخلي بين دولها… أو غير ذلك من مشاكل فرعية… وبعد أن حدد الحزب المشكلة الأم، أرشد الأمة إلى طريقة حل هذه المشكلة؛ أرشدها إلى طريقة عودة حكم الإسلام وتخليص الأمة من المشكلة الأم، وكل المشاكل الفرعية التي نتجت عنها… فحدد الحزب الطريقة الشرعية لإعادة حكم الإسلام، وفي الوقت نفسه بيَّن للأمة أن كل الطرق الأخرى: من ديمقراطية، أو مشاركة الأحزاب العلمانية في البرلمانات، أو الاغتيالات السياسية، أو الدخول في صراعات مسلحة مع الجيوش… بيَّن الحزب أن كل هذه الطرق ما هي إلا تضييع للوقت والجهود؛ عدا عن مخالفتها للطريقة الشرعية الصحيحة، وعدا عن أن قسمًا من العاملين فيها إنما يقومون بترسيخ الاستعمار من حيث لا يشعرون، ويخدمون مخططات الدول الكافرة من حيث يدرون أو لا يدرون.
لقد بدأت الأمة تتلمس طريق الوعي، وتدرك شيئًا فشيئًا عمالة الأحزاب السياسية التي تدعي الحرص على الإسلام، وفي الوقت نفسه ترتبط بالاستعمار، بعد أن أدركت تمامًا عمالة الأحزاب العلمانية والقومية والوطنية، وبعد أن أدركت عمالة حكامها، وتكشفت جميع أوراقهم وستائرهم التي تستروا بها ردحًا من الزمن تحت شعارات كاذبة، كمحاربة الإمبريالية والصهيونية وتحرير فلسطين شبرًا شبرًا… وإن كان هذا الوعي والإدراك لم يصل بعد ليكون عامًا وكاسحًا في الأمة، ولكنه بادرة خير وإشعاع نورٍ طيب؛ يبشر بالخير القريب، ويتسارع بشكل طيب؛ كلما اشتدت الأحداث وتكشفت الأوراق السياسية.
إن بشائر الوعي في الأمة تتسارع وتزداد يومًا بعد يوم في موضوع فهم الواقع السياسي، وموضوع مشكلة الأمة الرئيسة، وموضوع الحركات الإسلامية المضللة التي تدعي الحرص على الإسلام والعمل له… وكلما اشتدت الأحداث تكشفت للأمة أمورٌ جديدة. يزيد شبابُ حزب التحرير وعلماؤه وقادته وعيَ الأمة وبصرها، ورؤيتها للحقائق مقترنة بالأحداث؛ حيث يسلطون الضوء على الأحداث والمصائب والكوارث والمؤامرات السياسية والعمالات، ويضعون الخط الصحيح بجانب كل هذه المؤامرات والمهاترات والعمالات… ويقترن بهذا وذاك ما يحدث في بلاد الغرب والشرق من سقوط حضاري وأخلاقي وانهيارات مبدئية وأزمات متتابعة، مالية وأخلاقية ونفسية… وتطلُّع الشعوب إلى مخلص حقيقي يخلصها مما هي فيه من شرور وويلات واستعباد من طبقة الـ2%؛ التي تنهب كل ثروات الشعوب ولا تدع لها إلا الفتات، وتفتعل الحروب والشرور والاستعمار، وتتسبب بالأزمات جميعًا؛ من أجل خدمة غاياتها وأموالها ومصالحها الخاصة، على حساب دمار الشعوب وفقرها وتعبها ومعاناتها…
وفي الختام نقول: إن الشمس لا يخفيها غربال العمالة والمؤامرة… فلا بد أن تفضح عتمة الدجى؛ ولو تأخرت قليلًا، وأن السراب ينكشف أمره إذا وصل إليه الناس وعاينوه ولمسوه بأيديهم، وأن الشوك الذي يدمي اليد إذا أمسكت به هو شوك لا خير فيه… وهذا بالفعل ما يحدث مع الأمة شيئًا فشيئًا، فقد عرفت عمالة حكامها بعد أن عاينت أفعالهم وعرفت أكاذيبهم واكتوت بفعالهم… وعرفت عمالة الأحزاب القومية وغيرها من علمانية واشتراكية… وها هي الأمة اليوم تلمس عمالة من حملوا مشروع الإسلام بشكل مضلل مخادع، وفي الوقت نفسه أدركت أن فيها الكثير من أبنائها الأتقياء المخلصين من علماء وعوام الناس، وأدركت الأمة أن فيها حزبًا مخلصًا لله عز وجل؛ لا يرتبط بأحد من الدول الكافرة، ولا الحكام العملاء، ولا يقبل غير الإسلام بديلًا، لا بالمشاركة، ولا بالمحاصصة، ولا بالوسطية، ولا بغير ذلك، وأدركت أن هذا هو الأمل للأمة، للمخلصين من أبنائها، المتصلين بوحي السماء؛ لا بأي سبب من أسباب الأرض، وأن الشمس قد بدأت تبشر بالنور وسط الدجى الحالك بعد ليل طويل، وأن تباشير الصباح تتنفس مع إطلالة أشعة النور، وأن وعد الله لآتٍ وقريب، وأن الزبد مهما كثر على صفحة الماء لا بد أن يتطاير ويذهب، سواء أكان علمانيًا، أم من الحكام، أم من أحزاب إسلامية مخادعة، وأن الماء الزلال هو وحده الذي يمكث في الأرض، والماء الزلال هو فقط الوحي، ومن يرتبط بهذا الوحي من علماء وقادة وأحزاب، قال تعالى:(…فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذۡهَبُ جُفَآءٗۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمۡكُثُ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ كَذَٰلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَالَ )… وقال عليه الصلاة والسلام: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ» رواه الإمام البخاري، وقال: «مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَوْ آخِرُهُ» رواه الترمذي…. وقال: «بَشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالرِّفْعَةِ، وَالدِّينِ وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ، فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الْآخِرَةِ لِلدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ» رواه الإمام أحمد.
فنسأله تعالى أن يعجل بانتشار الوعي في كل أبناء أمة الإسلام، تمامًا كما انتشر الرأي العام فيها، وأن يعجل بفضح كل المتآمرين المضلّلين في طريق الأمة؛ ليكون ذلك مقدمةً لنهوض الأمة من كبوتها على أساس الإسلام بقيام خلافة المسلمين، تمامًا كما نهضت من قبل، في عهد القادة العظام، والعلماء الأبرار… اللهم آمين… وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين…
2019-05-19